الأربعاء، 11 مارس 2020

مفتاح شرح سفر الرؤيا ( 8 )






            3- الخلاصة حول سفر الرؤيا
                    ( إشكاليات النص )

إن شئت أن تعتبرها "خلاصة"، فهذا لك، وإن شئت أن تعتبرها " مقدمة "، قبل الاقتراب من السفر ، فهذا – أيضا – لك، على كل حال هذه بعض الإشكاليات التي يجب الإحاطة بها بخصوص سفر الرؤيا:
1- إشكالية التأويل
تنبع إشكالية تأويل النص من اختلاف طبيعة منطلقاتنا التفسيرية، قبل الاقتراب من النص، وإذا افترضنا بأن موضوع السفر هو الكنيسة سيترتب على ذلك مساران تفسيريان، الأول: إذا كان مفهوم الكنيسة لدينا هو تلك المؤسسة التي في العالم، لوجدنا أنفسنا نقترب من السفر لنحاول اكتشاف مايؤيد توجهنا، في ماتتعرض له الكنيسة في هذا العالم، وقد كان هذا بالفعل ماحدث في بداية ظهور السفر، فتلقفه الشراح ليسقطوا على النص ماتتعرض له الكنيسة من ويلات واضطهادات على يد الامبراطورية الرومانية، واعتبر أن نيرون هو وحش سفر الرؤيا، ضد المسيح، واعتبر أن روما هي بابل الزانية العظيمة، السكرى من دم القديسين. وأما الثاني : إذا كان مفهومنا عن الكنيسة هو ذلك الذي يعتبرها كيانا روحانيا هائلا كائنا في المسيح كجسد له، خالدا كملكوت أبدي – كتوجهنا في هذه الدراسة – فالأمر جد مختلف؛ فلابد أن نظرتنا لتركيبة السفر ستكون مختلفة، ولابد أن نظرتنا إلى الأحداث والشخوص ستكون أيضا مختلفة، أيضا ستتغير نظرتنا إلى أنفسنا، ككنيسة، تتغير من كوننا ملاك الحقيقة المطلقة ( بحسب تعبير فيلسوفنا العظيم د/ مراد وهبة ) إلى كوننا أعضاء في جسد المسيح، وقد تحررنا من نرجسيتنا وتمركزنا حول ذواتنا، إلى أفق هو شخص الكلمة المتجسد، الذي يستطيع - كما أتى بنا مستحضرا إيانا إلى ذاته- أن يأتي بآخرين – أيضا إلى ذاته – دون علم أو توقع منا.
بالتأكيد أن كلمة الله في الكتاب كله تنطلق من منطلقات بشرية وتاريخية، أحداث وشخوص وواقع زمكاني، ولكن شتان الفرق بين المنطلق والأفق. ماينبغي أن يشغلنا في شرح وتفسير النص هو الأفق اللانهائي الذي نسعى -  بحركة أذهاننا – نحوه، وبالتأكيد لن ندركه في هذا العالم، ولا حتى في الدهر الآتي، ولكن إن توقفنا عن الحركة وتشبثت أذهاننا بمواقع أقدامنا فقدنا روح النص وسقطنا في عبادتنا لأنفسنا. بالتأكيد قد انطلق يوحنا من أزمة الكنيسة مع نيرون، وخاطب في رسائله إلى السبع كنائس، خاطب كنائسا موجودة بالفعل هي كنائس آسيا. قد تنطبق بعض الأحداث - في مسار السفر، ظاهريا – على هذه الحقبة ولكن أفق السفر وموضوعه يتخطى زمكانية الكنيسة هنا ويتخطى وجودنا نحن ككنيسة في العالم.
