- الكرازة للأرواح التي في السجن
( نص وتعليق )
النص
" فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ، إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ.
الَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ الآنَ، أَيِ الْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ الْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ اللهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى السَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ" ( 1بط3: 18- 22 ).
التعليق
يتفرد الرسول بطرس - في رسالته الأولى- من بين كل كتبة الوحي الكتابي – ومن بين كل الكارزين بالإنجيل في هذا العالم – بكونه الوحيد الذي تجاوز منطق الكرازة الرسولية - و هو أحد أعظم رجالاتها- بأن كشف السر العجيب الذي لوجود نوع آخر من الكرازة بالمسيح في عالم آخر غير عالمنا وهو عالم الأموات، أقصد كرازة الرب عن نفسه، بنفسه للذين في سجن الجحيم. والنص يدخلنا في منعطف غاية في الصعوبة والالتباس بالرغم من بساطة انطباعاتنا عن ظاهره المباشر. ولكي نصل إلى الشرح السليم - الذي يفضي بنا إلى الاستنارة بواسطة هذا السر المدهش الذي كشفه الرسول - لابد لنا من التصدي للإجابة على سؤالين مرتبطين ببعضهما، السؤال الأول: لماذا يتم اختزال ماهية " الأرواح التي في السجن " - التي كرز لها الرب - في هؤلاء العصاة القدماء الذين لم يستجيبوا لدعوة نوح فهلكوا بالطوفان بعد أن رفضوا أن ينضموا لفلك النجاة ؟ ألا يوجد عصاة آخرون - ينتمون إلى أزمنة كثيرة أخرى غير زمان نوح - في سجن الجحيم، ويحتاجون لكرازة الرب لهم ؟ لماذا ذهب الرب فكرز لهؤلاء تحديدا دونا عن غيرهم ؟ أما السؤال الثاني فهو: ما هي الجدوى من استدعاء المعمودية، في سياق الحديث عن كرازة المسيح لهؤلاء العصاة الهالكين بالطوفان والقابعين في سجن الجحيم، خصوصا أنه إذا كان الفلك رمزا ومثالا ( typos ) للمعمودية فبالضرورة وبالتبعية يصبح العصاة الهالكون الرافضون لدعوة نوح، رمزا لاحتقار المعمودية، فهل يستقيم أمر كرازة المسيح في الجحيم، بنفسه، فقط لمن قد احتقروا معموديته ؟ تعقيد غير مبرر أثمرته اختزالية ساذجة وراء السؤال الأول، وسر مخفي وراء السؤال الثاني.
حل الأحجية يبزغ ضوءه من إدراكنا أن نموذج الفلك هو الذي يتم استدعاؤه في سياق حديث الكرازة في الجحيم – كأحد نوعين للكرازة يرصدهما الرسول بطرس – وليس أن المعمودية هي التي يتم استدعاؤها. فكل ماندركه نحن عن الكرازة لايخرج عن كونها الكرازة الرسولية بالإنجيل في هذا العالم، في هذه الأرض، ولكن مفاجأة الرسول بطرس التي يفجرها في رسالته الأولى - وباستدعائه لنموذج ومثال ( typos) الفلك – أن الكرازة الرسولية التي نحن المسيحيون أبناؤها ، في النهاية يخلص بها قليلون ، بحسب نموذج الفلك، أي المعمودية. وإذا كانت المعمودية هي الصبغة، أي الاصطباغ بالمسيح، أو لبس المسيح، " لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" ( غل3: 27 ) - وقد توهمنا نحن المسيحيون أننا وحدنا نحتكر المسيح، ولاينتمي آخرون - عضويا - للمسيح غيرنا، وبالتالي لايخلص – بالمسيح – غيرنا نحن الذين آمنا واعتمدنا له تطبيقا لجوهر إرساليته للرسل حينما قال لهم: " «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا.
مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" ( مر16: 15و 16 ). فالآن، وهنا ، يصدمنا الرسول بطرس بأننا قليلون ولانعادل سوى ثمانية أنفس في نموذج الفلك، حتى لو بلغ تعداد المسيحيين - الذين خلصوا بكرازة الرسل ، على مر العصور- المليارات . وبالرغم من هذا اعتبرنا أنفسنا أننا الفرقة الوحيدة الناجية التي بفضل انضمامها واحتكارها لفلك المسيح وباصطباغها بمعموديته قد نجت من هلاك طوفان هذا العالم الفاسد دونا عن الجميع الذين في الخارج والذين قد هلكوا ولم يكن غير الجحيم مستقرا لهم. أما الواقع الصادم لمشاعرنا نحن المسيحيين هو أنه بالرغم من أننا نحن أبناء دعوة الكرازة الرسولية على الأرض، كلنا مجتمعين، لانمثل إلا قليلا في جسد المسيح - وقد نجونا بفضل فلك معموديته – فإن الكثرة الكثيرة من رصيد امتلاء المسيح بالأعضاء - أي تكميل الكنيسة - إنما يفتقدها الرب كارزا لها في سجن الجحيم. وإذا كنا قد نجونا، بانضمامنا إلى فلك المسيح، وقد أطلق اسمه الحسن علينا - وقد تخيلنا أنه لايوجد في المسيح غيرنا - فإن الكشف الذي يقدمه الرسول بطرس هو أنه في فلك المسيح منازل كثيرة مهيأة لأن تستقبل أمما وقبائلا - غيرنا – تفوقنا من حيث العدد كثيرا جدا، وإن كانت معموديتنا - التي هي جوهر الكرازة الرسولية بالإنجيل - هي وسيلة اصططباغنا بالمسيح وبالتالي نجاتنا بفلكه فإن لللآخرين القابعين في سجن الجحيم والذين لم يدركهم الرب بتجسده أو لم تدركهم الكرازة الرسولية بالإنجيل فإن لهم وسيلة وتدبير آخر عجيب وغريب علينا ويفوق إدراكنا ويتجاوز منطق الكرازة الرسولية بالإنجيل، ذلك التدبير الذي افتقدهم فيه الرب بنفسه وليس بواسطة أي رسل، فضمهم لنفسه كأعضاء فاصطبغوا به لابسين إياه معتمدين له بتدبير للمعمودية خاص بهم، ولايمكن لنا أن ندركه، إذ قد تعلمنا المعمودية بطريقة تناسب تدبير الكرازة الرسولية الذي يخصنا، الأمر الذي يختلف كل الاختلاف عن التدبير الخاص بهؤلاء، وإن كانت نهاية الأمر ومستقره هي اصطباغ الجميع بالمسيح ككنيسة واحدة تثمرها كرازتان: كرازة الرسل في هذا العالم الحاضر، وكرازة المسيح للأرواح التي في سجن الجحيم .
نموذج فلك نوح هو نموذج الفرقة الوحيدة الناجية من الهلاك- بفضل استجابتها لدعوة الخلاص، واصطباغها بالمسيح الذي ليس بغير فلكه النجاة والخلاص - التي نحن إياها، في مقابل الذين لم يقبلوا دعوة الكرازة بالإنجيل، سواء أولئك الذين لم تصلهم دعوة الكرازة الإنجيلية في زماننا الحاضر- حتى إلى انتهاء الزمان- قبل أن يقضوا، أو أولئك الذين قضوا قبل تجسد الرب، امتدادا في التاريخ حتى إلى آدم الأول.كل البشر في كل تاريخ البشر ، فيما عدا أبناء وأصحاب دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل، ينطبق عيهم تصنيف " الأرواح التي في السجن " ، هؤلاء الذين لم يفتقروا إلى إله عادل منصف قادر أن يدبر لهم أمر افتقادهم بأن يكرز لهم بنفسه مقتحما غياهب سجن جحيمهم صانعا خلاصا عظيما لهم مثلما صنع - بتدبير آخر - مع الذين صارت إليهم دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل.
