الأحد، 9 يوليو 2017

الاحتواء المتبادل بين أقانيم الثالوث ( 1 )


         
                
                 
                  مصطلح "  perichoresis  "

1- التأصيل اللاهوتي الآبائي
   ماكنت لأبتدع جديدا عندما  انحزت لمفهوم " الاحتواء المتبادل "  - وليس الحلول ( التواجد ) المتبادل  - كترجمة للمصطلح الآبائي الأصيل : " perichoresis"  الذي يكشف حقيقة العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس . فالمفاجأة هي أن المفهوم راسخ وواضح قبل ظهور المصطلح في صيغة الاسم في كتابات القديس مكسيموس المعترف ، وحتى قبل ظهوره في صيغة الفعل على يد القديس غريغوريوس  النيزينزي . المفهوم موجود في كتابات جيل الرواد العظماء من الآباء ، ووجوده في هذا الجيل كان مؤسسا ، وبانيا ، ومثمرا - فيما بعد  - للظهور المتدرج للمصطلح على يد القديسين المذكورين . لدينا على الأقل مرجعان يمثلان جيل الرواد من الآباء ، وقد تناولا بوضوح - ينافس وضوح الشمس في وقت الظهيرة  - مفهوم الاحتواء ( نصا و حرفا ) .  وبالطبع لم يأت ذكر للمصطلح ، فهو لم يكن قد نحت بعد ، ولكن في عبارات  شديدة الوضوح في كتاباتهما ، نجد تعريفا جامعا مانعا ، له . يأتي حديث " الاحتواء "  - عند مرجعيتينا  -  في سياق عام هو مايمثله هذا المفهوم من معضلة عويصة أمام خبرتنا البشرية، الزمكانية ( أي خبرة الزمان والمكان ) . فكيف يمكن للعقل البشري أن يدرك مضمون قول الرب : " أنا في الآب والآب في " . كيف للآب أن يحتوي الابن بينما  - في ذات  الحدث السرمدي - يحتوي الابن الآب ، مع اليقين بأن الآب يظل آبا والابن يظل ابنا ؟!
1- القديس أثناسيوس الرسولي
فيما يواجه القديس أثناسيوس انحراف فكر ( وكفر ) الآريوسيين تجاه شخص الابن فهو يؤكد ويبلور مفهوم الاحتواء المتبادل ، ذلك المفهوم الذي شوهوه بفكرهم المنحرف ؛ فهم لأنهم ينكرون مساواة الابن بالآب ، فمن المنطقي أن ينكروا الاحتواء المتبادل  بينهما فيتم اختزال الأمر عندهم في مجرد علاقة أشبه بعلاقة النعمة التي تجمع الله بالبشر كقول الآية " به نحيا ونتحرك ونوجد ". والإشارة الأوضح هي في اعتبار أثناسيوس أن سؤال الآريوسيين الاستنكاري بخصوص الاحتواء المتبادل هو تحريف لكلمات الرب " أنا في الآب والآب في " ، ومن المنطقي أن رفض الاستنكار هو الإقرار بعينه ( إذا جاز لي التعبير ). وأيضا يستطرد أثناسيوس في الشرح بأن العلاقة الثالوثية ليست كما يفهمون ، أي علاقة " امتلاء متبادل " ، كأن يفرغ الشخص ذاته في الآخر ليملأه ، لأن الشخص كامل وتام في ذاته ، وعليه فالعلاقة التي فيها يعطي الشخص كل كيانه للآخر لكي يتم احتواؤه فيه - دون أن يفقد كيانه الكامل الدائم  ، بينما هو ذاته يتقبل كل كيان الأول محتويا إياه - دون أن يفقده كيانه الكامل الدائم  - مثل هذه العلاقة هي عين علاقة الاحتواء المتبادل . هكذا يكتب أثناسيوس عن الآريوسيين : " فإنهم بدأوا يحرفون كلمات الرب : " أنا في الآب والآب في ( يو 14 : 10 ) ، قائلين " كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ أو أي غرابة أن يكون الابن في الآب ، طالما أنه مكتوب عنا نحن أيضا " به نحيا ونتحرك ونوجد "( أع 17 : 28 ).... ولكن حيث أنهم قد حاولوا تشويه هذه الآية لخدمة هرطقتهم فقد أصبح من الضروري أن نفند ضلالتهم ،... لأنه عندما يقول " أنا في الآب والآب في " فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته في الآخر ليملأ الواحد منهما الآخر ... حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذاته ... ولذلك فإن هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت ... وأيضا لا يوجد الابن في الآب بالمعنى الذي فى الآية " فيه نحيا ونتحرك ونوجد " ، لأن الابن لكونه من ينبوع الآب ، فهو الحياة ، الذي به تحيا وتقوم كل الأشياء ، لأن الحياة لا تحيا من حياة ( أخرى ) ، وإلا فهي لا تكون عندئذ حياة . فالابن هو الذي يعطى الحياة لكل الأشياء "( المقالة الثالثة ضد الآريوسيين 23 :1 ) . أيضا يرسي أثناسيوس أن مايحفظ الاحتواء المتبادل هو واحدية الجوهر الإلهي ، فكل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر ، وهكذا يظل كل شخص ، ذاته على الدوام ، ولا تحدث علاقة الاحتواء المتبادل أي تفتيت أو تجزئة للجوهر لأن الشخص كامل ، أي يعتلن الألوهة الكاملة ، وفي هذا يقول : " ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا النحو . لأن الله ليس مثل الانسان ، وجوهره لا يتجزأ . ومن أجل ذلك فانه لم يتجزأ لكي يلد الابن حتى يصير أبا لآخر، لأنه هو نفسه لم يكن من أب ، وكذلك فالابن ليس جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يلد كما ولد ( بضم الواو ) هو نفسه ، بل هو صورة كلية للكامل وهو إشعاعه . وفي اللاهوت فقط ، فإن الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل . وبالنسبة لهما يكون صحيحا أن الآب هو أب على الدوام . والابن هو ابن على الدوام . وكما أن الآب لن يكون ابنا أبدا كذلك أيضا لن يصير الابن أبا مطلقا . وكما أن الآب لم يكف أبدا عن أن يكون الآب الوحيد ، هكذا  فلن يكف الابن أبدا عن أن يكون الابن الوحيد ." ( الرسائل الى سرابيون 1 : 6   )  
2 - القديس هيلاري أسقف بواتييه  (  300-367م )        
  قديسنا الملقب بأثناسيوس الغرب  -  والذي  خاض دفاعا مستميتا عن القديس أثناسيوس الرسولي المعاصر له ، على خلفية الصراع مع الآريوسيين  - يعد من أعظم اللاهوتيين من جيل  الآباء الذين كتبوا  - بل تخصصوا - في الثالوث القدوس . والقديس هيلاري له اثنا عشر كتابا في الثالوث كتبت في المنفى باللغة اللاتينية بعنوان " de trinitate " ، وفي الكتاب الثالث ( الفقرة الأولى ) ينطلق هيلاري من نفس منطلق أثناسيوس بخصوص المعضلة عصية الإدراك أمام الذهن البشري ، أي معضلة مفهوم  الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، معضلة فهم " أنا في الآب والآب في " ، فيقول بأن شخوص الثالوث  " يحتوى كل منهم الآخر بالتبادل ، وبالتالي كل واحد منهم هو على الدوام يحيط الآخر وأيضا يحاط ( يحتوى ) من الآخر ، الذى مازال هو يحتويه  "  ( نقلا عن كتاب الايمان بالثالوث   ، مكتبة باناريون  ، طبعة أولى ، نوفمبر 2007 ، هامش ص 317 ) .
الاحتواء ، العلاقة المستحيلة
  بالرغم من أن الاحتواء المتبادل مسألة تبدو مستحيلة الإدراك أمام العقل البشري ، مسألة لا مثيل لها في عالمنا الزمكاني ، إلا أن القديسين أثناسيوس وهيلاري لم يستسلما للمستحيل ، ولم  يقتنعا بأن وجود بحر المستحيل العقلي يشكل مانعا لحركتنا نحو الوصول إلى شاطئه ، مع القناعة بأن العبور إلى الحقيقة حدث يتخطى مجرد المعرفة اللاهوتية " العقلية "، لسبب منطقي هو أن مفردات اللغة البشرية هي انعكاس لخبرات وجودهم النسبي الموقوت وأما التعبير البشري عن العلاقة الثالوثية  - في أقصى درجة ممكنة له - يتطلب لغة أخرى تنتمي لزمن آخر هو الأبدية  - بالرغم من ذلك فقد اضطلع القديسان الملهمان بالروح القدس ببلورة ما يمكن أن نطلق عليه "ثلاثية  الحد الأدنى "، وهي :
 1- كل شخص هو الألوهة الكاملة لأن جوهر كل شخص هو ذات الجوهر الواحد الذي للآخر .
 2- كل شخص يظل ذاته على الدوام ولا يتحول - أو يتجزأ - إلى آخر.  
 3- كل شخص يحتوي الآخر بينما هو محتوا منه .
نستطيع إذن ، أن ننطلق في محاولة الفهم  -  ما أمكن  - من أساس صخري صاغه الآباء ليؤطر لحدود المسألة ، فنستطيع القول بأن كل شخص من شخوص الثالوث ، فيما يحتوي  - ويحتوى من - الشخصين الآخرين ، فهو كيان يستعلن الألوهة الكاملة لأن جوهره هو ذات الجوهر الواحد الذي للشخصين الآخرين . وكل شخص من شخوص الثالوث ، فيما يحتوي  - ويحتوى من - الشخصين الآخرين ، فهو كيان دائم ديمومة السرمدية ، يحتفظ بهويته الشخصية غير قابل للتجزئة - أو التغير   - إلى أي شخص من الشخصين الآخرين .
   ماهية الاحتواء
   إذا كان التعقيد الظاهر في المسألة يبدو أحيانا أمرا لابد منه  - في سياق تثبيت الحد الأدنى الذي يدحض أي احتمال للانحراف أو حتى للهرطقة - فإن مجهودا ذا وجهين - قد يجعل الأمر ليس بهذه القسوة - لابد من أدائه : 
 1- الوجه السلبي
   التخلص من الانطباعات النسبية عن " الاحتواء ، الإحاطة ، يحيط ، ويحتوي "، أمر واجب كأساس للغوص في المفهوم الصحيح للكلمات. الانطباع الذي لدينا  - وفقا لخبرتنا البشرية بمثل هذه الكلمات  - هو مايشير إلى أن شيئا أو كيانا ما يحيط بشيء آخر  -  ماديا أو حتى معنويا -  بينما يظل المحيط محيطا والمحاط محاطا . بالطبع هذا أمر لايتفق مع تعريف صحيح بالله ، فالأخير مطلقة من قيد الزمان والمكان ولا يمكن أن يحيط به أمر أو شيء من خارجه ، فخارجه هو العدم كيان متحرر بصفة ذاته . إن مشكلة مفهوم الاحتواء - كعلاقة متبادلة بين شخوص الثالوث  - أمام أذهاننا هي في تقوقعنا في المدلول المادي للكلمة ، وبالطبع نحن ليس لدينا كلمة أخرى غير ذات مدلول مادي من الممكن استخدامها في هذا السياق ، ولذلك فقد وجب علينا أن نتحرر من الظاهر المادي فنتلبس ذهنا روحيا يستطيع أن يسبح في كل ما يليق بالوجود الإلهي ، رافضين لكل مدلول مادي للكلمة من أذهاننا .
  2- الوجه الإيجابي
 القضية ليست تجريدا من أجل التجريد ،  فأنت لن تستطيع أن تتصدى لما يخص الوجود الإلهي ، في المطلق ، أي خارج إطار مفهوم النعمة  ، مالم يبد الأمر كعمل فلسفي تجريدي ، وهو ليس كذلك بالطبع ، ولكن هذا مايبدو عليه حديث اللاهوت عندما نتطرق إلى علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث القدوس ، ولا فكاك من ظهور الأمر هكذا . وفقط  عندما يدعى البشر لدخول هذا  المجال الأبدي الذي للثالوث القدوس، فيدخلونه صائرين أبناءا للآب بالشركة في جسد ابنه في الروح القدس ، فحينئذ تتاح لهم فرصة المعرفة الحقيقية التي" هي الحياة الأبدية "( يو 17 ) . فالملكوت هو الفرصة الوحيدة لمعرفة الثالوث ، لأنه باختصار الفرصة الوحيدة للولوج النعموي إلى شركة الثالوث ، أما " الآن فإننا ننظر في مرآة ، في لغز "( 1كو13 : 12 )  ، ولكن هذا لايتناقض مع كون أنه ينبغي أن يتوفر في صورة المرآة ، هذه ، الحد الأدنى من الملامح الذي يستطيع أن يمثل بكل صدق الصيغة المعرفية التي يجب أن تراها أذهاننا - بالطريقة التي ترى بها أذهاننا - لحقيقة الثالوث ، أما الاستسلام لتبني صورة مشوهة فهذا يعني - واقعيا  - الاستسلام للانحراف العقيدي ، وربما للهرطقة . وأما استحالة إدراكنا لأعماق حقيقة شركة الثالوث  - في هذا العالم - لا يعني بأي حال من الأحوال إخماد الفتيلة المدخنة التي لأذهاننا ، تلك التي من المزمع إشعالها في الروح القدس ، فتضيء أبديتنا . ولكن إن ماتت فتيلتنا فمن أين لنا بأبديتنا ؟!  ونعود إلى اللغز ، إلى المرآة ، لغز الاحتواء المتبادل ، في مرآة أذهاننا ، فنسأل : كيف يمكن أن تتبدل المواقع  - في ذات الحدث الواحد - فيصبح المحيط محاطا ، بينما هو محيط ، ويصبح المحاط محيطا، بينما هو محاط ؟ .   لفك طلاسم الأحجية بات من الواجب علينا أن نبذل جهدا مضنيا لإيجاد تعريف لمفهوم الاحتواء الذي تكشفه شركة الثالوث ، والذي من المتعين أن يكشف تمايزا لانهائيا عن ذلك المفهوم الانطباعي للكلمة الذي تفرضه علينا طبيعة أذهاننا الزمكانية . والمدخل الأمثل لذلك هو التعامل مع المفهوم من خلال توصيفه كعلاقة ، وإذ ذاك نستطيع أن ندرك خصوصية العلاقة في تفردها وتمايزها عن أي علاقة أخرى بصفة عامة ، أي بالنسبة لخبرتنا بأي علاقة في الكون  .  وأفضل منطلق للبحث عن تعريف لله هو ماقد عرف الله به ذاته قديما حينما أخبر موسى ( في خروج 3 ) بهذا الاسم " أهية الذي أهية "، " أنا الكائن بذاتي "، وقد احتفل قديسنا هيلاري بهذا التعريف الإلهي واعتبر  أن أنسب تعريف لله هو التعريف به من منظور وجوده .إذن ، شخص الآب هو الله ، لأن الله موجود من ذاته . وشخص الابن هو الله ، لأن الله موجود بذاته . وشخص الروح القدس هو الله ، لأن الله موجود في ذاته . و ذاته هي " منه، به، فيه "، أي " من الآب بالابن في الروح القدس ". و الذي من الآب هو الذي بالابن هو الذي في الروح القدس هو الذات الإلهية . و  الآب الذي يستعلن الذات الإلهية ، كمصدر ، يحتوي الابن ( المستعلن للذات ، كملء ) ، ويحتوي الروح ( المستعلن للذات ،كفيض وكشركة ).  والذي يجعل كيانا ، يحتوي الكيان الذي يحتويه  - مع بقاء الكيانين متمايزين ، غير متماهيين  - هو انتماء كليهما لذات الجوهر والطبيعة الواحدة . مثل هذه العلاقة الكاملة لامثيل لها بين الموجودات ماعدا الوجود الإلهي ، حيث يمثل " الاحتواء المتبادل " التوصيف الوحيد للعلاقة الثالوثية . هكذا يكشف مفهوم " الهوموأووسيوس ( homoousios  ) " أن العلاقة بين شخوص الثالوث هي نمط عجيب لايمكن توصيفه بمصطلح غير " العلاقة الذاتية " . و  الأساس في العلاقة الذاتية هو أن الشخص يشخصن ( يؤقنم ) الذات ( الجوهر ) ، فالذات ليست طبيعة محايدة بين الأقانيم ولكنها على الدوام هي مشخصنة  بمبادرة من شخص يحتوي  - ويحتوى من - الشخصين الآخرين . وإذا كنا قد حررنا أذهاننا بالفعل من انطباعاتنا البدائية الساذجة عن معنى " الاحتواء " فيجب أن  ندرك أننا لسنا بصدد مفهوم مادي استاتيكي بل على العكس ، الاحتوائية في الثالوث هي مفهوم يتماهى مع حدث وحركة تحقيق الوجود الإلهي ذاته، فالاحتواء بين  شخوص الثالوث هو الاختراق الوجودي السرمدي . وأن يحتوي الآب ابنه الوحيد ، أمر يعني ان الله هو الكيان الحي الوحيد الذي يوجد ( بكسر الجيم ) ذاته ، ومصدريته متأصلة فيه أزليا  بنفس قدر تأصل ملئه ، النابع من تلك المصدرية . هنا قد تم احتواء البنوة من قبل الأبوة  ، أي احتواء الموجد للموجود  ولكن ماذا لو قلنا إن الله هو الكيان الحي الوحيد الموجود بذاته ، ألا يعني ذلك احتواء البنوة للأبوة ، أي احتواء الموجود للموجد ؟ والله دائما هو الله ليس لأنه جوهر الله الحي بل لأنه دائما الشخص المتضمن للشخصين الآخرين ، فلا يوجد الجوهر عاريا مطلقا .  الله هو الله فعلا لأنه شخص الآب المتضمن  - والمحتوي ل  - الابن والروح .و الله هو الله فعلا لأنه شخص الابن المتضمن  - والمحتوي ل  - الآب والروح . والله هو الله فعلا لأنه شخص الروح القدس المتضمن  - والمحتوي ل  - الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن .  ولكي لاتضيعنا الكلمات لابد أن  نقر بتماهي مفهوم " الاحتواء " مع  مفهوم " الضمنية " ، فليس هناك معنى لكلمات الرب "  أنا في الآب والآب في " غير " الآب يحتويني وأنا أحتوي الآب" ؛ فعندما يوجد شخص ما في شخص آخر فهذا يعني بالضرورة وبالتعريف أن هذا الأول يحتوي ذلك الآخر .