  2- إشكالية الشكل
من حيث الشكل، هذا النمط من الكتابة الأدبية التي تحمل زخما من الصور والمشاهد المتلاحقة، ينبغي أن لا يأسر عيون أذهانننا في الزمن؛ بمعنى أن نتخيل أن خطا زمنيا " time line  " يجمع مثل هذه المشاهد؛ فالوحي الإلهي عندما يخاطب البشر فإنه يتكثف بطريقة يبدو فيها أحداثا وشخوصا، أي زمكانا ( من الزمان والمكان معا )، خصوصا إذا كانت الحقائق التي نتحدث عنها تحتاج إلى مستويات عليا من الروحانية للاقتراب منها، أي حقائق الدهر الآتي التي تتجاوز محدودية عقولنا وزمكانيتها. كل مشهد من مشاهد الأبوكاليبسس هو تناول -  من زاوية معينة – للحقيقة أو لجزء من الحقيقة. وعندما يذكر الراوي – الذي هو الرائي في نفس الوقت – عندما يذكر كلمة " ثم " أو " حدث كذا ثم كذا " فينبغي علينا أن لا نقع في فخ التصور الزمني فنتخيل حدوث مشهد معين كتال لمشهد آخر، في الزمن، وببساطة نحن، في السفر ، نستعرض أحداثا قال عنها السفر، نفسه  : " قد تم ". على أنه إذا لم يكن هناك خط زمني يجمع مشاهد الأبوكاليبسس فهذا لا يعني أن لا يوجد مايجمعها، بالمطلق، وهذا هو جديد هذه الدراسة التي اكتشفت وجود نموذج "  pattern " يجمع لآلئ المشاهد المتلاحقة في خيط مسبحة واحد، وقد أسميناه " نموذج سباعية الباقات "، حيث كل باقة من الباقات السبع هي ثلاثية " الختم والبوق والجام "، تلك الثلاثية التي تجتمع عناصرها حول كشف محدد بخصوص الكنيسة وروافدها، في وحدة موضوعية لا يشذ عنها أي عنصر من عناصر الثلاثية، هذا بالرغم من ورود السباعيات الثلاث ( الختوم والأبواق والجامات ) - في السفر- بطريقة عمودية، متوالية، كل سباعية تتلو الأخرى، وليست في هذا النسيج المتضافر للسباعيات الثلاث بعد وضعهم في حالة التوازي، الأمر الموجود في النموذج.
 3 – إشكالية المضمون
من حيث المضمون، سفر الرؤيا ليس - بأي حال من الأحوال- سفرا نبويا بمعنى أنه كاشف لمستقبل الكنيسة أو لمستقبل العالم، ولكنه سفر نبوي بمعنى أنه كاشف لحقيقة وجود الكنيسة، كيفا وكما، ذلك الحدث الذي انطلق لحظة تجسد الرب ليكتمل بنهاية الكون، في زمن آني متصل يعبر عنه إنجيل يوحنا بتعبير " تأتي ساعة وهي الآن ". هذا هو زمن سفر الرؤيا ، زمن "يوم الرب" الذي  ولج إليه يوحنا في الروح. في هذا الزمن المسيحي يبدو الأبوكاليبسس رحلة استكشافية للذات والآخر، بآن واحد؛ فمفاجأة سفر الرؤيا هي أن الكنيسة ليست نسيجا متجانسا واحدا – من حيث روافده - بمعنى أن الكنيسة ليست هي " نحن فقط " الذين قبلنا دعوة الإنجيل التي وصلتنا على يد الرسل المكرمين، ولكن قد سبقنا إلى الانضمام إلى الكنيسة جسد المسيح، رافد الراقدين، أولئك الذين ماتوا قبل تجسد الرب، على رجاء مجيئه. وبالإضافة إلى رافدينا: الراقدين والكرازة، يتكشف لنا رافد ثالث، أطلقت عليه" رافد الامم " أو " كنيسة الأمم " تيمنا بالمصطلح التاريخي الذي كان عند اليهود وكان يعني عندهم رفض، وتكفير ( إذا جاز التعبير ) الآخر المغاير ، الأغيار، بل ويعتبروهم من الكلاب. هذا هو كشف سفر الرؤيا المدهش للذات والآخر؛ أي نحن أصحاب رافد الكرازة، والآخر الذي نحسبه على كل ماهو ضد المسيح، ولكنه الكنيسة المتغربة التي يفتقدها الرب على نحو غائب عن عقولنا، مجهول بالنسبة لنا، وحتى بالنسبة إلى نفسه. 