كلمة " الأرواح "، في تعبير " الأرواح التي في السجن " - مستهدف كرازة المسيح - تنسجم مع طبيعة الكارز، " المحيي في الروح "، وكلمة " الروح " - بمفردها- في هذا السياق لها مضمون إيجابي، يشير إلى الطبيعة الإنسانية الجديدة المعطاة لأعضاء الكنيسة، في المسيح، أي الوجود الروحاني عديم الفساد المعطى عوضا عن الحيواني الفاسد، " لكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلًا بَلِ الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذلِكَ الرُّوحَانِيُّ "( 1كو15: 46 ). أما وجود كلمة " السجن " فقد صنع قيدا وشرطا على المضمون الإيجابي لكلمة " الأراوح " كان من نتيجته أن أصبح المضمون المقصود بالأرواح التي في السجن هو أولئك الأموات من البشر الذين لم تدركهم بشارة الإنجيل في حياتهم ولم يصطبغوا به ولكنهم - في عيني الرب - آنية مهيأة للمجد ، حينما يلتقيهم الرب كارزا ومحررا إياهم من قيود سجن الجحيم. والمسيح قد صنع هذا التدبير " لِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، "( رو9: 23 ).
أما سؤال " الماهية " فلا غنى عنه، والكرازة كما نعرفها - أقصد الكرازة الرسولية - هي فعل توصيل بشارة الإنجيل إلى البشر الأحياء على الأرض بواسطة الرسل، والذين يقبلون الدعوة يعتمدون ويصطبغون بالمسيح في هذا الدهر ويصيرون كنيسة حية إلى الأبد في حياة الدهر الآتي. أما الكرازة للأرواح التي في السجن، أو الكرازة في الجحيم، فهي وصول المسيح نفسه إلى وعي كل واحد من أولئك المختارين المهيأين بطبيعتهم، أولئك الذين ماتوا دون أن تصل إليهم دعوة الكرازة الرسولية ، ويحدث هذا بتدبير يفوق عقولنا، فتنفتح أعينهم في المسيح ،ككنيسة حية أبدية.
ولمحاولة أعمق فهما نقول بأن لحظة تجسد الرب - إذا رصدناها بنظرة بانورامية شاملة - تبدو مفصلا في تاريخ البشر، وإذا كان الرب القائم المنتصر قد أرسل تلاميذه ورسله - بعد تلبسوا قوة من الأعالي في يوم العنصرة - إلى العالم كله ليكرزوا بالإنجيل ويعمدوا باسم الآب والابن والروح القدس، فإن الثمر العظيم للكرازة - مهما تعاظم – فإنه قليل جدا مقارنة بحصيد حنطة البشر الذي اجتناه الرب ضاما إياه إلى مخزنه - الذي هو ذاته - بكرازة ذاته - حينما انطلق الفعل الكرازي من رأس الوجود الإنساني الجديد " يسوع " ليخترق الزمان والمكان ، كل الزمان وكل المكان، ليأتي بكل ساكني الجحيم من البشر المهيأين لذلك، أولئك " الذين لو كان الرب قد ظهر متجسدا في زمان حياتهم لكانوا قد آمنوا به "( بحسب تعبير القديس كيرلس السكندري ) . هكذا كما يضم الرب إلى جسده ثمر الكرازة الرسولية ككنيسة فإنه يضم ثمرا أوفر وأكثر بكثير - قد اجتلبه من شتات الزمان والمكان، من أعماق سجن الجحيم - إلى ذاته لتكتمل به الكنيسة جسد المسيح. وهاهو الرب نفسه يقرر – في مناسبة إرساله للسبعين رسولا كإرسالية ثانية بعد الإثني عشر تلميذا - أن "الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ "( لو10: 2 ). هكذا يكشف الرب أن فعلة الكرازة، القليلين، يتصدون لحصاد الكرازة الرسولية " القليل " - المعادل للثمانية أنفس الناجين في نموذج فلك نوح - في مقابل الحصاد الكثير المتبقي ، الذي بلا فعلة لأن الرب نفسه هو الفاعل، هو الحاصد وهو المخزن ، هو الكارز الذي اقتحم سجن حصيد الأرواح محررا جميع المستعدين - بطبيعتهم لقبوله – ومجتلبا إياهم إلى مخزن ذاته.
