مصطلح " perichoresis "
1- التأصيل اللاهوتي الآبائي
ماكنت لأبتدع جديدا عندما انحزت لمفهوم " الاحتواء المتبادل
" - وليس الحلول ( التواجد ) المتبادل - كترجمة للمصطلح الآبائي الأصيل : " perichoresis" الذي يكشف حقيقة العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس
. فالمفاجأة هي أن المفهوم راسخ وواضح قبل ظهور المصطلح في صيغة الاسم في كتابات القديس
مكسيموس المعترف ، وحتى قبل ظهوره في صيغة الفعل على يد القديس غريغوريوس النيزينزي . المفهوم موجود في كتابات جيل الرواد
العظماء من الآباء ، ووجوده في هذا الجيل كان مؤسسا ، وبانيا ، ومثمرا - فيما بعد - للظهور المتدرج للمصطلح على يد القديسين المذكورين
. لدينا على الأقل مرجعان يمثلان جيل الرواد من الآباء ، وقد تناولا بوضوح - ينافس
وضوح الشمس في وقت الظهيرة - مفهوم الاحتواء
( نصا و حرفا ) . وبالطبع لم يأت ذكر للمصطلح
، فهو لم يكن قد نحت بعد ، ولكن في عبارات
شديدة الوضوح في كتاباتهما ، نجد تعريفا جامعا مانعا ، له . يأتي حديث
" الاحتواء " - عند مرجعيتينا - في سياق
عام هو مايمثله هذا المفهوم من معضلة عويصة أمام خبرتنا البشرية، الزمكانية ( أي خبرة
الزمان والمكان ) . فكيف يمكن للعقل البشري أن يدرك مضمون قول الرب : " أنا في
الآب والآب في " . كيف للآب أن يحتوي الابن بينما - في ذات
الحدث السرمدي - يحتوي الابن الآب ، مع اليقين بأن الآب يظل آبا والابن يظل
ابنا ؟!
1- القديس أثناسيوس الرسولي
فيما يواجه القديس أثناسيوس انحراف
فكر ( وكفر ) الآريوسيين تجاه شخص الابن فهو يؤكد ويبلور مفهوم الاحتواء المتبادل ،
ذلك المفهوم الذي شوهوه بفكرهم المنحرف ؛ فهم لأنهم ينكرون مساواة الابن بالآب ، فمن
المنطقي أن ينكروا الاحتواء المتبادل بينهما
فيتم اختزال الأمر عندهم في مجرد علاقة أشبه بعلاقة النعمة التي تجمع الله بالبشر كقول
الآية " به نحيا ونتحرك ونوجد ". والإشارة الأوضح هي في اعتبار أثناسيوس
أن سؤال الآريوسيين الاستنكاري بخصوص الاحتواء المتبادل هو تحريف لكلمات الرب
" أنا في الآب والآب في " ، ومن المنطقي أن رفض الاستنكار هو الإقرار بعينه
( إذا جاز لي التعبير ). وأيضا يستطرد أثناسيوس في الشرح بأن العلاقة الثالوثية ليست
كما يفهمون ، أي علاقة " امتلاء متبادل " ، كأن يفرغ الشخص ذاته في الآخر
ليملأه ، لأن الشخص كامل وتام في ذاته ، وعليه فالعلاقة التي فيها يعطي الشخص كل كيانه
للآخر لكي يتم احتواؤه فيه - دون أن يفقد كيانه الكامل الدائم ، بينما هو ذاته يتقبل كل كيان الأول محتويا إياه
- دون أن يفقده كيانه الكامل الدائم - مثل
هذه العلاقة هي عين علاقة الاحتواء المتبادل . هكذا يكتب أثناسيوس عن الآريوسيين :
" فإنهم بدأوا يحرفون كلمات الرب : " أنا في الآب والآب في ( يو 14 : 10
) ، قائلين " كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف
يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ أو أي غرابة أن يكون
الابن في الآب ، طالما أنه مكتوب عنا نحن أيضا " به نحيا ونتحرك ونوجد
"( أع 17 : 28 ).... ولكن حيث أنهم قد حاولوا تشويه هذه الآية لخدمة هرطقتهم فقد
أصبح من الضروري أن نفند ضلالتهم ،... لأنه عندما يقول " أنا في الآب والآب في
" فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته في الآخر ليملأ الواحد منهما
الآخر ... حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما
ولا كاملا في ذاته ... ولذلك فإن هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل
، والابن كذلك هو ملء اللاهوت ... وأيضا لا يوجد الابن في الآب بالمعنى الذي فى الآية
" فيه نحيا ونتحرك ونوجد " ، لأن الابن لكونه من ينبوع الآب ، فهو الحياة
، الذي به تحيا وتقوم كل الأشياء ، لأن الحياة لا تحيا من حياة ( أخرى ) ، وإلا فهي
لا تكون عندئذ حياة . فالابن هو الذي يعطى الحياة لكل الأشياء "( المقالة الثالثة
ضد الآريوسيين 23 :1 ) . أيضا يرسي أثناسيوس أن مايحفظ الاحتواء المتبادل هو واحدية
الجوهر الإلهي ، فكل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر ، وهكذا يظل كل شخص ، ذاته على الدوام
، ولا تحدث علاقة الاحتواء المتبادل أي تفتيت أو تجزئة للجوهر لأن الشخص كامل ، أي
يعتلن الألوهة الكاملة ، وفي هذا يقول : " ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا
النحو . لأن الله ليس مثل الانسان ، وجوهره لا يتجزأ . ومن أجل ذلك فانه لم يتجزأ لكي
يلد الابن حتى يصير أبا لآخر، لأنه هو نفسه لم يكن من أب ، وكذلك فالابن ليس جزءا من
الآب ، ولذلك فهو لم يلد كما ولد ( بضم الواو ) هو نفسه ، بل هو صورة كلية للكامل وهو
إشعاعه . وفي اللاهوت فقط ، فإن الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل
. وبالنسبة لهما يكون صحيحا أن الآب هو أب على الدوام . والابن هو ابن على الدوام
. وكما أن الآب لن يكون ابنا أبدا كذلك أيضا لن يصير الابن أبا مطلقا . وكما أن الآب
لم يكف أبدا عن أن يكون الآب الوحيد ، هكذا فلن يكف الابن أبدا عن أن يكون الابن
الوحيد ." ( الرسائل الى سرابيون 1 : 6 )
2 - القديس هيلاري أسقف
بواتييه (
300-367م )
قديسنا الملقب بأثناسيوس الغرب
- والذي خاض دفاعا مستميتا عن القديس أثناسيوس الرسولي المعاصر
له ، على خلفية الصراع مع الآريوسيين - يعد
من أعظم اللاهوتيين من جيل الآباء الذين كتبوا - بل تخصصوا - في الثالوث القدوس . والقديس هيلاري
له اثنا عشر كتابا في الثالوث كتبت في المنفى باللغة اللاتينية بعنوان " de trinitate
" ، وفي الكتاب الثالث ( الفقرة الأولى ) ينطلق هيلاري من نفس منطلق أثناسيوس
بخصوص المعضلة عصية الإدراك أمام الذهن البشري ، أي معضلة مفهوم الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، معضلة فهم
" أنا في الآب والآب في " ، فيقول بأن شخوص الثالوث " يحتوى كل منهم الآخر بالتبادل ، وبالتالي
كل واحد منهم هو على الدوام يحيط الآخر وأيضا يحاط ( يحتوى ) من الآخر ، الذى مازال
هو يحتويه " ( نقلا عن كتاب الايمان بالثالوث ، مكتبة باناريون ، طبعة أولى ، نوفمبر 2007 ، هامش ص 317 ) .