 2- التأصيل اللغوي للمصطلح
يتألف هذا المصطلح اليوناني من مقطعين ، الأول  (prefix ) هو الحرف ( peri ) ويعني (  حول = around ) ، والمقطع الثاني ( chorea ) يشير إلى رقصة تقليدية في ثقافات الشعوب القديمة لاسيما في ثقافة اليونانيين القدماء . في هذه الرقصة تتشابك أيدي الخورس ( chorus ) ليؤدوا رقصتهم في شكل دائري ( circular dance ) . وفي أدبيات اليونانية يؤدي دخول المقدمة ( peri ) – على جذر ما – يفيد فعلا ما  – يؤدي إلى إضفاء مايفيد حركة إضافية حول المعنى الأصلي لهذا الجذر ، فمثلا الجذر ( tom ) ، ( tomos  يفيد معنى  ” قطع الشيء ( ( cut ، وأما دخول ( peri ) على الجذر  ( tom ) ينتج ” peritomy ” التي تعني ” الختان = circumcision  ،  هكذا لم يعد الفعل يفيد مجرد معنى قطع الشيء بل يفيد قطعا محددا يتم في حركة دورانية دائرية . والآن لنا أن نسأل ماذا أنتجت إضافة ” peri ” – التي  تشير إلى حركة ” حولية ” ( إذا جاز التعبير )  – إلى ” chorea” التي بحد ذاتها تعني حركة دورانية راقصة ؟ وبالتأكيد ليس لدينا إجابة غير ذلك التعقيد المدهش لتلك الرقصة العجيبة ، فلم يعد الراقص يدور فقط حول تلك الدائرة التي يحيط بها أفراد الخورس ، بل وللعجب  – وبفضل ” peri ” – أصبح يدور حول كل نظير له  . لم يعد الراقص يحيط ويستوعب مساحة الدائرة المشتركة بين جميع أفراد الخورس فقط بل فيما يصنع هذا هو يحيط ويستوعب بحركته كل فرد من أقرانه . هكذا ، وفي وضعية عجيبة ، يتطابق المدلول اللغوي للمصطلح مع مفهومه الاصطلاحي ليتم إضاءة عقيدة الثالوث القدوس أمام عيون أذهاننا  .ففيما يعتلن الشخص  – من شخوص الثالوث  – الجوهر الإلهي الواحد  مستوعبا ومحتويا ومشخصنا إياه فهو في ذات الحدث يحتوي ويستوعب كل شخص من الشخصين  الآخرين ،  وبناء على ذلك فإن  أقرب ترجمة عربية للمصطلح هي علاقة ” الاحتواء المتبادل ” بين شخوص الثالوث . الاحتواء يعني الفعل الإيجابي لإحداث تضمن الآخر، و”الضمنية المتبادلة “هي تعبير آخر عن مفهوم المصطلح. والضمنية تعني الستر والإخفاء فشخص الآب  فيما يستعلن  الجوهر الإلهي الواحد ، كمصدر وكينبوع فهو يتضمن ويستر ويحتوي شخص الابن الذي هو ” الملء”  ،ويتضمن أيضا ويستر ويحتوي شخص الروح القدس الذي هو النهر الفائض من  الينبوع (الآب ) ليصب في الملء (الابن )، إذ هو روح الآب وروح الابن بآن واحد . بمعنى أنه يكفي أن نقول أن “شخص الآب هو الله ” ولا نكون قد تجاهلنا الابن والروح ، لأنه إذا كان الآب هو النبع فلا آب بدون ابن ولا آب بدون الروح القدس ، لأنه لا نبع بدون ملء ولا نبع بدون فيض لكل هذا الملء من مصدره حتى مصبه .فالضمنية المتبادلة هي حركة المحبة التي يتخلى فيها شخصان من شخوص الثالوث عن ذكر هويتهما  الشخصية في استعلان الجوهر الإلهي الواحد  لحساب هوية الشخص الثالث ، فيكفي أن نقول  أن  الآب هو الله ليعني ذلك أن الابن الكائن في الآب هو الله  ويعني أيضا أن الروح الكائن في الآب وفي الابن هو الله . هل هناك   مضمون للمحبة أرفع من  التخلي عن إعلان الشخص عن ذاته كشخص لحساب الآخر وفي المقابل ،كفعل  عكسي، لا يقوم الشخص الأول بالتهام ذلك الشخص المتضمن فيه بل يظهر هويته المستترة  فيه كوجه آخر لهويته ؟ أليست هي إذن رقصة المحبة السرمدية التي تثمر الوجود الإلهي ؟.
 3- الفرق بين  perichoresis ” و ” co-inherence
 كان القديس مكسيموس المعترف ( المتوفى عام  662 ) أول من ذكر مصطلح ” perichoresis ” بهذه الصيغة ،أي صيغة الاسم ( noun )، وكان قد سبقه القديس غريغوريوس النيزينزي  إلى  استخدام صيغة الفعل  perichoreo ” في سياق شرحه  للاتحاد  بين الطبيعتين في المسيح . ومنذ أن انطلق المصطلح الآبائي انطلق مسار طويل من الجدل والمناقشة والتأصيل للمصطلح بين الآباء آنذاك وبين اللاهوتيين فيما بعد وقد أسفر  هذا المسار عن محاولة من البعض  – تم تفنيدها وتضعيفها من قبل البعض الآخر  – لتطبيق مضمون المصطلح على العلاقة بين اللاهوت والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ، وأيضا ظهرت  محاولة البعض  لتطبيقه على علاقة المؤمنين بشخص المسيح ، هذا فضلا عن العلاقة الأصلية والأصيلة أي العلاقة بين شخوص الثالوث . وقد أسفرت النقاشات والسجالات الطويلة والمضنية بين اللاهوتيين عن ثلاثة تطبيقات للمصطلح  :
1 – trinitarian perichoresis : العلاقة بين شخوص الثالوث  .
2 – christological perichores  :  العلاقة بين الكلمة والإنسان في شخص الكلمة المتجسد.
3- deification perichoresis : ( التأله ). العلاقة بين المؤمنين والمسيح.   
هذا ووفقا لمعظم الكتاب اللاهوتيين فإن النوع الأول يمثل علاقة كاملة متماثلة ، بينما اعتبر كل نوع من النوعين الآخرين علاقة غير كاملة وغير متماثلة  .ومن ناحية أخرى فقد قام الكاتب ( والروائي والشاعر واللاهوتي ) البريطاني ” charles williams ” ( المتوفى عام 1945 ) بنحت مصطلح فلسفي لاهوتي عبقري هو ” co-inherence ” الذي يعني علاقة التواجد ( الحضور ، السكنى ،  الحلول ) المتبادل ، وقد اضطلع  – هو وأتباعه – بتطبيق مفهوم هذه العلاقة في توسع يشمل  – تقريبا – كل ماهو موجود ، بما في ذلك  مكونات خريطة العقيدة المسيحية ، أي : الثالوث القدوس ، شخص المسيح ،  العلاقة بين   المؤمنين وشخص المسيح . وواقع الحال أن بعضا من أصحاب المصطلح الآبائي قد اتفق مع أصحاب المصطلح الحديث في التماهي بين المصطلحين من حيث المضمون،  وإن كان ويليامز قد أقر التماهي صراحة  فإن بعض الأولين قد قدم  أكثر من صيغة للمصطلح الآبائي تحمل ذات المضمون الذي قدمه ويليامز في مصطلحه . وأكاد أجزم باستحالة التماهي بين " perichoresis " و " " co-inherence ؛ فمن غير الجائز أن يكون لدينا- من وجهة نظري - ” christological perichoresis ” ، أو ” deification perichoresis ” ولكن الصيغة الوحيدة الصحيحة والمقبولة للمصطلح هي ” trinitarian perichoresis ” . وأيضا من الناحية الأخرى لا يجوز أن يكون لدينا ” trinitarian co-inhernce ” ، ولكن  اللائق هو وجود كل من ” christological co-inherence  و ” deification co-inherence ” .هذا الجزم والحسم في التمييز بين استخدامين مختلفين للمصطلحين ينبع من إدراك الفرق الدقيق بين مضمونين مختلفين لهما ، فالمصطلح الآبائي يعني الضمنية المتبادلة  أو الاحتواء المتبادل الذي يحمل المعنى الكامل للعلاقة المتماثلة  symmetrical ” ، أي العلاقة الذاتية الفريدة التي لا  يمكن أن تتجلى إلا في ” trinitarian perichoresis ” ، إذ يحتوي  كل شخص من شخوص الثالوث الشخص الآخر بينما يظل كل شخص منهم له ذات الجوهر الذي للآخر ( homoousios ) . لم يعد الأمر مجرد حضور متبادل بين طرفي العلاقة ، كيفما اتفق لهذين الطرفين أن يكونا ،بل حضور متبادل بين طرفين لهما ذات الجوهر الواحد  والطبيعة الواحدة . وهنا نستطيع أن ندرك الفرق بين المصطلح الآبائي وبين ” co-inherence ” ، فالأخير يعني  الحضور المتبادل ( co-indwelling ) غير المشروط بالضمنية المتبادلة بين  طرفين لعلاقة بين شخصين كل منهما هو هوموأوسيوس بالنسبة للآخر ، وبالتالي يستطيع أن يشرح العلاقة بين طبيعتين مختلفتين  ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصون شرحا صحيحا للثالوث القدوس. ونستطيع أن نقول بأن المصطلح الآبائي يكشف عن حالة خاصة جدا من  المفهوم العام الذي  لمصطلح ” co-inherence ” ، وهي حالة العلاقة الفريدة التي بين مختلفين لهم ذات الجوهر والطبيعة الواحدة بينما هوية كل منهم  تتجلى كوجه آخر لكل هوية من الهويتين المستترتين فيه .وبالتأكيد إن للمصطلحين مضمونا انطولوجيا ( ontological ) ، فكل مصطلح على حدة يحققه ويكشفه وجود ينتجه فعل يتم في علاقة تبادلية ( reciprocal )  . ولكن الفرق الجوهري بين المصطلحين  – في هذا السياق- هو أن المصطلح الآبائي يكشف عن وجود سرمدي ( أزلي أبدي ) ينبع ذاتيا ( من الآب ) ، أي أن تمايز أطراف العلاقة ( شخوص الثالوث ) لا يجعل العلاقة موضوعا لشركة طبائع مختلفة لأن كل شخص له ذات الجوهر  الذي للآخر ، بينما يكشف المصطلح الآخر ( co-inherence ) عن وجود ينشأ في الزمن والتاريخ ليمتد إلى الأبد ، في علاقة وجود متبادل بين طرفين يمثلان طبيعتين مختلفتين وبمبادرة من أحد طرفي العلاقة . وأما بخصوص التأله ( Deification co-inherence ) ففيما يتأله البشر بالعضوية في الجسد الخاص بالابن الوحيد ، وفيما تتكمل الكنيسة كجسد للمسيح ، فإن كيانا ضخما يمتلئ يوما فيوما إلى أن يتجلى – في نهاية الكون – شخصا هو ” ابن الإنسان “، شخص المسيح الكامل الممتلئ المستوعب لكنيسته في كيانه . حديثنا عن شخص هو ملك  يبدو رأسا لمملكته التي هي جسده . إذن علاقة أعضاء الكنيسة بشخص المسيح نموذج لعلاقة الحضور ( الوجود ) المتبادل . ليس شخص المسيح هو فقط الرب يسوع التاريخي ، فالأخير هو مجرد الرأس ، واختزال الشخص المنشود في يسوع يجعل شخص المسيح مجرد رأس بلا جسد . وأما النظرة الصحيحة للشخص المكتمل تجعلنا ندرك أن شخص المسيح الرب ” محتاج ” لأن يتكمل ويمتلئ بكنيسته ، وهذا يذكرنا بالقول الإنجيلي الشعانيني المدهش ” الرب محتاج إليه “. احتياج الربوبية هذا ، هو سر الوجود المتبادل بين الكنيسة وشخص المسيح الممتلئ . المسيح شخص نحن نملأه كأعضاء ردا على  امتداده فينا كرأس . ففيما يمتد المسيح إفخارستيا في كنيسته محققا وجود جميع أفرادها ، تقوم الكنيسة ، بدورها ، بإظهار وكشف وتحقيق هوية المسيح كشخص كاثوليكي ممتلئ.  
مساحات التماس بين المصطلحات
يتقاطع مفهوم مصطلح ” christological co-inherence ” مع مفهوم مصطلح ” trinitarian perichoresis ” في مساحة ” الإنسان يسوع المسيح ” ذلك الكائن في علاقة وجود متبادل مع شخص الكلمة بفضل الاتحاد الأقنومي الكائن بينهما  ، فلأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار منذ لحظة الاتحاد جسدا خاصا بذاك الكائن في علاقة الضمنية المتبادلة مع أبيه الذاتي ومع الروح القدس ، وهكذا صار الإنسان يسوع المسيح  شاهدا أبديا على حركة المحبة السرمدية الكائنة بين شخوص الثالوث ، وفيما يتقبل الابن الذاتي وجوده  السرمدي كملء  للآب فإن جسده الخاص يتقبل وجوده الأبدي من الآب كشريك في حياة الابن في الروح القدس . وقبوله لوجوده لايعني بأي حال من الأحوال كونه منتفعا بالنعمة ، بل على العكس ، ولأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار بمجرد ظهوره  مصدرا ورأسا وربا للنعمة ، تلك المزمع أن تفيض على المختارين ليصيروا متموقعين فيه كأعضاء .وهذا يقودنا إلى التقاطع  الثاني ، أي الذي بين ” deification co-inherence ” و ” trinitarian perichoresis ” . ومساحة التقاطع هنا هي الكنيسة ، جسد المسيح ، أي جسد ذاك الذي هو قائم في اتحاد أقنومي بين طرفين أحدهما الكلمة الذاتي ، أي  الكلمة الذي  يتضمن الآب . وفيما يتأله جميع أعضاء الكنيسة فهم يحتفلون إلى الأبد بولوجهم النعموي  في مظلة المحبة الثالوثية باشتراكهم العضوي في جسد الكلمة الكائن في علاقة الاحتواء المتبادل مع الآب والروح.
  4- مفهوم مصطلح Perichoresis"  "  كعلاقة كاملة متماثلة
يشير  المصطلح الآبائي إلى علاقة فريدة ( unique ) من نوعها ، وباستثناء الثالوث القدوس فلا مثيل لها  في سائر الموجودات . وتفرد علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث يكمن في كونها علاقة كاملة . ومن الناحية الرياضية الفلسفية تظل العلاقة الكاملة بين فئتين أو كيانين أفقا لا يمكن إدراكه ، ففي عالم الموجودات ، النسبي ، الذي ننتمي إليه ، من المستحيل قيام  علاقة كاملة مع  الاحتفاظ بوجود طرفي العلاقة دون ذوبانهما في كيان واحد  ، فالعلاقة الكاملة هي العلاقة المطلقة التي لا وجود لها  في عالمنا النسبي . فكيف يتضمن الآب ابنه الوحيد في ذات الحدث الأنطولوجي الذي فيه يتضمن الابن أباه الذاتي ؟ كيف يتضمن شخص شخصا آخرا بينما هو متضمن من قبله ؟ كيف يكون شخص كائنا في من هو كائن فيه ؟  ماذا يعني  الابن المتجسد بقوله ” أنا في الآب والآب في ” ؟ ولم نزد الأمر تعقيدا فنسأل عن الروح القدس الكائن في الآب وفي الابن فيما يتضمن الاب الابن ، الذي يتضمنه ؟! إنها إذن الدهشة من حركة الضمنية ( الاحتوائية ) المتبادلة بين الذين ” لكل منهم ” ذات الجوهر الواحد . لذلك لم تكن  العلاقة الكاملة ( المطلقة ) أمرا متاحا في  عالمنا النسبي إذ هي بالتعريف ووفقا لمرجعية الثالوث القدوس هي علاقة ذاتية ، وإمكانية  تخيل وجودها في عالمنا تتماهى مع إمكانية تخيل تلاشيها ، بتلاشي طرفيها وأيلولتهما إلى واحد .  علاقة الضمنية المتبادلة ، أو الاحتواء المتبادل ، ليست مجرد فكرة فلسفية لاهوتية بل هي حركة . هي حركة المحبة ، التي هي جوهر الأنطولوجيا الإلهية . والحركة هنا  لا علاقة لها بما نختبر عن الحركة  في عالمنا  . ولأن عالمنا هو نسبي بجملته ، فالحركة فيه حركة نسبية ، أي حركة في الزمان والمكان ، حركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها . أما الوجود  الإلهي فلا يعرف الزمان والمكان ، لذلك  فحركة المحبة الثالوثية هي الحركة المطلقة ( إذا جاز التعبير ) ، تلك الحركة التي لا يمكن رصدها إلا من داخلها . فالروح القدس فاحص كل شيئ ،هو الوحيد القادر أن يفحص أعماق الله (  راجع 1كو2: 10). وإذا كانت الحركة بين شخوص الثالوث نمطا من الحركة لا مثيل له في عالمنا ، فما عساه أن يكون ؟ والإجابة الوحيدة الممكنة هي أن الحركة الثالوثية هي سر الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالشخص  بطبيعته كيان ديناميكي ، وديناميكيته هي هويته ، بمعنى أن الهوية الشخصية هي فعل وحدث متجدد سرمديا  ، والفعل الذي هو مضمون هوية أحد شخوص الثالوث لا غاية ولا مضمون له غير تحقق الوجود الإلهي من خلال الهوية الخاصة بهذا الشخص ، والذي  بدوره يتضمن الشخصين الآخرين اللذين لهما هويتان متمايزتان ، ووفقا لكل منهما يتحقق ذات الوجود الإلهي الواحد ، في ذات الحدث السرمدي الواحد ؛ فالضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث تعني الضمنية المتبادلة بين ثلاثة أفعال شخصية متمايزة يضطلع كل منهم بإنتاج ذات الثمرة الأنطولوجية الواحدة . فهوية شخص الآب هي فعل إصدار الوجود.  شخص الآب هو الينبوع الفياض للوجود الإلهي ،  وفيما يفيض  الآب فهو يتضمن الابن ، الذي هو ملء الآب ،  ولأنه لا ينبوع بدون ملء فالآب بدون الابن هو ينبوع ناضب بدون ماء . ولأنه لا وجود لكل من الينبوع  والملء بدون الفيض ، فلا وجود  لكل من الآب والابن بدون الروح القدس . لأن الروح هو الفيض وهو الوسط ( meso ) بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن  بآن واحد .
