1- مثل الزارع ، " خريطة الخليقة "
(
مت 13 : 1- 23 ) ، ( مر 4 : 1 - 20 ) ، ( لو 8 : 4 - 15 )
في اعتقادي أن مثل الزارع هو صياغة بانورامية لقصة الكون التي تنطلق منذ لحظة اضطلاع الله بدعوة الخليقة إلى الوجود ، من العدم ، مرورا باكتمال خلقة الكون الكبير ، بكل مجراته، وانتهاء بخلقة الإنسان ودعوته للعلاقة الأبدية مع الله .
1- الزارع
والمزروع هما واحد
لدينا
مفتاحان لولوج أسرار الرؤية الكونية لمثل الزارع :
أولا : عبارة يسوع التي وردت في سياق تفسيره
للمثل ، في إنجيل لوقا 8 : 11، حيث قال : " الزرع ( البذرة o sporos = ) هو كلمة الله ( o
logos tou theo ).
وحينما
تأتي عبارة " كلمة الله " ، بهذه الصيغة المعرفة ، لشطري الاسم - في يونانية
العهد الجديد - فهي تعني شخص الكلمة ، الابن الوحيد ، ولا تعني مجرد ما يمكن فهمه عن
كلمات الوحي المكتوبة في الكتاب ، أو كلمات الوعظ الروحي ، أو أي مفهوم آخر.
ليس هذا فقط فيما يخص انجيل لوقا بل أيضا وبحسب نص
انجيل " متى " يأتي اللوغوس معرفا : " كلمة الملكوت " ( ton logon tys
vaseleias ) ( متى 13 : 19) ، وأيضا
بحسب مرقص : " الزارع يزرع الكلمة ( ton
logon ) ( مر4: 14 ) .
ثانيا : عبارة يسوع التي وردت في سياق تفسيره
لمثل آخر ، هو مثل القمح والحنطة ، حيث قال : " الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان
. والحقل هو العالم . والزرع الجيد هو بنو الملكوت " ( مت 13 : 37 و 38 ).
إذن
، الحديث عن فلاحة الله هو حديث عن خروج شخص الكلمة ليزرع ذاته في الخليقة . وهذه هي
بانوراما النعمة المستعلنة في الخليقة كما أراد الرب أن تكون . فبالكلمة ، كل شيء في
الخليقة قد كان ، وبغيره لم يكن شيء مما كان ( يو 1 : 3 ) . هو قد حضر في الخليقة ،
واضعا فيها بذرة ذاته ، فظهرت الخليقة موجودة ، كاستعلان لهذا الحضور. وعندما أثمرت
بذرته المغروسة في الخليقة ثمرا هو كنيسته ، وعندما أثمرث مسيحا يجتمع فيه بنو
الملكوت ، كان هذا استعلانا لتمام عمل الكلمة كزارع في الخليقة .
خرج الكلمة ناثرا بذرة ذاته ، فظهر الكون كمرمى لبذاره
، وظهرت كنيسته كثمرة جيدة لعمله في أرض جيدة
، ظهرت في هذا الحقل الكوني . تلك هي
الكنيسة التي يخاطبها الرسول قائلا : " أَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ " ( 1كو3
: 9 ) .
الزارع
والمزروع هما واحد لأن " الزارع الزرع الجيد هو ابن الإنسان " ، وتعبير
( لقب ) ابن الإنسان - عندما يذكر - فإنه لايشير فقط إلى شخص الرب يسوع التاريخي ،
الكلمة المتجسد ، بل يشير إلى كيان كاثوليكي ضخم يضم جميع المفديين من البشر .
باختصار لقب ابن الإنسان يشير إلى الوجود الجديد للإنسان ، يشير إلى الكنيسة
الكائنة في المسيح كجسد له بينما هو كائن رأسا لها . وبالتالي هو لقب عابر للزمان وللمكان
وللتاريخ . هو ثمرة الكون التي ظهرت كنتيجة
لزراعة الكلمة ذاته في الخليقة . هذا ومن الغريب أن هذا التعريف لم يكن
وليدا للعهد الجديد، فهاهو دانيال يكتشف في " رؤى الليل " أن " ابن
الإنسان " هو " شعب قديسي العلي
" ، إذ يتم استخدام المصطلحين في تبادل مدهش للمواقع في النص :
- " كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا
مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ
إِنْسَانٍ
أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا
وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ.
سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ
" ( دانيال 7: 13و 14 ) .
.
" أَمَّا قِدِّيسُو
الْعَلِيِّ
فَيَأْخُذُونَ الْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى الأَبَدِ وَإِلَى
أَبَدِ الآبِدِينَ " ( دانيال 7 : 18 ) .
. " وَالْمَمْلَكَةُ وَالسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ
الْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسِي الْعَلِيِّ.
مَلَكُوتُهُ
مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ، وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ "
( دانيال 7 : 27 ) .
ابن الإنسان ، إذن ، هو الملك والمملكة بآن واحد
. هو الزارع والمزروع بآن واحد . هو الرب يسوع المسيح الكلمة المتجسد ، والذي
بتجسده زرع ذاته قي البشر فأثمر الكنيسة التي نبتت فيه كأعضاء خاصة بجسده الخاص .
2-
خروج الزارع
.
" هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ ( exylthen ) لِيَزْرَعَ "
( مت13 : 3 ) .
. " هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ " ( مر4 : 3 ) .
. "
خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ
" ( لو 8 : 5 ) .
إذا
كان الزارع هو شخص الكلمة ، فخروج الزارع هو
خروج الابن من الآب ، إلى العالم ، هو عطية الابن للعالم : " لأَنَّهُ هكَذَا
أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى
بَذَلَ
( أعطى
= edwken ) ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ
كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " ( يو3
: 16 ) . خروج الزارع هو حضور الابن في الخليقة ، هو إرساليته إلى العالم ، التي بلغت
قمتها في تجسده ، إلى الأبد ، في البشر ، بظهور الرب يسوع التاريخي :
" لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأَنَّكُمْ
قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجْتُ ( exylthon) . خَرَجْتُ
(exylthon ) مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضًا
أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ " ( يو 16 : 27 و 28) . هاهو
الزارع الذي خرج من عند الله مرسلا إلى العالم ، هاهو يتحدث مخاطبا أباه الذاتي
بخصوص كنيسته التي هي ثمرة زرعه : أَنَا قَدْ
أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ ( الترجمة الدقيقة : كلمتك ، الكلمة
الذي لك
، ton logon sou ) ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا
مِنَ الْعَالَمِ، .. . قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ ( كلمتك ، الكلمة الذي لك ، o logos o sos ) هُوَ حَقٌ " ( يو17 : 14- 17
) .
ملحوظات
لغوية بخصوص " اللوغوس "
1- الملحوظة المهمة هي أن مفردة " اللوغوس
" هي المفردة الوحيدة ( بمعنى " الكلمة " ) المستخدمة - وبصيغة معرفة
- في نص مثل الزارع الوارد في الثلاث روايات الإنجيلية جميعها. ولم تستخدم مفردة أخرى
مثل " الريما " ، ولو لمرة واحدة .
2-
الفرق بين " اللوغوس" و" الريما "
في يونانية العهد الجديد نجد تمييزا واضحا بين
مفردتين ، يتم ترجمتهما في معظم اللغات - بما فيها العربية - بمعنى " كلمة
" وهما " لوغوس ، logos " و " ريما ، rhema " . ومما ينبغي ذكره هنا أنه
في اللغة العبرية توجد مفردة واحدة بمعنى
" كلمة " وهي " Dabar " ، ولكن عند ترجمة العهد القديم إلى اليونانية ( الترجمة السبعينية
) ، حمل الروح القدس المترجمين إلى ترجمة " الدابار " تارة إلى " ريما " ، وتارة أخرى إلى
" لوغوس " ، بحسب دلالة السياق في كل حالة على حدة . ويبرز استخدام
" اللوغوس " للتعبير عن الإعلان عن الهوية الذاتية أو الشخصية ، أو الذهنية
لصاحب " الكلمة " ، بينما تبرز " الريما " كتعبير عن الإعلان
" للآخر " ؛ فهي الكلمة التي تخاطب
الآخر فيتلقاها ويتعاطى معها سواء كانت " منطوقة " ، فيسمعها ، أو مكتوبة
فيقرأها ، وفي كل من الحالتين هو يتواصل مع ذهن وفكر المتكلم. أي أن مفردة اللوغوس
تكشف هوية وإرادة واختيار المتكلم ، بينما مفردة الريما تكشف هوية وإرادة واختيار المتلقي
. ومن هذا المنطلق ، فلم يكن شخص الابن الكائن في حضن أبيه إلا شخص " اللوغوس
"، ومن المستحيل أن يطلق عليه شخص " الريما " ؛ فهو كل ملء الآب وبه
يتم - سرمديا - الاستعلان الذاتي للوجود الإلهي الكائن في شركة الثالوث القدوس، فضلا
عن الاستعلان في الخليقة لأن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان ( يو1: 3 ).وعلى
سبيل المثال على أن اللوغوس قرينة لإرادة المتكلم ، الآب ، نذكر : " كُلُّ عَطِيَّةٍ
صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي
الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. شَاءَ فَوَلَدَنَا
بِكَلِمَةِ ( logw
) الْحَقِّ لِكَيْ
نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ ( يع1: 17و 18 ) . ومن الجهة الأخرى، كان من المنطقي
أن تستخدم الريما في التعبير عن " كلمات
الوحي وعن كلمات البشارة "، تلك التي من الممكن قبولها مثلما من الممكن رفضها
بحسب مدى استجابة المخاطب بها، كما في:
" لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ ( rhemati
) مِنَ اللهِ" ( لو4 : 4 ) . وإذا
أردنا أن نرصد الفرق بين استخدامي المفردتين فمن الأفضل أن نتطرق لذلك من خلال سياق
عبارة واحدة جامعة للمفردتين ، على سبيل المثال : " مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ
مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ( logou ) اللهِ
الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ
مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ
الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ ( to rhema
) الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا
"( 1بط1: 23- 25 ). وأعتقد بأن الصورة جلية جدا فالولادة الثانية التي للحياة
الأبدية هي بإرادة " اللوغوس"، وبالاتحاد به، فهو " الذي شاء فولدنا " ، وأما
" الريما" فهي حاملة بشارة هذه الحياة إلى المخاطبين بها، وأما المستحقون
لهذا فهم الذين يقبلون "الريما" متفاعلين إيجابيا معها .
3-
وأخيرا السؤال الكاشف
إذا
افترضنا جدلا أن الكلمة المزروعة ، في مثل الزارع ، هي كلمة الله المرسلة للبشر من
خلال الوحي المقدس ، أو على الأقل من خلال خدام الله الملهمين ، أفلم يكن من باب المنطق
الكتابي الذي تعرضنا له، أن تكون " الريما " هي المفردة المستخدمة ، وليس
" اللوغوس "، خصوصا في سياق الاستجابات المختلفة المتوقع حدوثها من
الأنواع المختلفة للبشر؟ أما ولم يحدث هذا بل كانت المفردة الوحيدة المستخدمة في كل
النص هي " اللوغوس " ، أفهل من شك في أن الزارع عندما خرج ليزرع زرعه فهو،
حقيقة، قد خرج ليبذر بذور ذاته في الخليقة لتثمر بشرا شركاء في حياته الأبدية ؟.
3 - الطريق
." وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ
عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ " ( مت 13: 4 ) .
." وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ
عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ " ( مر4: 4 ) .
. " وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ
عَلَى الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ ( لو8 : 5 ) .
أولا : التفسير الكتابي
. " كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ
يَفْهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هذَا
هُوَ الْمَزْرُوعُ
عَلَى
الطَّرِيقِ
( ( para tyn odon ."( مت 13 : 19 ).
. وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ
الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ
الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ " ( مر 4 : 15 ) .
. وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ
يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا
" ( لو 8 : 12
ثانيا : تفسير التفسير
لاشك
أن " الطريق " - بصفة عامة - هو
ذلك الشخص الذي تجرأ فقال عن نفسه "
أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ " وهو لم يقل هذا فقط بل قال : " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ.
لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي " (يو14 : 6 ) . هو إذن طريق
حياة البشر حينما يصعدون به وفيه إلى الآب ، فيرى فيهم الآب صورة ابنه فيدعوهم
أبناء له ، أي نعمة التبني . وفيما خرج الزارع ، ابن الإنسان ، الكلمة المتجسد ،
فيما خرج ليزرع زرعه أي كنيسته الحالة فيه ، حاضرا في مسار تطور الكون منذ انطلاقه وحتى زواله
، ويأتي في قمة هذا التطور ، الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله . وهكذا فإن مسار
الكون إنما كان يهدف إلى هدف واحد هو ظهور الوعي الإنساني ، المزروع فيه ، بذرة الكلمة
. هذا هو الطريق الذي سقط عليه البعض من بذار الكلمة ، والمعنى هنا هو أن الكون بجملته
، من مبدئه وحتى منتهاه هو محمول بالكلمة الحاضر فيه ، والذي كل شيء به كان ، وسيظل
الكلمة حاضرا في الكون إلى أن يكتمل الهدف منه ، فينهي الكلمة حضوره فيه ، فيعود الكون ثانية إلى العدم ، هذا ما يعنيه مجيء طيور السماء
والتقاطها للبعض الساقط على الطريق . هذا هو مضمون مجيء إبليس ليخطف الكلمة المزروعة
؛ فإبليس هو رئيس هذا العالم المادي الطبيعي ، ومصير هذا العالم هونفس مصير إبليس ،
أي الهلاك الأبدي ، حينما ينهي شخص الكلمة حضوره فيه . سقوط بذور الكلمة على الطريق
لايعني أن الطريق مستهدف ، في حد ذاته لأن يزرع فيه الكلمة ، فحضور الكلمة فيما
سقط على جانبي الطريق هو حضور زمني ، ينتهي بانتهاء زراعة الكلمة في الجيدة المستهدفة من مسار هذا الطريق .
ولغويا
، ليس صحيحا الترجمة العربية : " سقط على الطريق ". حرف الجر الوارد
في النص اليوناني هو :" para " ، الذي
يفيد بأن البذار الساقطة قد سقطت على جانب الطريق
وليس على الطريق نفسه .بينما الحرف
" epi " هو
الاستخدام الصحيح لسقوط البذار على الشيء ، وهو ماقد استخدم في السقوط على
الأرض المحجرة ، والسقوط على الأرض الجيدة . وهذا يتفق تماما مع أن الحضور الوقتي الهامشي
للكلمة في مساره كطريق نحو الأرض الجيدة - حيث هو مزمع أن يستنبت الكنيسة - هذا
الحضور قد تكشف في ظهور الخليقة التي سبقت وجود الإنسان ، وكان مقدرا لها ذلك
الوجود الموقوت، بنهايته المحتومة .
4 - الأرض
الأرض هي البشر ، وينقسم البشر في ردود أفعالهم تجاه
الكلمة المزروع فيهم – وفقا لاستعدادهم
الطبيعي ،كآنية مهيأة لاستقبال ماهي مهيأة له - إلى ثلاثة أقسام :
1- الأرض الجيدة ، 2- الأرض الحجرية و 3- الأرض الشائكة .
1- الأرض الجيدة
. " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى
الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ
ثَلاَثِينَ (مت13 : 8).
. " وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ
الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ
بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ " ( مر8 : 4 ) .
. " وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ
الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ». قَالَ هذَا وَنَادَى: «مَنْ لَهُ أُذْنَانِ
لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ » " ( لو8:
8 ).
أولا
: التفسير الكتابي
. " وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ
( epi tyn gyn tyn kalyn ) فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ ( ton logon ) وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي
بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ "(مت13:
23).
.
" وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ
سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً "( مر 4 : 20 )
. " وَالَّذِي فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ ( en ty kaly gy ) ، هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ
فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ " ( لو 8 : 15) .
ثانيا : تفسير التفسير
أصحاب
الأرض الجيدة هم بنو الملكوت ، الذين يقبلون بذرة الكلمة المزروعة فيهم بدون مقاومة
، فتتجذر فيهم مخترقة أعماقهم ، فيكتمل زرعهم ويثمر حياة أبدية ، في الكلمة ، المسيح
الرب . هم أرض عميقة ، غير صخرية . هم أرض بلا شوائب أو أشواك قاتلة . وهكذا ، في الروح
القدس ، الذي يفحص حتى أعماق الله ، تخترق الجذور الخارجة من بذرة الكلمة أعماقهم ،
لتثمر في النهاية حياة في المسيح ، يثمرون
الكنيسة، ملكوت الله .
ومعنى
" سماع الكلمة " أمر يتجاوز الظاهر المادي المحسوس للكلمات ، وهذه حقيقة
يؤكدها الرب بنفسه ، وعن نفسه ، حينما يقرر أن حدث " السمع " للكلمة هو حدث الانتقال إلى الحياة الأبدية ، ذاته : " إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلمتي ( ton
logon mou ) وَيُؤْمِنُ
بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ،
بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ " ( يو5: 24 ) . ويجب أن
نلاحظ أن
لفظ
"الكلمة " تأتي في صيغة المفرد المعرف ، حسب الترجمة الدقيقة للنص اليوناني
الأصلي . وعندما يذكر اللوغوس معرفا فإنه يعني الشخص ، الابن الوحيد الرب يسوع
المسيح . أي أن شخص الكلمة حاضر كبذرة قابلة للزرع في الأرض الإنسانية ،وفيما خرج
ليزرع زرعه فإن هناك من يشتبك مع حضوره هذا
- فيه - إيجابيا فينبت لحساب الكنيسة ، أي الأرض الجيدة ، ومنهم من يكون تعاطيه
مع الكلمة الحاضر فيه سلبيا ، أي بلاثمر . سماع " الكلمة " وحفظها في
القلب وظهور ثمرها – الذي هو خيار أصحاب الأرض الجيدة ، الصالحة - هو
الاستجابة الإيجابية للشركة في حياة الكلمة المتجسد ، والإثمار - به وفيه - لحساب امتلاء جسده ، بكنيسته . تلك الاستجابة
التي تنبئ عن أرض قد هيأها الزارع ذاته !، شخص الكلمة ، وإلا كيف نرد على الرسول
بولس حينما تساءل : " أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ
يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟
فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ،
احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. وَلِكَيْ يُبَيِّنَ
غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، ( رو9: 21- 23 ) . وباختصار ، يخبرنا مثل
الزارع بأن هناك أرضا بشرية قد هيأت بطبيعتها لأن يستزرع فيها الكلمة ذاته فتثمر
لحساب الملكوت .
الثمر
: ثلاثون وستون ومئة
كنت قد خلصت في دراستين منشورتين على موقع الدراسات
القبطية "
coptology " : "هل يخلص غير المسيحي
" و " لغة الأرقام في الكتاب المقدس " ، خلصت إلى أن وعاء الكنيسة ،
جسد المسيح إنما يمتلئ من روافد ثلاثة قد أشار إليها الرسول بولس حينما كتب :
" لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ
اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ
بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ. لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ
يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ
قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ " ( 1كو1 : 21- 24 ) وعليه
فثلاثية الروافد التي تمتلئ منها الكنيسة هي :
1- رافد دعوة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " مئة
" .
2-
رافد عثرة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " ستين " .
3-
رافد جهالة الكرازة ، ويرمز له بالرقم " ثلاثين " .
هذه
هي الكنيسة ، حصاد الكون ، الذي خرج الزارع من أجله . وفيما يلي رؤوس أقلام بخصوص
هذا الموضوع ، ومن الممكن الرجوع إلى التفاصيل بالدراستين المنشورتين .
لغة
الأعداد والأرقام ، في الكتاب
مقدمة
. " اثنان " ، هو البطلان والنقض والنسخ
، فالعهد الثاني ( الجديد ) قد عتق الأول وأظهر الإنسان غير قادر على الشركة في الله
بواسطة ناموس موسى : " فإذ قال " جديدا " عتق الأول . وأما ما عتق وشاخ
فهو قريب من الاضمحلال ."( عب 8 : 13).
. " ثلاثة " ، هو إعلان الوجود ، فالله يستعلن
وجود ذاته ، سرمديا ، في شركة الثالوث القدوس ، وهو أيضا ، بالنعمة قد أعلن ذاته في
الوجود الانساني الجديد ، في المسيح ، كصورة للثالوث القدوس .
. " خمسة " ، هو الفئة . فالحكمة هي صفة
لفئة معينة هي الخمس عذارى الحكيمات ، والجهل هو صفة لفئة معينة هي الخمس عذارى الجاهلات
( مت 25 : 1 – 13) .
. " ستة " ، باعتباره حاصل ضرب اثنين وثلاثة
، هو بطلان الإعلان ، هو الجهالة ، أو الوجود المجهل ، عير المعلن .
- " عشرة " ، هو الإجمالي ، هو الكل ،
فالعذارى جميعهن عشرة .
-
" اثنا عشر " ، هو الكنيسة ، شعب الله
ومملكته .
الرقم
" ثلاثون "
باعتباره حاصل ضرب خمسة ( الفئة )، وستة (
الجهالة )، هو ذلك المكون أو الرافد من روافد الكنيسة ، الذي يجهل ذاته ، ككنيسة ،
ويجهله الآخرون ، أيضا . هو البشر المختارون للشركة في المسيح ، من مختلف الأمم والثقافات
، دون أن تصلهم دعوة الكرازة . هم لم يطلق عليهم اسم المسيح ، في هذا العالم ، ولكنهم
أرض جيدة أنبت فيهم الكلمة بذرته ، المغروسة في ناموسهم الطبيعي ، فكانوا ناموسا لأنفسهم
، وحينما تتجلى الكنيسة ، في المجد الآتي يدركون أنفسهم كرافد من روافد الكنيسة ، ويدرك
الرافدان الآخران ، وجودهم كرافد ثالث معهم . الرقم ثلاثون يشير إلى أحد ثلاثة روافد
تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت عليه مصطلح : " رافد جهالة الكرازة
" ، الذي يعبر عن الأمم ، بالمفهوم المطلق وليس بالمفهوم التاريخي ( في سياق المقارنة
مع اليهود ) ، باعتبار أن رافد الجهالة هم أمم العهد الجديد مقارنة برافد دعوة
كرازة الإنجيل . لمفردة الجهالة ( mwria ) معنى الفساد وبطلان الصلاحية وحيدة
الفاعلية ، كما في " أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ ( mwranthy ) الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ
بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ "(
مت5:13 ) . وهكذا فالمكون الكنسي الذي أطلقنا عليه رافد جهالة الكرازة هو ذلك
المكون الذي سيظهر في نهاية كل شيء دون أدنى فضل من فاعلية الكرازة الرسولية
بالإنجيل في العالم الحاضر .أصحاب جهالة الكرازة هم رافد ضمن ثلاثة روافد
يضمهم جميعا كيان هو الرب ، كلهم قد دعي عليهم اسم الرب ، كلهم أعضاء جسد الرب .