الاحتواء ، العلاقة المستحيلة
بالرغم من أن الاحتواء المتبادل مسألة تبدو مستحيلة الإدراك أمام العقل البشري
، مسألة لا مثيل لها في عالمنا الزمكاني ، إلا أن القديسين أثناسيوس وهيلاري لم يستسلما
للمستحيل ، ولم يقتنعا بأن وجود بحر المستحيل
العقلي يشكل مانعا لحركتنا نحو الوصول إلى شاطئه ، مع القناعة بأن العبور إلى الحقيقة
حدث يتخطى مجرد المعرفة اللاهوتية " العقلية "، لسبب منطقي هو أن مفردات
اللغة البشرية هي انعكاس لخبرات وجودهم النسبي الموقوت وأما التعبير البشري عن العلاقة
الثالوثية - في أقصى درجة ممكنة له - يتطلب
لغة أخرى تنتمي لزمن آخر هو الأبدية - بالرغم
من ذلك فقد اضطلع القديسان الملهمان بالروح القدس ببلورة ما يمكن أن نطلق عليه
"ثلاثية الحد الأدنى "، وهي :
1- كل شخص هو الألوهة الكاملة لأن جوهر كل شخص هو
ذات الجوهر الواحد الذي للآخر .
2- كل شخص يظل ذاته على الدوام ولا يتحول - أو يتجزأ
- إلى آخر.
3- كل شخص يحتوي الآخر بينما هو محتوا منه .
نستطيع إذن ، أن ننطلق في محاولة الفهم - ما أمكن - من أساس صخري صاغه الآباء ليؤطر لحدود المسألة
، فنستطيع القول بأن كل شخص من شخوص الثالوث ، فيما يحتوي - ويحتوى من - الشخصين الآخرين ، فهو كيان يستعلن
الألوهة الكاملة لأن جوهره هو ذات الجوهر الواحد الذي للشخصين الآخرين . وكل شخص من
شخوص الثالوث ، فيما يحتوي - ويحتوى من - الشخصين
الآخرين ، فهو كيان دائم ديمومة السرمدية ، يحتفظ بهويته الشخصية غير قابل للتجزئة
- أو التغير - إلى أي شخص من الشخصين الآخرين
.
ماهية الاحتواء
إذا كان التعقيد الظاهر في المسألة يبدو أحيانا
أمرا لابد منه - في سياق تثبيت الحد الأدنى
الذي يدحض أي احتمال للانحراف أو حتى للهرطقة - فإن مجهودا ذا وجهين - قد يجعل الأمر
ليس بهذه القسوة - لابد من أدائه :
1- الوجه السلبي
التخلص من الانطباعات النسبية عن " الاحتواء
، الإحاطة ، يحيط ، ويحتوي "، أمر واجب كأساس للغوص في المفهوم الصحيح للكلمات.
الانطباع الذي لدينا - وفقا لخبرتنا البشرية
بمثل هذه الكلمات - هو مايشير إلى أن شيئا
أو كيانا ما يحيط بشيء آخر - ماديا أو حتى معنويا - بينما يظل المحيط محيطا والمحاط محاطا . بالطبع
هذا أمر لايتفق مع تعريف صحيح بالله ، فالأخير مطلقة من قيد الزمان والمكان ولا يمكن
أن يحيط به أمر أو شيء من خارجه ، فخارجه هو العدم كيان متحرر بصفة ذاته . إن مشكلة
مفهوم الاحتواء - كعلاقة متبادلة بين شخوص الثالوث - أمام أذهاننا هي في تقوقعنا في المدلول المادي
للكلمة ، وبالطبع نحن ليس لدينا كلمة أخرى غير ذات مدلول مادي من الممكن استخدامها
في هذا السياق ، ولذلك فقد وجب علينا أن نتحرر من الظاهر المادي فنتلبس ذهنا روحيا
يستطيع أن يسبح في كل ما يليق بالوجود الإلهي ، رافضين لكل مدلول مادي للكلمة من أذهاننا
.
2- الوجه الإيجابي
القضية ليست تجريدا من أجل التجريد ، فأنت لن تستطيع أن تتصدى لما يخص الوجود الإلهي
، في المطلق ، أي خارج إطار مفهوم النعمة ،
مالم يبد الأمر كعمل فلسفي تجريدي ، وهو ليس كذلك بالطبع ، ولكن هذا مايبدو عليه حديث
اللاهوت عندما نتطرق إلى علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث القدوس ، ولا فكاك
من ظهور الأمر هكذا . وفقط عندما يدعى البشر
لدخول هذا المجال الأبدي الذي للثالوث القدوس،
فيدخلونه صائرين أبناءا للآب بالشركة في جسد ابنه في الروح القدس ، فحينئذ تتاح لهم
فرصة المعرفة الحقيقية التي" هي الحياة الأبدية "( يو 17 ) . فالملكوت هو
الفرصة الوحيدة لمعرفة الثالوث ، لأنه باختصار الفرصة الوحيدة للولوج النعموي إلى شركة
الثالوث ، أما " الآن فإننا ننظر في مرآة ، في لغز "( 1كو13 : 12 ) ، ولكن هذا لايتناقض مع كون أنه ينبغي أن يتوفر
في صورة المرآة ، هذه ، الحد الأدنى من الملامح الذي يستطيع أن يمثل بكل صدق الصيغة
المعرفية التي يجب أن تراها أذهاننا - بالطريقة التي ترى بها أذهاننا - لحقيقة الثالوث
، أما الاستسلام لتبني صورة مشوهة فهذا يعني - واقعيا - الاستسلام للانحراف العقيدي ، وربما للهرطقة
. وأما استحالة إدراكنا لأعماق حقيقة شركة الثالوث - في هذا العالم - لا يعني بأي حال من الأحوال إخماد
الفتيلة المدخنة التي لأذهاننا ، تلك التي من المزمع إشعالها في الروح القدس ، فتضيء
أبديتنا . ولكن إن ماتت فتيلتنا فمن أين لنا بأبديتنا ؟! ونعود إلى اللغز ، إلى المرآة ، لغز الاحتواء المتبادل
، في مرآة أذهاننا ، فنسأل : كيف يمكن أن تتبدل المواقع - في ذات الحدث الواحد - فيصبح المحيط محاطا ، بينما
هو محيط ، ويصبح المحاط محيطا، بينما هو محاط ؟ . لفك طلاسم الأحجية بات من الواجب علينا أن نبذل
جهدا مضنيا لإيجاد تعريف لمفهوم الاحتواء الذي تكشفه شركة الثالوث ، والذي من المتعين
أن يكشف تمايزا لانهائيا عن ذلك المفهوم الانطباعي للكلمة الذي تفرضه علينا طبيعة أذهاننا
الزمكانية . والمدخل الأمثل لذلك هو التعامل مع المفهوم من خلال توصيفه كعلاقة ، وإذ
ذاك نستطيع أن ندرك خصوصية العلاقة في تفردها وتمايزها عن أي علاقة أخرى بصفة عامة
، أي بالنسبة لخبرتنا بأي علاقة في الكون
. وأفضل منطلق للبحث عن تعريف لله هو
ماقد عرف الله به ذاته قديما حينما أخبر موسى ( في خروج 3 ) بهذا الاسم " أهية
الذي أهية "، " أنا الكائن بذاتي "، وقد احتفل قديسنا هيلاري بهذا التعريف
الإلهي واعتبر أن أنسب تعريف لله هو التعريف
به من منظور وجوده .إذن ، شخص الآب هو الله ، لأن الله موجود من ذاته . وشخص الابن
هو الله ، لأن الله موجود بذاته . وشخص الروح القدس هو الله ، لأن الله موجود في ذاته
. و ذاته هي " منه، به، فيه "، أي " من الآب بالابن في الروح القدس
". و الذي من الآب هو الذي بالابن هو الذي في الروح القدس هو الذات الإلهية .