عبارة  ” من الآب بالابن في الروح القدس “
   المنظور النعموي الخلاصي كان الهاجس الرئيس المسيطر على أذهان اللاهوتيين السكندريين من جيل الآباء لاسيما العظيم أثناسيوس ، كان المنظور المسيطر على طريقتهم في شرح الثالوث القدوس . والمثال الجلي هو عبارة أثناسيوس الشهيرة عن النعمة الواحدة " التي من الآب بالابن في الروح القدس" . فوجود وجوهر مفهوم النعمة  – في كمالها – هو كونها صورة الوجود الإلهي ذاته –  أو قل أنها استعلان حضور الثالوث القدوس في الخليقة ( الإنسان ) ، أو استحضار الإنسان وولوجه إلى مظلة الثالوث . ولكن ماذا لو أراد أثناسيوس أن يشرح الثالوث القدوس من المنظور المطلق ، أي من منظور الوجود الإلهي ذاته قبل التجسد وقبل استعلان النعمة ، هل كان من الممكن أن يجد عبارة أخرى أفضل من هذه العبارة ؟ لا أظن ؛ فالذات الإلهية الواحدة هي بالفعل " الكل الذي من الآب " ، وهي " الكل الذي بالابن" وهي  "الكل الذي  في الروح القدس " . الوجود الإلهي واحد ، من ” الآب ” كمصدر ” ، كينبوع ، كأصل للوجود الإلهي ، وفي ملء الزمان صار ” مصدرا ” للنعمة الحادثة للبشر  بالشركة في الابن المتجسد في الروح القدس . وهو واحد ، ب” الابن ” كملء ، كنطق ، ككلمة “ يخبر ” سرمديا عن  الجوهر الإلهي ، وفي ملء الزمان أرسل الله ابنه إلى العالم متجسدا ليخبرنا ( الوحيد الذي في حضن الآب الذي خبر ) عن أبيه الذاتي وليرسل لنا الروح القدس المنبثق من الآب فيصور فينا صورة المسيح أي الكنيسة الكائنة في جسد الكلمة الخاص . وهو واحد ، في ” الروح القدس ” الفاحص والراصد ، والسابر الأوحد  لأغوار أعماق الله ، فهو الوسط ” meso ” بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن ، وفي ملء الزمان يحل على البشر ويسكن فيهم فتتحقق عضويتهم في جسد الكلمة الخاص وهكذا يدخلهم الأعماق الإلهية في مظلة الثالوث .
 العلاقة المتماثلة
ولأن علاقة الضمنية المتبادلة التي يكشفها المصطلح الآبائي ” perichoresis ” هي العلاقة الكاملة ، فهي  – بالتعريف – علاقة متماثلة ” symmetrical ” ، أي لا وجود فيها لأي نوع من القطبية ” polarity ” ، لا أفضلية ولا تمييز  بين أي شخص  وآخر . أما التمايز بين الشخوص هو في كونها ” شخوص ” ، والشخص بطبيعته له هويتة الخاصة التي يتمايز بها عن الشخصين الآخرين ، وفقدان التمايز يعني ضياع مفهوم الشخص ذاته . أما ما يعتقده بعض اللاهوتيين  – عن خطأ – بعدم  اكتمال مفهوم التماثل  symmetry ” – نظرا لتمتع شخص الآب بهوية ” المصدرية ” بالنسبة للابن والروح  – فيعود إلى عدم إدراكهم لمفهوم العلاقة الكاملة القائمة في حركة مطلقة  . هم يطبقون سمات الحركة النسبية ( الزمان والمكان ) التي في عالمهم على الحركة المطلقة ، فيتخيلون أن كون الآب هو  علة وجود الابن    وأنه أيضا علة وجود الروح القدس – يكفي  لإطفاء القطبية على الآب دونما الشخصين الآخرين ، بينما واقع الحال هو أن الثلاثة شخوص هم ثلاثة أقطاب متماثلة متكافئة ، ولكن متمايزة ، وفي حالة ضمنية متبادلة . والقطبية التي أقصدها هنا مرادفة للهوية الشخصية التي تشخصن الجوهر الإلهي وتستعلنه من منظور الشخص ، وهنا يكفينا  -كتطبيق للفكرة – أن نقول بأن أي شخص من شخوص الثالوث هو الله . أما كون الابن مولودا من الآب فهذا مجرد تمايز في الهوية الشخصية لايترتب عليه أي تفضيل قيمي ، من منظور الضمنية المتبادلة المثمرة للوجود  الإلهي الواحد . وإن كانت ” الأبوة ” في خبرتنا ” النسبية ” تجعل الابن أحدث من أبيه ، زمنيا ، فهذا يعود إلى سطوة مفهوم الزمن التي فصلت بين الشخص وبين استعلان وظيفة الأبوة فيه ، فصار وجود الشخص زمنيا يسبق ظهوره أبا  . ولما كان الأمر ليس كذلك بالنسبة لشخوص الثالوث  – فالشخص يعني الوظيفة ، والوظيفة تعني الشخص –  لذلك فإن الأبوة الإلهية هوية سرمدية  نشطة وفاعلة  وتستر في داخلها هوية البنوة الإلهية السرمدية النشطة الفاعلة ، وكلا الهويتين في احتوائية متبادلة ، سرمديا . ونفس الأمر نستطيع ، بل يجب ، أن ندركه بخصوص علاقة أبوة الآب وانبثاق الروح . والآب ليس أفضل من الابن ولا من الروح ، لأنه لا شرعية لاهوتية لوجود الآب بدون وجود الابن والروح ، فيه . ولا شرعية لاهوتية لوجود قطبية في العلاقة بين شخوص الثالوث ؛ فالعلاقة الكاملة المطلقة التي يكشفها المصطلح اللاهوتي العبقري ” perichoresis ” هي علاقة كاملة متماثلة .
 5- مفهوم مصطلح " Perichoresis "  كعلاقة ديناميكية
علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث هي علاقة شركة ، والشركة هي شركة ” حركة ” ، والحركة هي الحركة المطلقة . ونصيب الشخص من الشركة هو ”  كل قوام وجوهر الشركة ” ؛ فكل شخص يساهم “بالكل “، في ” الكل ” وفيما يصنع ذلك فهو لا يجور على نصيب أي شخص أخر من الشخصين الآخرين ، إذ أن كلا منهما كائن ضمن هذا الشخص  ومستوعب به . قوام الشركة هو الجوهر الإلهي الواحد الذي هو جوهر كل شخص ؛ فالهوموأووسيوس  مصطلح يضمن أن  كل شخص له ذات الجوهر الذي لأي شخص . إذن كل شخص من شخوص الثالوث يضطلع بتكريس ذات الأنطولوجيا  الإلهية الواحدة . والهوية الشخصية لأي شخص تعني  – بالتعريف  – الحرية المطلقة للشخص . كل شخص حر مريد وفيما تتحقق هويته – في فعل أزلي أبدي – فهو يختار ذلك بحرية وإرادة .  ومفهوم الشخص ” الحر ” المريد – بطبيعته وهويته  – يقضي على شبهة القطبية ( التي أشرنا إليها سابقا ) ، فالإرادة والمبادرة والاختيار أمور ليست محتكرة من قبل الآب . وفي ذات الوقت ، ومن الناحية الأخرى ، فإن القهر والالتزام بمجرد رد الفعل أمران لا يمثلان واقعا بالنسبة للابن والروح . وكون الآب هو المصدر لا يجعل منه الشخص الوحيد ” الفاعل ” ، ولا يجعل الشخصين الآخرين “مفعولا ” بهما  . فشخص الآب ، المتضمن الابن والروح ، فيه  – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه  – يصدر الوجود الإلهي  .وشخص الابن، المتضمن الآب والروح ، فيه  – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه  – يقبل عطاء الآب صائرا كل ملئه . وشخص الروح القدس ، المتضمن  الآب والابن ، فيه –  وبملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يقبل أن يصير فيضا بين الآب والابن ، لأنه روح الآب والابن بآن . وكل شخص هو مبادر وفاعل بطبيعته ووفقا لهويته ، فالمبادرة الفاعلة هي الشخص ، والشخص هو المبادرة الفاعلة . وتتقاطع  المبادرات الثلاث للثلاثة شخوص في منطقة اللازمن والتي تصب جميعا في منتوج أنطولوجي واحد ، بمعنى أن مفهوم المبادرة لا علاقة له بالتفوق والسبق الزمني ؛ فنحن بصدد العلاقة ” الكاملة ، المطلقة ، المتماثلة ” التي تجعل المبادرات الشخصية الفاعلة الثلاث قائمة في حالة الضمنية ( الاحتوائية  ) المتبادلة ، وبينما يبادر الآب بإصدار الوجود الإلهي – في آنية متصلة أحد طرفيها هو الأزل ، والآخر  هو الأبد – فإن الابن يبادر في ذات اللحظة السرمدية بقبول عطية الآب ، وعليه فمبادرة الابن هي التي جعلت الآب أبا  بنفس القدر الذي به جعلت مبادرة الآب الابن ابنا . وقبول شخص الروح القدس أن يكون فيضا منبثقا من الآب ، وقبوله أن يكون وسطا بين الآب والابن  – بمبادرة وإرادة حرة منه –  هو الذي جعل الآب أبا بنفس القدر الذي به تسببت مصدرية الآب في  وجود الروح القدس. وتعلمنا شركة الثالوث أننا بصدد حدث يتجدد بصفة مطلقة في الزمن اللانهائي . ولو كف الآب  – المتضمن للابن والروح  – عن فعل الأبوة والمصدرية ، أو كف الابن المتضمن للآب والروح    عن فعل البنوة وقبول ملء الآب ، أو كف الروح القدس –  المتضمن الآب والابن – عن فعل  الفيض بين الآب والابن ، لو كف أحدهم عن فعل مايخص هويته الشخصية للحظة واحدة من لحظات الزمن السرمدي لتلاشى الوجود الإلهي .   ف” أبوة الآب وبنوة الابن وانبثاق الروح ” ليست تشير إلى مجرد أسماء ولكن إلى أفعال تجمعها علاقة الاحتوائية المتبادلة  ، أفعال تحدث في الآن المطلق ( إذا جاز التعبير ) ،  أي  الحدث المتجدد سرمديا في سر لايمكننا إدراكه ، حدث إنتاج الوجود الإلهي . فالاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث هو احتواء سببي ( إذا جاز التعبير )، والاحتوائية السببية المتبادلة داخل شركة الثالوث هي سر وجود الذات الإلهية الواحدة؛ فإذا كانت أبوة الآب تستوعب بنوة الابن ، سببيا ، لأنه لاوجود للابن بدون الآب، فإن بنوة الابن تستوعب أبوة الآب ، سببيا ، لأنه لاوجود للآب بدون الابن. أيضا فإن الروح القدس يستوعب الآب والابن ، سببيا، لأنه لاوجود للآب بدون روح الآب، ولاوجود للابن بدون روح الابن، الذي هو شخص الروح القدس.   
 إذن ، لماذا هو احتواء  وليس مجرد حلول  ؟
  والإجابة باتت جلية ، والسر هو طبيعة حركة المحبة بين شخوص الثالوث، لذلك فالعلاقة القائمة هي علاقة ديناميكية ، علاقة السببية المتبادلة التي للاحتواء ، فالاحتواء والاستيعاب المتبادل هو فعل وحركة تكريس الوجود وانتاجه سرمديا، أما مفهوم التواجد والحضور والحلول فقد يوحي بمفهوم استاتيكي ، فضلا عن أن مفهوم التواجد هو تحصيل حاصل لمفهوم  الاحتواء؛ فالاحتواء المتبادل هو الحلول   – الإيجابي، الديناميكي - المتبادل بين شخوص الثالوث ، وليس مجرد تواجد وحلول وحضور متبادل، فقط . نستطيع أن نقرر إذن أن الاحتواء مفهوم ديناميكي، حافظ وكاشف للطبيعة الديناميكية التي للعلاقة داخل شركة الثالوث القدوس، وليس هناك من  تعبير - يستطيع أن يعبر  عن مفهوم مصطلح " perichoresis " - غير مصطلح " الاحتواء المتبادل  . إنه السر العجيب ، سر الحركة المطلقة ، الذي لايمكن لأي عقل بشري أن يستوعبه ؛ فمن هو هذا الذي يستطيع أن يفك طلاسم الأحجية : استيعاب المستوعب ( بفتح العين ) لمستوعبه ( بكسر العين ) واحتواء المحتوى ( بفتح الواو ) لمحتويه ( بكسر  الواو ) وتضمن المتضمن ( بفتح الميم ) لمتضمنه ( بكسر الميم ) .
يقينا، الدهشة والرجاء في قليل من الفهم، أثناء الحياة الأبدية، هو ماينبغي أن يكون خيارنا الصحيح! 
  6- النعمة كصورة لعلاقة ال ” perichoresis
  النعمة واحدة ، من الآب بالابن في الروح القدس “،  عبارة شهيرة للقديس أثناسيوس الرسولي تضيء مفهوما حاكما للرؤية الأرثوذكسية من نحو النعمة .وتشير العبارة إلى أن النعمة هي كل مايكشف حضورا للثالوث القدوس في الخليقة .المفهوم واسع جدا عند أثناسيوس ، وفي رائعته ” تجسد الكلمة ” ندرك وكأن أمر النعمة يبدو كهرم متدرج تصاعدا في مستوى النعمة  – تلازما وتزامنا مع تصاعد كثافة حضور الكلمة – قاعدة الهرم هي ظهور الخليقة الطبيعية الجامدة ، ثم تتصاعد النعمة في  مستوى جديد من الدرج هو ظهور الحياة الحيوانية ،  ثم تتصاعد النعمة في نقلة نوعية ضخمة هي ظهور الإنسان متمتعا بنعمة مماثلة الصورة الإلهية وظهور العقل البشري الذي يعتبره أثناسيوس ” ظل الكلمة “، ثم نصل إلى قمة الهرم ألا وهي الإنسان يسوع المسيح ، وهنا تكشف النعمة عن حضور للكلمة غير مسبوق  ولا يمكن مقارنته بأي مستوى لحضور الكلمة في الخليقة ؛ فالكلمة قد صار جسدا ، صار الكلمة ذاته في اتحاد أقنومي مع الإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ،  وقد صار كيانه مصدرا لنعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة – عديمة الفساد  وعديمة  الموت  – لكل العتيدين أن يجتمعوا فيه .
تشير عبارة أثناسيوس إلى أنه بالنعمة ترتسم العلاقة الثالوثية على الخليقة ، العلاقة المدهشة التي للضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث نراها ظلا تكشفه النعمة ، فكل ماهو من الآب هو بالابن وهو في الروح القدس . وأما نعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة في المسيح ، قمة تجليات النعمة ، فهي الدخول الأبدي للإنسان إلى مظلة شركة علاقة الاحتواء المتبادل  (perichoresis ) ، فتتجلى هذه الطبيعة  الجديدة كصورة للثالوث القدوس  :   فالخليقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح  – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة  التي ” من الآب ”  – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” من الآب “، وفيما يتقبل الابن كل ملء الآب ، سرمديا ، محققا الألوهة الكاملة ، فإن كل الذين يمتلئون  – فتتأله طبيعتهم بالشركة في حياة الابن المتجسد – يبدون أبناء بالنسبة للآب ، أي التبني .  والخليقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح  – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة  التي ”   بالابن ”  – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” بالابن ” ، وفيما ينطق الكلمة الذاتي الوجود الإلهي ويعتلنه ( يخبر به ) ،سرمديا ، محققا الاستعلان المطلق للوجود الإلهي ، فإن كل البشر المجتمعين ككنيسة في كيان الكلمة المتجسد يصبحون مجالآ للإخبار باسم الآب  فيعكسون صورة مجده الذاتي ، فرأس كيانهم يشهد قائلا :” أخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك “( عب2 : 12 ) . والخليقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح  – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة  التي ” في الروح القدس”  – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ”  في الروح القدس “، ففيما يقبل الروح أن يكون شركة بين الآب والابن – لأنه وسط بينهما ، فهو روح الآب وروح  الابن بآن واحد ، فيتجلى فيضا سرمديا بين المصدرية  التي  للآب ، وملئه الذي هو الابن  – محققا الوجود الإلهي ذا الطبيعة الروحية الفائقة الوصف والمستحيلة الفحص من قبل غيرها – فإن كل الذين في المسيح  – وإذ قد صاروا ممسوحين بالروح القدس ، مسحة وسكنى أبدية – قد صاروا شركاء الطبيعة الإلهية .أي أن :  ” من الآب ” ( المتضمن الابن والروح )  و “بالابن ” ( المتضمن الآب والروح )  ، و ” في الروح القدس ” ( المتضمن الآب والابن )  ، عبارات ثلاث تتماهى معا في مضمون واحد هو تحقيق الوجود الإلهي . وأما  مايخص البشر  في المسيح ، أي النعمة، فهو: " من الآب" أي التبني ، وهو " بالابن " أي العضوية في جسد المسيح ، الكنيسة ،  وهو "في الروح القدس" أي الشركة في الطبيعة الإلهية ، والعبارات الثلاث تتماهى معا في مضمون واحد هو تحقيق وجود الطبيعة الإنسانية الجديدة الخالدة في ظل شركة الثالوث القدوس، أي كمال النعمة .