وبحسب الرسول بولس فإن " الأرواح التي في السجن " هي " الراقدون "، وهي " الأموات في المسيح"، وقد ورد التعبيران في الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، والمفاجأة التي يفجرها الرسول بولس هي أن هؤلاء الذين لم تصلهم كرازة الرسل، قد سبقوا أبناء دعوة كرازة الرسل إلى التموقع في المسيح ككنيسة، وهذا منطقي فهؤلاء هم حصاد كرازة الرب نفسه بنفسه لهم في سجن الجحيم، عندما نزل إلى عالمنا المنحدر إلى الجحيم بطبيعته، وعندما أتم التدبير واستعلن نصرته بالقيامة فقد استعلن أيضا مجيء هؤلاء معه، أما نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية – فئة الأحياء المتبقية من رصيد الكنيسة جسد المسيح، في العالم – فإننا لانرقد مثلما رقدوا بل ننضم إليهم ونلحق بهم، هكذا يكتب الرسول:" أَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ" (1تس4: 14- 17). وفي موضع آخر يكتب كاشفا السر: " لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ"( 1كو15: 51و52 ). و"البوق الأخير" في كورنثوس الأولى، هو "بوق الله " في تسالونيكي الأولى، هو البوق السابع في رؤيا يوحنا، هو لحظة التجسد التي أصبحت زمنا آنيا ممتدا من لحظة ظهور يسوع ، رأس الكنيسة، إلى كل الأعضاء في كل زمان وكل مكان لذلك " لا يَكُونَ زَمَانٌ بَعْدُ! بَلْ فِي أَيَّامِ صَوْتِ الْمَلاَكِ السَّابعِ مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوِّقَ، يَتِمُّ أَيْضًا سِرُّ اللهِ، كَمَا بَشَّرَ عَبِيدَهُ الأَنْبِيَاءَ"( رؤ10: 6و7 ) .
إذا كان كل البشر المعينين للحياة - في تدبير المسيح، المخفى عن مداركنا- الذين ماتوا دون أن تصلهم دعوة كرازة الإنجيل بواسطة الرسل- سواء قبل التجسد أو بعده – ينطبق عليهم توصيف وتصنيف" الأرواح التي في السجن "، فهم جميعا ليسوا نسيجا واحدا منسجما من حيث المنبع الثقافي لكل منهم، فمن بين أولئك الأقوام، لدينا نحن – أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - بعض الوعي بوجود فئة معينة نتتبع أخبار رموزها في العهد القديم ، فئة شعب الله القديم، فئة رجالات الله منذ آدم وحتى تجسد الرب، هذه الفئة التي أدركت ظل حقيقة المسيح وانتظرته وارتجت ظهوره، وماتت على رجاء أن يكون لها نصيب في قيامته، التي هي القيامة الأولى - حينما يدخل عالمنا متجسدا صائرا أول إنسان ينتصر على الموت بفضل كونه الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد- و" "مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى "( رؤ20: 6 ). هذه الفئة نستطيع أن نطلق عليها :" كنيسة العهد القديم " أما الفئة الثانية التي افتقدها الرب كارزا لها في غياهب الجحيم فهي فئة أولئك المهيئين للحياة في المسيح كآنية رحمة بالرغم من كونها فئة متغربة في ثقافات وديانات وخلفيات كثيرة لاعلاقة مباشرة لها بالمسيح، هم يجهلون وضعهم كمشروع للرب وككنيسة له في حياة الدهر الآتي وليس في هذا العالم. أيضا هم مجهولون ومقصيون، بل ومدانون ، من قبل أصحاب دعوة الكرازة الرسولية لأنهم لم يكونوا من ضمن سياق تدبير دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل، وهكذا هم يبدون آخرا مرفوضا ومقصيا في الخارج، من منظور المسيحيين . هؤلاء كانوا بلا ناموس ولكنهم كانوا ناموسا لأنفسهم " "لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ،" (رو 2: 14). هذه الفئة نستطيع أن نطلق عليها :" كنيسة الأمم "، أي الكنيسة المقصية من وعي أصحاب دعوة الكرازة الرسولية، بل والمدانة من قبلهم.