و الآب الذي يستعلن الذات الإلهية ، كمصدر
، يحتوي الابن ( المستعلن للذات ، كملء ) ، ويحتوي الروح ( المستعلن للذات ،كفيض وكشركة
). والذي يجعل كيانا ، يحتوي الكيان الذي يحتويه - مع بقاء الكيانين متمايزين ، غير متماهيين - هو انتماء كليهما لذات الجوهر والطبيعة الواحدة
. مثل هذه العلاقة الكاملة لامثيل لها بين الموجودات ماعدا الوجود الإلهي ، حيث يمثل
" الاحتواء المتبادل " التوصيف الوحيد للعلاقة الثالوثية . هكذا يكشف مفهوم
" الهوموأووسيوس ( homoousios )
" أن العلاقة بين شخوص الثالوث هي نمط عجيب لايمكن توصيفه بمصطلح غير " العلاقة
الذاتية " . و الأساس في العلاقة الذاتية
هو أن الشخص يشخصن ( يؤقنم ) الذات ( الجوهر ) ، فالذات ليست طبيعة محايدة بين الأقانيم
ولكنها على الدوام هي مشخصنة بمبادرة من شخص
يحتوي - ويحتوى من - الشخصين الآخرين . وإذا
كنا قد حررنا أذهاننا بالفعل من انطباعاتنا البدائية الساذجة عن معنى " الاحتواء
" فيجب أن ندرك أننا لسنا بصدد مفهوم
مادي استاتيكي بل على العكس ، الاحتوائية في الثالوث هي مفهوم يتماهى مع حدث وحركة
تحقيق الوجود الإلهي ذاته، فالاحتواء بين شخوص
الثالوث هو الاختراق الوجودي السرمدي . وأن يحتوي الآب ابنه الوحيد ، أمر يعني ان الله
هو الكيان الحي الوحيد الذي يوجد ( بكسر الجيم ) ذاته ، ومصدريته متأصلة فيه أزليا بنفس قدر تأصل ملئه ، النابع من تلك المصدرية .
هنا قد تم احتواء البنوة من قبل الأبوة ، أي
احتواء الموجد للموجود ولكن ماذا لو قلنا إن
الله هو الكيان الحي الوحيد الموجود بذاته ، ألا يعني ذلك احتواء البنوة للأبوة ، أي
احتواء الموجود للموجد ؟ والله دائما هو الله ليس لأنه جوهر الله الحي بل لأنه دائما
الشخص المتضمن للشخصين الآخرين ، فلا يوجد الجوهر عاريا مطلقا . الله هو الله فعلا لأنه شخص الآب المتضمن - والمحتوي ل
- الابن والروح .و الله هو الله فعلا لأنه شخص الابن المتضمن - والمحتوي ل
- الآب والروح . والله هو الله فعلا لأنه شخص الروح القدس المتضمن - والمحتوي ل
- الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن .
ولكي لاتضيعنا الكلمات لابد أن نقر
بتماهي مفهوم " الاحتواء " مع مفهوم
" الضمنية " ، فليس هناك معنى لكلمات الرب " أنا في الآب والآب في " غير " الآب يحتويني
وأنا أحتوي الآب" ؛ فعندما يوجد شخص ما في شخص آخر فهذا يعني بالضرورة وبالتعريف
أن هذا الأول يحتوي ذلك الآخر .
2- التأصيل اللغوي للمصطلح
يتألف هذا المصطلح اليوناني من مقطعين
، الأول (prefix ) هو الحرف ( peri
) ويعني ( حول = around ) ، والمقطع الثاني ( chorea
) يشير إلى رقصة تقليدية في ثقافات الشعوب القديمة لاسيما في ثقافة اليونانيين القدماء
. في هذه الرقصة تتشابك أيدي الخورس ( chorus
) ليؤدوا رقصتهم في شكل دائري ( circular dance
) . وفي أدبيات اليونانية يؤدي دخول المقدمة
( peri ) – على جذر ما – يفيد فعلا ما
– يؤدي إلى إضفاء مايفيد حركة إضافية حول المعنى الأصلي لهذا الجذر ، فمثلا
الجذر ( tom
) ، ( tomos يفيد معنى
” قطع الشيء ( ( cut ، وأما دخول ( peri
) على الجذر ( tom ) ينتج ” peritomy ” التي تعني ” الختان = circumcision” ، هكذا
لم يعد الفعل يفيد مجرد معنى قطع الشيء بل يفيد قطعا محددا يتم في حركة دورانية دائرية
. والآن لنا أن نسأل ماذا أنتجت إضافة ” peri ”
– التي تشير إلى حركة ” حولية ” ( إذا جاز
التعبير ) – إلى ” chorea”
التي بحد ذاتها تعني حركة دورانية راقصة ؟ وبالتأكيد ليس لدينا إجابة غير ذلك التعقيد
المدهش لتلك الرقصة العجيبة ، فلم يعد الراقص يدور فقط حول تلك الدائرة التي يحيط بها
أفراد الخورس ، بل وللعجب – وبفضل ” peri
” – أصبح يدور حول كل نظير له . لم يعد الراقص
يحيط ويستوعب مساحة الدائرة المشتركة بين جميع أفراد الخورس فقط بل فيما يصنع هذا هو
يحيط ويستوعب بحركته كل فرد من أقرانه . هكذا ، وفي وضعية عجيبة ، يتطابق المدلول اللغوي
للمصطلح مع مفهومه الاصطلاحي ليتم إضاءة عقيدة الثالوث القدوس أمام عيون أذهاننا .ففيما يعتلن الشخص – من شخوص الثالوث – الجوهر الإلهي الواحد مستوعبا ومحتويا ومشخصنا إياه فهو في ذات الحدث
يحتوي ويستوعب كل شخص من الشخصين الآخرين ، وبناء على ذلك فإن أقرب ترجمة عربية للمصطلح هي علاقة ” الاحتواء المتبادل
” بين شخوص الثالوث . الاحتواء يعني الفعل الإيجابي لإحداث
تضمن الآخر، و”الضمنية المتبادلة “هي تعبير آخر عن مفهوم المصطلح. والضمنية تعني الستر
والإخفاء فشخص الآب فيما يستعلن الجوهر الإلهي الواحد ، كمصدر وكينبوع فهو يتضمن
ويستر ويحتوي شخص الابن الذي هو ” الملء” ،ويتضمن
أيضا ويستر ويحتوي شخص الروح القدس الذي هو النهر الفائض من الينبوع (الآب ) ليصب في الملء (الابن )، إذ هو
روح الآب وروح الابن بآن واحد . بمعنى أنه يكفي أن نقول أن “شخص الآب هو الله ” ولا
نكون قد تجاهلنا الابن والروح ، لأنه إذا كان الآب هو النبع فلا آب بدون ابن ولا آب
بدون الروح القدس ، لأنه لا نبع بدون ملء ولا نبع بدون فيض لكل هذا الملء من مصدره
حتى مصبه .فالضمنية المتبادلة هي حركة المحبة التي يتخلى فيها شخصان من شخوص الثالوث
عن ذكر هويتهما الشخصية في استعلان الجوهر
الإلهي الواحد لحساب هوية الشخص الثالث ، فيكفي
أن نقول أن الآب هو الله ليعني ذلك أن الابن الكائن في الآب
هو الله ويعني أيضا أن الروح الكائن في الآب
وفي الابن هو الله . هل هناك مضمون للمحبة
أرفع من التخلي عن إعلان الشخص عن ذاته كشخص
لحساب الآخر وفي المقابل ،كفعل عكسي، لا يقوم
الشخص الأول بالتهام ذلك الشخص المتضمن فيه بل يظهر هويته المستترة فيه كوجه آخر لهويته ؟ أليست هي إذن رقصة المحبة
السرمدية التي تثمر الوجود الإلهي ؟.
