الاثنين، 17 أبريل 2017

الوجود حركة ( 4 )

  رابعا : الفلسفة اللاهوتية للحركة ، والبحث عن " نظرية كل شيء "
 الهاجس الذي ينبغي أن  يسيطر على ذهن الفيزيائي الباحث عن نظرية كل شيء هو هاجس " مفهوم الحركة " . والنقطة الحاكمة بخصوص مفهوم الحركة هي راصد الحركة . وماندركه  - بفضل أينشتين - عن الحركة النسبية التي لوجودنا النسبي هي أن راصدا ساكنا سكونا مطلقا  - يستطيع أن يرصد حركة جسم في أي مكان في كوننا ، كحركة مطلقة - هو درب من الخيال. وأيضا بفضل ميكانيكا الكم ومبدأ هايزنبرج للشك وعدم اليقين ( principle of uncertainity ) أصبحنا ندرك أنه لاسبيل إلى رصد الحركة ، رصدا دقيقا ، على المستوى الدقيق للمادة ( subatomic  ) وذلك لضلوع الراصد في التجربة ، فتؤول القضية في النهاية إلى  حزمة من  الاحتمالات . إذن ، فيما يخص مانختبره من حركة في كوننا المادي ، النسبي ، فنحن أمام حركة من نمط لايمكن رصده بدقه من خلال راصد ساكن سكونا مطلقا ، وذلك لسبب بسيط هو أنه لاتوجد نقطة سكون مطلق ، واحدة ، في هذا الكون كله ، الذي هو بطبيعته منظومة معقدة جدا من الحركة النسبيىة . ولأنه   -  وبصفة عامة ، ومن دواعي المنطق ، وبالتعريف - لاتوجد حركة بدون راصد ، أو على الأقل بدون راصد افتراضي ؛ لأن الحركة هي مايمكن ، أو ما يفترض ، رصده كحركة  ،  فاستحالة الرصد هي استحالة الحركة ذاتها  - فكيف لنا أن نتخيل وجود راصد لحركتنا النسبية يتمتع بالسكون المطلق ؟ ماعسى أن تكون طبيعة هذا الراصد ؟ إن راصدا مفترضا للحركة النسبية المعقدة والمركبة التي تلتحف الكون المادي - الذي نحن مجرد جزء ضئيل منه – لايمكن إلا أن يكون كيانا ميتافيزيقيا واعيا هائلا لازمكانيا يتخلل أعماق المادة الزمكانية كحامل للوعي الكوني ذي البنية التحتية من منظومة القوانين الفيزيائية الثابتة في كل جزء منه ، فيرصد كل حركة ممكنة بدءا من داخل الذرة وما تحتها ( أي ذرة ) وحتى إلى المجرة ( أي مجرة ) ومابين المجرات .إنه إذن كيان فائق القدرة ( omnipotent ) ، كيان مطلق . ببساطة شديدة من الممكن أن نقول بأن  وجود النسبي يفترض وجود المطلق ، وإذا كان وجود النسبي حقيقة فهذا أمر لايعني إلا أن وجود المطلق هو حقيقة الحقائق . ولا يصبح المطلق مجرد راصد سلبي للنسبي بل سببا مرجعيا لوجوده . وهنا ، الرصدية تتفوق وتسبق السببية ، بل إن رصدية المطلق للنسبي تتماهى مع سببية وجود النسبي . وراصد الحركة هو المحرك ذاته ، فالراصد حاضر في أعماق الكون " كقانون كلي " وكمصدر لكل القوانين . ومفهوم " القانون الكلي للكون " هو ماأبدعه الفيلسوف اليوناني  هرقليطس  (540 -  480 ق م )،  المصطلح العجيب الذي أدخله إلى الفلسفة ، هو مفهوم اللوغوس  ، Logos  . ويأتي اللاهوت المسيحي  ليضيء مفهوم اللوغوس ، ذلك الذي تبلور كأروع مايمكن في استهلالية انجيل يوحنا ، وليتكشف أن اللوغوس ، الكلمة الذاتي ، هو شخص الابن ، الكائن في حضن أبيه وفي الروح القدس الذي هو روح الابن وروح الآب بآن واحد . نحن هنا أمام راصد لحركة الكون النسبية ليس مجرد نقطة سكون مطلق ( من منظور حركة الكون ) ، لأن السكون المطلق هو العدم  .نحن أمام الوجود المطلق الذي تكرسه الحركة المطلقة في اللازمكان . هذا الوجود الذي بحضوره ، كشخص اللوغوس ، انطلق الكون من العدم ( Creatio ex nihilo ( ، وبحضوره يستمر الكون في تطوره إلى أن يظهر ذلك المطلق متجسدا في النسبي دون أن يحده النسبي بل على العكس ينقذ المطلق ( المتجسد ) ذلك النسبي من نسبيته المهددة بفنائه ليحمله إلى الأبد داخل كيانه ، مدخلا إياه مظله حركته المطلقة ، محررا إياه من قيود زمكانيته  من خلال نمط ثالث من الحركة أسميناه الحركة النعموية ، تلك الحركة التي تستثمر أسرارية ورمزية الوجود النسبي لتجسير الهوة بين النسبي والمطلق  . وإذا كان هرم الوعي الكوني قد تأسس على قاعدة من القوانين الفيزيائية الثابتة - وبتراكم الوعي في مسار تطوره وصل إلى قمة الهرم التي هي الجنس البشري – فإن الكلمة اللوغوس حاضر وحامل لذلك الهرم ، بل ومالئ له ومتخلل كل نسيج زمكانيته ، بل ويقع موقع السداة