محددات المفهوم1- المضمون العملي لمصطلح " الاتحاد الأقنومي "الهرطقة هي الثمرة المرة التي تنبت في غياب إجابة على سؤال مطروح سواء بوعي أو بدون وعي. هكذا أعتقد ، وهكذا أدعي بأن الأمر الجوهري الذي كشفته " النسطورية " ، وبنفس القدر كشفته " الأوطاخية " هو غياب المضمون العميق لكلمة " شخص " ، الأمر الذي يعني غيبة الإجابة الواضحة للسؤال : ماهو المضمون العملي لمصطلح " الاتحاد الأقنومي "( الشخصي ) ؟ وبينما قد تسبب ذلك في "ازدواج" بين الطبيعتين – من منظور نسطور- فقد تسبب في " ذوبان " إحدى الطبيعتين في الأخرى ، من منظور أوطاخي. والمفهوم الغائب عند الاثنين عن " الشخص "- الأمرالذي يعكس غياب مضمون الاتحاد الأقنومي - هو أن الشخص كيان تتجلى فيه حالة من الاحتواء المتبادل) co-inherence ( بين الطبيعتين . ليست القضية تبادلا " ظاهريا " للصفات بل هي تبادل الأدوار في ما بين الطبيعتين للتصدي للتعبير عن الشخص ، وتستعلن كل طبيعة من الطبيعتين الشخص كاملا . هو احتواء متبادل وليس تحولا متبادلا ، فيبقى الإله إلها والإنسان إنسانا ، فيبقى لاهوت الكلمة المتجسد - الذي يحتوي ناسوته - ظاهرا كإله ، ويبقى ناسوت الكلمة المتجسد – الذي يحتوي لاهوته - ظاهرا كإنسان.الفعل " يحتوي " يعني أنه بينما تحفظ هوية الشخص كهوية إلهية فإنسانيته كامنة فيه ، وبينما تحفظ هوية الشخص كهوية إنسانية فألوهيته كامنة فيه ، على أن الهوية المستعلنة والهوية الكامنة طبيعتان لا يضمهما ازدواج أو ذوبان . إله كامل وإنسان كامل ، شخص واحد إذا غاب منه أحد شقيه غاب الشخص بالكامل ، فلاهوت الكلمة المتجسد ليس له وجود مستقل أو منعزل - سواء قبل أو بعد التجسد – عن ناسوته ، وهذا لا يتعارض مطلقا مع حقيقة أن لاهوت الكلمة " غير المتجسد" كائن في أبيه منذ الأزل .أما عبارة " لاهوت الكلمة المتجسد " فتشير إلى أن الشخص - الكائن في اتحاد شخصي بين اللاهوت والناسوت - قد ظهر وبدأ وجوده بالتجسد ، لأن قبل التجسد – بطبيعة الحال – ليس للعبارة أي مدلول أو معنى . هنا فقط يمكننا أن نبدأ رحلة إدراك معنى كلمة " شخص ". تبدو المسالة أكثر بساطة في ضوء النموذج العبقري الذي استعان به القديس كيرلس الإسكندري شارحا لمفهوم " الاتحاد الأقنومي "، في سياق دحضه لهرطقة نسطور ، فالأمر عنده أشبه بالشخص الإنساني . ولابأس أن نعمق شرح النموذج بطريقة تنسجم مع سياقنا العام : الإنسان طبيعتان مختلفتان قائمتان في " اتحاد شخصي " ، النفس والجسد . النفس نفس بطبيعتها المعنوية العاقلة المستعلنة بالمشاعر والأحاسيس ، والجسد جسد بطبيعته البيولوجية الظاهرة كمادة تتموقع في الزمان والمكان . ولكن يبقى أن الطبيعة الإنسانية تعني شخصا نفسانيا يفكر ويحس ، بنفس القدر الذي يعنيه وجوده المادي الظاهر . يعكس الجسد البشري نفسا عاقلة ، وتعكس النفس البشرية جسدا بيولوجيا . الجسد والنفس كائنان في حالة احتواء متبادل في مابينهما . لا وجود للجسد بدون نفس ، لأنها الطاقة المحيية والمحركة له . ولا وجود للنفس بدون الجسد، لأنه المادة الكاشفة لها. الجسد كاشف للنفس في العالم المنظور ، والنفس مجال للجسد في العالم غير المنظور . وإذا شق الكيان البشري إلى طبيعتيه ( المتحدتين أقنوميا ) تلاشى الجسد وتلاشت النفس . ببساطة، هذا هو الموت . قد كان هذا ، في مايخص التشبيه التمثيلي الذي استخدمه القديس كيرلس لتقريب مفهوم " الاتحاد الشخصي " المثمر " للشخص . والآن لنعود إلى الخريستولوجيا فنطرح السؤال الأكثر تعقيدا والأكثر شائكية : ماهو جوهر بشرية يسوع ، الشخص الكائن كثمرة للاتحاد الأقنومي بين الطبيعة البشرية ولاهوت الكلمة؟ هل يمكن اختزال بشرية يسوع – التي ظهر عليها طيلة حياته على الأرض ، منذ الميلاد وحتى القبر – في كيانه البيولوجي الظاهر في صيغة اللحم والدم ؟ وللإجابة على السؤال ننطلق من مسلمتين آبائيتين كتابيتين تبدوان متناقضتين ظاهريا : المسلمة الأولى هي أن الكلمة ، بتجسده ، قد ظهر في طبيعتنا البشرية التي نعهدها ،أي طبيعة اللحم والدم . والمسلمة الثانية هي أن بشرية يسوع منتصرة على الألم والموت بفضل كونها تمثل جسد الكلمة الخاص، أي ذلك الذي " بطبيعته " يشترك في حياة الكلمة .ولرأب الصدع الظاهر بين المسلمتين علينا أن نكتشف " الحلقة المفقودة " في الفكر الخريستولوجي منذ " فتنة خلقيدونية " وربما حتى الآن !والحلقة المفقودة يمكن صياغتها على أنها الإدراك المفقود لكون أن مفهوم مصطلح " الاتحاد الأقنومي " يعني " نشأة " واقع جديد بخصوص كل طبيعة من الطبيعتين الداخلتين في الاتحاد ، فقد اكتسبت كل طبيعة واقعا ووضعا لم يكن لها قبل الاتحاد . والأمر ليس مجرد " تبادل " ظاهري للصفات بل هو تبادل أبدي عميق للحد الأقصى من الخبرات "الطبيعية "، بين "الطبيعتين" المختلفتين. فلم تعد الطبيعة البشرية فاسدة ، قابلة للألم والموت بل صارت خالدة وحية إلى الأبد ، في مجد لا يوصف ، بفضل اشتراكها في مجد حياة الكلمة . ولم يعد اللاهوت معزولا عن البشر ، بل ستظل خبرة " الخروف المذبوح " والمنتصر بآن ، خبرة كيانية ،أبدية ، قد اكتسبها الكلمة باجتياز جسده الخاص لرحلة الألم والموت . وعندما أسلم الرب عتيقه البيولوجي ، الظاهر للموت كان ذلك خلعا له ،وفي نفس الوقت كان استعلانا للخفي المستتر القائم - بطبيعته- من الموت ، والصاعد إلى الآب حاملا تلك الخبرة المزدوجة : مجد حياة الطبيعة البشرية الجديدة ، أبدا ، ومجد الدم المحيي المسفوك أبدا ، حبا للبشر .2- استحقاق الاتحاد الأقنومي و استعلانات التدبيريسود اعتقاد مفاده أن انتصار الرب على الموت بالقيامة ، المتبوع بصعوده إلى الآب ، كان "حدثا طارئا "كتتويج نهائي ، مبني ومؤسس على حدث التجسد ،وهذا أمر لا أعتقد بصحته . ولتفنيد هذا ينبغي أن نخوض رحلة شاقة في أحراش الأسئلة غير المطروحة . وفي اعتقادي ، إن المشكلة دائما ليست في ندرة إجابة صحيحة ، بل في ندرة سؤال صحيح !ولنبدأ بالسؤال: في أية لحظة من حياة الرب على الأرض قد حدث التجسد ؟ والسؤال يبدو غريبا ، وربما غبيا ، ولكنه بالرغم من ذلك هو سؤال كاشف . الإجابة البديهية هي أن التجسد قد حدث لحظة حدوث الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة ،وناسوته – الذي أخذه من العذراء - داخل بطن أمنا العذراء. السؤال بصيغة أخرى : هل تجسد الرب حدث كامل منذ ظهوره أم أنه حدث يتكمل مع الزمن على مدار سيرته ، أي حتى الصليب ؟ وبصيغة ثالثة : هل الاتحاد الأقنومي حدث كامل منذ أول لحظة للحبل أم أنه حدث تراكمي مع الزمن ؟ أليس الاختيار الثاني هو انحدار نحو النسطورية ؟ الإجابة الصحيحة هي أن حدث الاتحاد الأقنومي هو ذات حدث التجسد ، وهو ذلك الحدث الكامل المستعلن تلقائيا بملء استحقاقه، كحدث كامل .