3- الفرق بين
” perichoresis ”
و ” co-inherence “
كان القديس مكسيموس المعترف ( المتوفى عام 662 ) أول من ذكر مصطلح ” perichoresis
” بهذه الصيغة ،أي صيغة الاسم ( noun
)، وكان قد سبقه القديس غريغوريوس النيزينزي إلى استخدام
صيغة الفعل ” perichoreo
” في سياق شرحه للاتحاد بين الطبيعتين في المسيح . ومنذ أن انطلق المصطلح
الآبائي انطلق مسار طويل من الجدل والمناقشة والتأصيل للمصطلح بين الآباء آنذاك وبين
اللاهوتيين فيما بعد وقد أسفر هذا المسار عن
محاولة من البعض – تم تفنيدها وتضعيفها من
قبل البعض الآخر – لتطبيق مضمون المصطلح على
العلاقة بين اللاهوت والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ، وأيضا ظهرت محاولة البعض
لتطبيقه على علاقة المؤمنين بشخص المسيح ، هذا فضلا عن العلاقة الأصلية والأصيلة
أي العلاقة بين شخوص الثالوث . وقد أسفرت النقاشات والسجالات الطويلة والمضنية بين
اللاهوتيين عن ثلاثة تطبيقات للمصطلح :
1 – trinitarian perichoresis :
العلاقة بين شخوص الثالوث .
2 – christological perichores : العلاقة بين الكلمة والإنسان
في شخص الكلمة المتجسد.
3- deification perichoresis : ( التأله ). العلاقة بين المؤمنين والمسيح.
هذا ووفقا لمعظم الكتاب اللاهوتيين
فإن النوع الأول يمثل علاقة كاملة متماثلة ، بينما اعتبر كل نوع من النوعين الآخرين
علاقة غير كاملة وغير متماثلة .ومن ناحية أخرى
فقد قام الكاتب ( والروائي والشاعر واللاهوتي ) البريطاني ” charles williams
” ( المتوفى عام 1945 ) بنحت مصطلح فلسفي لاهوتي عبقري هو ” co-inherence
” الذي يعني علاقة التواجد ( الحضور ، السكنى ،
الحلول ) المتبادل ، وقد اضطلع – هو
وأتباعه – بتطبيق مفهوم هذه العلاقة في توسع يشمل
– تقريبا – كل ماهو موجود ، بما في ذلك
مكونات خريطة العقيدة المسيحية ، أي : الثالوث القدوس ، شخص المسيح ، العلاقة بين
المؤمنين وشخص المسيح . وواقع الحال أن بعضا من أصحاب المصطلح الآبائي قد اتفق
مع أصحاب المصطلح الحديث في التماهي بين المصطلحين من حيث المضمون، وإن كان ويليامز قد أقر التماهي صراحة فإن بعض الأولين قد قدم أكثر من صيغة للمصطلح الآبائي تحمل ذات المضمون
الذي قدمه ويليامز في مصطلحه . وأكاد أجزم باستحالة التماهي بين " perichoresis
" و " " co-inherence ؛ فمن غير الجائز أن يكون لدينا-
من وجهة نظري - ” christological perichoresis
” ، أو ” deification
perichoresis ” ولكن الصيغة الوحيدة الصحيحة والمقبولة للمصطلح
هي ” trinitarian
perichoresis ” . وأيضا من الناحية الأخرى لا يجوز أن يكون
لدينا ” trinitarian
co-inhernce
” ، ولكن اللائق هو وجود كل من ” christological co-inherence ” و ” deification co-inherence ” .هذا الجزم والحسم في التمييز بين استخدامين مختلفين للمصطلحين ينبع
من إدراك الفرق الدقيق بين مضمونين مختلفين لهما ، فالمصطلح الآبائي يعني الضمنية المتبادلة أو الاحتواء المتبادل الذي يحمل المعنى الكامل للعلاقة
المتماثلة “symmetrical
” ، أي العلاقة الذاتية الفريدة التي لا يمكن
أن تتجلى إلا في ” trinitarian perichoresis
” ، إذ يحتوي كل شخص من شخوص الثالوث الشخص
الآخر بينما يظل كل شخص منهم له ذات الجوهر الذي للآخر ( homoousios
) . لم يعد الأمر مجرد حضور متبادل بين طرفي العلاقة ، كيفما اتفق لهذين الطرفين أن
يكونا ،بل حضور متبادل بين طرفين لهما ذات الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة . وهنا نستطيع أن ندرك الفرق بين
المصطلح الآبائي وبين ” co-inherence ” ، فالأخير يعني الحضور المتبادل ( co-indwelling
) غير المشروط بالضمنية المتبادلة بين طرفين
لعلاقة بين شخصين كل منهما هو هوموأوسيوس بالنسبة للآخر ، وبالتالي يستطيع أن يشرح
العلاقة بين طبيعتين مختلفتين ، ولا يمكن بأي
حال من الأحوال أن يصون شرحا صحيحا للثالوث القدوس. ونستطيع أن نقول بأن المصطلح الآبائي
يكشف عن حالة خاصة جدا من المفهوم العام الذي لمصطلح ” co-inherence ” ، وهي حالة العلاقة الفريدة
التي بين مختلفين لهم ذات الجوهر والطبيعة الواحدة بينما هوية كل منهم تتجلى كوجه آخر لكل هوية من الهويتين المستترتين
فيه .وبالتأكيد إن للمصطلحين مضمونا انطولوجيا ( ontological
) ، فكل مصطلح على حدة يحققه ويكشفه وجود ينتجه فعل يتم في علاقة تبادلية ( reciprocal
) . ولكن الفرق الجوهري بين المصطلحين – في هذا السياق- هو أن المصطلح الآبائي يكشف عن
وجود سرمدي ( أزلي أبدي ) ينبع ذاتيا ( من الآب ) ، أي أن تمايز أطراف العلاقة ( شخوص
الثالوث ) لا يجعل العلاقة موضوعا لشركة طبائع مختلفة لأن كل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر ، بينما يكشف المصطلح الآخر ( co-inherence
) عن وجود ينشأ في الزمن والتاريخ ليمتد إلى الأبد ، في علاقة وجود متبادل بين طرفين
يمثلان طبيعتين مختلفتين وبمبادرة من أحد طرفي العلاقة . وأما بخصوص التأله ( Deification co-inherence ) ففيما يتأله البشر بالعضوية في الجسد الخاص بالابن
الوحيد ، وفيما تتكمل الكنيسة كجسد للمسيح ، فإن كيانا ضخما يمتلئ يوما فيوما إلى أن
يتجلى – في نهاية الكون – شخصا هو ” ابن الإنسان “، شخص المسيح الكامل الممتلئ المستوعب
لكنيسته في كيانه . حديثنا عن شخص هو ملك يبدو
رأسا لمملكته التي هي جسده . إذن علاقة أعضاء الكنيسة بشخص المسيح نموذج لعلاقة الحضور
( الوجود ) المتبادل . ليس شخص المسيح هو فقط الرب يسوع التاريخي ، فالأخير هو مجرد
الرأس ، واختزال الشخص المنشود في يسوع يجعل شخص المسيح مجرد رأس بلا جسد . وأما النظرة