وبالرغم من أن أصحاب جهالة الكرازة قد انضموا للرب في غيبة وحيدة تامة لفاعلية
الكرازة ، بالنسبة إليهم ، إلا أنهم قد دعي عليهم ذات الاسم الذي لم يؤمنوا به هنا
في هذا العالم . هذه هي المعضلة ، وهذا هو اللغز المدهش والمحير الذي تصدى له
الرسول بولس فأغرقنا في هذا التساؤل الاستنكاري المتسلسل : تساءل عن كيفية أن يدعى
عليهم اسم الرب بدون إيمانهم بالرب ، وتساءل عن كيفية إيمانهم بدون سماعهم عن الرب
، وتساءل عن كيفية سماعهم بدون كارز ، وتساءل عن الكرازة بدون إرسالية . إذ لا
إرسالية ولا فعل كرازي وراء صيرورتهم كنيسة وهذا هو العجب . إنهم لم يقبلوا
الإنجيل لأن الإنجيل لم يعرض عليهم - في هذا العالم - من الأصل. وهكذا كتب : "
لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا
لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ لأَنَّ
«كُلَّ مَنْ يَدْعُو ( الصحيح هو "يدعى "،
بضم الياء وتسكين الدال : epicalecytai
) بِاسْمِ
الرَّبِّ يَخْلُصُ». فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ
يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ
يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ ... لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، … ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ : « وُجِدْتُ
مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي
». ( رو10: 12- 20 ).
وتلخيص اللغز وبلورته ، كما يعرضه الرسول بولس ،
هو هكذا:
1-
كل من يدعى عليه اسم الرب يخلص .
2-
ليس جميع من دعي عليهم اسم الرب - كموقف نهائي في حياة الدهر الآتي - قد أطاعوا
وخضعوا للإنجيل عن وعي ، لعدم وصول الكرازة إليهم . والسؤال المحير هو: كيف يدعى
اسم الرب على هؤلاء وهم لم يؤمنوا به بطريقة واعية معلنة في هذا العالم ؟
إذا كنا نؤمن أن الله قد " استحسن أن يخلص
المؤمنين من خلال جهالة الكرازة " ، فقد توجب علينا نحن المسيحيين أصحاب دعوة
الكرازة الرسولية والذين قبلنا دعوة الإنجيل في هذا العالم ، قد توجب علينا أن
نتخلى عن نرجسيتنا فنحرر المسيح من أسر احتكارنا الحصري له ( إذا جاز التعبير )
لنعطيه للعالم ، إذ هو بالفعل قد أعطي للعالم من قبل أبيه الذي أحب العالم، وهو
الكائن في العالم والحامل للعالم والحاضر فيه منذ استدعائه من العدم وحتى عودته
ثانية إلى العدم . فما بالنا بحضوره في جميع البشر ، حتى في الذين لاينتمون إلى
مانعتقد به ! وقد
بات من الحكمة إذن ، أن نتقبل أن عبارة مثل : " نعم ، من الممكن " تصلح أن تكون الإجابة
الصحيحة والوحيدة على السؤال الصادم : هل يخلص غير المسيحي ؟!
إذا كان قد تسنى لنا، نحن الذين قبلنا الإنجيل،
قدر من معرفة الرب يسوع المسيح في هذا العالم ، وقد تسنى لنا أيضا أن نكون الرافد
الوحيد الذي يدرك ذاته ككنيسة في هذا العالم ، فإن هذا القدر المتاح من المعرفة
لايشكل الحد الأدنى المعرفي المطلوب للحياة في المسيح ، فضلا عن أن غياب هذا القدر
عند الآخرين ليس مبررا كافيا لإقصائهم عن دائرة معرفة المسيح ، وإلا لما كان للرب
أن يقرر أن الزمن الأبدي وحده فقط هو الزمن الكافي للمعرفة ، حينما خاطب أباه الذاتي
قائلا : " هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ
الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " ( يو17:
3 ) . لاشك أن كشف سر المسيح المستوعب للكنيسة
كخليقة جديدة، هو الهاجس الرئيس لحركة وسعي الكرازة بالإنجيل ، فهاهو أحد أبرز
الكارزين يكتب : " أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ
بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ
السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ
" ( أفس3 : 8و9 ). ولكن يبقى أن سر المسيح لايمكن سبر أغواره في هذا العالم،
أما بالنسبة لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة فقد دشن لنا الرب طريقا تراكميا لنعمة
خلقتنا الجديدة في المسيح من خلال مفهوم السر الكنسي. وفي دراسة منشورة على
موقع الدراسات القبطية كنت قد خلصت إلى أن
الجوهر الواحد للأسرار السبعة هو المسيح المستوعب للكنيسة . وفي الأسرار - لاسيما
الإفخارستيا - نحن ننطلق من صورة واقعنا المتشظي البائس إلى واقع جديد هو شخص الرب
يسوع المسيح ، أما أن تختزل الأسرار في مجرد مظاهر طقوسية منعزلة بلا رابط شخصي
جامع لها ، فهو الإنحدار ثانية نحو العبادة الناموسية . ولدينا دليل كتابي يؤكد أن
سر المسيح الواحد لايمكن اختزاله في أي طقس من طقوس وجودنا ؛ فحينما كان يفهم من
كلام الرسول بولس أنه يشير إلى علاقة الحب الزيجي بين الرجل والمرأة - أي أنه يشير إلى سر الزيجة - وجدناه يستدرك
سريعا ليخطفنا من استغراقنا في ذواتنا قائلا : " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي
أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " ( أفس5: 32). في هذا
السياق نستطيع أن ننظر نظرة صحيحة إلى المعمودية فنحررها من كونها مجرد طقس
لانضمام الفرد إلى الجماعة الكنسية ، ومن كونها مجرد منطلق لرحلة التقوى الفردية ، فندرك أنها سر
تأسيس الكنيسة جسد المسيح ، تماما مثلما هو مضمون وجوهر الإفخارستيا ، أليست
المعمودية هي سر اصطباغ الجميع بحياة الكلمة المتجسد ؟ نحن إذن في كل مرة نحتفل
بمعمودية فرد ما فنحن ننضم إلى احتفالية تكريس الكنيسة، الكيان الذي يجمع كل
المولودين من فوق. ونستطيع الآن أن ندرك أن الرب حينما قال للأحد عشر تلميذا:"
اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا.
مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ "( مر16: 15و16
)، فإنه لم يكن يقصد أن يقصي غير المدعوين بالكرازة خارجه ، لسبب بسيط هو أنه
فعليا لايمكن فهم أن الكرازة قد وصلت إلى كل أحد في الخليقة ، والواقع يخبرنا أن
المليارات من البشر لم يكرز إليهم أحد ، فعليا ، ولم يصلهم الإنجيل فعليا ، بالرغم
من أن دعوة الكرازة قد وصلت إلى كل أركان الأرض. إذن حينما يقول السيد " من
آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن" فهو يشير إلى كل من هم في دائرة الكرازة
الفعلية وليس كل البشر فردا فردا . وهنا نستطيع أن نسأل السؤال الكاشف : ألا
يستطيع الرب يسوع المسيح كلي القدرة أن
يخترق ترتيبا وطقسا - قد أعد خصيصا لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - بطقس
وترتيب آخر لأناس آخرين حتى مايصبغهم بصبغته، دونما أن يكون لهم نفس المسار
التراكمي للنعمة الذي نجتازه نحن في العالم، والذي ينطلق من علامات وجودنا محمولا بديناميكية
الرمز حتى امتلاء السر، أي شخص المسيح الممتلئ بكنيسته ؟ والنقطة الحاكمة بخصوص هذا الطرح يخبرنا بها
مثل الزارع ؛ إذ يقرر أن العنصرين الأساسيين اللازمين لنجاح فلاحة الله وانتاج ثمر الكنيسة من أرض
البشر هما بذرة الكلمة والأرض البشرية الجيدة . ولايستطيع أحد من أصحاب دعوة
الكرازة أن يدعي بأن بذرة الكلمة لم تنثر في أرجاء الخليقة كلها ، فما بالنا
بالبشر بما فيهم من هم غير مخاطبين بالكرازة الرسولية، إلا إذا انتكسنا فكريا فافترضنا
أن الكلمة المزروعة هي كلمة البشارة وليست شخص الكلمة ذاته ، الحاضر في الكل. أيضا
لايستطيع أحد أن يدعي أن الأرض البشرية الجيدة غير موجودة بالكلية خارج دائرة
الكرازة، أو هي ملكية حصرية لأصحاب دعوة الكرازة الرسولية فقط، فنكون قد سقطنا
سقوطا مدويا في نرجسية مهلكة .
إن عبارة القديس أغسطينوس ، الشهيرة "
لاخلاص خارج الكنيسة " هي قولة حق يراد بها باطل . هي قولة حق من المنظور
الشامل الواسع للكنيسة جسد المسيح، الفلك الحقيقي الذي شيده الرب في جسده لكي ينقذ
به الكثيرين من طوفان العالم الذي وضع في الشرير، ينقذهم من فسادهم الطبيعي ومن
مصيرهم المهلك بالشركة في حياته، وبالتأكيد لايوجد خارج الفلك إلا الهلاك. وأما
الباطل المراد من المقولة فهو اختزال مفهوم الكنيسة ، التي لايوجد خلاص خارجها ، في
أصحاب دعوة الكرازة بالإنجيل ، فقط . وربما يتضاعف مستوى الاختزال ليصبح في
الطائفة الواحدة فقط، فنقطع ونقسم ماهو غير قابل للتقطيع أو للتقسيم ، الكنيسة، جسد
ربنا يسوع المسيح ، ذلك الذي بطبيعته يوحد الكل في شخصه.
الرقم : " ستون "
باعتباره
حاصل ضرب خمسة ( الفئة ) واثنا عشر ( الكنيسة )، فهو تلك الفئة ، أو الرافد ، من روافد
الكنيسة ، الذي يأتي من كنيسة القدماء الراقدين ، من زمن ما قبل التجسد . هم كانوا
في معية الرب ، سمعوا عنه ، أو عبدوه بطرق شتى ، ولكنهم ماتوا وفقا لطبيعتهم الفاسدة
، كبشر ، ولكن لحظة أن تجسد الكلمة ، اقتحم الجحيم وأطلقهم من أسر فنائهم وبعثهم من
موتهم ، لذلك يدعوهم الكتاب بالراقدين ، فعمليا لم يكن موتهم إلا بمثابة رقاد النوم
. الرقم ستون يشير إلى أحد ثلاثة روافد تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت
عليه مصطلح : " رافد عثرة الكرازة "؛ إذ كان لابد لهم أن يبعثوا من موتهم بآية تعبر بهم عثرة موتهم ، وقد كان لهم ذلك بتجسد
الكلمة ، إذ قد ابتعثوا من فنائهم ، فكان موتهم في النهاية يبدو كرقاد النوم لذلك
أطلق عليهم الراقدين . حدث تجسد الكلمة كان منطلقا لحياة فريقين من
البشر ، أقصد رافدين من الروافد الثلاثة لامتلاء كنيسة الله التي هي جسد ابنه .