ليس لدينا في المسيحية أي استحقاق لنحتفي به غير استحقاق "مجد الحياة ". وليس لدينا في المسيحية آلية للحياة غير الشركة في حياة الكلمة . وهنا نأتي إلى سؤال آخر : ماذا يعني الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وبشريته غير اتحاد وشركة بشريته في حياة الكلمة ؟ هل كانت "حياة " جسد يسوع مشروعا مؤجلا لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان ؟ مامعنى الاتحاد الأقنومي إذن ؟ هل كان الكلمة - طيلة هذه الفترة المؤجلة – متحدا أقنوميا مع الهيكل البيولوجي ، فقط ، أي اللحم والدم ؟ هل كان الموت – الذي ينتظر اللحم والدم - هو سيد الموقف الذي لن تتكرس حياة بشرية يسوع – جسد الكلمة الخاص – إلا بحضوره ؟ ثم ، هل ظهر شخص الرب يسوع ،في لحظة موته على الصليب، شخصا مفرغا من إنسانيته، ليبقى اللاهوت وحده ؟ هل تم شق الاتحاد الأقنومي على الصليب ؟ أعرف تماما الإجابة التي سوف تعطى على السؤال الأخير ، وهي أن اللاهوت لم يفارق الجسد في القبر ، ولم يفارق النفس في الجحيم ،حتى عادا ليلتقيا من جديد فتحدث القيامة . ولكن لدينا مشكلتين ، الأولى أن لدينا نصا – لمن يعشق التمسك بالنصوص – وهو صرخة الرب ذاته قبل موته :" إلهي ،إلهي ، لماذا تركتني ؟". هو يعلنها صريحة أن العتيق الظاهر متروك ومتخلى عنه ليواجه مصيره الذي هو مصيرنا أي العدم . فعن أي "حفظ" نتحدث ؟ والثانية هي مشكلة منطقية لاهوتية ، فقد أصبح موت الرب موتا آخرا يختلف عن موتنا نحن . فنحن عندما نموت تشق طبيعتنا العتيقة فتفارق النفس الجسد وينهار كل من الاثنين ولا يحفظ منهما أي أحد في أي مكان ، إلا ماقد نبت فيهما من جديد ،أثناء حياة كل منهما على الأرض ،وقبل شقهما . والمسلمة الأساسية هنا هي أن اختلاف موت الرب عن موتنا يضرب قضية الخلاص والفداء في مقتل.والآن نصل إلى السؤال الختامي : كيف نستطيع أن نمحو تناقضا باديا في كون الطبيعة البشرية الجديدة المنتصرة على الموت هي واقع إنسانية يسوع منذ الاتحاد الأقنومي الذي أظهر تجسد الكلمة ، بالرغم من أن الرب قد اجتاز رحلة نعموية متنامية بدءا من الولادة فالمعمودية فالصليب فالقيامة فالصعود ؟وللإجابة لابد لنا من أن نميز بين زاويتين للرؤية ، الزاوية الأولى من منظور الرب يسوع التاريخي والثانية من منظور الكنيسة . من الزاوية الأولى تبدو كل هذه الأحداث كشفا واستعلانا للنعمة التي لم يحصل عليها جسد يسوع، فقط ، بل قد صار مصدرا لها بفضل كونه جسد الكلمة الخاص . ففي معمودية الرب في الأردن تتكشف حقيقة مسحة كيانه كطبيعة جديدة روحانية . وإذا عدنا لكلمات المبشر فسنجد أن حقيقة مسحته بالروح القدس ماثلة أمام أعيننا في لحظة انطلاق الاتحاد الأقنومي :" الروح القدس يحل عليك ،وقوة العلي تظللك ، فلذلك أيضا القدوس المولود يدعى ابن الله "( لو1: 35). بل أن ذلك القدوس حينما حضر - وهو مايزال جنينا- لزيارة أليصابات ، الحبلى بالمعمدان ، كان هو الذي سبق فعمد المعمدان ، الذي ارتج بابتهاج في بطن أمه ( لو1: 44 ) !فعن أي حلول للروح القدس نتحدث ، بخصوص يسوع الغاطس في الأردن أمام يوحنا ؟ هل فقط في هذه اللحظة بدأت طبيعته تمسح بالروح ،أم أنه في هذه اللحظة يستعلن ماهو كائن فيه منذ ظهوره في بطن أمه كثمرة للاتحاد الأقنومي؟ هل ظل جسد يسوع – الذي يضمه اتحاد أقنومي مع الكلمة ( الكائن في الآب وفي الروح القدس ) – منذ ظهوره وحتى نزوله الأردن ، محتاجا لأن يمسح بالروح القدس ؟ هذا هو السؤال ! وفي قيامة الرب من الموت وانتصاره عليه في فجر الأحد ، هل كان ذلك يعني أن أمرا معجزيا ما قد تم في ظلمة القبر- وكان من تبعاته أن تحول اللحم الميت المهترئ إلى طبيعة جديدة عديمة الموت والفساد – أم أنه يعني أن الرب بعد أن اجتاز موت البشر فإن ذلك الموت لم يمسك منه غير ماقد أمسكت زوجة فوطيفار من يوسف ، أي أخذ منه رداءه الظاهر ، ليستعلن لتاريخ البشر ماقد كان خفيا عليهم منذ أول لحظة دخل فيها تاريخ البشر ؟ هذا هو السؤال ! وفي صعود الرب إلى السماء، هل السماء مكان يقبع في الأعلى ؟ أعلى من ماذا ؟ أم أن الرب بصعوده يكشف ماقد صارت إليه إنسانيته بفضل الاتحاد الأقنومي الذي أظهره متجسدا ، إذ أن الإنسانية فيه قد صعدت إلى أعلى علو وإلى سماء السماء ، إلى شركة الثالوث ، فالجسد قد صارجسدا خاصا للابن ،جالسا عن يمين الآب ،في شركة الروح القدس ؟ هذا هو السؤال !من الزاوية الثانية ، زاوية نظر الكنيسة ، يبدو الأمر كما لوكنا " ننظر في مرآة " فشخص الرب يسوع الكلمة المتجسد لم يظهر في تاريخ البشر ليصنع عملا خاصا به وحده بل على العكس ليصنع عملا يخص البشر ، فبالرغم من أن جوهر إنسانية يسوع هو الطبيعة الجديدة المنتصرة على الألم والموت بفضل الاتحاد الأقنومي - إذ هي جسد الكلمة الخاص - إلا أنه قد صنع تدبيرا بأن يجعل من منطقة الاشتراك والاتحاد بين شخصه وكل جوهرطبيعتنا ، أي عتيقه الظاهر ( الذي لم يكن جوهر إنسانيته )، معبرا لنا لنجتازه فنشترك في طبيعته الجديدة " لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته ، نصير أيضا بقيامته "(رو6: 5) : فإلى مياه الأردن قد حمل شخص الرب يسوع المسيح حجابه العتيق الظاهر - الذي هو كل جوهرطبيعتنا ، ولم يكن كذلك بالنسبة له – ليشق لنا فيه معبرا إليه حينما نجتاز ذات المياه ، بذات الطبيعة ، في الروح القدس ، فندفن ونموت معه ممسوحين مصطبغين بصبغته لنظهر منضمين إلى طبيعته الجديدة ( الكائنة فيه منذ الاتحاد) التي هي رأس المسحة وحجر زاوية هيكل الله، وحينئذ نتجلى كأعضاء في جسد ابن الله . هذا هو مضمون " التبني "، فالآب يرى الذين صاروا أعضاءا في جسد ابنه ، ابناءا له . الذي نزل إلى الأردن ومسح بالروح-كمن يحتاج للمسحة والولادة من فوق - ليس شخص الرب يسوع المسيح، بل نحن الذين نزلنا فيه حتى نصعد فيه أيضا . وإلى مشهد الصلبوت الرهيب قد حمل شخص الرب يسوع المسيح حجابه العتيق - الذي هو كل جوهر طبيعتنا ، ولم يكن كذلك بالنسبة له - فحمل " عارنا " حتى إذا ما أظهر موت الصليب موتا محييا بالقيامة ، يكون قد شق لنا في ذات طبيعة العار هذه ، طريقا للخلاص بالموت المحيي ، من قبل أعمال الجسد بفعل مماتية الروح القدس ، فنعبر إلى شركة طبيعته الجديدة . الذي هلك على الخشبة ليس شخص الرب يسوع المسيح ، كما نهلك نحن ويتلاشى أقنومنا ، بل نحن الذين هلكنا فيه حتى نقوم فيه أيضا .خلاصةلم تضف مياه الأردن جديدا إلى شخص الرب يسوع التاريخي ، بل أضافت لنا ما استعلنه من ولادة جديدة ، في ما يمثلنا لديه، أي عتيقه الظاهر . ولم يضف الصليب المحيي جديدا إلى شخص الرب يسوع التاريخي ، بل أضاف لنا ما استعلنه من موت محيي ، في ما يمثلنا لديه ، أي عتيقه الظاهر. ويبقى أن نقول بأن إنسانية شخص الرب يسوع المسيح هي حجر زاوية الوجود الإنساني الجديد ، وهي إنسانية شخص قد تعلم في فترة وجوده على الأرض أن يقبل في ذاته خبرة أن يكون معبرا أبديا للبشر نحو الحياة داخل شركة الثالوث القدوس ، بنعمة اشتراكهم فيه ،أي التبني . وفي ذات الخبرة قد اكتسب الرب أن يكون ذبيحا أبديا يصرخ دمه المسفوك بنشوة الانتصار ، لحساب البشر ، حبا للبشر .3- التأله بين الاتحاد الأقنومي والاتحاد بالمسيحتجسد الكلمة وتأله الإنسان وجهان لمضمون حدث الاتحاد الأقنومي ؛ فالكلمة بصيروته إنسانا صار فيه الإنسان إلها. وبينما ظهر الكلمة في الإنسان يسوع المسيح - الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا "( كو2 :9)- فقد ظهر الإنسان في الكلمة إلى الأبد . إله كامل وإنسان كامل في وحدة أقنومية ( شخصية ) كاملة. ولكن ، كيف نفهم التأله في ضوء الاتحاد الأقنومي ؟ ثم ، أليس التأله ( Theosis ) هو نعمة تجديد طبيعتنا البشرية ، التي تحدث لنا باشتراكنا في حياة " الله" - الذي له وحده الحياة ، بطبيعته - حينما نصير أعضاءا في جسد ابنه ؟ماهي نقطة الالتقاء بين الحدثين ؟الفرق الجوهري هو أن تأله الإنسان ، المستعلن بالاتحاد الأقنومي - الذي أثمر شخص الرب يسوع المسيح - هو حدث نوعي " كيفي "( وليس حدثا " كميا " ، تراكميا ) فيه صار الكلمة جسدا مثلما صار الجسد ( الإنسان ) إلها . قد حل الكل في الكل . لاهوت الكلمة المتجسد يتضمن ناسوته مثلما يتضمن ناسوت الكلمة المتجسد لاهوته. شخص الرب يسوع مستعلن بواسطة كل من طبيعتيه الداخلتين في الاتحاد على نفس المستوى ، فهو شخص إنساني وهو شخص إلهي بآن واحد . هو شخص لم يلتهم اللاهوت فيه ناسوته ، طاغيا عليه، ولم يحد الناسوت فيه لاهوته مقزما له . وهنا يجب أن ندرك أن تأله الناسوت قد تجاوز بمسافة لانهائية مفهوم "نعمة التأله". . وأقول " تجاوز " لكي لا أغفل أن الإنسانية فيه قد نالت نعمة التأله " كحياة وعدم موت " ، ولكن لم يقتصر الأمر على مجرد حصوله على النعمة ، إذ أنه - بذاته القائمة في وحدة أقنومية مع ألوهة الكلمة -لم يعد مجرد منتفع بالنعمة بل رأسا ومصدرا لها ، إذ هو شخص الإنسان الإله ، بقدر ماهو الإله الإنسان . وبالتأله لم يصر الإنسان إلها بمعنى تلاشي الطبيعة البشرية لحساب الألوهة ، فإن حدوث هذا يعني ضياع مفهوم الاتحاد الأقنومي وتفريغه من مضمونه ، لأن الاتحاد ( أي اتحاد )- بالتعريف - لايكون اتحادا إلا إذا تم بين طبيعتين وهويتين مختلفتين . ولما كان الاتحاد المقصود هو الاتحاد الأقنومي بين الله الكلمة والإنسان ، وليس مجرد اتحاد بأي معنى آخر ، فالأمر يصبح ليس مجرد اتحاد " ميكانيكي " ( إذا جاز التعبير ) مثل مفهوم المصاحبة الذي نادى به نسطور ، وفي نفي الوقت ليس مفهوم الذوبان الذي نادى به أوطاخي . فشخص الكلمة المتجسد هو إنسان كامل بقدر ماهو إله كامل ، وهذا يعني إتحادا يثمر شخصا جديدا لم يكن موجودا قبل الاتحاد ، تستعلن فيه هوية الألوهة كاملة مثلما تستعلن فيه هوية الإنسانية كاملة ، دون ذوبان ، أو أيلولة ، أو تغير بيني، أو تقسيم ، أو عزلة . وفيما تستعلن أي من الطبيعتين الشخص كاملا ، فإن الطبيعة الأخرى - المتضمنة في الشخص - تستعلنه بنفس القدر ، أي بنفس الكمال . وهذا هو مفهوم الحلول ( الاحتواء ) المتبادل بين الطبيعتين الذي يكرسه الاتحاد الأقنومي . نعود إلى التأله فنقول : لم يكن التأله حدثا طارئا على شخص الرب يسوع، الكلمة المتجسد ، فمنذ أن حدث التجسد ، حدث التأله . طرأ الشخص ،ذاته ، على تاريخ البشر ، ولم يطرأ تأله إنسانيته عليه ، كشخص. أما كيف أن تألهه يعني أنه مصدر تألهنا ،منذ أن صار الاتحاد ، وفي ذات الوقت قد نالت إنسانيته التأله كنعمة ، فالأمر بسيط ، فحينما تجسد الكلمة فهو قد وحد ذاته أقنوميا مع الإنسان المخلوق بواسطته ، وبالتالي ماهو التناقض في أن الكلمة قد أكمل نعمة الخلق التي أعطاها لإنسانيته ، بنعمة التأله ؟ وماهو وجه التناقض في كون أن إنسانيته المخلوقة المتألهة بفضل الاتحاد هي مصدر لتألهنا مادام الاتحاد ليس مجرد اتحاد - كاتحادنا نحن به ، بالنعمة - بل هو اتحاد أقنومي قد صار فيه الله إنسانا مثلما قد صار الإنسان إلها ؟ وأما " تأله البشر" في المسيح فله مضمون آخر. يتأله البشر حينما يتحدون "كميا " بلاهوت الكلمة ، أي يتحدون به بالقدر الذي يخرجهم من فساد طبيعتهم المخلوقة وليس يخرجهم من كون طبيعتهم مخلوقة . يحدث هذا عندما يشتركون إفخارستيا - بالنعمة- في جسد الكلمة ، فيسقبلون - أبديا- حياة الكلمة الفائضة نحوهم من رأس كيانهم يسوع ، الشخص الإنساني والإلهي بآن واحد. وهنا يتجلى الفرق الجوهري بين تأله الإنسان يسوع ، المستعلن في الاتحاد الأقنومي وتأله البشر ، المستعلن في الاتحاد الإفخارستي ، فبينما يتأله البشر باشتراكهم في جسد الابن ، فإن الإنسان يسوع قد تأله منذ أن صار جسدا خاصا بالكلمة ، وهو لم يكن قبل الاتحاد جسدا خاصا بآخر غير الكلمة . والآن لنا أن نسأل : هل كان على الإنسان يسوع أن ينتظر أكثر من ثلاثة عقود من الزمان حتى يحين زمان تألهه ، بالقيامة في فجر الأحد ؟ هذا هو السؤال !4- مفهوم الحضور الإلهي بين الاتحاد الأقنومي والنعمةكان مصطلح " الحضور الإلهي " بمثابة الخيط الذهبي الذي يجمع كل لآلئ مفردات كتاب القديس أثناسيوس الرسولي " تجسد الكلمة ". ولآلئ أثناسيوس التي أقصدها هي التوصيفات المختلفة لمفهوم النعمة التي نالتها الطبيعة البشرية في المسيح ، الكلمة المتجسد . النعمة عنده ليست كما يتوهم – في سذاجة – تيار من الحس الشعبي ، أنها قرار انقطاعي يتم وفقا لإرادة علوية هي إرادة الله ليظهر أثره في الخليقة القابعة على الطرف الآخر من الهوة الفاصلة بين مصدر النعمة والمنتفع بها . بل النعمة عند أثناسيوس - كما عند جيل الآباء الملهمين بروح الإنجيل - هي ما يكشف حضورا لله ، هي استعلان للحضرة الإلهية في مجال كاشف هو الخليقة . تستدعى الخليقة من العدم ككشف للحضورالإلهي ، وتجدد الخليقة من فسادها الطبيعي ( في حالة الإنسان) بفضل الحضور الإلهي .هذا هو المضمون الصريح للإنجيل ؛ فعندما يقول القديس يوحنا اللاهوتي في مطلع إنجيله :" كل شيء به كان ، وبغيره لم يكن شيء مما كان "( يو1: 3 ) ، فالمقصود " كل شيء كان بحضوره ، وبغير حضوره لم يكن شيء مما كان ". وبحسب أثناسيوس - أيضا - " من الآب نعمة واحدة تتم بالابن في الروح القدس "( سرابيون1: 14 ) ، وأيضا " الآب يخلق كل شيء بالابن في الروح القدس "( سرابيون 3: 4 ). النعمة إذن كشف لحضور الثالوث القدوس وشركة فيه . وبحسب القديس بطرس الرسول هي " شركة الطبيعة الإلهية "( 2بط 1: 4) .والقضية منطقية جدا ، من منظور المنطق اللاهوتي ، وإلا فكيف ندرك ما تعنيه قمة استعلان النعمة ، المعبر عنها بمفهوم " التبني" ؟ أليس التبني هو دخول إلى شركة الثالوث القدوس حينما يصير البشر أبناءا "للآب" بالشركة في جسد "الابن" في "الروح القدس"؟ والنقطة الهامة في هذا السياق هي أن الحضور الإلهي الذي تكشفه صيغة معينة للنعمة هو حدث وفعل يتم بمبادرة من طرف واحد هو الطرف الإلهي . فالله يعطي شركة في ذاته بالقدر الذي يتكشف كخليقة ، ثم يجزل عطاء ذاته بالقدر الذي يتكشف في تجديد الخليقة وعتقها من فسادها الطبيعي( في حالة الإنسان ).في النعمة لا يعطي الله ذاته للخليقة ، حتى ماتستوعب في الخليقة ، ولكنه يعطيها بالقدر الذي تستوعبه الخليقة ، كخليقة ، وبالقدر الذي يكفي لتجديد خلقتها ، كتجديد للخلقة . "يحضر" الله في الخليقة "فتستحضر " الخليقة - من العدم- لتشترك في الله، ويكثف الله "كم "حضوره في الإنسان ( تاج الخليقة ) فيتجدد الإنسان، فالحضور الإلهي الذي تستعلنه النعمة هو حضور "كمي "؛ فحينما يتجدد البشر في المسيح فهم يأخذون من ملئه " نعمة فوق نعمة "( يو1 :16) ، ويظل الإنسان يسوع المسيح هو الشخص الوحيد " الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا "( كو2 :9) .وهذا يقودنا إلى الحديث عن الحضور الإلهي في سر التجسد ، أي الحضور المستعلن بالاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوته . والأمر هنا يختلف تماما . فحدث الاتحاد الأقنومي ، بمجرد حدوثه قد أظهر " مبادرة حضورية مزدوجة "( إذا جاز التعبير ) . لاهوت الكلمة المتجسد ليس هو المبادر الوحيد بالحضور، ولكنه الحضور المتبادل بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوته . لاهوت الكلمة المتجسد ، بحضوره يظهر ناسوته حاضرا . وناسوت الكلمة المتجسد ، بحضوره ، يظهر لاهوته حاضرا . لاهوت الكلمة المتجسد يتجلى في ناسوته ، وناسوت الكلمة المتجسد يتجلى في لاهوته . اللاهوت الكامل يستعلنه الشخص ، والناسوت الكامل يستعلنه نفس الشخص . هنا ،نحن أمام حضور " نوعي " فيه تحضر كل ألوهة الله في كل إنسانية الإنسان ، وتحضر فيه كل إنسانية الإنسان في كل ألوهة الله .إنسانية الإنسان يسوع المسيح تستوعب ألوهته بالكامل ، لأنه – بفضل الاتحاد الأقنومي – لم يعد مثلنا ،من منظور الاحتياج للنعمة ، بل هو قد صار جسد الكلمة الخاص منذ أول لحظة لظهوره كجسد . والقول باستيعاب إنسانيته للاهوته ليس من باب المحدودية التي يوحي بها الفعل ، ولكن من باب أن ألوهة الله لا تستوعب إلا بألوهة الله ، ولما كان الإنسان يسوع قد تأله ، مظهرا كل ملء اللاهوت فيه ، بفضل الاتحاد الأقنومي ، فاستخدام فعل " الاستيعاب " ليس خاطئا .خلاصةإذا كانت النعمة هي استعلان حضور الله في الخليقةكمبادرة من طرف الله ، فالاتحاد الأقنومي هو مايثمر استعلانا مزدوجا للحضور المتبادل بين الله والإنسان في شخص الرب يسوع الكلمة المتجسد . وبينما أثمر الاتحاد الأقنومي رأسا لخلقة البشر الجديدة ، فقد أظهرت النعمة استحقاقا لهذا الرأس في البشر، باجتذابهم نحوه كأعضاء تنتمي إليه ، حينما يصيرون كنيسة. والآن لنا أن نسأل : هل كان على الإنسان يسوع التاريخي أن ينتظر أكثر من ثلاثة عقود من الزمان حتى يحين زمن حضور الكلمة فيه ، فتستعلن نعمة القيامة ، في فجر الأحد ؟ أليس هذا نكوصا وردة وتفريغا للاتحاد الأقنومي من مضمونه ؟ هل هناك من معنى للاتحاد الأقنومي غير ذلك الحدث الحضوري المتبادل- الفاعل غير الخاضع للزمن ، بكل استحقاقات حياة الله ذاته - بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوته ؟