الصحيحة للشخص المكتمل تجعلنا ندرك أن شخص المسيح الرب ” محتاج ” لأن يتكمل ويمتلئ
بكنيسته ، وهذا يذكرنا بالقول الإنجيلي الشعانيني المدهش ” الرب محتاج إليه “. احتياج
الربوبية هذا ، هو سر الوجود المتبادل بين الكنيسة وشخص المسيح الممتلئ . المسيح شخص
نحن نملأه كأعضاء ردا على امتداده فينا كرأس
. ففيما يمتد المسيح إفخارستيا في كنيسته محققا وجود جميع أفرادها ، تقوم الكنيسة ،
بدورها ، بإظهار وكشف وتحقيق هوية المسيح كشخص كاثوليكي ممتلئ.
مساحات التماس بين المصطلحات
يتقاطع مفهوم مصطلح ” christological co-inherence ” مع مفهوم مصطلح ” trinitarian perichoresis ” في مساحة ” الإنسان يسوع المسيح ” ذلك الكائن في علاقة وجود متبادل
مع شخص الكلمة بفضل الاتحاد الأقنومي الكائن بينهما ، فلأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار منذ لحظة الاتحاد
جسدا خاصا بذاك الكائن في علاقة الضمنية المتبادلة مع أبيه الذاتي ومع الروح القدس
، وهكذا صار الإنسان يسوع المسيح شاهدا أبديا
على حركة المحبة السرمدية الكائنة بين شخوص الثالوث ، وفيما يتقبل الابن الذاتي وجوده السرمدي كملء
للآب فإن جسده الخاص يتقبل وجوده الأبدي من الآب كشريك في حياة الابن في الروح
القدس . وقبوله لوجوده لايعني بأي حال من الأحوال كونه منتفعا بالنعمة ، بل على العكس
، ولأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار بمجرد ظهوره
مصدرا ورأسا وربا للنعمة ، تلك المزمع أن تفيض على المختارين ليصيروا متموقعين
فيه كأعضاء .وهذا يقودنا إلى التقاطع الثاني
، أي الذي بين ” deification co-inherence
” و ” trinitarian
perichoresis
” . ومساحة التقاطع هنا هي الكنيسة ، جسد
المسيح ، أي جسد ذاك الذي هو قائم في اتحاد أقنومي بين طرفين أحدهما الكلمة الذاتي
، أي الكلمة الذي يتضمن الآب . وفيما يتأله جميع أعضاء الكنيسة فهم
يحتفلون إلى الأبد بولوجهم النعموي في مظلة
المحبة الثالوثية باشتراكهم العضوي في جسد الكلمة الكائن في علاقة الاحتواء المتبادل
مع الآب والروح.
4- مفهوم
مصطلح Perichoresis" " كعلاقة كاملة متماثلة
يشير المصطلح الآبائي إلى علاقة فريدة ( unique
) من نوعها ، وباستثناء الثالوث القدوس فلا مثيل لها في سائر الموجودات . وتفرد علاقة الاحتواء المتبادل
بين شخوص الثالوث يكمن في كونها علاقة كاملة . ومن الناحية الرياضية الفلسفية تظل العلاقة
الكاملة بين فئتين أو كيانين أفقا لا يمكن إدراكه ، ففي عالم الموجودات ، النسبي ،
الذي ننتمي إليه ، من المستحيل قيام علاقة
كاملة مع الاحتفاظ بوجود طرفي العلاقة دون
ذوبانهما في كيان واحد ، فالعلاقة الكاملة
هي العلاقة المطلقة التي لا وجود لها في عالمنا
النسبي . فكيف يتضمن الآب ابنه الوحيد في ذات الحدث الأنطولوجي الذي فيه يتضمن الابن
أباه الذاتي ؟ كيف يتضمن شخص شخصا آخرا بينما هو متضمن من قبله ؟ كيف يكون شخص كائنا
في من هو كائن فيه ؟ ماذا يعني الابن المتجسد بقوله ” أنا في الآب والآب في ” ؟
ولم نزد الأمر تعقيدا فنسأل عن الروح القدس الكائن في الآب وفي الابن فيما يتضمن الاب
الابن ، الذي يتضمنه ؟! إنها إذن الدهشة من حركة الضمنية ( الاحتوائية ) المتبادلة
بين الذين ” لكل منهم ” ذات الجوهر الواحد . لذلك لم تكن العلاقة الكاملة ( المطلقة ) أمرا متاحا في عالمنا النسبي إذ هي بالتعريف ووفقا لمرجعية الثالوث
القدوس هي علاقة ذاتية ، وإمكانية تخيل وجودها
في عالمنا تتماهى مع إمكانية تخيل تلاشيها ، بتلاشي طرفيها وأيلولتهما إلى واحد . علاقة الضمنية المتبادلة ، أو الاحتواء المتبادل
، ليست مجرد فكرة فلسفية لاهوتية بل هي حركة . هي حركة المحبة ، التي هي جوهر الأنطولوجيا
الإلهية . والحركة هنا لا علاقة لها بما نختبر
عن الحركة في عالمنا . ولأن عالمنا هو نسبي بجملته ، فالحركة فيه حركة
نسبية ، أي حركة في الزمان والمكان ، حركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها . أما الوجود الإلهي فلا يعرف الزمان والمكان ، لذلك فحركة المحبة الثالوثية هي الحركة المطلقة ( إذا
جاز التعبير ) ، تلك الحركة التي لا يمكن رصدها إلا من داخلها . فالروح القدس فاحص
كل شيئ ،هو الوحيد القادر أن يفحص أعماق الله (
راجع 1كو2: 10). وإذا كانت الحركة بين شخوص الثالوث نمطا من الحركة لا مثيل
له في عالمنا ، فما عساه أن يكون ؟ والإجابة الوحيدة الممكنة هي أن الحركة الثالوثية
هي سر الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالشخص بطبيعته
كيان ديناميكي ، وديناميكيته هي هويته ، بمعنى أن الهوية الشخصية هي فعل وحدث متجدد
سرمديا ، والفعل الذي هو مضمون هوية أحد شخوص
الثالوث لا غاية ولا مضمون له غير تحقق الوجود الإلهي من خلال الهوية الخاصة بهذا الشخص
، والذي بدوره يتضمن الشخصين الآخرين اللذين
لهما هويتان متمايزتان ، ووفقا لكل منهما يتحقق ذات الوجود الإلهي الواحد ، في ذات
الحدث السرمدي الواحد ؛ فالضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث تعني الضمنية المتبادلة
بين ثلاثة أفعال شخصية متمايزة يضطلع كل منهم بإنتاج ذات الثمرة الأنطولوجية الواحدة
. فهوية شخص الآب هي فعل إصدار الوجود. شخص
الآب هو الينبوع الفياض للوجود الإلهي ، وفيما
يفيض الآب فهو يتضمن الابن ، الذي هو ملء الآب
، ولأنه لا ينبوع بدون ملء فالآب بدون الابن
هو ينبوع ناضب بدون ماء . ولأنه لا وجود لكل من الينبوع والملء بدون الفيض ، فلا وجود لكل من الآب والابن بدون الروح القدس . لأن الروح
هو الفيض وهو الوسط ( meso
) بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن بآن واحد .