 4- إشكالية البنية الرمزية
من حيث البنية، فبنية السفر هي بنية رمزية، والرمز في السفر على صنفين، الأول هو الصورة أو المشهد، والصورة مستمدة من الطبيعة – بظواهرها وكائناتها – حتى لو تم إعادة صياغتها وتشكيلها. وقد تكون الصورة مستمدة من حدث تاريخي، حقيقي، ورد في العهد القديم، كحدث سقوط بابل الذي أصبح في السفر رمزا لخلفية مقدم رافد الأمم، المسبي في ماهو محسوب على ضد المسيح. والصنف الثاني هو دلالات الأرقام واستخدامها الكتابي، لاسيما في سفر الرؤيا – الذي بلغ فيه هذا الاستخدام ذروة لايوجد مايتجاوزها في الكتاب  المقدس كله – وللكاتب دراسة بعنوان " لغة الأرقام في الكتاب المقدس "وهي موجودة على الشبكة العنكبوتية ويمكن الرجوع إليها. وباختصار شديد، إذا استعرضنا بعض الدلالات لبعض الأرقام، فإننا نستطيع أن نقول: "الواحد" هو حد الإيجابية، هو الحد الأدنى لوجود ما. "الاثنان " هو النسخ والمحو والنقض والإلغاء لوجود ما . "الثلاثة" هو الشهادة الإيجابية لوجود ما. " الأربعة "هو الإحاطة والاستيعاب لوجود ما." الخمسة " هو الفئة من وجود ما. " الستة " هو الإقصاء والتجاهل لوجود ما. " السبعة " هو الامتلاء لوجود ما. " الثمانية" هو التالي والجديد لوجود ما. " التسعة " هو التخلي عن وجود ما. " العشرة" هو الإجمالي والكلي لوجود ما.
 ومن هنا نستطيع أن نتسلح بآلية مهمة تدعمنا في الاقتراب من السفر؛ فنستطيع أن ندرك أن التركيب السباعي للسفر - والذي أسفر عن نموذج " سباعية الباقات "- ليس عبثا، بل هو أن الباقة السابعة، باقة الباقات، هي باقة الملء والامتلاء التي تحتضن البوق السابع الذي تم فيه سر الله في الكنيسة، أي سر التجسد ليبطل الزمان بمفهومه القديم ليصير نسيجا آنيا واحدا يتحقق فيه وجود الكنيسة. وغير سباعية الباقات لدينا حالة أخرى عجيبة يرصده السفر، الروح القدس، روح الله المعطى ليملأ الكنيسة، هيكل روح الله، يدعوه السفر " سبعة أرواح الله. ونستطيع أن ندرك أن ثلاثية تركيب الكنيسة هي الشهادة لوجودها الواحد ككنيسة جامعة للكل في المسيح.ونستطيع أن ندرك سر الرقم " أربعة "، في رباعية الباقات الأربعة الأولى – الأربعة حيوانات المملوءة أعينا -  ككشف لرافد دعوة الكرازة بالإنجيل، هؤلاء الذين توفر لهم – في هذا العالم –  بخلاف الراقدين والأمم - الاستيعاب والإحاطة، والوعي بذاتهم ككنيسة. ونستطيع أن ندرك سر الرقم "خمسة "، في الباقة الخامسة التي تكشف عن رافد الراقدين على أنه " الفئة " الوحيدة، من منظور رافد الكرازة – في هذا العالم – التي لها نصيب معه ككنيسة، عل خلفية إقصاء رافد الأمم. ونستطيع أن ندرك سر الرقم " ستة"، في الباقة السادسة التي تكشف رافد الأمم، رافد الإقصاء والتجاهل والتجهيل من قبل رافد الكرازة في هذا العالم. ونستطيع أن ندرك أيضا سر الرقم " اثني عشر "، رقم الكنيسة؛ فهو " ثلاثة" مضروبا في "أربعة "، أي أن الكنيسة هي ما يستوعب ( أربعة ) كل الروافد الثلاثة ليجمعها ككيان واحد في المسيح. وإن شئت أن تعتمد تحليلا آخرا ( اثنان مضروبا في ستة ) فقد حصلت على نفس النتيجة ولكن من الناحية السلبية، أي بطلان ( اثنان ) الإقصاء والتجاهل ( ستة ) لأي أحد، أي الكيان الذي يجمع الكل في المسيح بدون إقصاء لأحد. ونستطيع أن ندرك مفهوم الكنيسة، أورشليم المدينة العظيمة النازلة من السماء ذات الاثني عشرية المطلقة. ونستطيع أن ندرك أن الرقم " ألف " هو الأبدية والخلود؛ فهو " الكل"( عشرة ) مضروبا في الكل ( عشرة ) مضروبا في الكل ( عشرة )؛ أي كل ماللطول مضروبا في كل ماللعرض مضروبا في كل ماللارتفاع. أي الوجود اللانهائي،  الأبدية. هذه بعض الأمثلة ولكن خلاصة الخلاصة في هذا السياق هي أنه بدون عصا موسى ، التي هي لغة الأرقام ، لايمكننا  بأي حال من الأحوال أن نعبر اليم العظيم المعروف بسفر الرؤيا.   
5- إشكالية الغموض 
أما عن هذا الغموض العجيب الذي يتسم به سفر الرؤيا- ويبدو مقصودا  ومستهدفا - فلابد أن نجد له مايبرره؛ فإدراك مبرر هذا الغموض هو الطريق الذهبي إلى فك طلاسم السفر. علينا أن نسأل : ماهذا الكم – وماهذه الكثافة- من المشاهد والصور المتلاحقة المتوازية، والتي تبدو أنها تريد أن تؤكد – في إصرار – على شيء ما، دون أن تصرح بهذا بطريقة مباشرة؟ هذا هو التناقض الأول، وهو تناقض من حيث الشكل، وأما من حيث المضمون فهذا هو التناقض الثاني، فكيف يتفق  غموض السفر مع  كون أن مضمونه  هو "  الأبوكاليبس، apocalypse "، أي الكشف ورفع الغطاء وإزالة الغموض؟ أي كشف هذا الذي يتخذ من الغموض آلية له؟  أما إذا كنا متفقين على أن مايكشفه السفر هو حقيقة الكنيسة، حقيقة تكريس وجودها في المسيح، ذلك الوجود الذي يتجاوز رافد دعوة الإنجيل إلى رافد ثاني هو رافد الراقدين، وثالث هو رافد الأمم. أي إذا اتفقنا على أن مايكشفه الأبوكاليبس هو كنيسة دعوة الإنجيل المتجاوزة لذاتها إلى كل ملء المسيح، إي انتمائها إلى وجود يتجاوز وجودها في هذا العالم. إذا اتفقنا على هذا نكون قد وقعنا في محظور التناقض الثالث؛ فكيف يحمل الرسل كرازة الإنجيل إلى العالم وهم يؤكدون على أنه إن قبل أحد دعوتهم وآمن بالإنجيل واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن، بينما هم يؤكدون أيضا – في نفس الوقت – أن من لم يؤمنوا بدعوتهم لأنها لم تصلهم فهؤلاء أيضا يوجد بينهم من له نصيب في المسيح! هذه لغة متناقضة ولا تستقيم بأي حال، بل وتحمل في ذاتها آلية إفسادها وتحطيمها ككرازة. وليس غريبا أن الرسول بولس، رسول الأمم ( الأمم بالمعنى التاريخي للكلمة ) هو الذي واجه هذه الإشكالية، ليضعنا في هذا المأذق، وهذا التناقض، فيكتب :" لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ.  لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ».  فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ».  لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟»  إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ. لكِنَّنِي أَقُولُ: أَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! «إِلَى جَمِيعِ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُمْ، وَإِلَى أَقَاصِي الْمَسْكُونَةِ أَقْوَالُهُمْ».  لكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلًا مُوسَى يَقُولُ: «أَنَا أُغِيرُكُمْ بِمَا لَيْسَ أُمَّةً. بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ». ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي»( رو10: 12- 20 ). والرسول في هذا النص يأخذنا من تاريخية مفهوم الأمم كآخر بالنسبة لليهود، إلى رافد الأمم كآخر بالنسبة لمن دعوا مسيحيين ( رافد الكرازة ). ولكي تتجلى روعة النص، بالأكثر، علينا أن نلتزم بالترجمة الصحيحة للفعل " epikaleomai "، الذي ترجم في النص إلى مايفيد الدعوة إلى شيء ما، أما الصحيح فهو مايفيد اطلاق لقب معين على أحد ما، فيكون: " كل من يدعى ( بضم الياء وتسكين الدال ) باسم الرب يخلص "، و" كيف يدعون ( بضم الياء وتسكين الدال ) بمن لم يؤمنوا به ". إذن هناك مجال أوسع من مجال من دعوا باسم المسيح ، أي المسيحيين، أصحاب رافد الكرازة، هناك مجال من دعوا باسم الرب، أي الربانيين، ذلك المجال الذي يشمل آخرين لم يدعوا مسيحيين، في تجاوز لمسار دعوة الكرازة الرسولية، ولكن في النهاية " للرب الأرض وملؤها"( مز24: 1 ).
إذن لابد أن تبدو لغة الخطاب الكرازي لغة احتكارية ( إذا جاز التعبير )، ولابد أن يبدو الرسل على أنهم الحاملون " الحصريون " للمسيح إلى العالم، وأما أي طريق آخر فهو طريق الهلاك. ولكن تبقى إشكالية وهي كون أن كلمة الله الموحى بها قد حملت كل مايستطيع البشر إدراكه عن الحقيقة، الكاملة، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى نص يلقي بصيصا خافتا من الضوء - يمكن التقاطه من البعض – على الحقيقة، وفي نفس الوقت تمر مسيرة الكرازة في العالم بسلام، لتأتي برافدها الذي يؤمن أن المسيح له وحده، في هذا العالم، على أن تؤجل استنارته بالحقيقة الكاملة للكنيسة في حياة الدهر الآتي. من أجل هذا، كان سفر الرؤيا، ومن أجل هذا كان غموض سفر الرؤيا.   
6- إشكالية لغز المرآة
 عندما يقرر الرسول بولس حقيقة مستوى قدراتنا المعرفية في هذا العالم، فيكتب: "إِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ"( 1كو13: 12 )، فإننا حقا إزاء إشكالية عجيبة، بل قل إزاء صدمة لنا، عن أنفسنا، فما معنى أن شخصا ينظر في المرآة فلا يجد إلا لغزا، بينما كان من المفترض أن يرى أقرب صورة إلى نفسه، صورة وجهه؟ إننا إزاء ضعف مزري في قدرتنا على معرفة ذواتنا وبالتالي على معرفة الآخر. وهنا يحدث التأثير السلبي من قبل " الذات " أي " نحن " على " الموضوع " أي سفر الرؤيا؛ فالأخير –  بطبيعة مضمونه – هو كاشف لنا ككنيسة، كاشف للذات وللآخر؛ فإذا كنا بطبيعتنا غير قادرين على اكتشاف ذواتنا وبالتالي على اكتشاف الآخر، فكيف نستطيع أن نسبر أعماق سفر الرؤيا؟ وإذا كنا ننظر في المرآة فلا نرى إلا لغزا بدلا من أن نرى وجهنا فما بالنا إذا نظرنا إلى منظومة هائلة من الألغاز، أي الأبوكاليبس ؟ معرفة الذات، وبالتالي معرفة الآخر- التي هي الطبيعة العلاقاتية داخل جسد الكنيسة في المسيح ، أي المعرفة المتبادلة " سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ "- هي الوجه الآخر لمجد العضوية في المسيح، وهي بالنسبة لنا – نحن رافد دعوة الكرازة – حالة متنامية إلى أن تكتمل في الرب، وبالتأكيد هناك مايمنعنا من رؤية مجد المسيح وهو في ذاته نفس المانع الذي يعوق رؤيتنا لأنفسنا ورؤيتنا للآخر، ولكن حينئذ نكون قد أصبحنا – نحن والآخر – مسيحا واحدا، وفي رؤيتنا لمجد المسيح نرى أنفسنا ونرى الآخرين ككنيسة واحدة. وبقدر مايزول الحاجز أو " البرقع " عن وجوهنا نتغير من مجد إلى مجد، هذا ماكتبه الرسول بولس حينما قارن حالنا بحال القدماء :" وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعًا عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ.  بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ. لكِنْ حَتَّى الْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ.  وَلكِنْ عِنْدَمَا يَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ الْبُرْقُعُ.  وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.  وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ"( 2كو 3: 13- 18 ). وعبارة " نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ " ترجمة سيئة للنص اليوناني وأما الصحيح فهو ترجمتها إلى " عاكسين ( reflecting  ) مجد الرب بوجه مكشوف "، على خلاف مافعل موسى قديما حينما وضع برقعا ليحجب انعكاس مجد الرب – المؤقت الزائل – على وجهه. ونستطيع هنا أن ندرك لماذا إذا نظرنا في المرآة لا نرى إلا لغزا، بدلا من وجهنا. نحن هكذا - بهذا التردي المعرفي- لأنه في حقيقة الأمر - لا وجه حقيقي لنا في هذا العالم؛ فوجهنا الحقيقي هو وجه المسيح، الكنيسة الكاملة: ذاتا وآخرا. هذه هي أعظم إشكاليات التعامل مع سفر الرؤيا، أن نتتبع مضمونا هو ذاته جوهر وجودنا الجديد في المسيح، وبحسب يعقوب الرسول – في رسالته – فإن غياب الشركة في اللوغوس ( الكلمة ) يعني تلقائيا فقدان إدراك صورتنا في المرآة، وهذا هو النص الثاني، والأخير – بعد نص كورنثوس الأولى، في العهد الجديد -  الذي تذكر فيه كلمة " المرآة "، فيكتب: " وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلًا، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلًا نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ"( يع1: 22- 24 ). سفر الرؤيا، الأبوكاليبس - على عكس ظاهره الملغز – هو مرآة الكنيسة، ننظر فيه فنرى وجهنا الحقيقي، المسيح، ليس كمرآة وجودنا الزائفة- هنا، على الأرض - التي ننظر فيها فلا نرى إلا لغزا - على عكس توقعاتنا منها - ففي وجه المسيح نرى ذواتنا كرافد واع من روافد الكنيسة، وقد أدركنا أن هناك، أيضا، من سبقنا إلى معية الرب، أي القدماء الراقدين، وهناك أيضا من لا نعرفه في هذا العالم ولكن بالنظر إلى وجهنا الأبدي، المسيح، فإذذاك لسان حال رافدنا هو:" سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ ".