                                 خلاصة
    إذا تحررنا من قيود انطباعاتنا الزمكانية عن مفردات اللغة البشرية، فاستطعنا أن نجرد مفردة " الاحتواء " من ماقد يصلنا من مدلول مكاني محدود، لها  - مثلما استطعنا ، بداية ، أن نجرد مفهوم " الولادة " و" الانبثاق " من مدلولاهما لدينا ،  منذ قبولنا الإيمان - إذا تحررنا من هذا الأمر بالإضافة إلى توفر قناعة بأن الاحتوائية المتبادلة هي مفهوم يعني المبادرة الديناميكية الفاعلة من قبل كل شخص نحو كل شخص من الشخصين الآخرين ، أي السببية المتبادلة؛ ففيما يؤقنم  الشخص الجوهر الإلهي مظهرا إياه من منظور هويته الشخصية - كطبيعة متأقنمة وليست مجرد طبيعة " عارية "( إذا جاز التعبير) - فهو يصنع أمرا آخرا من نحو الأقنومين الآخرين إذ يتضمنهما ويستوعبهما ويحتويهما ، لأنه  " هوموأووسيوس " بالنسبة لكل منهما ؛ فأبوة الآب تستوعب وتحتوي بنوة الابن، وتستوعب وتحتوي انبثاقية الروح القدس . والأمر ذاته قائم من المنظور المعاكس في تبادلية مدهشة ، أي من قبل الابن والروح نحو الآب ، فضلا عن مابين الابن والروح ، والروح والابن . تبادلية تتم في تواز وتزامن سرمدي ليس له إلا  ثمرة واحدة وهي تحقق الوجود الإلهي ذاته . إذا أدركنا ذلك، وحررنا أذهاننا من تلك، نكون قد أدركنا - على قدر استطاعتنا - مفهوم الاحتواء المتبادل بين الأقانيم الثلاثة التي للثالوث القدوس.
مجدي داود

الأحد، 21 مايو 2017

بانوراما الكون في أمثال المسيح


                


                 1- مثل الزارع ، " خريطة الخليقة "
                     ( مت 13 : 1- 23 ) ، ( مر 4 : 1 - 20 ) ، ( لو 8 : 4 - 15 )
     
 في اعتقادي أن مثل الزارع هو صياغة بانورامية لقصة الكون التي تنطلق منذ لحظة اضطلاع الله بدعوة الخليقة إلى الوجود ، من العدم ، مرورا باكتمال خلقة الكون الكبير ، بكل مجراته، وانتهاء بخلقة الإنسان ودعوته للعلاقة الأبدية مع الله .
       1- الزارع والمزروع هما واحد
لدينا مفتاحان لولوج أسرار الرؤية الكونية لمثل الزارع :
  أولا : عبارة يسوع التي وردت في سياق تفسيره للمثل ، في إنجيل لوقا 8 : 11، حيث قال : " الزرع ( البذرة o sporos =  ) هو كلمة الله ( o logos tou theo ).     
وحينما تأتي عبارة " كلمة الله " ، بهذه الصيغة المعرفة ، لشطري الاسم - في يونانية العهد الجديد - فهي تعني شخص الكلمة ، الابن الوحيد ، ولا تعني مجرد ما يمكن فهمه عن كلمات الوحي المكتوبة في الكتاب ، أو كلمات الوعظ الروحي ، أو أي مفهوم آخر.
 ليس هذا فقط فيما يخص انجيل لوقا بل أيضا وبحسب نص انجيل " متى " يأتي اللوغوس معرفا : " كلمة الملكوت " ( ton logon tys  vaseleias ) ( متى 13 : 19) ، وأيضا بحسب مرقص : " الزارع يزرع الكلمة (  ton logon ) ( مر4: 14 )  .
 ثانيا : عبارة يسوع التي وردت في سياق تفسيره لمثل آخر ، هو مثل القمح والحنطة ، حيث قال : " الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان . والحقل هو العالم . والزرع الجيد هو بنو الملكوت " ( مت 13 : 37 و 38  ).
إذن ، الحديث عن فلاحة الله هو حديث عن خروج شخص الكلمة ليزرع ذاته في الخليقة . وهذه هي بانوراما النعمة المستعلنة في الخليقة كما أراد الرب أن تكون . فبالكلمة ، كل شيء في الخليقة قد كان ، وبغيره لم يكن شيء مما كان ( يو 1 : 3 ) . هو قد حضر في الخليقة ، واضعا فيها بذرة ذاته ، فظهرت الخليقة موجودة ، كاستعلان لهذا الحضور. وعندما أثمرت بذرته  المغروسة في الخليقة  ثمرا هو كنيسته ، وعندما أثمرث مسيحا يجتمع فيه بنو الملكوت ، كان هذا استعلانا لتمام عمل الكلمة كزارع في الخليقة .
 خرج الكلمة ناثرا بذرة ذاته ، فظهر الكون كمرمى لبذاره ، وظهرت كنيسته كثمرة جيدة  لعمله في أرض جيدة ، ظهرت في هذا الحقل الكوني  . تلك هي الكنيسة التي يخاطبها الرسول قائلا : " أَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ " ( 1كو3 : 9 ) .
الزارع والمزروع هما واحد لأن " الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان " ، وتعبير ( لقب ) ابن الإنسان - عندما يذكر - فإنه لايشير فقط إلى شخص الرب يسوع التاريخي ، الكلمة المتجسد ، بل يشير إلى كيان كاثوليكي ضخم يضم جميع المفديين من البشر . باختصار لقب ابن الإنسان يشير إلى الوجود الجديد للإنسان ، يشير إلى الكنيسة الكائنة في المسيح كجسد له بينما هو كائن رأسا لها  . وبالتالي هو لقب عابر للزمان وللمكان وللتاريخ . هو ثمرة الكون التي ظهرت كنتيجة  لزراعة الكلمة ذاته في الخليقة . هذا ومن الغريب أن هذا التعريف لم يكن وليدا للعهد الجديد، فهاهو دانيال يكتشف في " رؤى الليل " أن " ابن الإنسان "  هو " شعب قديسي العلي " ، إذ يتم استخدام المصطلحين في تبادل مدهش للمواقع في النص :
-   " كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ " ( دانيال 7: 13و 14 ) .
 .  " أَمَّا قِدِّيسُو الْعَلِيِّ فَيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى الأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ " ( دانيال 7 : 18 ) .
 .  " وَالْمَمْلَكَةُ وَالسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ الْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسِي الْعَلِيِّ. مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ، وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ " ( دانيال 7 : 27 ) .
 ابن الإنسان ، إذن ، هو الملك والمملكة بآن واحد . هو الزارع والمزروع بآن واحد . هو الرب يسوع المسيح الكلمة المتجسد ، والذي بتجسده زرع ذاته قي البشر فأثمر الكنيسة التي نبتت فيه كأعضاء خاصة بجسده الخاص . 
         2- خروج الزارع
  .  هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ ( exylthen ) لِيَزْرَعَ " ( مت13 : 3 ) .
  .  "  هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ  " ( مر4 : 3 ) .
 .  "  خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ  "  ( لو 8 : 5  ) .
إذا كان الزارع هو شخص الكلمة ، فخروج الزارع  هو خروج الابن من الآب ، إلى العالم ، هو عطية الابن للعالم : " لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ( أعطى = edwken ) ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " ( يو3 : 16 ) . خروج الزارع هو حضور الابن في الخليقة ، هو إرساليته إلى العالم ، التي بلغت قمتها في تجسده ، إلى الأبد ، في البشر ، بظهور الرب يسوع التاريخي :
  " لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجْتُ ( exylthon) . خَرَجْتُ (exylthon  ) مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ " ( يو 16 : 27 و 28) . هاهو الزارع الذي خرج من عند الله مرسلا إلى العالم ، هاهو يتحدث مخاطبا أباه الذاتي بخصوص كنيسته التي هي ثمرة زرعه :  أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ ( الترجمة الدقيقة : كلمتك ، الكلمة الذي لك ، ton logon sou )  ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، .. . قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ (  كلمتك ، الكلمة الذي لك ، o logos o sos ) هُوَ حَقٌ " ( يو17 : 14- 17 ) .
ملحوظات لغوية بخصوص " اللوغوس "
 1- الملحوظة المهمة هي أن مفردة " اللوغوس " هي المفردة الوحيدة ( بمعنى " الكلمة " ) المستخدمة - وبصيغة معرفة - في نص مثل الزارع الوارد في الثلاث روايات الإنجيلية جميعها. ولم تستخدم مفردة أخرى مثل " الريما " ، ولو لمرة واحدة .
2- الفرق بين " اللوغوس" و" الريما " 
     في يونانية العهد الجديد نجد تمييزا واضحا بين مفردتين ، يتم ترجمتهما في معظم اللغات - بما فيها العربية - بمعنى " كلمة " وهما " لوغوس ، logos " و " ريما ، rhema " . ومما ينبغي ذكره هنا أنه في اللغة العبرية توجد مفردة واحدة  بمعنى " كلمة " وهي "  Dabar " ، ولكن عند ترجمة العهد القديم إلى اليونانية ( الترجمة السبعينية ) ، حمل الروح القدس المترجمين إلى ترجمة " الدابار " تارة  إلى " ريما " ، وتارة أخرى إلى " لوغوس " ، بحسب دلالة السياق في كل حالة على حدة . ويبرز استخدام " اللوغوس " للتعبير عن الإعلان عن الهوية الذاتية أو الشخصية ، أو الذهنية لصاحب " الكلمة " ، بينما تبرز " الريما " كتعبير عن الإعلان " للآخر " ؛ فهي الكلمة   التي تخاطب الآخر فيتلقاها ويتعاطى معها سواء كانت " منطوقة " ، فيسمعها ، أو مكتوبة فيقرأها ، وفي كل من الحالتين هو يتواصل مع ذهن وفكر المتكلم. أي أن مفردة اللوغوس تكشف هوية وإرادة واختيار المتكلم ، بينما مفردة الريما تكشف هوية وإرادة واختيار المتلقي . ومن هذا المنطلق ، فلم يكن شخص الابن الكائن في حضن أبيه إلا شخص " اللوغوس "، ومن المستحيل أن يطلق عليه شخص " الريما " ؛ فهو كل ملء الآب وبه يتم - سرمديا - الاستعلان الذاتي للوجود الإلهي الكائن في شركة الثالوث القدوس، فضلا عن الاستعلان في الخليقة لأن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان ( يو1: 3 ).وعلى سبيل المثال على أن اللوغوس قرينة لإرادة المتكلم ، الآب ، نذكر : " كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ( logw ) الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ ( يع1: 17و 18 ) . ومن الجهة الأخرى، كان من المنطقي أن تستخدم الريما في التعبير عن  " كلمات الوحي وعن كلمات البشارة "، تلك التي من الممكن قبولها مثلما من الممكن رفضها بحسب مدى استجابة المخاطب بها، كما في:  " لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ ( rhemati ) مِنَ اللهِ" ( لو4 : 4 ) . وإذا أردنا أن نرصد الفرق بين استخدامي المفردتين فمن الأفضل أن نتطرق لذلك من خلال سياق عبارة واحدة جامعة للمفردتين ، على سبيل المثال : " مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ( logou ) اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ ( to rhema ) الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا "( 1بط1: 23- 25 ). وأعتقد بأن الصورة جلية جدا فالولادة الثانية التي للحياة الأبدية هي بإرادة " اللوغوس"، وبالاتحاد به،  فهو " الذي شاء فولدنا " ، وأما " الريما" فهي حاملة بشارة هذه الحياة إلى المخاطبين بها، وأما المستحقون لهذا فهم الذين يقبلون "الريما" متفاعلين إيجابيا معها . 
3- وأخيرا السؤال الكاشف
إذا افترضنا جدلا أن الكلمة المزروعة ، في مثل الزارع ، هي كلمة الله المرسلة للبشر من خلال الوحي المقدس ، أو على الأقل من خلال خدام الله الملهمين ، أفلم يكن من باب المنطق الكتابي الذي تعرضنا له، أن تكون " الريما " هي المفردة المستخدمة ، وليس " اللوغوس "، خصوصا في سياق الاستجابات المختلفة المتوقع حدوثها من الأنواع المختلفة للبشر؟ أما ولم يحدث هذا بل كانت المفردة الوحيدة المستخدمة في كل النص هي " اللوغوس " ، أفهل من شك في أن الزارع عندما خرج ليزرع زرعه فهو، حقيقة، قد خرج ليبذر بذور ذاته في الخليقة لتثمر بشرا شركاء في حياته الأبدية ؟.
       3 - الطريق
 ." وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ " ( مت 13: 4 ) .
 ." وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ " ( مر4: 4 ) .
 . " وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ ( لو8 : 5 ) .
أولا : التفسير الكتابي                              
 . " كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ ( (  para tyn odon ."( مت 13 : 19 ).
 . وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ " ( مر 4 : 15 ) .
 .  وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا " ( لو 8 : 12  
 ثانيا : تفسير التفسير
لاشك أن " الطريق "  - بصفة عامة - هو ذلك الشخص الذي تجرأ فقال عن نفسه "  أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ " وهو لم يقل هذا فقط بل قال : "  أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي " (يو14 : 6 ) . هو إذن طريق حياة البشر حينما يصعدون به وفيه إلى الآب ، فيرى فيهم الآب صورة ابنه فيدعوهم أبناء له ، أي نعمة التبني . وفيما خرج الزارع ، ابن الإنسان ، الكلمة المتجسد ، فيما خرج ليزرع زرعه أي كنيسته الحالة فيه ،  حاضرا في مسار تطور الكون منذ انطلاقه وحتى زواله ، ويأتي في قمة هذا التطور ، الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله . وهكذا فإن مسار الكون إنما كان يهدف إلى هدف واحد هو ظهور الوعي الإنساني ، المزروع فيه ، بذرة الكلمة . هذا هو الطريق الذي سقط عليه البعض من بذار الكلمة ، والمعنى هنا هو أن الكون بجملته ، من مبدئه وحتى منتهاه هو محمول بالكلمة الحاضر فيه ، والذي كل شيء به كان ، وسيظل الكلمة حاضرا في الكون إلى أن يكتمل الهدف منه ، فينهي الكلمة حضوره فيه ، فيعود الكون  ثانية إلى العدم ، هذا ما يعنيه مجيء طيور السماء والتقاطها للبعض الساقط على الطريق . هذا هو مضمون مجيء إبليس ليخطف الكلمة المزروعة ؛ فإبليس هو رئيس هذا العالم المادي الطبيعي ، ومصير هذا العالم هونفس مصير إبليس ، أي الهلاك الأبدي ، حينما ينهي شخص الكلمة حضوره فيه . سقوط بذور الكلمة على الطريق لايعني أن الطريق مستهدف ، في حد ذاته لأن يزرع فيه الكلمة ، فحضور الكلمة فيما سقط على جانبي الطريق هو حضور زمني ، ينتهي بانتهاء زراعة الكلمة في الجيدة  المستهدفة من مسار هذا الطريق .
    ولغويا ، ليس صحيحا الترجمة العربية : " سقط على الطريق ". حرف الجر الوارد في النص اليوناني هو :" para " ، الذي يفيد بأن البذار الساقطة قد سقطت على جانب الطريق  وليس على الطريق نفسه  .بينما الحرف " epi " هو الاستخدام الصحيح لسقوط البذار على الشيء ، وهو ماقد استخدم في السقوط على الأرض المحجرة ، والسقوط على الأرض الجيدة . وهذا يتفق تماما مع أن الحضور الوقتي الهامشي للكلمة في مساره كطريق نحو الأرض الجيدة - حيث هو مزمع أن يستنبت الكنيسة - هذا الحضور قد تكشف في ظهور الخليقة التي سبقت وجود الإنسان ، وكان مقدرا لها ذلك الوجود الموقوت، بنهايته المحتومة .   
       4 - الأرض
 الأرض هي البشر ، وينقسم البشر في ردود أفعالهم تجاه الكلمة المزروع  فيهم – وفقا لاستعدادهم الطبيعي ،كآنية مهيأة لاستقبال ماهي مهيأة له - إلى ثلاثة أقسام  :
1-  الأرض الجيدة ، 2-  الأرض الحجرية و 3- الأرض الشائكة .
                              1- الأرض الجيدة
. " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ (مت13 : 8).
. " وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ " ( مر8 : 4 ) .
. " وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ». قَالَ هذَا وَنَادَى: «مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ » "  ( لو8: 8 ).
أولا : التفسير الكتابي  
 . " وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ ( epi tyn gyn tyn kalyn ) فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ  ( ton logon ) وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ "(مت13: 23).  
. " وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً "( مر 4 : 20 )
 . " وَالَّذِي فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ ( en ty kaly gy ) ، هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ  " ( لو 8 : 15) .
  ثانيا :  تفسير التفسير
   أصحاب الأرض الجيدة هم بنو الملكوت ، الذين يقبلون بذرة الكلمة المزروعة فيهم بدون مقاومة ، فتتجذر فيهم مخترقة أعماقهم ، فيكتمل زرعهم ويثمر حياة أبدية ، في الكلمة ، المسيح الرب . هم أرض عميقة ، غير صخرية . هم أرض بلا شوائب أو أشواك قاتلة . وهكذا ، في الروح القدس ، الذي يفحص حتى أعماق الله ، تخترق الجذور الخارجة من بذرة الكلمة أعماقهم ، لتثمر  في النهاية حياة في المسيح ، يثمرون الكنيسة، ملكوت الله .