عبارة ” من الآب بالابن في الروح القدس “
المنظور النعموي الخلاصي كان الهاجس الرئيس المسيطر
على أذهان اللاهوتيين السكندريين من جيل الآباء لاسيما العظيم أثناسيوس ، كان المنظور
المسيطر على طريقتهم في شرح الثالوث القدوس . والمثال الجلي هو عبارة أثناسيوس الشهيرة
عن النعمة الواحدة " التي من الآب بالابن في الروح القدس" . فوجود وجوهر
مفهوم النعمة – في كمالها – هو كونها صورة
الوجود الإلهي ذاته – أو قل أنها استعلان حضور
الثالوث القدوس في الخليقة ( الإنسان ) ، أو استحضار الإنسان وولوجه إلى مظلة الثالوث
. ولكن ماذا لو أراد أثناسيوس أن يشرح الثالوث القدوس من المنظور المطلق ، أي من منظور
الوجود الإلهي ذاته قبل التجسد وقبل استعلان النعمة ، هل كان من الممكن أن يجد عبارة
أخرى أفضل من هذه العبارة ؟ لا أظن ؛ فالذات الإلهية الواحدة هي بالفعل " الكل
الذي من الآب " ، وهي " الكل الذي بالابن" وهي "الكل الذي في الروح القدس " . الوجود الإلهي واحد ، من
” الآب ” كمصدر ” ، كينبوع ، كأصل للوجود الإلهي ، وفي ملء الزمان صار ” مصدرا ” للنعمة
الحادثة للبشر بالشركة في الابن المتجسد في
الروح القدس . وهو واحد ، ب” الابن ” كملء ، كنطق ، ككلمة “ يخبر ” سرمديا عن الجوهر الإلهي ، وفي ملء الزمان أرسل الله ابنه
إلى العالم متجسدا ليخبرنا ( الوحيد الذي في حضن الآب الذي خبر ) عن أبيه الذاتي وليرسل
لنا الروح القدس المنبثق من الآب فيصور فينا صورة المسيح أي الكنيسة الكائنة في جسد
الكلمة الخاص . وهو واحد ، في ” الروح القدس ” الفاحص والراصد ، والسابر الأوحد لأغوار أعماق الله ، فهو الوسط ” meso ” بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن ، وفي ملء الزمان يحل
على البشر ويسكن فيهم فتتحقق عضويتهم في جسد الكلمة الخاص وهكذا يدخلهم الأعماق الإلهية
في مظلة الثالوث .
العلاقة المتماثلة
ولأن علاقة الضمنية المتبادلة التي
يكشفها المصطلح الآبائي ” perichoresis
” هي العلاقة الكاملة ، فهي – بالتعريف – علاقة متماثلة ” symmetrical ” ، أي لا وجود فيها لأي نوع من القطبية
” polarity ”
، لا أفضلية ولا تمييز بين أي شخص وآخر . أما التمايز بين الشخوص هو في كونها ” شخوص
” ، والشخص بطبيعته له هويتة الخاصة التي يتمايز بها عن الشخصين الآخرين ، وفقدان التمايز
يعني ضياع مفهوم الشخص ذاته . أما ما يعتقده بعض اللاهوتيين – عن خطأ – بعدم اكتمال مفهوم التماثل ” symmetry ” – نظرا لتمتع شخص الآب بهوية ” المصدرية
” بالنسبة للابن والروح – فيعود إلى عدم إدراكهم
لمفهوم العلاقة الكاملة القائمة في حركة مطلقة
. هم يطبقون سمات الحركة النسبية ( الزمان والمكان ) التي في عالمهم على الحركة
المطلقة ، فيتخيلون أن كون الآب هو علة وجود
الابن –
وأنه أيضا علة وجود الروح القدس – يكفي
لإطفاء القطبية على الآب دونما الشخصين الآخرين ، بينما واقع الحال هو أن الثلاثة
شخوص هم ثلاثة أقطاب متماثلة متكافئة ، ولكن متمايزة ، وفي حالة ضمنية متبادلة . والقطبية
التي أقصدها هنا مرادفة للهوية الشخصية التي تشخصن الجوهر الإلهي وتستعلنه من منظور
الشخص ، وهنا يكفينا -كتطبيق للفكرة – أن نقول
بأن أي شخص من شخوص الثالوث هو الله . أما كون الابن مولودا من الآب فهذا مجرد تمايز
في الهوية الشخصية لايترتب عليه أي تفضيل قيمي ، من منظور الضمنية المتبادلة المثمرة
للوجود الإلهي الواحد . وإن كانت ” الأبوة
” في خبرتنا ” النسبية ” تجعل الابن أحدث من أبيه ، زمنيا ، فهذا يعود إلى سطوة مفهوم
الزمن التي فصلت بين الشخص وبين استعلان وظيفة الأبوة فيه ، فصار وجود الشخص زمنيا
يسبق ظهوره أبا . ولما كان الأمر ليس كذلك
بالنسبة لشخوص الثالوث – فالشخص يعني الوظيفة
، والوظيفة تعني الشخص – لذلك فإن الأبوة الإلهية
هوية سرمدية نشطة وفاعلة وتستر في داخلها هوية البنوة الإلهية السرمدية النشطة
الفاعلة ، وكلا الهويتين في احتوائية متبادلة ، سرمديا . ونفس الأمر نستطيع ، بل يجب
، أن ندركه بخصوص علاقة أبوة الآب وانبثاق الروح . والآب ليس أفضل من الابن ولا من
الروح ، لأنه لا شرعية لاهوتية لوجود الآب بدون وجود الابن والروح ، فيه . ولا شرعية
لاهوتية لوجود قطبية في العلاقة بين شخوص الثالوث ؛ فالعلاقة الكاملة المطلقة التي
يكشفها المصطلح اللاهوتي العبقري ” perichoresis
” هي علاقة كاملة متماثلة .