الفريق الأول هو الذين ماتوا قبل تجسده والثاني هو الموجودون بعده . الذين للأول
بعثوا من موتهم والذين للثاني لن يموتوا بعد . الذين للأول هم رافد عثرة الكرازة
والذين للثاني هم رافد دعوة الكرازة ، هكذا كشف الرب لمرثا حين قال لها: "
أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى
الأَبَدِ " ( يو11: 25و26 ) . وهذا أيضا قد كشف سره الرسول بولس كاتبا : " هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ
كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ
الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ،
وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ " 1كو15: 51و52 ). والبوق الأخير هو البوق السابع (
بلغة سفر الرؤيا ) وهو زمن التجسد . وفي موضع آخر يتصدى الرسول بولس لنفس الحدث
فيشرح كيف أن الرب يسوع بظهوره قد أحضر الراقدين معه وأما الأحياء الآخرين سيلحقون
بهم ، فيكتب : " ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ
جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ
لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ
يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا
مَعَهُ ( الأدق
: الراقدون سيحضرهم الله بواسطة يسوع ، أيضا معه ) . فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا
بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ،
لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ
مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ
سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا
مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ
حِينٍ مَعَ الرَّبِّ " ( 1تس4: 13-17 ) . إذا كان رافد القدماء الراقدين تفصله هوة
الموت عن فاعلية كرازة الإنجيل ، بل أنهم قد أغلق عليهم في سجن الجحيم ، هكذا تبدو
الكرازة كما ندركها نحن ، تبدو عثرة بالنسبة لهم ، فهم يحتاجون آية عظمى حتى ما
تنقذهم من الجحيم ، وهذا ماحدث بالنسبة لهم بمجرد تجسد الكلمة ، ذلك الذي كان
تجسده كرازة لهم ، وهم إذ قد فصلهم الزمن عن الكرازة الرسولية بالإنجيل فقد صار
المكروز به ، الرب يسوع المسيح ، صار كارزا لهم ، ذلك الذي قد " ذَهَبَ فَكَرَزَ
لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ "( 1بط3: 19 ).
الرقم :
" مئة "
باعتباره
حاصل ضرب عشرة ( الكل ) وعشرة ( الكل )، فهو يشير إلى رافد الكنيسة الذي يقبل فيه كل
أفراده ، كل ما يخص الإيمان بالمسيح ، إنه رافد الكل في الكل . وهو في ذات الوقت
رقم يتجاوز مجموع رقمي الرافدين الآخرين ( ثلاثون وستون ) بعشرة ، أي أنه رافد
لايرى إلا أنه كل الكنيسة ، على الأقل لاشعوريا ، هو يتجاوز الآخرين بقيمة هي
" الكل " ، أي أنه لايرى أيا منهما ولايدرك وجود أيا نهما . الرقم مئة يشير
إلى أحد ثلاثة روافد تمتلئ منها الكنيسة ، جسد المسيح ، وقد أطلقت عليه مصطلح :
" رافد دعوة الكرازة " . هذا هو رافدنا نحن أصحاب الدعوة والكرازة الرسولية
، الذين وصلت إلينا دعوة الإنجيل ، ولا يتبلور في وعينا ( عن غير حق ) إلا يقين بأننا ،
وحدنا ، نمثل الكنيسة ، كل الكنيسة ، جسد المسيح لأننا وحدنا قبلنا الإنجيل من
خلال دعوة الرسل لنا. في رواية القديس لوقا البشير
بخصوص الثمر ، نلاحظ اختزاله للثمر في " المئة " ، أي كنيسة كرازة
الدعوة الرسولية ، ولأجل هذا الخيار فقد كان تفسيره لثمر الأرض الجيدة متمايزا عن التفسير في الإنجيلين الآخرين ، إذ
قدم التفسير الخصيصة المميزة لأصحاب دعوة الكرازة كمكون من مكونات الكنيسة الثلاثة
؛ فالمزروع هو " في " الأرض الجيدة وليس "على" الأرض
الجيدة ، وهو الذي يسمعون الكلمة "
فيحفظونها في قلب جيد صالح " ويثمرون " بالصبر " ( لو 8 : 15) . هذا هو نمط تكميل كنيسة الدعوة
، رجاء يتكمل بالصبر " لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ
الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟
وَلكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ ... وَنَحْنُ نَعْلَمُ
أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ
هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ ... وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهؤُلاَءِ
دعاهم أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ
أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا. فَمَاذَا نَقُولُ
لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ ( رو8 :24- 31). هو نمط
" التراكمية " النعموية المؤدية للمجد الأبدي " لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ،
بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا
فَيَوْمًا. لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ
ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا " ( 2كو4 : 16و17 ). وهو نمط يختلف تماما عن أسلوب
تكميل رافدي الكنيسة الآخرين ؛ إذ يتكملا في المسيح بطريقة دراماتيكية مباشرة بفضل
كرازة الرب بذاته لهما .
2- الأرض
المحجرة
. " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ
الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ
الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ " ( مت13 : 5و 6
)
. " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ،
حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ عُمْقُ
أَرْضٍ
. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ
جَفَّ " ( مر4 : 5و 6 ) .
. " وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الصَّخْرِ،
فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ " ( لو8 : 6 ) .
أولا
: التفسير الكتابي
.
وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَة ( epi ta petrwdy ) هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ (ton logon )، وَحَالاً
يَقْبَلُهَا ( يقبله ، lamvanon afton ، بحسب النص
الأصلي ) بِفَرَحٍ، وَلكِنْ
لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا
حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ " ( مت 13 : 20 و 21) .
.
"وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ:
الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ،
وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ
إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ
" ( مر 4 : 16 و 17 ) .
. "
وَالَّذِينَ عَلَى الصَّخْرِ ( epi
tys petras ) هُمُ الَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ
الْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ، وَهؤُلاَءِ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ،
وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ
"( لو 8 : 13 ) .
ثانيا
: تفسير التفسير
لاشك أن
مفردة " صخرة " - بصفة عامة - ترمز إلى المسيح ، كقول الرسول بولس :
" وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا
رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ،
وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ " ( 1كو10 : 4 ) . تلك الصخرة التي تبنى
عليها الكنيسة ، حسب قول الرب ذاته ، وعن ذاته : " عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني
كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا " ( مت16 : 18 )
. ولكن ماذا عن الأرض الصخرية ، في هذا المثل ؟ أصحاب الأرض الصخرية ( الحجرية ) هم نوع من
الأرض البشرية غير الصالحة لأن يزرع الكلمة فيها ذاته فتثمر للحياة الأبدية ،
لأنهم غير مهيأين للشركة في الكلمة المتجسد المسيح الرب ، أي غير مهيأين لأن
يكونوا " مبنيين كحجارة حية بيتا روحيا " ( 1بط2 : 5) فوق صخرة المسيح ،
رافضين إياه كرأس للزاوية . والصدمة هي أن البديل عن البناء المحيي فوق الصخرة هو
السقوط المهلك عليها . هذا مالفت إليه الرب عندما " نَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِذًا مَا هُوَ هذَا
الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ،
وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!» ( لو20 : 17و18 ) . وأيضا هذا أكده
الرسول بطرس حينما كتب : "
فَلَكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُؤْمِنُونَ الْكَرَامَةُ،
وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ، " فَالْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ،
هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ
" "وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ. الَّذِينَ يَعْثُرُونَ
غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ ( tw logw )، الأَمْرُ الَّذِي جُعِلُوا لَهُ
" ( 1بط2 : 7و8 ) . وأصحاب الأرض
الحجرية ، ولأنهم لايقبلون الشركة في الكلمة المتجسد ، فهم لا أصل
لهم في ذواتهم، فالرب ذاته هو الأصل ، هو الذي قال : " أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي
لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ. أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ
الْمُنِيرُ " ( رؤ22: 16 ). وهو أيضا ، أي
الكلمة ، بتجسده في أرضنا البشرية الحجرية صار لنا " عمق أرض " و "
تربة كثيرة " ، فاغتنت طبيعتنا يحياة الكلمة، أي طبيعتنا الجديدة القائمة من
الموت والوارثة للحياة الأبدية بفضل تجذرها في حياة الكلمة ذاته.
أصحاب الأرض الحجرية يقبلون الكلمة " إلى
حين " إذ ليس لهم عمق ولا أصل في ذواتهم ، وهذا " القبول إلى حين "
هو ذلك الذي يتمثل في وجودهم الفاني بطبيعته بخلاف أصحاب الأرض الجيدة الباقين إلى الأبد في الرب ، كما يكتب الرسول
بطرس : " مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ
زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ
إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ
إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا
كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ " ( 1بط1 :23- 25 ) . فقبول الكلمة
ليس له ترجمة إلا معنى الوجود ، ولما كان قبولهم إلى حين فهذا يعني وجودهم إلى حين
بخلاف أصحاب الأرض الجيدة ، هؤلاء الذين قبلوه إلى الأبد أي وجودا أبديا ، بالشركة
في جسده الذي أخذه منهم.
أصحاب الأرض الحجرية بقبولهم الكلمة " إلى
حين " إنما يكشفهم ويفضخ أمرهم وقت التجربة والضيق ، أي وقت شروق شمس يوم الرب ، ذلك الذي "
سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ " ( 2بط 3: 10 ) بالنسبة لهم ، حينئذ يحترق نبتهم الوقتي " فَعَمَلُ كُلِّ
وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ،
وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ
قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ،
وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ " ( 1كو3: 13-15 ) . أصحاب الأرض الحجرية ، الذين ليس لهم أصل وليس
لهم عمق أي الذين ليس لهم شركة في المسيح هم يؤمنون إلى حين ثم يرتدون وقت التجربة،
أي أن إيمانهم ووعيهم الإدراكي لايرقى إلا
إلى مستوى إنساني أخلاقي، اجتماعي، قانوني، ناموسي، أي سطحي ، وعليه فهو يعجز عن
أن يكون وعيا
قابلا
للاختراق بواسطة الكلمة في الروح القدس ( فيتجدد الوعي البشري مثمرا لحساب الطبيعة
الجديدة ) ، وبالتالي لايكون إيمانهم ذا قيمة في مواجهة يوم الرب ،ولايستطيع
إيمانهم الوهمي هذا، ولاقناعاتهم السطحية هذه أن تنقذهم من فسادهم الطبيعي فيرتدون
إلى العدم ثانية مثلما استدعوا منه أولا بواسطة الكلمة ، وهذا يختلف تماما عن موقف
أصحاب الأرض الجيدة الذين لم يكن إيمانهم مجرد قناعات عقلية تفنى بفناء الكيان
العاقل بكامله ولكنه كان شركة في شخص هو الكلمة المتجسد الذي امتد بجسده فيهم عاتقا إياهم من فنائهم الطبيعي إلى شركة حياته الأبدية.
3-
الأرض الشائكة
.
وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ ( مت13 : 7 ).
.
وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ
ثَمَرًا ( مر4 : 7 ).
.
وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ ( لو8
:7 ).
أولا
: التفسير الكتابي
. " والمزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ ( eis tas akanthas ) هُوَ
الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ
بِلاَ ثَمَرٍ " ( مت 13 : 22 ).
. " وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ
الشَّوْكِ: هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ، وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ
سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ
( الأدق : تزاحم ) الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ
بِلاَ ثَمَرٍ" (مر4: 18 و19)
. " وَالَّذِي سَقَطَ بَيْنَ الشَّوْكِ هُمُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ ( الأدق : " اهتمامات
" ) الْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَرًا " (
لو 8 : 14 ).