ومعنى " سماع الكلمة " أمر يتجاوز الظاهر المادي المحسوس للكلمات ، وهذه حقيقة يؤكدها الرب بنفسه ، وعن نفسه ، حينما يقرر أن حدث " السمع " للكلمة  هو حدث الانتقال إلى الحياة الأبدية ، ذاته :  " إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلمتي ton logon mou ) وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ " ( يو5: 24 ) . ويجب أن نلاحظ أن لفظ "الكلمة " تأتي في صيغة المفرد المعرف ، حسب الترجمة الدقيقة للنص اليوناني الأصلي . وعندما يذكر اللوغوس معرفا فإنه يعني الشخص ، الابن الوحيد الرب يسوع المسيح . أي أن شخص الكلمة حاضر كبذرة قابلة للزرع في الأرض الإنسانية ،وفيما خرج ليزرع زرعه فإن هناك من يشتبك مع حضوره هذا  - فيه - إيجابيا فينبت لحساب الكنيسة ، أي الأرض الجيدة ، ومنهم من يكون تعاطيه مع الكلمة الحاضر فيه سلبيا ، أي بلاثمر . سماع " الكلمة " وحفظها في القلب وظهور ثمرها – الذي هو خيار أصحاب الأرض الجيدة ، الصالحة  -  هو الاستجابة الإيجابية للشركة في حياة الكلمة المتجسد ، والإثمار - به وفيه  - لحساب امتلاء جسده ، بكنيسته . تلك الاستجابة التي تنبئ عن أرض قد هيأها الزارع ذاته !، شخص الكلمة ، وإلا كيف نرد على الرسول بولس حينما تساءل : " أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ،  ( رو9: 21- 23 ) . وباختصار ، يخبرنا مثل الزارع بأن هناك أرضا بشرية قد هيأت بطبيعتها لأن يستزرع فيها الكلمة ذاته فتثمر لحساب الملكوت .
                              الثمر : ثلاثون وستون ومئة
  كنت قد خلصت في دراستين منشورتين على موقع الدراسات القبطية " coptology " : "هل يخلص غير المسيحي " و " لغة الأرقام في الكتاب المقدس " ، خلصت إلى أن وعاء الكنيسة ، جسد المسيح إنما يمتلئ من روافد ثلاثة قد أشار إليها الرسول بولس حينما كتب :
  " لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ. لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!  وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ " ( 1كو1 : 21- 24 )   وعليه فثلاثية الروافد التي تمتلئ منها الكنيسة هي :
 1- رافد دعوة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " مئة " .
2- رافد عثرة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " ستين " .
3- رافد جهالة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " ثلاثين " .
هذه هي الكنيسة ، حصاد الكون ، الذي خرج الزارع من أجله . وفيما يلي رؤوس أقلام بخصوص هذا الموضوع ، ومن الممكن الرجوع إلى التفاصيل بالدراستين المنشورتين .
  لغة الأعداد والأرقام ، في الكتاب
مقدمة
  .   " اثنان " ، هو البطلان والنقض والنسخ ، فالعهد الثاني ( الجديد ) قد عتق الأول وأظهر الإنسان غير قادر على الشركة في الله بواسطة ناموس موسى : " فإذ قال " جديدا " عتق الأول . وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال ."( عب 8 : 13).
 .  " ثلاثة " ، هو إعلان الوجود ، فالله يستعلن وجود ذاته ، سرمديا ، في شركة الثالوث القدوس ، وهو أيضا ، بالنعمة قد أعلن ذاته في الوجود الانساني الجديد ، في المسيح ، كصورة للثالوث القدوس .
 . " خمسة " ، هو الفئة . فالحكمة هي صفة لفئة معينة هي الخمس عذارى الحكيمات ، والجهل هو صفة لفئة معينة هي الخمس عذارى الجاهلات ( مت 25 : 1 – 13) .
 .  " ستة " ، باعتباره حاصل ضرب اثنين وثلاثة ، هو بطلان الإعلان ، هو الجهالة ، أو الوجود المجهل ، عير المعلن .
-   " عشرة " ، هو الإجمالي ، هو الكل ، فالعذارى جميعهن عشرة .
-   " اثنا عشر " ، هو الكنيسة ، شعب الله ومملكته .
                                  الرقم  " ثلاثون "
   باعتباره حاصل ضرب خمسة ( الفئة )، وستة ( الجهالة )، هو ذلك المكون أو الرافد من روافد الكنيسة ، الذي يجهل ذاته ، ككنيسة ، ويجهله الآخرون ، أيضا . هو البشر المختارون للشركة في المسيح ، من مختلف الأمم والثقافات ، دون أن تصلهم دعوة الكرازة . هم لم يطلق عليهم اسم المسيح ، في هذا العالم ، ولكنهم أرض جيدة أنبت فيهم الكلمة بذرته ، المغروسة في ناموسهم الطبيعي ، فكانوا ناموسا لأنفسهم ، وحينما تتجلى الكنيسة ، في المجد الآتي يدركون أنفسهم كرافد من روافد الكنيسة ، ويدرك الرافدان الآخران ، وجودهم كرافد ثالث معهم . الرقم ثلاثون يشير إلى أحد ثلاثة روافد تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت عليه مصطلح : " رافد جهالة الكرازة " ، الذي يعبر عن الأمم ، بالمفهوم المطلق وليس بالمفهوم التاريخي ( في سياق المقارنة مع اليهود ) ، باعتبار أن رافد الجهالة هم أمم العهد الجديد مقارنة برافد دعوة كرازة الإنجيل  .   لمفردة الجهالة ( mwria ) معنى الفساد وبطلان الصلاحية وحيدة الفاعلية ، كما في " أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ ( mwranthy  ) الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ "( مت5:13 ) . وهكذا فالمكون الكنسي الذي أطلقنا عليه رافد جهالة الكرازة هو ذلك المكون الذي سيظهر في نهاية كل شيء دون أدنى فضل من فاعلية الكرازة الرسولية بالإنجيل في العالم الحاضر .أصحاب جهالة الكرازة هم رافد ضمن ثلاثة روافد يضمهم جميعا كيان هو الرب ، كلهم قد دعي عليهم اسم الرب ، كلهم أعضاء جسد الرب . وبالرغم من أن أصحاب جهالة الكرازة قد انضموا للرب في غيبة وحيدة تامة لفاعلية الكرازة ، بالنسبة إليهم ، إلا أنهم قد دعي عليهم ذات الاسم الذي لم يؤمنوا به هنا في هذا العالم . هذه هي المعضلة ، وهذا هو اللغز المدهش والمحير الذي تصدى له الرسول بولس فأغرقنا في هذا التساؤل الاستنكاري المتسلسل : تساءل عن كيفية أن يدعى عليهم اسم الرب بدون إيمانهم بالرب ، وتساءل عن كيفية إيمانهم بدون سماعهم عن الرب ، وتساءل عن كيفية سماعهم بدون كارز ، وتساءل عن الكرازة بدون إرسالية . إذ لا إرسالية ولا فعل كرازي وراء صيرورتهم كنيسة وهذا هو العجب . إنهم لم يقبلوا الإنجيل لأن الإنجيل لم يعرض عليهم - في هذا العالم - من الأصل. وهكذا كتب : " لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو ( الصحيح هو "يدعى "، بضم الياء وتسكين الدال :  epicalecytai ) بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ».  فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟  ...  لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ،    … ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ : « وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي ». ( رو10:  12- 20 ).
 وتلخيص اللغز وبلورته ، كما يعرضه الرسول بولس ، هو هكذا:
1- كل من يدعى عليه اسم الرب يخلص .
2- ليس جميع من دعي عليهم اسم الرب - كموقف نهائي في حياة الدهر الآتي - قد أطاعوا وخضعوا للإنجيل عن وعي ، لعدم وصول الكرازة إليهم . والسؤال المحير هو: كيف يدعى اسم الرب على هؤلاء وهم لم يؤمنوا به بطريقة واعية معلنة في هذا العالم ؟
  إذا كنا نؤمن أن الله قد " استحسن أن يخلص المؤمنين من خلال جهالة الكرازة " ، فقد توجب علينا نحن المسيحيين أصحاب دعوة الكرازة الرسولية والذين قبلنا دعوة الإنجيل في هذا العالم ، قد توجب علينا أن نتخلى عن نرجسيتنا فنحرر المسيح من أسر احتكارنا الحصري له ( إذا جاز التعبير ) لنعطيه للعالم ، إذ هو بالفعل قد أعطي للعالم من قبل أبيه الذي أحب العالم، وهو الكائن في العالم والحامل للعالم والحاضر فيه منذ استدعائه من العدم وحتى عودته ثانية إلى العدم . فما بالنا بحضوره في جميع البشر ، حتى في الذين لاينتمون إلى مانعتقد به ! وقد بات من الحكمة إذن ، أن نتقبل أن عبارة مثل : "  نعم ، من الممكن " تصلح أن تكون الإجابة الصحيحة والوحيدة على السؤال الصادم : هل يخلص غير المسيحي ؟! 
    إذا كان قد تسنى لنا، نحن الذين قبلنا الإنجيل، قدر من معرفة الرب يسوع المسيح في هذا العالم ، وقد تسنى لنا أيضا أن نكون الرافد الوحيد الذي يدرك ذاته ككنيسة في هذا العالم ، فإن هذا القدر المتاح من المعرفة لايشكل الحد الأدنى المعرفي المطلوب للحياة في المسيح ، فضلا عن أن غياب هذا القدر عند الآخرين ليس مبررا كافيا لإقصائهم عن دائرة معرفة المسيح ، وإلا لما كان للرب أن يقرر أن الزمن الأبدي وحده فقط هو الزمن الكافي للمعرفة ، حينما خاطب أباه الذاتي قائلا : " هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " ( يو17: 3 ) . لاشك أن كشف سر المسيح المستوعب للكنيسة كخليقة جديدة، هو الهاجس الرئيس لحركة وسعي الكرازة بالإنجيل ، فهاهو أحد أبرز الكارزين يكتب : " أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ " ( أفس3 : 8و9 ). ولكن يبقى أن سر المسيح لايمكن سبر أغواره في هذا العالم، أما بالنسبة لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة فقد دشن لنا الرب طريقا تراكميا لنعمة خلقتنا الجديدة في المسيح من خلال مفهوم السر الكنسي. وفي دراسة منشورة على موقع  الدراسات القبطية كنت قد خلصت إلى أن الجوهر الواحد للأسرار السبعة هو المسيح المستوعب للكنيسة . وفي الأسرار - لاسيما الإفخارستيا - نحن ننطلق من صورة واقعنا المتشظي البائس إلى واقع جديد هو شخص الرب يسوع المسيح ، أما أن تختزل الأسرار في مجرد مظاهر طقوسية منعزلة بلا رابط شخصي جامع لها ، فهو الإنحدار ثانية نحو العبادة الناموسية . ولدينا دليل كتابي يؤكد أن سر المسيح الواحد لايمكن اختزاله في أي طقس من طقوس وجودنا ؛ فحينما كان يفهم من كلام الرسول بولس أنه يشير إلى علاقة الحب الزيجي بين الرجل والمرأة -  أي أنه يشير إلى سر الزيجة - وجدناه يستدرك سريعا ليخطفنا من استغراقنا في ذواتنا قائلا : " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " ( أفس5: 32). في هذا السياق نستطيع أن ننظر نظرة صحيحة إلى المعمودية فنحررها من كونها مجرد طقس لانضمام الفرد إلى الجماعة الكنسية ، ومن كونها مجرد  منطلق لرحلة التقوى الفردية ، فندرك أنها سر تأسيس الكنيسة جسد المسيح ، تماما مثلما هو مضمون وجوهر الإفخارستيا ، أليست المعمودية هي سر اصطباغ الجميع بحياة الكلمة المتجسد ؟ نحن إذن في كل مرة نحتفل بمعمودية فرد ما فنحن ننضم إلى احتفالية تكريس الكنيسة، الكيان الذي يجمع كل المولودين من فوق. ونستطيع الآن أن ندرك أن الرب حينما قال للأحد عشر تلميذا:" اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ "( مر16: 15و16 )، فإنه لم يكن يقصد أن يقصي غير المدعوين بالكرازة خارجه ، لسبب بسيط هو أنه فعليا لايمكن فهم أن الكرازة قد وصلت إلى كل أحد في الخليقة ، والواقع يخبرنا أن المليارات من البشر لم يكرز إليهم أحد ، فعليا ، ولم يصلهم الإنجيل فعليا ، بالرغم من أن دعوة الكرازة قد وصلت إلى كل أركان الأرض. إذن حينما يقول السيد " من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن" فهو يشير إلى كل من هم في دائرة الكرازة الفعلية وليس كل البشر فردا فردا . وهنا نستطيع أن نسأل السؤال الكاشف : ألا يستطيع الرب يسوع المسيح كلي القدرة  أن يخترق ترتيبا وطقسا - قد أعد خصيصا لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - بطقس وترتيب آخر لأناس آخرين حتى مايصبغهم بصبغته، دونما أن يكون لهم نفس المسار التراكمي للنعمة الذي نجتازه نحن في العالم، والذي ينطلق من علامات وجودنا محمولا بديناميكية الرمز حتى امتلاء السر، أي شخص المسيح الممتلئ بكنيسته  ؟ والنقطة الحاكمة بخصوص هذا الطرح يخبرنا بها مثل الزارع ؛ إذ يقرر أن العنصرين الأساسيين اللازمين  لنجاح فلاحة الله وانتاج ثمر الكنيسة من أرض البشر هما بذرة الكلمة والأرض البشرية الجيدة . ولايستطيع أحد من أصحاب دعوة الكرازة أن يدعي بأن بذرة الكلمة لم تنثر في أرجاء الخليقة كلها ، فما بالنا بالبشر بما فيهم من هم غير مخاطبين بالكرازة الرسولية، إلا إذا انتكسنا فكريا فافترضنا أن الكلمة المزروعة هي كلمة البشارة وليست شخص الكلمة ذاته ، الحاضر في الكل. أيضا لايستطيع أحد أن يدعي أن الأرض البشرية الجيدة غير موجودة بالكلية خارج دائرة الكرازة، أو هي ملكية حصرية لأصحاب دعوة الكرازة الرسولية فقط، فنكون قد سقطنا سقوطا مدويا في نرجسية مهلكة .
  إن عبارة القديس أغسطينوس ، الشهيرة " لاخلاص خارج الكنيسة " هي قولة حق يراد بها باطل . هي قولة حق من المنظور الشامل الواسع للكنيسة جسد المسيح، الفلك الحقيقي الذي شيده الرب في جسده لكي ينقذ به الكثيرين من طوفان العالم الذي وضع في الشرير، ينقذهم من فسادهم الطبيعي ومن مصيرهم المهلك بالشركة في حياته، وبالتأكيد لايوجد خارج الفلك إلا الهلاك. وأما الباطل المراد من المقولة فهو اختزال مفهوم الكنيسة ، التي لايوجد خلاص خارجها ، في أصحاب دعوة الكرازة بالإنجيل ، فقط . وربما يتضاعف مستوى الاختزال ليصبح في الطائفة الواحدة فقط، فنقطع ونقسم ماهو غير قابل للتقطيع أو للتقسيم ، الكنيسة، جسد ربنا يسوع المسيح ، ذلك الذي بطبيعته يوحد الكل في شخصه.
                                        الرقم : " ستون "
   باعتباره حاصل ضرب خمسة ( الفئة ) واثنا عشر ( الكنيسة )، فهو تلك الفئة ، أو الرافد ، من روافد الكنيسة ، الذي يأتي من كنيسة القدماء الراقدين ، من زمن ما قبل التجسد . هم كانوا في معية الرب ، سمعوا عنه ، أو عبدوه بطرق شتى ، ولكنهم ماتوا وفقا لطبيعتهم الفاسدة ، كبشر ، ولكن لحظة أن تجسد الكلمة ، اقتحم الجحيم وأطلقهم من أسر فنائهم وبعثهم من موتهم ، لذلك يدعوهم الكتاب بالراقدين ، فعمليا لم يكن موتهم إلا بمثابة رقاد النوم . الرقم ستون يشير إلى أحد ثلاثة روافد تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت عليه مصطلح : " رافد عثرة الكرازة "؛ إذ كان لابد لهم أن يبعثوا من موتهم بآية تعبر بهم عثرة موتهم ، وقد كان لهم ذلك بتجسد الكلمة ، إذ قد ابتعثوا من فنائهم ، فكان موتهم في النهاية يبدو كرقاد النوم لذلك أطلق عليهم الراقدين . حدث تجسد الكلمة كان منطلقا لحياة فريقين من البشر ، أقصد رافدين من الروافد الثلاثة لامتلاء كنيسة الله التي هي جسد ابنه . الفريق الأول هو الذين ماتوا قبل تجسده والثاني هو الموجودون بعده . الذين للأول بعثوا من موتهم والذين للثاني لن يموتوا بعد . الذين للأول هم رافد عثرة الكرازة والذين للثاني هم رافد دعوة الكرازة ، هكذا كشف الرب لمرثا حين قال لها: " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا،  وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ " ( يو11: 25و26 ) . وهذا أيضا قد كشف سره الرسول بولس كاتبا :  " هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ " 1كو15: 51و52 ). والبوق الأخير هو البوق السابع ( بلغة سفر الرؤيا ) وهو زمن التجسد . وفي موضع آخر يتصدى الرسول بولس لنفس الحدث فيشرح كيف أن الرب يسوع بظهوره قد أحضر الراقدين معه وأما الأحياء الآخرين سيلحقون بهم ، فيكتب : " ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ.  لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ ( الأدق : الراقدون سيحضرهم الله بواسطة يسوع ، أيضا معه ) . فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ " ( 1تس4: 13-17 ) .   إذا كان رافد القدماء الراقدين تفصله هوة الموت عن فاعلية كرازة الإنجيل ، بل أنهم قد أغلق عليهم في سجن الجحيم ، هكذا تبدو الكرازة كما ندركها نحن ، تبدو عثرة بالنسبة لهم ، فهم يحتاجون آية عظمى حتى ما تنقذهم من الجحيم ، وهذا ماحدث بالنسبة لهم بمجرد تجسد الكلمة ، ذلك الذي كان تجسده كرازة لهم ، وهم إذ قد فصلهم الزمن عن الكرازة الرسولية بالإنجيل فقد صار المكروز به ، الرب يسوع المسيح ، صار كارزا لهم ، ذلك الذي قد " ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ "( 1بط3: 19 ).