5- مفهوم مصطلح " Perichoresis " كعلاقة ديناميكية
علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص
الثالوث هي علاقة شركة ، والشركة هي شركة ” حركة ” ، والحركة هي الحركة المطلقة . ونصيب
الشخص من الشركة هو ” كل قوام وجوهر الشركة
” ؛ فكل شخص يساهم “بالكل “، في ” الكل ” وفيما يصنع ذلك فهو لا يجور على نصيب أي شخص
أخر من الشخصين الآخرين ، إذ أن كلا منهما كائن ضمن هذا الشخص ومستوعب به . قوام الشركة هو الجوهر الإلهي الواحد
الذي هو جوهر كل شخص ؛ فالهوموأووسيوس مصطلح
يضمن أن كل شخص له ذات الجوهر الذي لأي شخص
. إذن كل شخص من شخوص الثالوث يضطلع بتكريس ذات الأنطولوجيا الإلهية الواحدة . والهوية الشخصية لأي شخص تعني – بالتعريف
– الحرية المطلقة للشخص . كل شخص حر مريد وفيما تتحقق هويته – في فعل أزلي أبدي
– فهو يختار ذلك بحرية وإرادة . ومفهوم الشخص
” الحر ” المريد – بطبيعته وهويته – يقضي على
شبهة القطبية ( التي أشرنا إليها سابقا ) ، فالإرادة والمبادرة والاختيار أمور ليست
محتكرة من قبل الآب . وفي ذات الوقت ، ومن الناحية الأخرى ، فإن القهر والالتزام بمجرد
رد الفعل أمران لا يمثلان واقعا بالنسبة للابن والروح . وكون الآب هو المصدر لا يجعل
منه الشخص الوحيد ” الفاعل ” ، ولا يجعل الشخصين الآخرين “مفعولا ” بهما . فشخص الآب ، المتضمن الابن والروح ، فيه – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يصدر الوجود الإلهي .وشخص الابن، المتضمن الآب والروح ، فيه – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يقبل عطاء الآب صائرا كل ملئه . وشخص الروح القدس
، المتضمن الآب والابن ، فيه – وبملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يقبل أن
يصير فيضا بين الآب والابن ، لأنه روح الآب والابن بآن . وكل شخص هو مبادر وفاعل بطبيعته
ووفقا لهويته ، فالمبادرة الفاعلة هي الشخص ، والشخص هو المبادرة الفاعلة . وتتقاطع المبادرات الثلاث للثلاثة شخوص في منطقة اللازمن
والتي تصب جميعا في منتوج أنطولوجي واحد ، بمعنى أن مفهوم المبادرة لا علاقة له بالتفوق
والسبق الزمني ؛ فنحن بصدد العلاقة ” الكاملة ، المطلقة ، المتماثلة ” التي تجعل المبادرات
الشخصية الفاعلة الثلاث قائمة في حالة الضمنية ( الاحتوائية ) المتبادلة ، وبينما يبادر الآب بإصدار الوجود
الإلهي – في آنية متصلة أحد طرفيها هو الأزل ، والآخر هو الأبد – فإن الابن يبادر في ذات اللحظة السرمدية
بقبول عطية الآب ، وعليه فمبادرة الابن هي التي جعلت الآب أبا بنفس القدر الذي به جعلت مبادرة الآب الابن ابنا
. وقبول شخص الروح القدس أن يكون فيضا منبثقا من الآب ، وقبوله أن يكون وسطا بين الآب
والابن – بمبادرة وإرادة حرة منه – هو الذي جعل الآب أبا بنفس القدر الذي به تسببت
مصدرية الآب في وجود الروح القدس. وتعلمنا
شركة الثالوث أننا بصدد حدث يتجدد بصفة مطلقة في الزمن اللانهائي . ولو كف الآب – المتضمن للابن والروح – عن فعل الأبوة والمصدرية ، أو كف الابن المتضمن
للآب والروح – عن فعل البنوة وقبول ملء الآب ، أو كف الروح القدس
– المتضمن الآب والابن – عن فعل الفيض بين الآب والابن ، لو كف أحدهم عن فعل مايخص
هويته الشخصية للحظة واحدة من لحظات الزمن السرمدي لتلاشى الوجود الإلهي . ف” أبوة الآب وبنوة الابن وانبثاق الروح ” ليست
تشير إلى مجرد أسماء ولكن إلى أفعال تجمعها علاقة الاحتوائية المتبادلة ، أفعال تحدث في الآن المطلق ( إذا جاز التعبير
) ، أي
الحدث المتجدد سرمديا في سر لايمكننا إدراكه ، حدث إنتاج الوجود الإلهي . فالاحتواء
المتبادل بين شخوص الثالوث هو احتواء سببي ( إذا جاز التعبير )، والاحتوائية السببية
المتبادلة داخل شركة الثالوث هي سر وجود الذات الإلهية الواحدة؛ فإذا كانت أبوة الآب
تستوعب بنوة الابن ، سببيا ، لأنه لاوجود للابن بدون الآب، فإن بنوة الابن تستوعب أبوة
الآب ، سببيا ، لأنه لاوجود للآب بدون الابن. أيضا فإن الروح القدس يستوعب الآب والابن
، سببيا، لأنه لاوجود للآب بدون روح الآب، ولاوجود للابن بدون روح الابن، الذي هو شخص
الروح القدس.
إذن ، لماذا هو احتواء وليس مجرد حلول ؟
والإجابة باتت جلية ، والسر هو طبيعة حركة المحبة بين شخوص الثالوث، لذلك فالعلاقة
القائمة هي علاقة ديناميكية ، علاقة السببية المتبادلة التي للاحتواء ، فالاحتواء والاستيعاب
المتبادل هو فعل وحركة تكريس الوجود وانتاجه سرمديا، أما مفهوم التواجد والحضور والحلول
فقد يوحي بمفهوم استاتيكي ، فضلا عن أن مفهوم التواجد هو تحصيل حاصل لمفهوم الاحتواء؛ فالاحتواء المتبادل هو الحلول – الإيجابي، الديناميكي - المتبادل بين شخوص الثالوث
، وليس مجرد تواجد وحلول وحضور متبادل، فقط . نستطيع أن نقرر إذن أن الاحتواء مفهوم
ديناميكي، حافظ وكاشف للطبيعة الديناميكية التي للعلاقة داخل شركة الثالوث القدوس،
وليس هناك من تعبير - يستطيع أن يعبر عن مفهوم مصطلح " perichoresis " - غير مصطلح " الاحتواء
المتبادل . إنه السر العجيب ، سر الحركة المطلقة
، الذي لايمكن لأي عقل بشري أن يستوعبه ؛ فمن هو هذا الذي يستطيع أن يفك طلاسم الأحجية
: استيعاب المستوعب ( بفتح العين ) لمستوعبه ( بكسر العين ) واحتواء المحتوى ( بفتح
الواو ) لمحتويه ( بكسر الواو ) وتضمن المتضمن
( بفتح الميم ) لمتضمنه ( بكسر الميم ) .