ثانيا
: تفسير التفسير
أصحاب الأرض الشائكة
هم نوع من الأرض البشرية غير الصالحة لأن يزرع
الكلمة فيها ذاته فتثمر للحياة الأبدية ، لأنهم غير مهيأين للشركة في الكلمة المتجسد
المسيح الرب ، إذ قد اعتزلوا وتقوقعوا في نرجسيتهم عابدين شهواتهم ونزواتهم تلك
التي ملأت كل كيانهم فلم تترك أي مجال أو بحبوحة أو فرصة لبذور الكلمة الحاضرة
فيهم لأن تنمو لأي قدر من النمو. أشواك شهواتهم زاحمت الكلمة
فيهم حتى أنها قطعت الطريق لأن يتجذر وينمو فيهم ، " هؤُلاَءِ هُمُ الْمُعْتَزِلُونَ
بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ لاَ رُوحَ لَهُمْ " ( يه1: 17 ) . والذين ينطبق عليهم وصف
الرسول بطرس " أَمَّا هؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ،
مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَالْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ
فِي فَسَادِهِمْ آخِذِينَ أُجْرَةَ الإِثْمِ. الَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ
لَذَّةً. أَدْنَاسٌ وَعُيُوبٌ، يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ
مَعَكُمْ. لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقًا، لاَ تَكُفُّ عَنِ الْخَطِيَّةِ، ... أَوْلاَدُ اللَّعْنَة " ( 2بط2 : 12- 14
).
أصحاب الأرض الشائكة قد استغنوا بذلك الغنى الوهمي
، غنى العالم ، عن الغنى الحقيقي فأصبحوا غير مهيأين للأخير ، ذلك الذي كتب عنه
الرسول : " وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ
عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، الَّتِي أَيْضًا
دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا، لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ
أَيْضًا " ( رو9 : 23و 24 ) .
أصحاب الأرض
الشائكة قد ملأهم الاهتمام بالعالم حتى لم يترك فيهم مكانا أو مجالا للاهتمام بما
ينبغي الاهتمام به ، أي التحرر من عزلتهم بالانضمام إلى الاهتمام العام الذي لشركة
وعضوية الكنيسة جسد المسيح ، هذا مايكشفه
الرسول بولس حينما يكتب : " لكِنَّ اللهَ
مَزَجَ الْجَسَدَ، مُعْطِيًا النَّاقِصَ كَرَامَةً أَفْضَلَ لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ
فِي الْجَسَدِ، بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَامًا وَاحِدًا
بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ
تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ
تَفْرَحُ مَعَهُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ
الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا " ( 1كو7 : 24- 27 ) .
الإيمان
" إلى حين " الذي ينتهي بالارتداد في يوم الضيق ، والنبت " إلى حين
" الذي ينتهي بالجفاف والاحتراق بشروق شمس ذلك اليوم ، اللذان يميزان أصحاب الأرض الحجرية يمثلان ترفا
من المستحيل إدراكه بالنسبة لأصحاب الأرض الشائكه ، هؤلاء الذين لاقناعات ولاقيم
إنسانية يؤمنون بها ( فيرتدوا )، إذ هم ممتلئون على آخرهم بشهواتهم التي لايعبدون
سواها. ولانبت لهم ( فيحترق )، إذ لايترعرع فيهم هم غير شوكهم المهلك لهم بمزاحمة
وقطع الطريق أمام أية احتمالية لنمو بذور
الكلمة فيهم .
خلاصة
خريطة الخليقة - كمجال لفلاحة الله -كما يرسمها مثل الزارع ، هي هكذا :
1-
طريق كوني في مسار تطوري للخليقة ، يبلغ إلى
هدف هو أرض الطبيعة البشرية .
2-
البشر ، وهم على ثلاثة أنواع انطلاقا من
طبائعهم التي فطروا عليها :
1- السطحيون - ويرمز لهم بالأرض الحجرية - وهم غير مهيأين وغير قادرين على قبول تجذر الكلمة فيهم حتى مايثمر وجودا
إنسانيا جديدا شريكا في حياة الكلمة ذاته .
2- الشهوانيون ، الأنانيون ، - ويرمز لهم بالأرض الشائكة - وهم بطبيعتهم
منحدرون إلى ماهو أدنى من الحيوانات غير الناطقة ، وبالتأكيد هم غير مهيأين وغير
قادرين على قبول زراعة الكلمة فيهم ، إذ أن امتلاءهم بأشواك شهواتهم وأطماعهم قد
حال دون ذلك ، بل قد حال دون أن يتوفر لهم " ترف " سطحية أصحاب الأرض
الحجرية ! .
3- القديسون - ويرمز لهم بالأرض الجيدة الصالحة – وهم الذين
قبلوا زراعة الكلمة فيهم – إذ هم مهيأون لذلك بطبيعتهم - فأثمروا الكنيسة التي
تجمعهم كجسد للمسيح الرب . وللكنيسة ، جسد
المسيح ، ثلاثة روافد تمتلئ منها :
1- رافد دعوة الكرازة ، أصحاب دعوة الإنجيل ، مركز وعي
الكنيسة بذاتها في العالم الحاضر ويرمز لهم بالرقم " مئة ".
2- رافد عثرة الكرازة ، وهو الراقدون ، القدماء الذين
رقدوا على رجاء المسيح ، ويرمز لهم في المثل بالرقم " ستين ".
3- رافد جهالة الكرازة ، وهو المجهولون ، بالنسبة لأبناء
الدعوة وحتى بالنسبة لأنفسهم ، ويرمز لهم في المثل بالرقم" ثلاثين ".
2- مثل الابن الضال : قراءة جديدة
أولا : مقدمة مفتاحية
موضوع ، ومضمون ، مثل الابن الضال هو ترسيم أيقونة بانورامية لتاريخ الخليقة . وفي بؤرة الاهتمام والتركيز في هذه الايقونة يتبلور العنصر الأحدث في الظهور في المشهد ، الابن الأصغر ، الإنسان . والأخير يتواجد في المشهد وسط أسرته الكونية : الأب ، الله الخالق ، والأخ الشيخ الكبير في السن ، الكون ، الخليقة العتيقة ذات الطبيعة المادية المحكومة بقوانين الفيزياء .
ثانيا : ملحوظات تأويلية
1 - الحالة الأولى
يبدأ المثل بمشهد الابنين في بيت أبيهما
، الخالق . الابن الأكبر ، الكون ، الخليقة العتيقة بما فيها من كائنات حية غير عاقلة
. والابن الأصغر ، الإنسان. الأول طائع ومحقق
لما خلق من أجله ، وأبرز ماخلق لأجله هو كونه مجالا وحقلا لتكميل ذلك المشروع الكوني
المسمى بالإنسان . والإنسان الابن الأصغر خلق متمايزا عن باقي الخليقة في كونه - وبفضل
نعمة مماثلة الصورة الإلهية ، أي نعمة العقل - كونه مدعوا للخلود أي التأله بالاشتراك
في حياة الله ذاته كابن شريك بالنعمة في الابن الذاتي ، الكلمة . هذه هي دعوته الخاصة
والمميزة لوجوده عن وجود الخليقة العتيقة . والآن ، لاأعتقد أنه من الممكن أن نجد عرضا
أفضل من كلمات القديس أثناسيوس الرسولي" في رائعته " تجسد الكلمة " : " لأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائما
على الحالة التي خلق فيها ، فأعطاه نعمة أضافية ، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات
غير العاقلة على الأرض ، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا
بطريق ما ، ولهم بعض من ظل ( الكلمة ) وقد صاروا عقلاء ، أن يبقوا في سعادة ويحيوا
الحياة الحقيقية حياة القديسين في الفردوس "( تجسد الكلمة 3: 4 )
" الإنسان فان بطبيعته لأنه خلق من العدم
إلا انه بسبب خلقته على صورة الله الكائن كان ممكنا أن يقاوم الفناء الطبيعي ويبقى
في عدم فناء لو أنه أبقى الله في معرفته كما
تقول الحكمة " حفظ الشرائع تحقق عدم البلى " ( حكمة 6 : 19 ) وبوجوده في حالة عدم الفساد ( الخلود ) كان ممكنا
أن يعيش منذ ذلك الحين كالله كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك حينما يقول " أنا
قلت أنكم آلهة وبنو العلى تدعون كلكم لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون
" ( تجسد الكلمة 4: 6 )
2 - السقوط
" يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي
يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ
الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ
مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ " ( لو15 :12و 13 )
لم يستثمر الإنسان الحالة الأولى التي جبل عليها
. وعد بالخلود - أي شركة حياة الله ذاته ، كإمكانية ( potential ) وكنعمة إضافية تميزه عن البهائم – وعد ، ودعوة للحياة ، فقدها الإنسان
بتحوله للاستغراق في نفسه ، في نرجسيته ، في انعزاليته واستقلاليته ، في حيوانيته ،
ففقد البعد الديناميكي لنعمة مماثلة الصورة الإلهية ، بل والأكثر من ذلك بات مستغرقا
في نهم - عصي على الإشباع – للشر وللخطية . استنفذ الإنسان كل قدراته ، كل ملكاته ، كل مواهبه
المميزة له كإنسان ، كل شيء يخص جوهر طبيعته قد بدده بتحوله إلى طريق معاكس يقود إلى
الوهم والبؤس والموت. وفي ذلك يقول العظيم أثناسيوس :
" فالله لم يكتف بأن يخلقنا من العدم ،
ولكنه وهبنا أيضا بنعمة الكلمة وإمكانية أن
نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا
إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد الموت . لأنهم كانوا بالطبيعة فاسدين
لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا
صالحين (تجسد الكلمة 5: 1 ) .
" فالبشر لم يقفوا عند حد معين في خطاياهم
بل تمادوا في الشر ... تجاوزا كل الحدود ، وصاروا يخترعون الشر .. ولم يتوقفوا عند شر واحد بل كان كل شر يقودهم إلى شر جديد حتى أصبحوا نهمين في فعل الشر ( لايشبعون
من فعل الشر ) " ( تجسد الكلمة 5: 3 ) .
" أما الآن بعد أن حدث التعدي ،فقد تورط
البشر في الفساد الذي كان هو طبيعتهم ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله ( تجسد الكلمة
7: 4 )
الابن الضال هو الإنسان - الأصغر ، في عمر الخليقة
- وهو الذي بسقوطه ، قد اعتزل عن أبيه السماوي وسافر إلى كورة بعيدة وضل عن خطة الله
له ، فاختار أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر . اختار الوقوع في تلك الثنائية البغيضة
. اختار الرحيل عن الطريق إلى شجرة الحياة ، أي الشركة في المسيح . ضل عن طريق تبني
الآب له ، ضل عن ذلك النموذج الذي خلقه الله عليه ، فاكتفى بذاته ، وغرق في عزلته عن
إلهه ، وماذا كانت النتيجة ؟ . إنها المأساة الإنسانية ، فبفقدانه طريق الشركة في الكلمة
، واجه حقيقة ذاته ، أي موته الطبيعي .
3- الكورة البعيدة
هي هذا العالم المادي الذي وضع في
الشرير . والبعاد هو تلك الهوة التي أصبحت كائنة بين الإنسان والله ، الهوة بين الإنسان
كمدعو للبنوة وبين الواقع الجديد الذي انحدر إليه الإنسان بسقوطه .
" فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ،
حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ، فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ " ( لو15
: 14 )
بسقوط الإنسان فقد - وضل - الطريق إلى الشبع . فلا شبع إلا بالأكل
من شجرة الحياة ، أي المسيح ، الطعام الباقي . وأما الجوع فهو في الاكتفاء ببؤس واقع
الفساد الطبيعي الذي انزلق بالإنسان إلى مابات هلاكا مؤكدا . كان وعد الحياة والشبع
الأبدي وعدا مشروطا بالأكل الإفخارستي المأكل الحق ، بالكينونة في المسيح الابن الذاتي ، وهذا هو الطريق
الذي ضل عنه الإنسان عندما تحول بكل قدراته العقلية وملكاته الإنسانية عن المعرفة الإلهية
، التي كان من المفترض أن تقوده إلى أن يصير ابنا بالتبني للآب ، بالشركة الإفخارستية
التي للابن في الروح القدس .
" فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ
تِلْكَ الْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ
الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ " ( لو15
: 15و 16 )
ماذا نتوقع من الإنسان بعد أن ضل وجهته
الصحيحة نحو الشركة في حياة الله ، وقد بات مواجها للجوع الذي لطبيعته التي حيل بينها
وبين الشبع من شجرة الحياة ، سوى أن يلتصق
برئيس هذا العالم ، إبليس ( واحد من أهل تلك
الكورة ) ، والذي بدوره يرسله إلى حقوله ليرعى خنازير ؟ الخنازير هي شهوات الإنسان الحيوانية
الدنيئة والتي باتت في حالة من النهم والشره والجوع الذي من المستحيل إشباعه . والخنازير
– كما نختبر من معجزات اخراج الأرواح الشريرة التي صنعها الرب يسوع( ) – هي
المسكن والمستقر المستهدف والمفضل لدى
الشيطان ، وهي مفضلة لأنها كيانات بطبيعتها
مندفعة للهلاك في بحر العالم بمجرد أن تصبح مسكنا للشرير. أما الخرنوب
، أو الخروب ( keration ) فهو شجرة عظيمة مورقة وخضراء
طيلة العام ، لاتعرف عدوا لها اسمه الخريف . وثمرتها الناضجة من القرون البنية المعروفة
مفيدة ولذيذة وبالرغم من أنها كانت مأكلا للخنازير إلا أنها مأكل صالح للإنسان بل ومن
الممكن أن يصنع منها الخبز . لم يشته الإنسان أن يأكل - مجرد يأكل ، أو يشبع - مجرد أن يشبع - بل أن يملأ بطنه من الخرنوب . إنها الشهوة التي لا يتم إشباعها . الخرنوب هو حلم الحياة ، المستحيل ، الذي يطارده الإنسان في
الكورة البعيدة ، العالم ، ولن يدركه لأنه " لم يعط إليه أحد " ( الترجمة
الدقيقة للنص اليوناني ) ، أي لم تتح له الفرصة
للامتلاء والشبع وليس من الوارد أن يحدث هذا . شجرة الخرنوب هي البديل " الوهمي
" لشجرة الحياة التي ضل الإنسان الطريق إليها . هكذا كان حاله بعد أن ضل طريق
دعوة بنوته .
4- لحظة الكشف والاستنارة
" كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ
عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ
لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ
ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ ".( لو15 :17و 18 )
هذه هي المرحلة الأولى في عودة الانسان إلى الله . مرحلة الناموس ( اجعلني كأحد
أجراك ). مرحلة " افعل ولا تفعل " ، كحدود لعلاقة الإنسان بالله . مرحلة
الأنبياء . ولكن ماتزال مشكلة الإنسان بعيدة عن الحل ، فالناموس لا يستطيع أن يحل مشكة
الموت الطبيعي . وعودة الابن الضال - في نسخة العبد والأجير ، عند أبيه - ليست أمرا
ينسجم مع إرادة الآب . فإرادة الآب هي أن يظل ابنه الضال ابنا ووارثا ، حتى وإن كان
قد بدد نصيبه مع الزواني ، وعاد فقيرا معدما . هكذا أيضا ، لم يكن وضع الإنسان ، بعد
سقوطه - بما يستحقه من هلاك أبدي ، وفقا لطبيعته - وضعا يمكن أن يقبله الآب السماوي
، فلا معنى لعودة الإنسان الضال ، إلا إذا كانت هذه العودة ، عودة إلى مجد البنوة المفقود
، أي الحياة الأبدية - بالشركة في الكلمة - ذلك الذي قد جبل الإنسان ، من أجله ، منذ البداية
5- العودة
" فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ
كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ
وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ الابْنُ:يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ،
وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا " ( لو15 : 20و 21 )
الآب هو الذي كان منتظرا للإنسان ،
وإذ كان مايزال بعيدا وبعد أن رآه قام بهذا
الحدث الرباعي : 1- تحنن ، 2- وركض
، 3- ووقع على عنقه 4- وقبله .
هو الذي سعى نحو الإنسان الضال بإرساله
ابنه الذاتي متجسدا في البشر حتى مايصنع خلاصا
في وسط الأرض كلها فيعيد الضال ويحيي الميت . وقد كان من المنطقي للابن الأصغر – وهو
في حضن أبيه – أن يتراجع عن مقولة " اجعلني كأحد أجراك " فمثل هذا الاستقبال
من الأب لايعني إلا أن دعوة للبنوة قد استعيدت ومن العبث الحديث عن الرضا بالعبودية .
6- احتفالية العودة
"
أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ،
وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ
وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ.
فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ "( لو15:22-24 )
المسيح هو بيت الآب ، الذي فيه منازل كثيرة ( يو14 :2 ) ، وبعودة الإنسان ، الضال عاد إلى الشركة في الابن الذاتي ، أي نعمة التبني ، وهكذا أخرجت
الحلة الأولى ، فالإنسان ، الذي بعودته اصطبغ بالمسيح ، قد لبس المسيح ( غل 3 :
27). والمسيح هو الحلة الأولى ، حلة البهاء ، حلة مجد البنوة ، الذي فيه قد تم تبني
الجميع . وهكذا قدم العجل المسمن ، بذبيحة الرب على الصليب ، فداء للإنسان ، وهو مسمن
لأنه ليس مجرد إنسان من طبيعتنا فقط بل الإنسان الكائن في الله شخصا واحدا من طبيعتين
في اتحاد أقنومي فائق للإدراك والوصف . قد سمنت طبيعتنا فيه بشحم الحياة الذي للاهوت
الكلمة . وهكذا أيضا جعلوا خاتما في يده ، والخاتم هو خاتم زيجة البشرية ،ككنيسة ،
كعروس للمسيح ، كما يقول الرسول : " خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ
عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ " ( 2كو11: 2 ) ، و " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ،
وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ " ( أفس5:
32 ) . وأيضا جعلوا حذاء في رجليه أي حاذوا
رجليه باستعداد إنجيل السلام ( أفس 6: 15 ) .
7- الابن الأكبر
يأتي تعبير " الأخ الأكبر " ، كترجمة
- بتصرف - للكلمة اليونانية التي تعني " الشيخ "، العجوز ، الطاعن في السن
( presvyteros ) . والابن الأكبر ، في مثل
الابن الضال ، هو الخليقة العتيقة . وهذا المعنى من الممكن أن نرصده على مستويين .
أولا : المستوى اللغوي ، المباشر ، فالخليقة العتيقة ( الكون ، العالم المادي بأثره
) إنما تسبق ظهور الإنسان على مسرح الحياة ، ببلايين السنين . ثانيا : المستوى الاصطلاحي
، اللاهوتي ، وهنا يأتي المعنى في سياق المقارنة مع الخليقة الجديدة ، في المسيح .
قد كان الابن الأكبر في الحقل بينما
كانت احتفالية عودة الضال ، في أوجها ، وعندما عاد لم يرد أن يدخل - ولم يذكر في سرد
المثل أنه دخل ، حتى بعد أن أستعرض له أبوه مبررات الأمر - والاشارة واضحة ، فالحقل
هو العالم ( مت 13 : 38 ). والعالم ( الخليقة العتيقة ) لن يدخل إلى فرح الحياة الأبدية
، الذي صنعه الآب للذين عادوا إليه ، في ابنه المتجسد ؛ فقد عاد الشيخ من الحقل في نهاية اليوم وباقترابه من البيت اقتحمت مسامعه اصوات احتفالية
صاخبة قد تم الإعداد لها عدة ساعات ، ولم يخطر ببال الأب أن يرسل غلاما إلى الحقل ليستدعي
ذلك المستغرق في هامش المشهد . أيضا حينما خرج الأب للقاء الشيخ الغاضب لم يكن يتبنى
غير خطاب تبريري كاشف لحقيقة مايحدث ولم يصدر من الأب دعوة واضحة صريحة للابن الأكبر
لدخول البيت وحضور الاحتفالية.
الابن الأكبر والرقم " أربعة وعشرون
"
في سفر الرؤيا - الذي يكشف بانوراما
حركة تحقيق وجود الكنيسة ، جسد المسيح - لابد أن نرصد الخليقة العتيقة ، في هذا السياق
. وتأتي هذه الخليقة مرموزا إليها بالأربعة
والعشرين شيخا . والملحوظة الهامة ، هي أن كلمة " شيخ " ، هنا ، هي ذات الكلمة
التي ترجمت إلى " الابن الأكبر " .
للأرقام ، في الكتاب المقدس ، دلالاتها التفسيرية الهامة . ويمكن العودة إلى
دراسة لي بعنوان : " لغة الأرقام في الكتاب المقدس " ، على موقع " الدراسات القبطية والأرثوذكسية
" ( coptology
) .
الرقم أربعة وعشرون " هو ناتج ضرب اثنين واثني
عشر . " اثنان " هو البطلان والنقض . الرقم " اثنا عشر " هو رقم
الكنيسة ، شعب الله وملكوته الذي يثمره هذا العالم بالنعمة .
" أربعة وعشرون " هو رقم
الخليقة العتيقة ( الطبيعية ) ، لأن وجودها هو وجود موقوت ، وجود اللاكنيسة حيث المعية الموقوتة . الخليقة الفاسدة بالطبيعة ، ولها زمن محدد من أجل غرض محدد
. هي قائمة في معية الله - بفضل الكلمة
( logos ) الحاضر فيها - ، إلى أجل مسمى ، وعندما يحين ذلك الأجل سوف ينتهي
وجودها ، عائدة الى العدم ، أي سوف تنتهي معيتها لله ، بانتهاء حضور الكلمة فيها ولن
يكون لها نصيب أبدي . وفي ذلك يقول الرسول
بطرس :
" السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ،
وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ
الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ. وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ
الآنَ، فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ " ( 2بط3: 5-7 )
ولكننا قد نرصد تناقضا بين هذا الطرح وبين قولة الأب : " أنت معي في كل حين " ( لو15 :31 ) ، ماعسى
أن تكون هذه المعية ؟ ولعل مايزيل التناقض
هو ماورد في سياق عتاب الشيخ لأبيه : " هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا،
وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ " ( لو15 : 29 ) . المعية إذن هي معية طاعة
الوصية ، بمعنى عدم خروج الكون والخليقة عن المرسوم لها من مسار تطوري خلال زمن وجودها
المحتوم والمحسوم - بفضل الكلمة الحاضر الفاعل فيها من خلال القوانين الطبيعية الحتمية
- وهو أمر يتناقض ويتعاكس مع مافعله الإنسان
الذي استقل بذاته وتقوقع داخل نرجسيته فخرج عن المسار المأمول لوجوده وهو صيرورته ابنا
وارثا وشريكا في الابن الذاتي . لذلك قال الأب للكبير : " أنت معي كل حين " أي أن الخليقة تسلك زمن وجودها بالكامل - منذ لحظة انطلاقه إلى لحظة انتهائه ، أي كل حين
يخص زمن وجودها - في كشف كل مايخص طبيعة خلقتها ومصيرها المحتوم في ذهن الخالق .