خلاصة
" الكرازة للأرواح التي في السجن "، أو " الكرازة في الجحيم"، عقيدة مهمة جدا، وبالرغم من ذلك فهي - بالنسبة لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - العقيدة المنسية، أو قل المتناساة، هي العقيدة المجهولة، أو قل المجهلة. وأهمية قبولنا لهذه العقيدة هي في إنقاذنا من العنصرية والتعصب الديني الأعمى الذي يجعلنا نسلك نحو الآخر كما لو كنا الملاك الحصريين للحقيقة المطلقة ( بحسب تعبير د ./ مراد وهبة ). يحدث هذا – بشكل طبيعي جدا – بالنسبة للفكر الديني بصفة عامة، وليست ثنائية " اليهود والأمم " أكثر من مجرد مثل لتلك الحالة. أما أن يكون هذا الحال واقعا للمسيحيين أصحاب دعوة الإنجيل، فيحتكرون المسيح لأنفسهم ظنا منهم أنهم وحدهم في مجموعهم يمثلون الكنيسة الكاملة الممتلئة، جسد المسيح. ويبلغ الأمر قمة مأساته حينما تتنزل هذه الحالة المرضية إلى مستوى الطائفة والمذهب ، بل على مستوى المؤسسة الكنسية الواحدة داخل الطائفة الواحدة فأي جنون هذا! هل من المنطقي - ومن الصحيح ومن الحق - أن يحتكر المسيحيون شخص المسيح؟ أليس المسيح شخصا كونيا انطلق وجوده من ظهور رأسه في التجسد ليمتد في الزمان والمكان، يمتد في الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة آنية مستمرة ليكمل ذاته، أي الكنيسة؟ هل إذا شاء الرب أن تثمر كرازة الرسل بالإنجيل رافدا من الروافد المالئة للكنيسة ، نتجرأ ونتجاسر بدورنا فنغلق عليه أي منفذ لأن يجتلب إلى ذاته آخرين غيرنا ؟ من نحن لندعي بأن تدبير خلاصنا- المعلن في الكتب المقدسة لاسيما الأناجيل - هو التدبير الوحيد المحتمل المتاح أمام المسيح ليخلص به قوما من الهلاك ؟! هل لأن تدبير خلاصنا - بقبولنا دعوة الإنجيل - الذي جعل من رافدنا بؤرة لوعي الكنيسة بذاتها، في هذا العالم – يجعلنا نضع رافدا مثل قديسي العهد القديم في هامش الوعي، وكأنهم ليسوا هم الذين سبقونا إلى عضوية جسد المسيح، ويجعلنا نضع المليارات من البشر الذين لم تصلهم دعوة الإنجيل – سواء قبل التجسد أو بعده – في سجن الإقصاء والتجاهل بل والإدانة والحكم عليهم بالهلاك ؟ بعيدا عن الأسئلة الاستنكارية نعود فنقول: كرز المسيح في الجحيم للأرواح التي في السجن فاجتلب منهم قسما إلى ذاته، كان قد ارتجى ظهوره متجسدا وماتوا على هذا الرجاء، هؤلاء هم الرافد الكنسي الذي يمكن أن نطلق عليه كنيسة العهد القديم. واجتلب القسم الثاني أيضا إلى ذاته، ذلك القسم الذي كان سيؤمن أفراده بالرب لو كان قد ظهر في زمانهم متجسدا ( حسب كيرلس السكندري )، هؤلاء هم الرافد الكنسي الذي يمكن أن نطلق عليه كنيسة الأمم، أو كنيسة الجهالة ( إذ هم مجهولون بالنسبة لنا ومجهولون - ككنيسة - بالنسبة لأنفسهم ).