                                    الرقم : " مئة "
باعتباره حاصل ضرب عشرة ( الكل ) وعشرة ( الكل )، فهو يشير إلى رافد الكنيسة الذي يقبل فيه كل أفراده ، كل ما يخص الإيمان بالمسيح ، إنه رافد الكل في الكل . وهو في ذات الوقت رقم يتجاوز مجموع رقمي الرافدين الآخرين ( ثلاثون وستون ) بعشرة ، أي أنه رافد لايرى إلا أنه كل الكنيسة ، على الأقل لاشعوريا ، هو يتجاوز الآخرين بقيمة هي " الكل " ، أي أنه لايرى أيا منهما ولايدرك وجود أيا نهما . الرقم مئة يشير إلى أحد ثلاثة روافد تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت عليه مصطلح : " رافد دعوة الكرازة " . هذا هو رافدنا نحن أصحاب الدعوة والكرازة الرسولية ، الذين وصلت إلينا دعوة الإنجيل ، ولا  يتبلور في وعينا ( عن غير حق ) إلا يقين بأننا ، وحدنا ، نمثل الكنيسة ، كل الكنيسة ، جسد المسيح لأننا وحدنا قبلنا الإنجيل من خلال دعوة الرسل لنا.  في رواية القديس لوقا البشير بخصوص الثمر ، نلاحظ اختزاله للثمر في " المئة " ، أي كنيسة كرازة الدعوة الرسولية ، ولأجل هذا الخيار فقد كان تفسيره لثمر الأرض الجيدة  متمايزا عن التفسير في الإنجيلين الآخرين ، إذ قدم التفسير الخصيصة المميزة لأصحاب دعوة الكرازة كمكون من مكونات الكنيسة الثلاثة ؛ فالمزروع هو " في " الأرض الجيدة وليس "على" الأرض الجيدة  ، وهو الذي يسمعون الكلمة " فيحفظونها في قلب جيد صالح " ويثمرون " بالصبر "  ( لو 8 : 15) . هذا هو نمط تكميل كنيسة الدعوة ، رجاء يتكمل بالصبر " لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟ وَلكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ ... وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ ... وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهؤُلاَءِ  دعاهم أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا. فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ ( رو8 :24- 31). هو نمط " التراكمية " النعموية المؤدية للمجد الأبدي " لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا. لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا " ( 2كو4 : 16و17 ). وهو نمط يختلف تماما عن أسلوب تكميل رافدي الكنيسة الآخرين ؛ إذ يتكملا في المسيح بطريقة دراماتيكية مباشرة بفضل كرازة الرب بذاته لهما .
                                  2- الأرض المحجرة
 . " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ " ( مت13 : 5و 6 )
 .  " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ . وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ " ( مر4 : 5و 6 ) .
 .  " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ " ( لو8 : 6 ) .
أولا : التفسير الكتابي
 . وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَة ( epi ta petrwdyهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ (ton logon )، وَحَالاً يَقْبَلُهَا ( يقبله  ، lamvanon afton ، بحسب النص الأصلي ) بِفَرَحٍ،  وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ  " ( مت 13 : 20 و 21) .
 . "وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ " ( مر 4 : 16 و 17  ) .
 . " وَالَّذِينَ عَلَى الصَّخْرِ ( epi tys petras )  هُمُ الَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ الْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ، وَهؤُلاَءِ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ "( لو 8 : 13  ) .
   ثانيا : تفسير التفسير
     لاشك أن مفردة " صخرة " - بصفة عامة - ترمز إلى المسيح ، كقول الرسول بولس :
 " وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ " ( 1كو10 : 4 ) . تلك الصخرة التي تبنى عليها الكنيسة ، حسب قول الرب ذاته ، وعن ذاته : " عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا " ( مت16 : 18 ) . ولكن ماذا عن الأرض الصخرية ، في هذا المثل ؟   أصحاب الأرض الصخرية ( الحجرية ) هم نوع من الأرض البشرية غير الصالحة لأن يزرع الكلمة فيها ذاته فتثمر للحياة الأبدية ، لأنهم غير مهيأين للشركة في الكلمة المتجسد المسيح الرب ، أي غير مهيأين لأن يكونوا " مبنيين كحجارة حية بيتا روحيا " ( 1بط2 : 5) فوق صخرة المسيح ، رافضين إياه كرأس للزاوية . والصدمة هي أن البديل عن البناء المحيي فوق الصخرة هو السقوط المهلك عليها . هذا مالفت إليه الرب عندما "  نَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِذًا مَا هُوَ هذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟  كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!» ( لو20 : 17و18 ) . وأيضا هذا أكده الرسول بطرس حينما كتب : "  فَلَكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُؤْمِنُونَ الْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ،  " فَالْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ  " "وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ. الَّذِينَ يَعْثُرُونَ غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ ( tw logw )، الأَمْرُ الَّذِي جُعِلُوا لَهُ "   ( 1بط2 : 7و8 ) . وأصحاب الأرض الحجرية ، ولأنهم لايقبلون الشركة في الكلمة المتجسد ،  فهم لا أصل  لهم في ذواتهم، فالرب ذاته هو الأصل ، هو الذي قال :  " أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ. أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ " ( رؤ22: 16 ). وهو أيضا ، أي الكلمة ، بتجسده في أرضنا البشرية الحجرية صار لنا " عمق أرض " و " تربة كثيرة " ، فاغتنت طبيعتنا يحياة الكلمة، أي طبيعتنا الجديدة القائمة من الموت والوارثة للحياة الأبدية بفضل تجذرها في حياة الكلمة ذاته.
    أصحاب الأرض الحجرية يقبلون الكلمة " إلى حين " إذ ليس لهم عمق ولا أصل في ذواتهم ، وهذا " القبول إلى حين " هو ذلك الذي يتمثل في وجودهم الفاني بطبيعته  بخلاف أصحاب الأرض الجيدة  الباقين إلى الأبد في الرب ، كما يكتب الرسول بطرس : " مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ.   لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ،   وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ " ( 1بط1 :23- 25 ) . فقبول الكلمة ليس له ترجمة إلا معنى الوجود ، ولما كان قبولهم إلى حين فهذا يعني وجودهم إلى حين بخلاف أصحاب الأرض الجيدة ، هؤلاء الذين قبلوه إلى الأبد أي وجودا أبديا ، بالشركة في جسده الذي أخذه منهم.
    أصحاب الأرض الحجرية بقبولهم الكلمة " إلى حين " إنما يكشفهم ويفضخ أمرهم وقت التجربة والضيق ، أي  وقت شروق شمس يوم الرب ، ذلك الذي " سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ " ( 2بط 3: 10 ) بالنسبة لهم  ، حينئذ يحترق نبتهم الوقتي " فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ " ( 1كو3: 13-15 ) . أصحاب الأرض الحجرية ، الذين ليس لهم أصل وليس لهم عمق أي الذين ليس لهم شركة في المسيح هم يؤمنون إلى حين ثم يرتدون وقت التجربة، أي أن إيمانهم ووعيهم  الإدراكي لايرقى إلا إلى مستوى إنساني أخلاقي، اجتماعي، قانوني، ناموسي، أي سطحي ، وعليه فهو يعجز عن أن يكون  وعيا قابلا للاختراق بواسطة الكلمة في الروح القدس ( فيتجدد الوعي البشري مثمرا لحساب الطبيعة الجديدة ) ، وبالتالي لايكون إيمانهم ذا قيمة في مواجهة يوم الرب ،ولايستطيع إيمانهم الوهمي هذا، ولاقناعاتهم السطحية هذه أن تنقذهم من فسادهم الطبيعي فيرتدون إلى العدم ثانية مثلما استدعوا منه أولا بواسطة الكلمة ، وهذا يختلف تماما عن موقف أصحاب الأرض الجيدة الذين لم يكن إيمانهم مجرد قناعات عقلية تفنى بفناء الكيان العاقل بكامله ولكنه كان شركة في شخص هو الكلمة المتجسد الذي امتد بجسده فيهم  عاتقا إياهم من فنائهم الطبيعي إلى شركة حياته الأبدية.    
                              3-  الأرض الشائكة
. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ ( مت13 : 7 ).
. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا ( مر4 : 7 ).
. وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ ( لو8 :7 ).
أولا : التفسير الكتابي
 . " والمزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ ( eis tas akanthas ) هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ " ( مت 13 : 22 ).
 . " وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ،  وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ ( الأدق : تزاحم ) الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ" (مر4: 18 و19)
 . " وَالَّذِي سَقَطَ بَيْنَ الشَّوْكِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ ( الأدق : " اهتمامات " ) الْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَرًا " ( لو 8 : 14 ).
ثانيا :  تفسير التفسير
   أصحاب الأرض الشائكة  هم نوع من الأرض البشرية غير الصالحة لأن يزرع الكلمة فيها ذاته فتثمر للحياة الأبدية ، لأنهم غير مهيأين للشركة في الكلمة المتجسد المسيح الرب ، إذ قد اعتزلوا وتقوقعوا في نرجسيتهم عابدين شهواتهم ونزواتهم تلك التي ملأت كل كيانهم فلم تترك أي مجال أو بحبوحة أو فرصة لبذور الكلمة الحاضرة فيهم لأن تنمو لأي قدر من النمو. أشواك شهواتهم زاحمت الكلمة فيهم حتى أنها قطعت الطريق لأن يتجذر وينمو فيهم  ، " هؤُلاَءِ هُمُ الْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ لاَ رُوحَ لَهُمْ  " ( يه1: 17 ) . والذين ينطبق عليهم وصف الرسول بطرس " أَمَّا هؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ، مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَالْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِمْ آخِذِينَ أُجْرَةَ الإِثْمِ. الَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً. أَدْنَاسٌ وَعُيُوبٌ، يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ. لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقًا، لاَ تَكُفُّ عَنِ الْخَطِيَّةِ، ...   أَوْلاَدُ اللَّعْنَة " ( 2بط2 : 12- 14 ).
     أصحاب الأرض الشائكة قد استغنوا بذلك الغنى الوهمي ، غنى العالم ، عن الغنى الحقيقي فأصبحوا غير مهيأين للأخير ، ذلك الذي كتب عنه الرسول : " وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، الَّتِي أَيْضًا دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا، لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ أَيْضًا " ( رو9 : 23و 24 ) .
   أصحاب الأرض الشائكة قد ملأهم الاهتمام بالعالم حتى لم يترك فيهم مكانا أو مجالا للاهتمام بما ينبغي الاهتمام به ، أي التحرر من عزلتهم بالانضمام إلى الاهتمام العام الذي لشركة وعضوية الكنيسة جسد المسيح  ، هذا مايكشفه الرسول بولس حينما يكتب :  " لكِنَّ اللهَ مَزَجَ الْجَسَدَ، مُعْطِيًا النَّاقِصَ كَرَامَةً أَفْضَلَ لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ، بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَامًا وَاحِدًا بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ.  وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا " ( 1كو7 : 24- 27 ) . 
   الإيمان " إلى حين " الذي ينتهي بالارتداد في يوم الضيق ، والنبت " إلى حين " الذي ينتهي بالجفاف والاحتراق بشروق شمس ذلك اليوم ،  اللذان يميزان أصحاب الأرض الحجرية يمثلان ترفا من المستحيل إدراكه بالنسبة لأصحاب الأرض الشائكه ، هؤلاء الذين لاقناعات ولاقيم إنسانية يؤمنون بها ( فيرتدوا )، إذ هم ممتلئون على آخرهم بشهواتهم التي لايعبدون سواها. ولانبت لهم ( فيحترق )، إذ لايترعرع فيهم هم غير شوكهم المهلك لهم بمزاحمة وقطع الطريق أمام  أية احتمالية لنمو بذور الكلمة فيهم .
                                   خلاصة
  خريطة الخليقة - كمجال لفلاحة الله  -كما يرسمها مثل الزارع ، هي هكذا :
1- طريق كوني في مسار تطوري للخليقة ، يبلغ إلى هدف هو أرض الطبيعة البشرية .
2- البشر ، وهم على ثلاثة أنواع انطلاقا من طبائعهم التي فطروا عليها :
      1- السطحيون  - ويرمز لهم بالأرض الحجرية  - وهم غير مهيأين وغير قادرين على   قبول تجذر الكلمة فيهم حتى مايثمر وجودا إنسانيا جديدا شريكا في حياة الكلمة ذاته . 
      2- الشهوانيون ، الأنانيون ،  - ويرمز لهم بالأرض الشائكة - وهم بطبيعتهم منحدرون إلى ماهو أدنى من الحيوانات غير الناطقة ، وبالتأكيد هم غير مهيأين وغير قادرين على قبول زراعة الكلمة فيهم ، إذ أن امتلاءهم بأشواك شهواتهم وأطماعهم قد حال دون ذلك ، بل قد حال دون أن يتوفر لهم " ترف " سطحية أصحاب الأرض الحجرية ! . 
     3- القديسون  - ويرمز لهم بالأرض الجيدة الصالحة – وهم الذين قبلوا زراعة الكلمة فيهم – إذ هم مهيأون لذلك بطبيعتهم - فأثمروا الكنيسة التي تجمعهم كجسد للمسيح الرب .  وللكنيسة ، جسد المسيح ، ثلاثة روافد تمتلئ منها :
             1- رافد دعوة الكرازة ، أصحاب دعوة الإنجيل ، مركز وعي الكنيسة بذاتها في العالم الحاضر ويرمز لهم بالرقم " مئة ".
             2- رافد عثرة الكرازة ، وهو الراقدون ، القدماء الذين رقدوا على رجاء المسيح ، ويرمز لهم في المثل بالرقم " ستين ".
             3- رافد جهالة الكرازة ، وهو المجهولون ، بالنسبة لأبناء الدعوة وحتى بالنسبة لأنفسهم ، ويرمز لهم في المثل بالرقم"  ثلاثين ".
                 


                 2- مثل الابن الضال : قراءة جديدة
                           أولا  : مقدمة مفتاحية

موضوع ، ومضمون ، مثل الابن الضال هو ترسيم أيقونة بانورامية لتاريخ الخليقة  . وفي بؤرة الاهتمام والتركيز في هذه الايقونة يتبلور العنصر الأحدث في الظهور في المشهد ، الابن الأصغر ، الإنسان . والأخير يتواجد في المشهد وسط أسرته الكونية : الأب ، الله الخالق ، والأخ الشيخ الكبير في السن ، الكون ، الخليقة العتيقة ذات الطبيعة المادية المحكومة بقوانين الفيزياء .
   ثانيا : ملحوظات تأويلية
1  - الحالة الأولى
يبدأ المثل بمشهد الابنين في بيت أبيهما ، الخالق . الابن الأكبر ، الكون ، الخليقة العتيقة بما فيها من كائنات حية غير عاقلة . والابن الأصغر ، الإنسان. الأول طائع  ومحقق لما خلق من أجله ، وأبرز ماخلق لأجله هو كونه مجالا وحقلا لتكميل ذلك المشروع الكوني المسمى بالإنسان . والإنسان الابن الأصغر خلق متمايزا عن باقي الخليقة في كونه  -  وبفضل نعمة مماثلة الصورة الإلهية ، أي نعمة العقل - كونه مدعوا للخلود أي التأله بالاشتراك في حياة الله ذاته كابن شريك بالنعمة في الابن الذاتي ، الكلمة . هذه هي دعوته الخاصة والمميزة لوجوده عن وجود الخليقة العتيقة . والآن ، لاأعتقد أنه من الممكن أن نجد عرضا أفضل من  كلمات القديس أثناسيوس الرسولي"  في رائعته " تجسد الكلمة "  : " لأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائما على الحالة التي خلق فيها ، فأعطاه نعمة أضافية ، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض ، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريق ما ، ولهم بعض من ظل ( الكلمة ) وقد صاروا عقلاء ، أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية حياة القديسين في الفردوس "( تجسد الكلمة   3: 4 )
     " الإنسان فان بطبيعته لأنه خلق من العدم إلا انه بسبب خلقته على صورة الله الكائن كان ممكنا أن يقاوم الفناء الطبيعي ويبقى في عدم فناء لو  أنه أبقى الله في معرفته كما تقول الحكمة " حفظ الشرائع تحقق عدم البلى " ( حكمة 6 : 19 )  وبوجوده في حالة عدم الفساد ( الخلود ) كان ممكنا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك حينما يقول " أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلى تدعون كلكم لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون " ( تجسد الكلمة  4:  6 )
2 - السقوط
    " يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ.   وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ " ( لو15 :12و 13 )
 لم يستثمر الإنسان الحالة الأولى التي جبل عليها . وعد بالخلود - أي شركة حياة الله ذاته ، كإمكانية ( potential ) وكنعمة إضافية تميزه عن البهائم – وعد ، ودعوة للحياة ، فقدها الإنسان بتحوله للاستغراق في نفسه ، في نرجسيته ، في انعزاليته واستقلاليته ، في حيوانيته ، ففقد البعد الديناميكي لنعمة مماثلة الصورة الإلهية ، بل والأكثر من ذلك بات مستغرقا في نهم  - عصي على الإشباع – للشر وللخطية  . استنفذ الإنسان كل قدراته ، كل ملكاته ، كل مواهبه المميزة له كإنسان ، كل شيء يخص جوهر طبيعته قد بدده بتحوله إلى طريق معاكس يقود إلى الوهم والبؤس والموت. وفي ذلك يقول العظيم أثناسيوس :
     " فالله لم يكتف بأن يخلقنا من العدم ، ولكنه وهبنا أيضا بنعمة الكلمة وإمكانية  أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث  لهم من فساد الموت . لأنهم كانوا بالطبيعة فاسدين لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين (تجسد الكلمة 5: 1 ) .