واللحمة بالنسبة لذلك النسيج وما القوانين  الفيزيائية إلا مجرد  الصبغة اللونية الكاشفة لوجود النسيج بسداه ولحمته. وفي نقطة زمكانية محددة تجلى اللوغوس في قمة الهرم كشخص إنساني ، فيه قد اجتذب المختارون من البشر صائرين  فيه خليقة جديدة ، كونا جديدا عوضا عن المادي البائد بطبيعته . وإذا كان اللوغوس ، بحضوره ، قد استدعى الكون النسبي إلى الوجود من أعماق السكون المطلق ، أي العدم ، فإن اللوغوس – أيضا – بحضوره متجسدا في الإنسان يسوع قد استدعى البشر إلى الوجود الأبدي ، محمول وجودهم النسبي بواسطة الوجود المطلق . ليس الحديث عن اللوغوس الخالق الحاضر في الكون حديثا يقصد البرهنة المتعسفة على وجود الله ، في مواجهة الإلحاد  . فقد نشأ الإلحاد نشأة غير شرعية ، كمجرد رد فعل . إذ تكمن مشكلة الملحد ، لاسيما العالم الملحد ، في ابتلاعه طعما من خرافة تم طهيه وتسويقه بواسطة أصحاب الخطاب الديني من المؤمنين أصحاب الديانات السماوية ، بلا استثناء . والخرافة مفادها هو إمكانية التعاطي والتفكر في المطلق بقواعد وقوانين النسبي ؛ فتم الترويج لله من خلال زمكانيتهم ؛ فالله  - بالرغم من كونه فائق وغير محدود ، كما يؤمنون- يظل كائنا يسكن مكانا اسمه السماء ، ويتحكم في خليقته  - بدءا من خلقتها وحتى إلى نهايتها  - بواسطة التحكم عن بعد (  remote control  ) . يرسل من يطيعونه من البشر إلى مكان اسمه الفردوس أو الجنة ، ويرسل العصاة إلى مكان اسمه  الجحيم . حتى مفهوم أبدية وسرمدية الذات الإلهية تفهم من خلال الزمن ، فهي مجرد زمن  لانهائي ، غير مفهوم وغير مبرر ، وليست ديناميكية  إنتاج الوجود المطلق في حدث لازمكاني ذي سببية ذاتية . يتعاطى الملحد باحترام ( غير مستحق ) مع هذا الطرح فيسقط ببساطة شديدة في هوة الإلحاد ؛ إذ لا يوجد في الكون مكان منعزل متعال ، أو سقف ، يمكن أن نطلق عليه السماء؛ فالكون بالون أو كرة ضخمة في حالة من الاتساع والتعاظم  الحجمي المستمر ،  فضلا عن أنه لا يوجد كيان شخصي فائق يمكن رصد وجوده في الكون . هكذا نستطيع تشخيص الداء ، الذي يتجلى في افتراض كارثي هو إمكانية رصد النسبي للحركة المطلقة وليس العكس ، الأمر الذي يؤدي إلى رسم صورة مشوهة تشوه المسخ - مستمدة من الوجود الزمكاني  - لله . وحقيقة الأمر ، وفي اعتقادي ،  للملحد كل الحق - بل يستحق كل الثناء - في أن يتنكر لمثل هذه الصورة . ولكن مثل هذه العزلة الإلهية المزعومة من قبل كثير من المؤمنين – والتي أسست - عن غير وعي - لإلحاد الملحدين – من الممكن أن يتم تفنيدها والقضاء عليها بواسطة الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي الشرقي الأصيل الذي قدم رؤية واضحة لإله هو شخص  اللوغوس   الحاضر في العالم ، والمحرك للعالم ، بينما هو المطلق ، الأعظم من العالم . هو كائن في الكل ، والكل كائن فيه " God is in all and all are in God " . هذه الرؤية هي مايعبر عنها المصطلح : " panentheism   " ، الذي قدمه الفيلسوف واللاهوتي الألماني :  (  Friedrich Krause (1781-1832 Karl) .
    خلاصة القول هي أنه إذا كان الوجود المادي -  الذي نحن ، البشر ، أحد أهم مشاهده – وجودا  يقيمه نمط من الحركة أطلقنا عليه " الحركة النسبية " ، ولأنه لاحركة بدون راصد ، ولاحركة إلا من سكون ، ولا سكون في كوننا ، الذي هو منظومة هائلة من الحركة ، فلابد لنا من افتراض وجود راصد ، الذي بدوره لابد أن يكون كيانا ميتافيزيقيا هائلا وبقدر تمايزه اللانهائي عن الطبيعة الزمكانية يشتد حضوره في المادة إلى درجة التماهي مع الوعي الكوني التحتي الذي يمثل نسيج منظومة القوانين الفيزيائية الثابتة في كل جزء من الكون . هكذا فإن النسبي لايتأسس وجوده إلا على أساس افتراض وجود المطلق . وهنا يكون قد آن الأوان أن يتحرر بعض البشر من وهم العبثية والفوضوية والاحتمالية التي تحكم نظرتهم إلى الوجود ، وبالتالي تحكم نظرتهم إلى أنفسهم ، إذ أنهم يستحقون مصيرا أفضل بانعتاق النسبي من المصير المأساوي المحتوم باشتراكه الأبدي في المطلق الحاضر فيه . تلك هي النهاية السعيدة لكل شيء .
مجدي داود