يمكننا أن نرصد الأربعة والعشرين شيخا
، في أربعة مشاهد أساسية ، في سفر الرؤيا
:
1- المشهد الأول : العروش ( الكراسي ) التي حول عرش الرب ( رؤ4 :4 )
الكرسي هو كرسي المجد : ( مت 19 :
28 ) ، ( مت 25 : 31 ). والمجد هو مجد الوجود " لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ
شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ
... لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ . هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ
فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ.
يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ .. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا
وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا .."(
1 كو 15 : 42 - 44 ) . والكنيسة الكائنة في
ابن الإنسان ، حينما يجلس على كرسي مجده - أي حينما يمتلئ كيانه بكل المفديين ، كأعضاء
- إنما هي تجلس فيه على كراسي المجد ، أي يستعلن وجودها الأبدي ، فيكون لها أن تدين
، وتكشف زيف من هم خارج ابن الإنسان ، حتى وإن كان لهم مظهر التقوى ، فها هو الرب يخاطب
الكنيسة ، ممثلة في تلاميذه ، قائلا : "
إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ
ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ
عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ ."( مت 19: 28 ).
إذن ، في مشهد جلوس الشيوخ الأربعة والعشرين على عروشهم حول عرش الرب ، نحن
نرصد وجود الخليقة العتيقة ، في معية الله . وبالتأكيد أن للخليقة مجد ، يعجز العقل
البشري على سبر أغواره ، ولكن يظل المجد العلوي الذي للثالوث القدوس ، والذي استعلن
في الخليقة الجديدة ، في المسيح ، هو المجد الحقيقي المستمر إلى الأبد ، بينما مجد
الخليقة العتيقة إلى زوال لأَنَّ:
«كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ
إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ
الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ
بِهَا. "( 1 بط 1: 24و25) .
2- المشهد
الثاني : السجود وطرح الأكاليل قدام الجالس على العرش
يخر الشيوخ ، الأربعة والعشرون ، ساجدين ، طارحين أكاليلهم قدام الجالس على
العرش قائلين :
" أَنْتَ مُسْتَحِقٌ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ
وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ
كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ " ( رؤ 4 : 11 )
.
في هذا المشهد تؤكد الخليقة العتيقة ، عدم أهليتها - بحكم طبيعتها - للشركة
في مجد الحياة الأبدية ، في المسيح الرب ، فتطرح أكليل وجودها أمام العرش ، إذ هو إكليل
مخلوع بطبيعته ، كما أن جلوسها على العرش كان جلوسا موقوتا ، وهي تقر بذلك وترجع المجد لمن يستحقه ، أي خالقها الذي أوجدها من العدم
وأعطاها هذا المجد الزمني.
3- المشهد الثالث : فك ختوم السفر
، السبعة ( رؤ 5 : بالكامل )
السفر المختوم هو سفر الحياة ، ولما كان الكلمة هو الحياة الذي بغيره لم يكن
شيء مما كان - فإن الكلمة المتجسد هو الوحيد القادر على أن يفتح السفر ويفك ختومه ،
وهذا هو الخبر السار الذي زفته الخليقة على
لسان أحد الشيوخ ، ليكف الرائي عن بكائه :
" لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ
الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ
خُتُومَهُ السَّبْعَةَ ". إذ لا يستطيع أحد أن يفتح السفر أو يفك ختومه إلا
خروف قائم كأنه مذبوح في وسط الشيوخ ، ولما أخذ السفر خر الشيوخ " وَلَهُمْ كُلِّ
وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ.
وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ : " مُسْتَحِقٌ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ
وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ
قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً،
فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ". في هذا
المشهد تؤكد وتشهد الخليقة أن سر وجودها هو المسيح الكلمة المتجسد المذبوح من أجل حياة
الخليقة . هذا هو محور وجودها ، إذ هو قائم في وسط الشيوخ . فغاية وجود الخليقة العتيقة هي الوصول إلى لحظة
ظهور الوجود الجديد الذي من أجله قد ذبح الخروف ، أي ليشتري كنيسته - بدمه - من كل
شعوب الأرض ، جاعلا من الجميع ملوكا وكهنة ، في ملكوت السموات .
يحمل الشيوخ جامات من ذهب مملوءة بخورا هي صلوات القديسين . هكذا تشهد الخليقة
أن غاية وجودها هي إصعاد القديسين لينضموا إلى باكورتهم ، الخروف المذبوح ، القائم
في الوسط . لم يكن الأربعة والعشرون شيخا ، أي الخليقة العتيقة ، هم القديسون ، بل
هم الذين يصعدون القديسين ، كثمرة عظمى لغرسهم العظيم ، الذي لم يكن ، دائما ، إلا
طائعا ومسبحا لخالقه الذي استحضره من العدم لأجل هذا الهدف الوحيد . وهم بترنيمتهم
الجديدة إنما يترنمون بماهو لسان حال الكنيسة المفدية والمجتمعة أشلاؤها عبر تاريخ
البشر مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ . وهم وإذ يتحدثون بلسان
المفديين فهم إنما يعربون عن رضاهم بدورهم العظيم في أدائهم ليتورجيتهم الكونية التي
فيها تم تقديم صعيدة الكنيسة إلى الله الآب في ابنه المتجسد . هذا هو سر بقاء وانتظار
الخليقة ، مابقيت وماانتظرت ؛ " لأَنَّ
انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ . إِذْ أُخْضِعَتِ
الْخَلِيقَةُ ( ktisis
) لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ
الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ
مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ
وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا
بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ
التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا " (رو8 :19- 23 ) .
4- المشهد الرابع : البوق السابع ( رؤ 11 : 15 -
19 )
البوق السابع هو البوق الأخير ، هو لحظة التجسد الإلهي
، لحظة مجيء الرب ، التي شطرت التاريخ قسمين ، فابتعث الأموات الراقدون- قبل التجسد
- لينضموا إلى الكلمة المتجسد ، وأما الأحياء فلا يرقدون كالسابقين بل يختطفون لينضموا
إلى الآخرين ، في الرب ، وهذا هو مضمون عبارتي بولس الرسول ، الآتيتين :
1- "
هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا
نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ
سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ
" ( 1كو15 : 51 و52) .
2-
" لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ،
بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ
فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ
جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ
كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ " ( 1 تس
4 : 16و17)
نعود إلى مشهد البوق الأخير ، في رؤيا
يوحنا اللاهوتي ، فنرصد حدوث تلك الأصوات العظيمة في السماء ، التي تعلن مجيء ملكوت
الرب ومسيحه ، على العالم ، إلى أبد الآبدين ، وأما الأربعة والعشرون شيخا الجالسون
على عروشهم أمام الله فيخرون على وجوههم ، ساجدين قائلين : " نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ
قُدْرَتَكَ الْعَظِيمَةَ وَمَلَكْتَ ،
... " وينفتح هيكل الله في السماء ، ويظهر تابوت عهده في هيكله . هكذا تشهد الخليقة
أن ذلك الأزلي ، الذي كان في أبيه منذ الأزل ، هو كائن فيها ، وبه هي كائنة ، وأما
الخبر السار فهو أنه في زمن البوق الأخير ، زمن التجسد ، إنما هو يأتي فيها ، محققا
ملكوته الأبدي.
هذه هي الخليقة ،الطائعة لخالقها الذي أنشأها من العدم
، والسائرة في حركة طاعتها نحو تحقيق هدفها المنشود وهو تحقيق وجود الخليقة الجديدة
، الكنيسة ، الكائنة في شخص المسيح ، محور حركة الكون وحامله ، بحضوره فيه . هذا هو
الابن الأكبر ( الشيخ ) ، الخليقة العتيقة التي لم تخذل الآب السماوي في خدمتها ، بل
ظلت في مسار ليتورجيتها الكونية التي فيها تصعد الخليقة الجديدة إلى حيث ما يجب أن
يسترد الضال ، وفي ذلك كله لا نصيب للابن الأكبر
( الشيخ ) في حضور احتفالية العودة . فيتكرر
ذكر ( وظهور ) الأربعة والعشرين شيخا في ستة إصحاحات من رؤيا يوحنا ( 4، 5 ، 7،11 ،
14 ،19 ) ، وفي هذه المشاهد يؤكد ويوثق الشيوخ شهادتهم التاريخية على مسار حركة تكريس
وإظهار وجود الكنيسة بكل منعطفاته وأحداثه ، كنمط من وجود جديد عديم الفساد عوضا عن
وجودهم العتيق . يخرون ساجدين مقدمين المجد
والكرامة لمن يستحق المجد والكرامة . لنصل إلى آخر مشهد يظهر فيه الشيوخ - في الإصحاح
التاسع عشر- حيث يشهدون دينونة المدينة العظيمة بابل . هكذا تكون الخليقة قد شهدت وأدلت بشهادتها بخصوص كل البشر . شهدت مصيرا إيجابيا
للذين في المسيح ومصيرا سلبيا للذين ليسوا
في المسيح . وأما في باقي الرؤيا - أي إصحاحات : 20 و 21 و22 - فنحن نشهد النهاية السعيدة لكل شي : السماء الجديدة
والأرض الجديدة ( الخليقة الجديدة ) مسكن الله مع الناس ، أورشليم المدينة العظيمة
المقدسة النازلة من السماء ، نهر الحياة الصافي ، .. إلخ . وفي
كل مشاهد الإصحاحات الثلاثة ، المدهشة ، لم يأت أي ذكر من قريب أو من بعيد لأي تواجد
للشيوخ . وأظن أن الأمر لايخلو من ثمة دلالة غير ضعيفة .هؤلاء هم الأربعة والعشرون شيخا (
الخليقة العتيقة ، بلغة سفر الرؤيا ) ،يؤكدون ويشهدون شهادة إيجابية فاعلة
نشطة - في رضا وامتنان ، في كل مشهد يتواجدون
فيه - عن دورهم المحوري في إصعاد الكنيسة - من وسطهم
- إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة ، في الخروف القائم كأنه مذبوح ، في وسطهم
، أيضا . وما أن تنتهي مهمتهم النبيلة إلا
وبختفون تماما من المشهد ، فلامكان ولازمان للقديم وسط الجديد ، مثلما كان تماما
لهم بصيغة مثل الابن الضال أي صيغة الابن الأكبر- الذي بالرغم من أن كل ماللأب كان
له بعد أن أخذ الصغير نصيبه ، حتى تكلفة احتفالية العودة والعجل المسمن ، كل شيء كان
من حساب الشيخ . هو الذي يعمل كعبد في تنمية نصيبه – وفي النهاية لم يكن له نصيب في
احتفالية وليمة العجل المسمن ، ولكن من المفترض أن يفرح لأن أخاه كان ميتا فعاش وكان
ضالا فوجد .
ثالثا : ملحوظات لغوية
1- التبديد والاستعادة
- "
أعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ ( to
epivallon meros tis ousias )
. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ "
( ton vion ) ( لو15 : 12) .
- "
بَذَّرَ مَالَهُ ( tin ousian autou ) بِعَيْشٍ ( zwn ) مُسْرِفٍ " ( لو15 : 13 ) .
- ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ ( sou ton vion ) مَعَ الزَّوَانِي ( لو15
: 30 )
- كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ ( anezisen ) ( لو15 : 24و 32 )
تشير كلمة أوسيا ( ousia ) - التي تعني كل ماللشيء من جوهر وطبيعة معينة- وتشير كلمة فيون
(vion ) -
التي تعني مظاهر وأعراض الحياة والوجود المادي الطبيعي - تشيران معا إلى أن ماتم تقسيمه فيما بين الابنين
– بتجانس وتساو - هو ذلك الوجود المادي الطبيعي ( الفيزيائي ) ، فالخليقة المنظورة
ذات الطبيعة الزمكانية بجملتها خاضعة لمنظومة ثابتة من القوانين الفيزيائية ، وفيما
اختص الانسان بنصيب عال من طبيعة ( جوهر -
أوسيا ) متميزة بالإدراك والوعي البشري ، فما
يزال جزءا لايتجزأ من الكون ( الخليقة المادية ) بالرغم من كونه مدعوا لرسالة وقسم ( meros ) آخر ، مرسوم ومنتظر منه وملقى على عاتقه ( epivallon ) . ولكن الإنسان بسقوطه - وخروجه عن المسار المؤدي إلى تحقيق مبتغى وجوده ، كابن
للآب السماوي – بسقوطه قد تسفل منحدرا – بشهوانيته - إلى درك أعمق مما هو عليه حال
البهائم ، فترك نفسه – بكل مظاهر وجوده - نهبا ، لتبتلع من حيوانيته ونرجسيته وعزلته
، وفي ذلك تسجل الخليقة غير الناطقة ( الابن
الأكبر ) شهادتها : " ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ
( sou ton vion ) مَعَ الزَّوَانِي " . ولكن الطامة الكبرى
ليست في تبديد الإنسان لل ( vion ) ، بل في تبديده لل ( zwn ) . والأخيرة ليست "
المعيشة " أو " الحياة " كمظاهر وأحداث وإمكانيات مادية بل هي مقوم
وسببية الحياة والتي بدونها يتلاشى مفهوم الحياة بصفة عامة . والكلمة ( zaw ) مستخدمة استخداما لاهوتيا
خاصا في العهد الجديد وترتبط بتعبيرات ذات أهمية
قصوى بمفهوم الحياة في المسيح كما في الخبز الحي ( يو6 : 51 ) ، الماء الحي
( يو4: 10و11 ) ، الحجارة الحية ( 1بط 2: 5 ) .. الخ ، ولعلنا لن نجد اقتباسا أوضح
وأروع من المثال التالي :
" لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ
لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا ( zisw ) للهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ،
فَأَحْيَا ( zw ) لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا ( zi ) فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ
( zw ) الآنَ
فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ ( zw ) فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ
نَفْسَهُ لأَجْلِي " ( غل2: 19و20 ) .
إذن ، مافقده الضال - بضلاله - حينما بذر ماله بعيش ( zwn ) مسرف هو إمكانية ( potentiality ) الحياة وليس الحياة بذاتها
. ولتثبيت دقة هذه الملحوظة اللغوية نذكر أن لدينا في يونانية العهد الجديد كلمة أخرى
تشير إلى المعنى المجرد للحياة – وليس إلى الحياة كمظهر ( مثلما يخص
vios
) أو كإمكانية ( مثلما يخص zwn ) - ولم يتم استخدامها في سياقنا هذا ، وهي كلمة
" zwi " ، تلك الكلمة المستخدمة في المصطلح الأشهر
، مصطلح الحياة الأبدية ، كما في :
" الَّذِي
يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ ( zwin ) أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً
(zwin ) بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ
" ( يو3 : 36 )
أما ماقد استعاده الضال بعودته فهو إمكانية الحصول على الحياة ثانية ، تلك الإمكانية
التي فقدها بسقوطه . والفعل اليوناني "
anazaw " – في " كان ميتا فعاش " معبر في
روعة لاتوصف عن أن المستعاد هو ال ( zwn ) المفقودة .
والأمر وثيق الصلة – إلى درجة التماهي
– مع اعتراف الضال - الذي أسر به إلى نفسه
في لحظة الاستنارة ، وأباح به إلى أبيه في لحظة اللقاء – حينما قال : " لَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ ( لم أعد مستحقا ) أَنْ
أُدْعَى ( klithinai ) لَكَ ابْنًا " ( لو15 : 19 و 21 )
. فبالإضافة إلى ملحوظة أنه لم يقل : لم أعد
مستحقا أن أكون لك ابنا ، بل أن أدعى لك ابنا ، فإن فعل " الدعوة " من
" يدعو " kalew " لايعني مجرد لقب – بصرف النظر عن مايحتويه
اللقب من مضمون أو رسالة - أو اسم كما تفيد صيغة أخرى ، مركبة ، للفعل وهي :
" epikalew
" كما في " سمعان الملقب ( epikaleitai ) بطرس " ( أع 10: 5و18و32
) ، مثلا ، بل إن " كاليو " تحمل مضمونا إضافيا يشير إلى حدث إيجابي توجه الدعوة ( invitation ) بخصوصه . والدعوة بطبيعة الحال أمر يحتمل القبول بنفس القدر
الذي يحتمل به الرفض . دعوة البنوة ( التبني ) التي فقدها الإنسان بسقوطه وضلاله عن
الطريق المرسوم له هى ذاتها إمكانية الحياة المفقودة . والمفقود قد تمت استعادته وتم
احياؤه بتوجيه الدعوة ثانية إلى شركة الابن المتجسد . والدعوة إلى شركة الابن الذاتي
هي دعوة للبنوة ، أي التبني . والرسول بولس ينعش ذاكرة شوق كنيسة كورنثوس بالحديث عن
هذه الدعوة مستخدما نفس الفعل ( kalew ) قائلا : " أَمِينٌ
هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ ( eklithite ) إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا " ( 1كو1
:9 )
2- تقدمة العجل المسمن
تقدمة العجل المسمن للذبح هي عمل خدمة
( leitourgia
)كهنوتية دموية ، بامتياز . تلك الخدمة التي اضطلع بها الكلمة المتجسد المسيح الرب لأنه " قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ ( leitourgias ) أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضًا لِعَهْدٍ أَعْظَمَ
" ( عب8 : 6 ) ، فهو رئيس الكهنة . ولأن " كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ
مِنَ النَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِي مَاِ للهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ ( prosferi ) قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ
( thysias
) عَنِ الْخَطَايَا " ( عب 5: 1 ) فهو " قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ
الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ ( thysias ) نَفْسِهِ " ( عب9
: 26 ) .
دراسة المفردات اليونانية المستخدمة
تشير في حسم جلي إلى كهنوتية التقدمة وكهنوتية الذبح والذبيحة :
- " قَدِّمُوا ( ferete ) الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ ( thysate ) فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ"
لو15: 23 ) .
- " أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ ( ethysen ) أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ "( لو15: 27 )
- " ... ذَبَحْتَ ( ethysas ) لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ
" ( لو15 : 30 )
والملاحظ هو :
1- استخدام مفردة خاصة للتعبير عن " التقدمة " ،
من الفعل" يقدم "( ferw ، أو الصيغة المركبة prosferw ) .
2- استخدام مفردة خاصة للتعبير عن
" الذبيحة " من الفعل "يذبح "( thyw ) ،" ذبيحة "( thysia ) ، " مذبح "( thysiastirion ) .
وهي مفردات ليتورجية لايستخدم غيرها
العهد الجديد - لاسيما رسالة العبرانيين - في الحديث عن القرابين والذبائح . وهي بالمناسبة
ليست مفردات عامة ؛ بمعنى أن اقتياد حيوانا إلى القتل ذبحا لغرض غير خدمة تقديم الذبيحة
الكهنوتية أمر لايصلح أن يستخدم معه مثل هذه المفردات ولكن تستخدم مفردات أخرى ؛ ففعل التقديم والتقدمة يستبدل بفعل الاقتياد والإحضار عنوة وقسرا ، أي فعل (
agw
) ، والفعل يقتل ، يذبح هو ( sfazw ) ، القتل ( الذبح ) ( sfagi ) . ولعل خير مثل هو تلك العبارة الأشهر لأشعياء : " مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ ( ichthi ) إِلَى الذَّبْحِ ( sfagyn ) " ( أع 8 : 32 )
خلاصة القول هي أن تقدمة العجل المسمن
لم تكن مجرد وليمة احتفالية ولكن كانت ليتورجيا
كهنوتية يتم فيها تقديم الذبيحة الوحيدة التي كان قد سبق أن أعدها الآب ، كقربان
، لتكون محورا لاحتفالية عودة الابن الضال .
3- الخروج للقاء الشيخ الغاضب
" فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ ( auton parekalei )
" ( لو15 : 28 )
" يطلب إليه " أن يصنع ماذا
؟ هل يطلب إليه أن يدخل البيت ليحضر ويستمتع باحتفالية وليمة عودة الضال ؟ إذن، إن كان هذا صحيحا فلماذا لم يذكر ذلك صراحة ؟ واقع الحال هو أن العهد الجديد لايستخدم
الفعل " parakalew
" بمعنى يفيد " الطلب " إلا إذا اشتمل السياق على موضوع الطلبة ، على
سبيل المثال لا الحصر :
" فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ ( parakalw
oun ) أَنْ
تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي " ( 1كو4 : 16 )
ولكن المفاجأة هي أن للفعل – موضوع
الحديث – استخداما ومضمونا آخرا غير الطلبة والتضرع والالتماس وهو مضمون التعزية والترضية
والتثبيت ، وهو - فيما أعتقد – المعنى المقصود
من فعل " parakalew
" في سياق النص . إذن ، الفعل يعني "يعزي ". والتعزية هي " parakalysis " . والروح القدس المعزي هو ال " paraklytos " ، فالأب خرج للقاء ابنه ، " الشيخ " الغاضب ، لا ليطلب منه أن يدخل إلى البيت لحضور الحفل بل
ليعزيه - وربما ليعظه ( وهذا معنى آخر للفعل من الممكن أن يكون ضالعا في سياق النص
– فينبغي أن يفرح الجميع لعودة الضال ، بما فيهم الابن الأكبر ، ولاداعي للغضب أو الحسد . ينبغي أن يكون
الفرح والتهليل بعودة الإنسان إلى النموذج الذي خلق من أجله ، هو لسان حال الخليقة
العتيقة . وحتى لو لم يكن الخلود - في المسيح - أفقا أو نصيبا ينتظر الخليقة العتيقة
( مادون الإنسان ) فلا ينبغي للكون العتيق إلا أن يكون راضيا - إذا جاز هذا القول - لأن الإنسان العائد إلى الحياة لم يكن إلا مشروعا محوريا وأساسيا للكون وموضوعا لسببية وجوده منذ
أول لحظة لانطلاق الكون ، ولم يكن لهذا الكون العتيق أي وعد بالخلود مثلما حدث لأخيه
الأصغر ، الإنسان ، ذلك الذي ظهر في مشهد الوجود
متأخرا جدا ، ولكن لكونه قد ضل طريق الحياة بانحرافه عن تلبية الدعوة التي دعي إليها ، فمتى
عاد إلى أبيه في الابن الذاتي المتجسد المسيح الرب ، فإنه يقال أنه كان ميتا فعاش وكان
ضالا فوجد.
مجدي داود