      " فالبشر لم يقفوا عند حد معين في خطاياهم بل تمادوا في الشر ... تجاوزا كل الحدود ، وصاروا يخترعون الشر ..  ولم يتوقفوا عند شر واحد بل كان كل شر يقودهم  إلى شر جديد حتى أصبحوا نهمين في فعل الشر ( لايشبعون من فعل الشر ) " ( تجسد الكلمة 5: 3 ) .
       " أما الآن بعد أن حدث التعدي ،فقد تورط البشر في الفساد الذي كان هو طبيعتهم ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله ( تجسد الكلمة 7: 4 )
   الابن الضال هو الإنسان - الأصغر ، في عمر الخليقة - وهو الذي بسقوطه ، قد اعتزل عن أبيه السماوي وسافر إلى كورة بعيدة وضل عن خطة الله له ، فاختار أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر . اختار الوقوع في تلك الثنائية البغيضة . اختار الرحيل عن الطريق إلى شجرة الحياة ، أي الشركة في المسيح . ضل عن طريق تبني الآب له ، ضل عن ذلك النموذج الذي خلقه الله عليه ، فاكتفى بذاته ، وغرق في عزلته عن إلهه ، وماذا كانت النتيجة ؟ . إنها المأساة الإنسانية ، فبفقدانه طريق الشركة في الكلمة ، واجه حقيقة ذاته ، أي موته الطبيعي . 
 3- الكورة البعيدة          
هي هذا العالم المادي الذي وضع في الشرير . والبعاد هو تلك الهوة التي أصبحت كائنة بين الإنسان والله ، الهوة بين الإنسان كمدعو للبنوة وبين الواقع الجديد الذي انحدر إليه الإنسان بسقوطه .
" فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ، فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ " ( لو15 : 14 )
بسقوط الإنسان فقد  - وضل - الطريق إلى الشبع . فلا شبع إلا بالأكل من شجرة الحياة ، أي المسيح ، الطعام الباقي . وأما الجوع فهو في الاكتفاء ببؤس واقع الفساد الطبيعي الذي انزلق بالإنسان إلى مابات هلاكا مؤكدا . كان وعد الحياة والشبع الأبدي وعدا مشروطا بالأكل الإفخارستي المأكل الحق ،  بالكينونة في المسيح الابن الذاتي ، وهذا هو الطريق الذي ضل عنه الإنسان عندما تحول بكل قدراته العقلية وملكاته الإنسانية عن المعرفة الإلهية ، التي كان من المفترض أن تقوده إلى أن يصير ابنا بالتبني للآب ، بالشركة الإفخارستية التي للابن في الروح القدس .
 " فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ.  وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ " ( لو15 : 15و 16 )
ماذا نتوقع من الإنسان بعد أن ضل وجهته الصحيحة نحو الشركة في حياة الله ، وقد بات مواجها للجوع الذي لطبيعته التي حيل بينها وبين الشبع من شجرة الحياة   ، سوى أن يلتصق برئيس هذا العالم ، إبليس  ( واحد من أهل تلك الكورة ) ، والذي بدوره يرسله إلى حقوله ليرعى خنازير ؟ الخنازير هي شهوات الإنسان الحيوانية الدنيئة والتي باتت في حالة من النهم والشره والجوع الذي من المستحيل إشباعه . والخنازير – كما نختبر من معجزات اخراج الأرواح الشريرة التي صنعها الرب يسوع(      ) – هي  المسكن والمستقر المستهدف  والمفضل لدى الشيطان ، وهي مفضلة لأنها  كيانات بطبيعتها مندفعة للهلاك في بحر العالم بمجرد أن تصبح مسكنا للشرير.  أما الخرنوب  ، أو الخروب (  keration  ) فهو شجرة عظيمة مورقة وخضراء طيلة العام ، لاتعرف عدوا لها اسمه الخريف . وثمرتها الناضجة من القرون البنية المعروفة مفيدة ولذيذة وبالرغم من أنها كانت مأكلا للخنازير إلا أنها مأكل صالح للإنسان بل ومن الممكن أن يصنع منها الخبز . لم يشته الإنسان أن يأكل - مجرد يأكل ، أو يشبع  - مجرد أن يشبع  - بل أن يملأ بطنه من الخرنوب . إنها الشهوة التي  لا يتم إشباعها . الخرنوب هو  حلم الحياة ، المستحيل ، الذي يطارده الإنسان في الكورة البعيدة ، العالم ، ولن يدركه لأنه " لم يعط إليه أحد " ( الترجمة الدقيقة للنص اليوناني ) ، أي لم  تتح له الفرصة للامتلاء والشبع وليس من الوارد أن يحدث هذا . شجرة الخرنوب هي البديل " الوهمي " لشجرة الحياة التي ضل الإنسان الطريق إليها . هكذا كان حاله بعد أن ضل طريق دعوة بنوته  .
 4- لحظة الكشف والاستنارة
  "   كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ،   وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ ".( لو15 :17و 18 )
  هذه هي المرحلة الأولى في عودة الانسان إلى الله . مرحلة الناموس ( اجعلني كأحد أجراك ). مرحلة " افعل ولا تفعل " ، كحدود لعلاقة الإنسان بالله . مرحلة الأنبياء . ولكن ماتزال مشكلة الإنسان بعيدة عن الحل ، فالناموس لا يستطيع أن يحل مشكة الموت الطبيعي . وعودة الابن الضال - في نسخة العبد والأجير ، عند أبيه - ليست أمرا ينسجم مع إرادة الآب . فإرادة الآب هي أن يظل ابنه الضال ابنا ووارثا ، حتى وإن كان قد بدد نصيبه مع الزواني ، وعاد فقيرا معدما . هكذا أيضا ، لم يكن وضع الإنسان ، بعد سقوطه - بما يستحقه من هلاك أبدي ، وفقا لطبيعته - وضعا يمكن أن يقبله الآب السماوي ، فلا معنى لعودة الإنسان الضال ، إلا إذا كانت هذه العودة ، عودة إلى مجد البنوة المفقود ، أي الحياة الأبدية - بالشركة في الكلمة - ذلك الذي قد جبل الإنسان ، من أجله  ، منذ البداية
   5- العودة
   " فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ الابْنُ:يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا " ( لو15 : 20و 21 )
الآب هو الذي كان منتظرا للإنسان ، وإذ كان مايزال بعيدا وبعد أن رآه قام بهذا  الحدث الرباعي : 1- تحنن ، 2-  وركض ، 3- ووقع على عنقه 4- وقبله .
هو الذي سعى نحو الإنسان الضال بإرساله ابنه الذاتي متجسدا في البشر حتى مايصنع  خلاصا في وسط الأرض كلها فيعيد الضال ويحيي الميت . وقد كان من المنطقي للابن الأصغر – وهو في حضن أبيه – أن يتراجع عن مقولة " اجعلني كأحد أجراك " فمثل هذا الاستقبال من الأب لايعني إلا أن دعوة للبنوة قد استعيدت ومن العبث الحديث عن الرضا بالعبودية  .
 6- احتفالية العودة
   "  أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ "( لو15:22-24 )
المسيح هو بيت الآب ، الذي فيه منازل  كثيرة ( يو14 :2 )  ، وبعودة الإنسان ، الضال عاد إلى الشركة  في الابن الذاتي ، أي نعمة التبني ، وهكذا أخرجت الحلة الأولى ، فالإنسان ، الذي بعودته اصطبغ بالمسيح ، قد لبس المسيح ( غل 3 : 27). والمسيح هو الحلة الأولى ، حلة البهاء ، حلة مجد البنوة ، الذي فيه قد تم تبني الجميع . وهكذا قدم العجل المسمن ، بذبيحة الرب على الصليب ، فداء للإنسان ، وهو مسمن لأنه ليس مجرد إنسان من طبيعتنا فقط بل الإنسان الكائن في الله شخصا واحدا من طبيعتين في اتحاد أقنومي فائق للإدراك والوصف . قد سمنت طبيعتنا فيه بشحم الحياة الذي للاهوت الكلمة . وهكذا أيضا جعلوا خاتما في يده ، والخاتم هو خاتم زيجة البشرية ،ككنيسة ، كعروس للمسيح ، كما يقول الرسول : " خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ " ( 2كو11: 2 ) ، و " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " ( أفس5: 32 ) .   وأيضا جعلوا حذاء في رجليه أي حاذوا رجليه باستعداد إنجيل السلام ( أفس 6: 15 ) .
  7- الابن الأكبر
 يأتي تعبير " الأخ الأكبر " ، كترجمة - بتصرف - للكلمة اليونانية التي تعني " الشيخ "، العجوز ، الطاعن في السن (  presvyteros  ) . والابن الأكبر ، في مثل الابن الضال ، هو الخليقة العتيقة . وهذا المعنى من الممكن أن نرصده على مستويين . أولا : المستوى اللغوي ، المباشر ، فالخليقة العتيقة ( الكون ، العالم المادي بأثره ) إنما تسبق ظهور الإنسان على مسرح الحياة ، ببلايين السنين . ثانيا : المستوى الاصطلاحي ، اللاهوتي ، وهنا يأتي المعنى في سياق المقارنة مع الخليقة الجديدة ، في المسيح .
قد كان الابن الأكبر في الحقل بينما كانت احتفالية عودة الضال ، في أوجها ، وعندما عاد لم يرد أن يدخل - ولم يذكر في سرد المثل أنه دخل ، حتى بعد أن أستعرض له أبوه مبررات الأمر - والاشارة واضحة ، فالحقل هو العالم ( مت 13 : 38 ). والعالم ( الخليقة العتيقة ) لن يدخل إلى فرح الحياة الأبدية ، الذي صنعه الآب للذين عادوا إليه ، في ابنه المتجسد  ؛ فقد عاد الشيخ من الحقل في نهاية اليوم  وباقترابه من البيت اقتحمت مسامعه اصوات احتفالية صاخبة قد تم الإعداد لها عدة ساعات ، ولم يخطر ببال الأب أن يرسل غلاما إلى الحقل ليستدعي ذلك المستغرق في هامش المشهد . أيضا حينما خرج الأب للقاء الشيخ الغاضب لم يكن يتبنى غير خطاب تبريري كاشف لحقيقة مايحدث ولم يصدر من الأب دعوة واضحة صريحة للابن الأكبر لدخول البيت وحضور  الاحتفالية.  
  الابن الأكبر والرقم " أربعة وعشرون  "
في سفر الرؤيا - الذي يكشف بانوراما حركة تحقيق وجود الكنيسة ، جسد المسيح - لابد أن نرصد الخليقة العتيقة ، في هذا السياق . وتأتي هذه الخليقة  مرموزا إليها بالأربعة والعشرين شيخا . والملحوظة الهامة ، هي أن كلمة " شيخ " ، هنا ، هي ذات الكلمة التي ترجمت إلى "  الابن  الأكبر " .
  للأرقام ، في الكتاب المقدس ، دلالاتها التفسيرية الهامة . ويمكن العودة إلى دراسة لي بعنوان : " لغة الأرقام في الكتاب المقدس " ،  على موقع " الدراسات القبطية والأرثوذكسية " ( coptology ) .
 الرقم أربعة وعشرون " هو ناتج ضرب اثنين واثني عشر . " اثنان " هو البطلان والنقض . الرقم " اثنا عشر " هو رقم الكنيسة ، شعب الله وملكوته الذي يثمره هذا العالم بالنعمة .
" أربعة وعشرون " هو رقم الخليقة العتيقة ( الطبيعية ) ، لأن وجودها هو وجود موقوت  ، وجود اللاكنيسة حيث المعية الموقوتة . الخليقة  الفاسدة بالطبيعة ، ولها زمن محدد من أجل غرض محدد . هي قائمة في معية الله  - بفضل الكلمة (  logos  ) الحاضر فيها -  ، إلى أجل مسمى ، وعندما يحين ذلك الأجل سوف ينتهي وجودها ، عائدة الى العدم ، أي سوف تنتهي معيتها لله ، بانتهاء حضور الكلمة فيها ولن يكون لها نصيب  أبدي . وفي ذلك يقول الرسول بطرس :
      " السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ.   وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ، فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ " ( 2بط3: 5-7 )
ولكننا قد نرصد تناقضا  بين هذا الطرح وبين قولة الأب : "  أنت معي في كل حين " ( لو15 :31 ) ، ماعسى أن تكون هذه المعية ؟   ولعل مايزيل التناقض هو ماورد في سياق عتاب الشيخ لأبيه : " هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ " ( لو15 : 29 ) . المعية إذن هي معية طاعة الوصية ، بمعنى عدم خروج الكون والخليقة عن المرسوم لها من مسار تطوري خلال زمن وجودها المحتوم والمحسوم - بفضل الكلمة الحاضر الفاعل فيها من خلال القوانين الطبيعية الحتمية - وهو أمر  يتناقض ويتعاكس مع مافعله الإنسان الذي استقل بذاته وتقوقع داخل نرجسيته فخرج عن المسار المأمول لوجوده وهو صيرورته ابنا وارثا وشريكا في الابن الذاتي . لذلك قال الأب للكبير : "  أنت معي كل حين  " أي أن الخليقة تسلك زمن وجودها بالكامل  - منذ لحظة انطلاقه إلى لحظة انتهائه ، أي كل حين يخص زمن وجودها - في كشف كل مايخص طبيعة خلقتها ومصيرها المحتوم في ذهن الخالق  .     
يمكننا أن نرصد الأربعة والعشرين شيخا ، في أربعة مشاهد أساسية ، في سفر الرؤيا  :  
1- المشهد الأول : العروش  ( الكراسي ) التي حول عرش الرب ( رؤ4 :4 )      
الكرسي هو كرسي المجد : ( مت 19 : 28 ) ، ( مت 25 : 31 ). والمجد هو مجد الوجود " لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ  ... لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ  . هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ.  يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ .. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا  .."( 1 كو 15 : 42 - 44 ) .  والكنيسة الكائنة في ابن الإنسان ، حينما يجلس على كرسي مجده - أي حينما يمتلئ كيانه بكل المفديين ، كأعضاء - إنما هي تجلس فيه على كراسي المجد ، أي يستعلن وجودها الأبدي ، فيكون لها أن تدين ، وتكشف زيف من هم خارج ابن الإنسان ، حتى وإن كان لهم مظهر التقوى ، فها هو الرب يخاطب الكنيسة ، ممثلة في تلاميذه ، قائلا : "  إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ  ."( مت 19: 28 ).
  إذن ، في مشهد جلوس الشيوخ الأربعة والعشرين على عروشهم حول عرش الرب ، نحن نرصد وجود الخليقة العتيقة ، في معية الله . وبالتأكيد أن للخليقة مجد ، يعجز العقل البشري على سبر أغواره ، ولكن يظل المجد العلوي الذي للثالوث القدوس ، والذي استعلن في الخليقة الجديدة ، في المسيح ، هو المجد الحقيقي المستمر إلى الأبد ، بينما مجد الخليقة العتيقة إلى زوال  لأَنَّ:
«كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا. "( 1 بط 1: 24و25)   .
 2-  المشهد الثاني : السجود وطرح الأكاليل قدام الجالس على العرش
  يخر الشيوخ ، الأربعة والعشرون ، ساجدين ، طارحين أكاليلهم قدام الجالس على العرش قائلين :
  " أَنْتَ مُسْتَحِقٌ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ  " ( رؤ  4 : 11 )  . 
  في هذا المشهد تؤكد الخليقة العتيقة ، عدم أهليتها - بحكم طبيعتها - للشركة في مجد الحياة الأبدية ، في المسيح الرب ، فتطرح أكليل وجودها أمام العرش ، إذ هو إكليل مخلوع بطبيعته ، كما أن جلوسها على العرش كان جلوسا موقوتا ، وهي تقر بذلك وترجع  المجد لمن يستحقه ، أي خالقها الذي أوجدها من العدم وأعطاها هذا المجد الزمني. 
 3- المشهد الثالث : فك ختوم السفر ، السبعة ( رؤ 5 : بالكامل )
  السفر المختوم هو سفر الحياة ، ولما كان الكلمة هو الحياة الذي بغيره لم يكن شيء مما كان - فإن الكلمة المتجسد هو الوحيد القادر على أن يفتح السفر ويفك ختومه ، وهذا هو الخبر  السار الذي زفته الخليقة على لسان أحد الشيوخ ، ليكف الرائي عن بكائه :  "  لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ  ".  إذ لا يستطيع أحد أن يفتح السفر أو يفك ختومه إلا خروف قائم كأنه مذبوح في وسط الشيوخ ، ولما أخذ السفر خر الشيوخ " وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ :  " مُسْتَحِقٌ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ".  في هذا المشهد تؤكد وتشهد الخليقة أن سر وجودها هو المسيح الكلمة المتجسد المذبوح من أجل حياة الخليقة . هذا هو محور وجودها ، إذ هو قائم في وسط الشيوخ .  فغاية وجود الخليقة العتيقة هي الوصول إلى لحظة ظهور الوجود الجديد الذي من أجله قد ذبح الخروف ، أي ليشتري كنيسته - بدمه - من كل شعوب الأرض ، جاعلا من الجميع ملوكا وكهنة ، في ملكوت السموات .