 7- إشكالية الرسالة
الرسالة التي يحملها السفر إلى المدعوين مسيحيين – الذين تدعوهم هذه الدراسة " رافد دعوة الكرازة "- تبدو كما لو كانت ركضا في الطريق المعاكس، ولكن واقع الحال هي تمثل النقطة الحاكمة في تبيان صدق هؤلاء ككنيسة؛ أقصد مسألة تجاوز الذات نحو الآخر المغاير، وتتبع المسيح في وجوه كل البشر، بصرف النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم الثقافية المختلفة. أنت كارز بالإنجيل وبالمسيح ولكنك لست المحتكر للمسيح؛ فالمسيح شخص كوني يكمل ذاته، بذاته، آتيا بكنيسته المشتتة في الزمان والمكان. كرازتك وعملك وجهادك لاقيمة له إلا في إطار الاستخدام النعموي لها في ذات مسار مجيء الرب في كنيسته وإلا مااستطاع الرسول بولس أن يقولها صريحة :" لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ"( 1كو1:  21 ). وتعبير " جهالة الكرازة "، يعني - في الأصل اليوناني – هنا – الحيادية وعدم الفاعلية، وليس عدم المعرفة التي توحي بها الترجمة العربية. الجهالة هي المعنى المقابل للقوة والفعل، كما يتضح في عبارة قريبة جدا في نفس السياق عند الرسول بولس:"  فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"(1كو1:  18 )، أي أن الصليب عند الهالكين لافعل ولا قوة له – كشركة في موت المسيح المحيي – أما بالنسبة لنا فهو قوة الله المحيية على عكس هؤلاء.الفعل، نفسه، الذي منه كلمة" الجهالة "- في هذا السياق- قد استخدم إنجيليا في التعبير عن عن فساد الشيء وبطلان مفعوله وتأثيره، كما يحدث للملح في هذه العبارة:" أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ"( مت5: 13 ). إذن لاعلاقة مباشرة لكلمة " الجهالة " بالمعرفة والحكمة، كما توحي الترجمة، إلا إذا فهمت كغياب للحكمة والمنطق في وجود شيء ما وبالتالي فقدان الجدوى من وجوده. الشاهد أن الكرازة في حد ذاتها ليست القوة الأساسية الفاعلة في تحقق وجود الكنيسة ولكن شخص المسيح ذاته هو الذي يجتلب كنيسته إلى ذاته، وعليه فإذا كان مسار الكرازة هو المسار الذي أتى برافد الكنيسة الذي يتمتع بقدر من الوعي بذاته ككنيسة وبقدر من الوعي بصورة المسيح كرأس للكنيسة، هنا في هذا العالم، فهل يعني هذا أن أي مسار آخر نحو المسيح  - خارج مسار الكرازة - هو مسار مسدود ومحكوم بالفشل؟ أليس المسيح هو الفاعل؟ أليس المسيح شخصا يتكمل الآن في العالم بفضل قدرته الشخصية كشخص الكلمة المتجسد، وليس مجرد صورة الشخص التي يرسمها خطاب الكرازة بالإنجيل؟ من هو الفاعل الشخص أم صورة الشخص؟ أليس المسيح حال في الكل ويستطيع – بتدبير أو بتدابير أخرى، لا حصر لها – أن يأتي بآخرين إلى ذاته؟ الا يوبخكم قول المعمدان :"   إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ"( مت3: 9 ). هل تلامس وعيكم بذاتكم ككنيسة – ووعيكم بالمسيح- مع سقف الحقيقة، أم أنكم مازلتم تعرفون بعض المعرفة، كما يقرر الرسول بولس:" فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ"( 1كو13: 12 ). إذن لماذا الكبرياء وتخيل أن ماتعرفونه – وهو القدر الذي لا يعرفه غيركم- يكفي ليجعلكم ، وحدكم، مركزا للاحتفالية، ويكفي لطرد غيركم منها؟ لو أنني تلبست ماقد فهمته من السفر لقلت موجها حديثي إلى من يهمه الأمر : أخي المسيحي المنتمي – معي – إلى رافد دعوة الكرازة الرسولية، سوف تدرك يوما، أي في يوم الرب، أن إخوة لك في المسيح كانوا بالنسبة لك – في هذا العالم – مدانين ومحكوم عليهم بالهلاك من قبلك بسبب أنهم يخالفونك العقيدة أو الدين أو الطائفة، أو حتى مبدأ الإيمان بالله، نفسه، وسوف تفاجأ أنهم معك في المسيح، في الكنيسة؛ فللرب آنيته المهيأة للمجد بصرف النظر عن ماتراه أنت – في هذا العالم – عن محتوى هذه الآنية. هذا هو الرافد الثالث - مع رافدينا الراقدين والكرازة – الذي يصب ليملأ الكنيسة الواحدة، جسد المسيح. هذا هو مفتاح شرح سفر الرؤيا.