ملء الزمان
تعبير غريب وغامض للرسول بولس ، لكن لكي نلج إلى داخل أعماق المفهوم - وهو بالفعل في غاية العمق - علينا أن نقترب بتأني من كلمة " ملء Plhrwma " ، واقترابنا منها يخص الاستخدام الكتابي للكلمة ، وتحديدا العهد الجديد . وبتفحص المواضع المختلفة التي ذكرت فيها الكلمة نجد أنها تأتي بمعنى " المكمل " أي الملء الذي يكمل نقصا ما، وبوجوده يتحقق الوجود الكامل للشيء، وهنا قد فضلت الاستعانة باقتباسين يقدمان هذا المعنى بطريقة مباشرة واضحة: 1-" لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ"( مر2: 21 ). 2-" فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ، وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟"(رو11: 12 ). إذن الملء – هنا – هو الكم الذي يحقق اكتمالا ما، لشيء ما وليس يعني مفهوم الامتلاء بصفة عامة، أي هو الكم المطلوب إضافته لتحقيق وجود ما. وليس من قبيل الخروج عن هذا المعنى أن يستخدم العهد الجديد كلمة " Plhrwma " بمعنى التتميم بالنسبة للنبوات القديمة . وعليه ، فمن الناحية الأخرى فليس من صحيح المعنى أن يكون المقصود من عبارة " ملء الزمان " الإشارة إلى توقيت معين، فملء الزمان هو تلك الحقبة الزمنية المفتوحة على كل زمان الخليقة والتي يتم فيها سر الله، سر التجسد، بكل استحقاقته في البشر، الذين يتغير واقعهم من العبودية إلى التبني باشتراكهم في الابن المتجسد، فيكتب الرسول بولس : " هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا: لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ، كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ». إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ بِالْمَسِيحِ "( غل 4: 3- 7 ).
وماكان لينسب الملء إلى الزمان لولا أن الحدث المستعلن في ملء الزمان هو الملء الممتد من ذاك الذي هو بطبيعته الملء، أي الكلمة المتجسد، إلى الذين يمتلئون به وفيه، أي الكنيسة ، فيكتب البشير يوحنا: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا. .... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعًا أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" ( يو1: 14- 16 ). ويكتب الرسول بولس: فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا. وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ"( كو2: 10 ). والملء الممتد من المسيح نحو الكنيسة - والمستعلن في ملء الزمان - هو سر مشيئته المخفي وراء خلقة كل شيء ، فشخص المسيح الممتلئ بالكنيسة – المعين أفرادها قبل خلقة العالم - هو محور وجود الكون وغاية وجوده، عبر مسار الأزمنة المختلفة التي يتم تجميع الكنيسة منها، فيكتب الرسول بولس : " إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ "( اف1: 3- 11 ). ويكتب أيضا: وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" ( اف1: 22و23 ). ويكتب أيضا: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ" ( كو1: 16- 18 ).
ولكن علاقة " الملء الممتد" بين المسيح والكنيسة ليست العلاقة الوحيدة التي تستعلن في ملء الزمان فهناك علاقة داخل الشخص ( المسيح ) تدعو لمزيد من الدهشة لغرابتها، وهي علاقة " الملء المتبادل " بين المسيح والكنيسة؛ ففيما يمتلئ أفراد الكنيسة - بوجودهم كأعضاء في جسد المسيح - فإن شخص المسيح ،ذاته، يتكمل ويمتلئ كشخص، وليس يبقى كمجرد رأس، الذي هو الرب يسوع، الكلمة المتجسد. فيكتب الرسول بولس: " اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ. وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ. كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ" ( اف4: 10- 16 ). ويكتب أيضا: "كَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ" ( اف3: 16- 19 ).
ولكن الملء المتبادل - أو قل الوجود المتبادل أو الحضور ( الحلول ) المتبادل - بين المسيح والكنيسة، عند الرسول بولس، ينبع من فهمه للهوية الفريدة لشخص المسيح، فالأخير شخص يتحقق تراكميا بضم أعضاء الكنيسة إليه، وبالتالي فالكنيسة هي المجال الذي يتحقق فيه شخص المسيح في مخاض كوني ينطلق من الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد إلى أن تمتلئ الكنيسة فيمتلئ تصوير المسيح فيها، فيكتب الرسول بولس:".. أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ." (غل 4: 19). ومفهوم تصوير المسيح في الكنيسة هو ذاته حلول المسيح بالإيمان في الكنيسة، في رسالة أفسس : " لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ "، وهو ذاته مفهوم تلبس الكنيسة للمسيح، الذي ذكره الرسول في موضع آخر: "لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ: لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ"( غل3: 26- 28 ). ووصل الأمر عند بولس أن أصبح تلبس المسيح وصية، فيخاطب أهل رومية :" الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ" ( رو13: 14 ).