يقينا، الدهشة والرجاء في قليل من
الفهم، أثناء الحياة الأبدية، هو ماينبغي أن يكون خيارنا الصحيح!
6- النعمة
كصورة لعلاقة ال ” perichoresis
“
” النعمة واحدة ، من الآب بالابن في الروح القدس
“، عبارة شهيرة للقديس أثناسيوس الرسولي تضيء
مفهوما حاكما للرؤية الأرثوذكسية من نحو النعمة .وتشير العبارة إلى أن النعمة هي كل
مايكشف حضورا للثالوث القدوس في الخليقة .المفهوم واسع جدا عند أثناسيوس ، وفي رائعته
” تجسد الكلمة ” ندرك وكأن أمر النعمة يبدو كهرم متدرج تصاعدا في مستوى النعمة – تلازما وتزامنا مع تصاعد كثافة حضور الكلمة –
قاعدة الهرم هي ظهور الخليقة الطبيعية الجامدة ، ثم تتصاعد النعمة في مستوى جديد من الدرج هو ظهور الحياة الحيوانية ، ثم تتصاعد النعمة في نقلة نوعية ضخمة هي ظهور الإنسان
متمتعا بنعمة مماثلة الصورة الإلهية وظهور العقل البشري الذي يعتبره أثناسيوس ” ظل
الكلمة “، ثم نصل إلى قمة الهرم ألا وهي الإنسان يسوع المسيح ، وهنا تكشف النعمة عن
حضور للكلمة غير مسبوق ولا يمكن مقارنته بأي
مستوى لحضور الكلمة في الخليقة ؛ فالكلمة قد صار جسدا ، صار الكلمة ذاته في اتحاد أقنومي
مع الإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ، وقد
صار كيانه مصدرا لنعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة – عديمة الفساد وعديمة
الموت – لكل العتيدين أن يجتمعوا فيه
.
تشير عبارة أثناسيوس إلى أنه بالنعمة
ترتسم العلاقة الثالوثية على الخليقة ، العلاقة المدهشة التي للضمنية المتبادلة بين
شخوص الثالوث نراها ظلا تكشفه النعمة ، فكل ماهو من الآب هو بالابن وهو في الروح القدس
. وأما نعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة في المسيح ، قمة تجليات النعمة ، فهي الدخول
الأبدي للإنسان إلى مظلة شركة علاقة الاحتواء المتبادل (perichoresis ) ، فتتجلى هذه الطبيعة الجديدة كصورة للثالوث القدوس : فالخليقة
الإنسانية الجديدة ، في المسيح – باعتبارها
النعمة الأبدية الواحدة التي ” من الآب
” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ”
من الآب “، وفيما يتقبل الابن كل ملء الآب ، سرمديا ، محققا الألوهة الكاملة ، فإن
كل الذين يمتلئون – فتتأله طبيعتهم بالشركة
في حياة الابن المتجسد – يبدون أبناء بالنسبة للآب ، أي التبني . والخليقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة التي ”
بالابن ” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي
الذي ” بالابن ” ، وفيما ينطق الكلمة الذاتي الوجود الإلهي ويعتلنه ( يخبر به ) ،سرمديا
، محققا الاستعلان المطلق للوجود الإلهي ، فإن كل البشر المجتمعين ككنيسة في كيان الكلمة
المتجسد يصبحون مجالآ للإخبار باسم الآب فيعكسون
صورة مجده الذاتي ، فرأس كيانهم يشهد قائلا :” أخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك
“( عب2 : 12 ) . والخليقة الإنسانية الجديدة
، في المسيح – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة التي ” في الروح القدس” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” في الروح القدس “، ففيما يقبل الروح أن يكون شركة
بين الآب والابن – لأنه وسط بينهما ، فهو روح الآب وروح الابن بآن واحد ، فيتجلى فيضا سرمديا بين المصدرية التي للآب
، وملئه الذي هو الابن – محققا الوجود الإلهي
ذا الطبيعة الروحية الفائقة الوصف والمستحيلة الفحص من قبل غيرها – فإن كل الذين في
المسيح – وإذ قد صاروا ممسوحين بالروح القدس
، مسحة وسكنى أبدية – قد صاروا شركاء الطبيعة الإلهية .أي أن : ” من الآب ” ( المتضمن الابن والروح ) و “بالابن ” ( المتضمن الآب والروح ) ، و ” في الروح القدس ” ( المتضمن الآب والابن
) ، عبارات ثلاث تتماهى معا في مضمون واحد
هو تحقيق الوجود الإلهي . وأما مايخص البشر في المسيح ، أي النعمة، فهو: " من الآب"
أي التبني ، وهو " بالابن " أي العضوية في جسد المسيح ، الكنيسة ، وهو "في الروح القدس" أي الشركة في الطبيعة
الإلهية ، والعبارات الثلاث تتماهى معا في مضمون واحد هو تحقيق وجود الطبيعة الإنسانية
الجديدة الخالدة في ظل شركة الثالوث القدوس، أي كمال النعمة .
خلاصة
إذا تحررنا من قيود انطباعاتنا الزمكانية عن مفردات
اللغة البشرية، فاستطعنا أن نجرد مفردة " الاحتواء " من ماقد يصلنا من مدلول
مكاني محدود، لها - مثلما استطعنا ، بداية
، أن نجرد مفهوم " الولادة " و" الانبثاق " من مدلولاهما لدينا
، منذ قبولنا الإيمان - إذا تحررنا من هذا
الأمر بالإضافة إلى توفر قناعة بأن الاحتوائية المتبادلة هي مفهوم يعني المبادرة الديناميكية
الفاعلة من قبل كل شخص نحو كل شخص من الشخصين الآخرين ، أي السببية المتبادلة؛ ففيما
يؤقنم الشخص الجوهر الإلهي مظهرا إياه من منظور
هويته الشخصية - كطبيعة متأقنمة وليست مجرد طبيعة " عارية "( إذا جاز التعبير)
- فهو يصنع أمرا آخرا من نحو الأقنومين الآخرين إذ يتضمنهما ويستوعبهما ويحتويهما ،
لأنه " هوموأووسيوس " بالنسبة لكل
منهما ؛ فأبوة الآب تستوعب وتحتوي بنوة الابن، وتستوعب وتحتوي انبثاقية الروح القدس
. والأمر ذاته قائم من المنظور المعاكس في تبادلية مدهشة ، أي من قبل الابن والروح
نحو الآب ، فضلا عن مابين الابن والروح ، والروح والابن . تبادلية تتم في تواز وتزامن
سرمدي ليس له إلا ثمرة واحدة وهي تحقق الوجود
الإلهي ذاته . إذا أدركنا ذلك، وحررنا أذهاننا من تلك، نكون قد أدركنا - على قدر استطاعتنا
- مفهوم الاحتواء المتبادل بين الأقانيم الثلاثة التي للثالوث القدوس.
مجدي داود