  يحمل الشيوخ جامات من ذهب مملوءة بخورا هي صلوات القديسين . هكذا تشهد الخليقة أن غاية وجودها هي إصعاد القديسين لينضموا إلى باكورتهم ، الخروف المذبوح ، القائم في الوسط . لم يكن الأربعة والعشرون شيخا ، أي الخليقة العتيقة ، هم القديسون ، بل هم الذين يصعدون القديسين ، كثمرة عظمى لغرسهم العظيم ، الذي لم يكن ، دائما ، إلا طائعا ومسبحا لخالقه الذي استحضره من العدم لأجل هذا الهدف الوحيد . وهم بترنيمتهم الجديدة إنما يترنمون بماهو لسان حال الكنيسة المفدية والمجتمعة أشلاؤها عبر تاريخ البشر مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ . وهم وإذ يتحدثون بلسان المفديين فهم إنما يعربون عن رضاهم بدورهم العظيم في أدائهم ليتورجيتهم الكونية التي فيها تم تقديم صعيدة الكنيسة إلى الله الآب في ابنه المتجسد . هذا هو سر بقاء وانتظار الخليقة ،  مابقيت وماانتظرت ؛ " لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ . إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ ( ktisis ) لِلْبُطْلِ  لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ.  فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا " (رو8 :19- 23 ) .
4-  المشهد الرابع : البوق السابع ( رؤ 11 : 15 - 19 )
 البوق السابع هو البوق الأخير ، هو لحظة التجسد الإلهي ، لحظة مجيء الرب ، التي شطرت التاريخ قسمين ، فابتعث الأموات الراقدون- قبل التجسد - لينضموا إلى الكلمة المتجسد ، وأما الأحياء فلا يرقدون كالسابقين بل يختطفون لينضموا إلى الآخرين ، في الرب ، وهذا هو مضمون عبارتي بولس الرسول ، الآتيتين :
1-      "  هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ " ( 1كو15 : 51 و52)  .    
 2-   "  لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ "   ( 1 تس 4 : 16و17)  
نعود إلى مشهد البوق الأخير ، في رؤيا يوحنا اللاهوتي ، فنرصد حدوث تلك الأصوات العظيمة في السماء ، التي تعلن مجيء ملكوت الرب ومسيحه ، على العالم ، إلى أبد الآبدين ، وأما الأربعة والعشرون شيخا الجالسون على عروشهم أمام الله فيخرون على وجوههم ، ساجدين قائلين : "  نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظِيمَةَ وَمَلَكْتَ    ، ... " وينفتح هيكل الله في السماء ، ويظهر تابوت عهده في هيكله . هكذا تشهد الخليقة أن ذلك الأزلي ، الذي كان في أبيه منذ الأزل ، هو كائن فيها ، وبه هي كائنة ، وأما الخبر السار فهو أنه في زمن البوق الأخير ، زمن التجسد ، إنما هو يأتي فيها ، محققا ملكوته الأبدي.
   هذه هي الخليقة ،الطائعة لخالقها الذي أنشأها من العدم ، والسائرة في حركة طاعتها نحو تحقيق هدفها المنشود وهو تحقيق وجود الخليقة الجديدة ، الكنيسة ، الكائنة في شخص المسيح ، محور حركة الكون وحامله ، بحضوره فيه . هذا هو الابن الأكبر ( الشيخ ) ، الخليقة العتيقة التي لم تخذل الآب السماوي في خدمتها ، بل ظلت في مسار ليتورجيتها الكونية التي فيها تصعد الخليقة الجديدة إلى حيث ما يجب أن يسترد الضال ، وفي ذلك كله لا نصيب  للابن الأكبر ( الشيخ  ) في حضور احتفالية العودة . فيتكرر ذكر ( وظهور ) الأربعة والعشرين شيخا في ستة إصحاحات من رؤيا يوحنا ( 4، 5 ، 7،11 ، 14 ،19 ) ، وفي هذه المشاهد يؤكد ويوثق الشيوخ شهادتهم التاريخية على مسار حركة تكريس وإظهار وجود الكنيسة بكل منعطفاته وأحداثه ، كنمط من وجود جديد عديم الفساد عوضا عن وجودهم العتيق . يخرون ساجدين  مقدمين المجد والكرامة لمن يستحق المجد والكرامة . لنصل إلى آخر مشهد يظهر فيه الشيوخ - في الإصحاح التاسع عشر- حيث يشهدون دينونة المدينة العظيمة بابل . هكذا تكون الخليقة قد شهدت  وأدلت بشهادتها بخصوص كل البشر . شهدت مصيرا إيجابيا للذين  في المسيح ومصيرا سلبيا للذين ليسوا في المسيح . وأما في باقي الرؤيا - أي إصحاحات : 20 و 21 و22  - فنحن نشهد النهاية السعيدة لكل شي : السماء الجديدة والأرض الجديدة ( الخليقة الجديدة ) مسكن الله مع الناس ، أورشليم المدينة العظيمة المقدسة النازلة من السماء ، نهر الحياة الصافي ، ..  إلخ  . وفي كل مشاهد الإصحاحات الثلاثة ، المدهشة ، لم يأت أي ذكر من قريب أو من بعيد لأي تواجد للشيوخ . وأظن أن الأمر لايخلو من ثمة دلالة غير ضعيفة .هؤلاء هم الأربعة والعشرون شيخا ( الخليقة العتيقة ، بلغة سفر الرؤيا ) ،يؤكدون ويشهدون شهادة إيجابية فاعلة نشطة  - في رضا وامتنان ، في كل مشهد يتواجدون فيه  - عن دورهم المحوري في إصعاد الكنيسة  - من وسطهم  - إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة ، في الخروف القائم كأنه مذبوح ، في وسطهم ، أيضا . وما أن تنتهي مهمتهم النبيلة إلا  وبختفون تماما من المشهد ، فلامكان ولازمان للقديم وسط الجديد ، مثلما كان تماما لهم بصيغة مثل الابن الضال أي صيغة الابن الأكبر- الذي بالرغم من أن كل ماللأب كان له بعد أن أخذ الصغير نصيبه ، حتى تكلفة احتفالية العودة والعجل المسمن ، كل شيء كان من حساب الشيخ . هو الذي يعمل كعبد في تنمية نصيبه – وفي النهاية لم يكن له نصيب في احتفالية وليمة العجل المسمن ، ولكن من المفترض أن يفرح لأن أخاه كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد .
  ثالثا : ملحوظات لغوية
1- التبديد والاستعادة
-  "  أعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ ( to epivallon meros tis ousias  ) .  فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ " (  ton vion  )  ( لو15 : 12) .
-  "  بَذَّرَ مَالَهُ ( tin ousian autou  ) بِعَيْشٍ ( zwn  ) مُسْرِفٍ  " ( لو15 : 13 ) .
- ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ  ( sou ton vion  ) مَعَ الزَّوَانِي ( لو15 : 30 )
- كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ ( anezisen ) ( لو15 : 24و 32 )
تشير كلمة أوسيا ( ousia ) - التي تعني كل ماللشيء من جوهر وطبيعة معينة- وتشير كلمة فيون (vion )  - التي تعني مظاهر وأعراض الحياة والوجود المادي الطبيعي -  تشيران معا إلى أن ماتم تقسيمه فيما بين الابنين – بتجانس وتساو - هو ذلك الوجود المادي الطبيعي ( الفيزيائي ) ، فالخليقة المنظورة ذات الطبيعة الزمكانية بجملتها خاضعة لمنظومة ثابتة من القوانين الفيزيائية ، وفيما اختص الانسان بنصيب عال من طبيعة ( جوهر  - أوسيا ) متميزة  بالإدراك والوعي البشري ، فما يزال جزءا لايتجزأ من الكون ( الخليقة المادية ) بالرغم من كونه  مدعوا لرسالة وقسم  ( meros ) آخر ، مرسوم ومنتظر منه وملقى على عاتقه ( epivallon ) . ولكن الإنسان بسقوطه - وخروجه  عن المسار المؤدي إلى تحقيق مبتغى وجوده ، كابن للآب السماوي – بسقوطه قد تسفل منحدرا – بشهوانيته - إلى درك أعمق مما هو عليه حال البهائم ، فترك نفسه – بكل مظاهر وجوده - نهبا ، لتبتلع من حيوانيته ونرجسيته وعزلته ، وفي ذلك تسجل الخليقة  غير الناطقة ( الابن الأكبر ) شهادتها : " ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ  مَعِيشَتَكَ  ( sou ton vion  ) مَعَ الزَّوَانِي " . ولكن الطامة الكبرى ليست في تبديد الإنسان لل (  vion ) ، بل في تبديده لل ( zwn  ) . والأخيرة ليست " المعيشة " أو " الحياة " كمظاهر وأحداث وإمكانيات مادية بل هي مقوم وسببية الحياة والتي بدونها يتلاشى مفهوم الحياة بصفة عامة . والكلمة ( zaw  ) مستخدمة استخداما لاهوتيا خاصا في العهد الجديد وترتبط بتعبيرات ذات أهمية  قصوى بمفهوم الحياة في المسيح كما في الخبز الحي ( يو6 : 51 ) ، الماء الحي ( يو4: 10و11 ) ، الحجارة الحية ( 1بط 2: 5 ) .. الخ ، ولعلنا لن نجد اقتباسا أوضح وأروع من المثال التالي :
" لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا ( zisw  ) للهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا ( zw  ) لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا ( zi  ) فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ( zw  ) الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ ( zw ) فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي " ( غل2: 19و20 ) .
  إذن ، مافقده الضال -  بضلاله  - حينما بذر ماله بعيش ( zwn  ) مسرف هو إمكانية ( potentiality  ) الحياة وليس الحياة بذاتها . ولتثبيت دقة هذه الملحوظة اللغوية نذكر أن لدينا في يونانية العهد الجديد كلمة أخرى تشير إلى المعنى المجرد للحياة – وليس إلى الحياة كمظهر (  مثلما يخص  vios )  أو كإمكانية ( مثلما يخص zwn  )  - ولم يتم استخدامها في سياقنا هذا ، وهي كلمة " zwi  " ، تلك الكلمة المستخدمة في المصطلح الأشهر ، مصطلح الحياة الأبدية ، كما في :
 "  الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ ( zwin ) أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً (zwin ) بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ " ( يو3 : 36 )
  أما ماقد استعاده الضال بعودته فهو إمكانية الحصول على الحياة ثانية ، تلك الإمكانية التي فقدها بسقوطه . والفعل اليوناني "  anazaw  " – في " كان ميتا فعاش " معبر في روعة لاتوصف عن أن المستعاد هو ال ( zwn  ) المفقودة .
والأمر وثيق الصلة – إلى درجة التماهي – مع اعتراف الضال -  الذي أسر به إلى نفسه في لحظة الاستنارة ، وأباح به إلى أبيه في لحظة اللقاء – حينما قال : "  لَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ ( لم أعد مستحقا ) أَنْ أُدْعَى ( klithinai  ) لَكَ ابْنًا " ( لو15 : 19 و 21 ) .  فبالإضافة إلى ملحوظة أنه لم يقل : لم أعد مستحقا أن أكون لك ابنا ، بل أن أدعى لك ابنا ، فإن فعل " الدعوة " من " يدعو " kalew   " لايعني مجرد لقب – بصرف النظر عن مايحتويه اللقب من مضمون أو رسالة - أو اسم كما تفيد صيغة أخرى ، مركبة ، للفعل وهي : " epikalew " كما في " سمعان الملقب ( epikaleitai  ) بطرس " ( أع 10: 5و18و32 ) ، مثلا ، بل إن " كاليو " تحمل مضمونا إضافيا يشير إلى حدث إيجابي  توجه الدعوة ( invitation  ) بخصوصه  . والدعوة بطبيعة الحال أمر يحتمل القبول بنفس القدر الذي يحتمل به الرفض . دعوة البنوة ( التبني ) التي فقدها الإنسان بسقوطه وضلاله عن الطريق المرسوم له هى ذاتها إمكانية الحياة المفقودة . والمفقود قد تمت استعادته وتم احياؤه بتوجيه الدعوة ثانية إلى شركة الابن المتجسد . والدعوة إلى شركة الابن الذاتي هي دعوة للبنوة ، أي التبني . والرسول بولس ينعش ذاكرة شوق كنيسة كورنثوس بالحديث عن هذه الدعوة مستخدما نفس الفعل (  kalew )  قائلا : " أَمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ ( eklithite ) إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا " ( 1كو1 :9 )
 2- تقدمة العجل المسمن
تقدمة العجل المسمن للذبح هي عمل خدمة ( leitourgia )كهنوتية دموية ، بامتياز . تلك الخدمة التي اضطلع بها الكلمة المتجسد  المسيح الرب لأنه "  قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ (  leitourgias ) أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضًا لِعَهْدٍ أَعْظَمَ " ( عب8 : 6 ) ، فهو رئيس الكهنة . ولأن " كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ مِنَ النَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِي مَاِ للهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ ( prosferi ) قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ  ( thysias ) عَنِ الْخَطَايَا " ( عب 5: 1 ) فهو " قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ ( thysias )  نَفْسِهِ " ( عب9 :  26 ) .
دراسة المفردات اليونانية المستخدمة تشير في حسم جلي إلى كهنوتية التقدمة وكهنوتية الذبح والذبيحة :
- " قَدِّمُوا ( ferete ) الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ ( thysate  ) فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ" لو15: 23  )  .
 - " أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ ( ethysen ) أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ "( لو15: 27 )
- " ... ذَبَحْتَ ( ethysas  ) لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ " ( لو15 : 30 )
والملاحظ هو :
1- استخدام  مفردة خاصة للتعبير عن " التقدمة " ، من الفعل" يقدم "( ferw ، أو الصيغة المركبة  prosferw  ) .
2- استخدام مفردة خاصة للتعبير عن " الذبيحة " من الفعل "يذبح "( thyw ) ،" ذبيحة "( thysia ) ، " مذبح "( thysiastirion  ) .
وهي مفردات ليتورجية لايستخدم غيرها العهد الجديد -  لاسيما رسالة العبرانيين  - في الحديث عن القرابين والذبائح . وهي بالمناسبة ليست مفردات عامة ؛ بمعنى أن اقتياد حيوانا إلى القتل ذبحا لغرض غير خدمة تقديم الذبيحة الكهنوتية أمر لايصلح أن يستخدم معه مثل هذه المفردات ولكن تستخدم مفردات أخرى  ؛ ففعل التقديم والتقدمة  يستبدل بفعل الاقتياد  والإحضار عنوة وقسرا  ، أي فعل (  agw ) ، والفعل  يقتل ، يذبح هو ( sfazw ) ، القتل ( الذبح ) ( sfagi ) . ولعل خير مثل هو تلك العبارة الأشهر لأشعياء : " مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ ( ichthi  ) إِلَى الذَّبْحِ ( sfagyn ) " ( أع 8 : 32 )
خلاصة القول هي أن تقدمة العجل المسمن لم تكن مجرد وليمة احتفالية ولكن كانت ليتورجيا  كهنوتية يتم فيها تقديم الذبيحة الوحيدة التي كان قد سبق أن أعدها الآب ، كقربان ، لتكون محورا لاحتفالية  عودة الابن  الضال .
 3- الخروج للقاء الشيخ الغاضب
"  فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ ( auton  parekalei  )  " ( لو15 : 28 )
" يطلب إليه " أن يصنع ماذا ؟ هل يطلب إليه أن يدخل البيت ليحضر ويستمتع باحتفالية وليمة عودة الضال ؟ إذن،  إن كان هذا صحيحا فلماذا لم يذكر ذلك صراحة ؟ واقع الحال هو أن العهد الجديد لايستخدم الفعل " parakalew " بمعنى يفيد " الطلب " إلا إذا اشتمل السياق على موضوع الطلبة ، على سبيل المثال لا الحصر :
 " فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ ( parakalw oun  ) أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي " ( 1كو4 : 16 )
ولكن المفاجأة هي أن للفعل – موضوع الحديث – استخداما ومضمونا آخرا غير الطلبة والتضرع والالتماس وهو مضمون التعزية والترضية والتثبيت ، وهو - فيما أعتقد –  المعنى المقصود من فعل " parakalew " في سياق النص . إذن ، الفعل يعني "يعزي ". والتعزية هي  " parakalysis " . والروح القدس المعزي هو ال " paraklytos " ، فالأب خرج للقاء ابنه ، " الشيخ " الغاضب  ، لا ليطلب منه أن يدخل إلى البيت لحضور الحفل بل ليعزيه - وربما ليعظه ( وهذا معنى آخر للفعل من الممكن أن يكون ضالعا في سياق النص –  فينبغي أن يفرح  الجميع لعودة الضال ، بما فيهم الابن  الأكبر ، ولاداعي للغضب أو الحسد . ينبغي أن يكون الفرح والتهليل بعودة الإنسان إلى النموذج الذي خلق من أجله ، هو لسان حال الخليقة العتيقة . وحتى لو لم يكن الخلود - في المسيح - أفقا أو نصيبا ينتظر الخليقة العتيقة ( مادون الإنسان ) فلا ينبغي للكون العتيق إلا أن يكون راضيا  - إذا جاز هذا القول  - لأن الإنسان العائد إلى الحياة لم يكن إلا مشروعا  محوريا وأساسيا للكون وموضوعا لسببية وجوده منذ أول لحظة لانطلاق الكون ، ولم يكن لهذا الكون العتيق أي وعد بالخلود مثلما حدث لأخيه الأصغر ، الإنسان ، ذلك الذي ظهر في مشهد الوجود  متأخرا جدا ، ولكن لكونه قد ضل طريق الحياة  بانحرافه عن تلبية الدعوة التي دعي إليها ، فمتى عاد إلى أبيه في الابن الذاتي المتجسد المسيح الرب ، فإنه يقال أنه كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد. 
     مجدي داود