خلاصة
ملء الزمان هو ذاته زمان الملء والامتلاء، الذي انطلق واقعا في حياة الخليقة، عندما ظهر - متجسدا في البشر - ذلك الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت، ثم يمتد الملء والامتلاء منه كرأس إلى كل الأعضاء المشتتين في الزمان والمكان - كل الزمان وكل المكان - ليتم تجميع كل أفراد الكنيسة في تدبير يستوعب الكل، أي " تدبير ملء الأزمنة "، بحسب تعبير الرسول بولس. وعليه فملء الزمان ليس زمانا معينا لحدوث أمر ما بل هو ذلك النسيج الزمني الممتد من الرب يسوع الكلمة المتجسد في كل زمن الخليقة بغية الإتيان بكل المعينين من قبل الخليقة ليتموقعوا كأعضاء في جسد المسيح؛ فكل عضو حينما ينضم إلى جسد المسيح - في زمانه الخاص، الذي قد يكون أي زمن من أزمنة البشر - فهو يلج إلى ذات ملء الزمان المنطلق من الرب يسوع التاريخي، وفيما يمتلئ بالحياة الفائضة إليه من جسد الكلمة -كعضو فيه - فهو - كعضو ، أيضا - يملأ مكانا ينتظر قدومه في ذلك الجسد ، أي أنه فيما يمتلئ البشر بعضويتهم في جسد المسيح، فإن شخص المسيح ذاته يمتلئ بتراكم الأعضاء الجدد فيه إلى أن تكتمل الكنيسة - التي هي جسده - فيكون شخص المسيح قد اكتمل وامتلأ ، رأسا وجسدا
وتقودنا هذه العلاقة الأبدية للملء المتبادل بين شخص المسيح والكنيسة، التي تنطلق في ملء الزمان ، إلى تساؤل : هل هناك أدنى شك في أن حدث مجيء ملء الزمان هو ذاته حدث مجيء الرب - الذي هو مشتهى ومنتظر العهد الجديد - ذلك الحدث الذي فج ضوءه من وسط ظلمة ذلك المزود الحقير في ذلك الزمان، إذ قد ظهر رأس الكيان يسوع التاريخي، ثم مالبث أن تمدد في الزمان والمكان باحثا عن أعضاء جسده: في الزمان ، أيي في الماضي والمستقبل مثلما هو في الحاضر، وفي المكان، أي في الأربعة رياح الأرض. هكذا هو يتكمل ويمتلئ بالأعضاء المشتتين، ومتى اكتمل وامتلأ بكل المعينين للحياة الأبدية تكون قد اكتملت الكنيسة ويكون قد اكتمل مجيء الرب، أي يكون قد اكتمل مجيء ملء الزمان.
خلاصة الخلاصة
تعبير" ملء الزمان " ليس كما يظن عنه أنه يشير – فقط - إلى الوقت المناسب، أو الوقت المعين، وإلا كان أحرى بالرسول أن يستخدم تعبيرا مباشرا واضحا يفيد هذا المعنى. أيضا الاستخدام الكتابي لكلمة الملء بمعنى المكمل أو المتمم يوجه أذهاننا نحو سؤال الغائية ( teleology )، غائية الزمان، أو غائية وجود الزمان؛ فالزمان منذ انطلاقه يتمدد بغية الكشف عن شبكة ديناميكية ضخمة من التمددات المنطلقة من الرب يسوع التاريخي - كرأس - إلى جميع الأعضاء الذين له من البشر - في كل زمان وجد فيه بشر - أي الكنيسة، وباكتمال مجيء جميع أعضاء جسد الرب ، إلى جسد الرب ، يكون قد تحققت الغاية من خلقته ب " مجيء الرب في ربوات قديسيه"( يه1: 14 )، أي بمجيء ملء الزمان
مجدي داود