5- الاتحاد الأقنومي ، والفرق بين تكميل يسوع وتكميلناالرب يسوع المسيح شخص كامل منذ أول لحظة للتجسد . إنسانيته الجديدة واقعة ومحققة منذ أول لحظة للتجسد ، وهي لاتحتاج تكميلا ، بل ما يحتاج "هذا التكميل " هو نحن ، حينما حمل في نفسه معبرا حتى ما نعبر إليه ، هو عتيقه الظاهر ، بينما إنسانيته الجديدة المنتصرة على الألم والموت هي كائنة فيه منذ بدء التجسد ، بفضل الاتحاد . هي كائنة فيه في تلازم وتزامن مع الطبيعة العتيقة منذ بدء التجسد ،إلى أن اجتاز الرب الموت خالعا عتيقه الظاهر ومستعلنا نصرة طبيعته الجديدة" المستترة " ،بالقيامة في اليوم الثالث لموته . وفيما اجتاز كل هذا ،خارجا ليعلن جدة الحياة والانتصار على الموت والصعود إلى الآب ، فهو يصنع محددات ومعالم طريق تكميلنا نحن ، بتكميله كرئيس لكهنة العهد الجديد وليس تكميله هو،كإنسان.الفرق بين يسوع وإخوته عند الرسول بولسيقول فيلسوف المسيحية :" و لكن الذي وضع قليلا عن الملائكة ، يسوع، نراه مكللا بالمجد و الكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد. لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل و به الكل، و هو آت بابناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلآم. لأن المقدس و المقدسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة، قائلا :" أخبر باسمك اخوتي، و في وسط الكنيسة أسبحك ".وأيضا :" أنا أكون متوكلا عليه". وأيضا :" ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله ". فإذ قد تشارك ( kekoinwnhken ) الأولاد في اللحم و الدم اشترك ( metescen ) هو أيضا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس "( عبرانيين 2: 9- 14 ).تعليق مهمالملحوظة الأساسية في نص الرسول بولس هي اختلاف نمط "الشركة " في اللحم والدم ، بين " يسوع "، الإنسان "الذي وضع قليلا عن الملائكة " ، وإخوته ، " الأولاد" الذين " تشاركوا في اللحم والدم " .لم يستخدم الرسول فعلا واحدا للتعبير عن مفهوم شركة اللحم والدم.الفعل المستخدم في حالة "الأولاد" هو الفعل " koinoneo "، ومنه الاسم " الشركة=koinonia " ،ويستخدمه بمعنى شركة " الشائع والمشترك ، أو الملكية المشتركة " أو مايجمع أطراف علاقة الشركة تحت لواء واحد أو طبيعة واحدة ، كما في " الشركة في آلام المسيح "( 1بط4:13 )، "شركة دم المسيح ، شركة جسد المسيح " ( 1كو10 : 16 )، شركة الروح القدس ( 2كو13 : 14 ).أما الفعل المستخدم في حالة شركة يسوع في اللحم والدم فهو الفعل " metecho "، وللفعل مدلول للشركة يختلف عن الفعل الأول ، فالشركة هنا تأتي بمعنى علاقة معينة بين أطراف واضحة ، يساهم كل منهم بقدر ما في الشركة ، وليس بمعنى الانتماء للمشترك العام كما في الفعل الأول ، فتأتي الكلمة في العهد الجديد ، عل سبيل المثال في علاقة شركة مهمة وهي العلاقة بين الإنسان والطعام ، سواء بالمفهوم العام كما في ( عب5: 13 ) ، أو بالمفهوم الخاص ، أي الأكل بالمفهوم ذي الدلالة الإفخارستية في طقس التناول ، كما في :( 1كو10: 17 )، ( 1كو10: 21 )،( 1كو10 : 30 ).وهنا نستطيع أن نلمح الفرق الدقيق بين مفهومي الشركة ، فبينما يعطي الفعل الأول مفهوما للشركة مفاده أن " الأولاد " بجملتهم ينتمون إلى طبيعة واحدة وهوية واحدة هي " اللحم والدم " ، وليس لأي منهم مايشذ عن هذه الطبيعة أو يزيد عنها بشيئ آخر فإن الفعل الثاني لا يعني بأي حال من الأحوال وجود أي مشترك يضم أطراف العلاقة مستوعبا إياهم ، فيبقى الإنسان إنسانا ولا يتحول إلى طعام ، من خلال شركة تناوله للطعام ، ويبقى الطعام طعاما ولا يتحول إلى إنسان ، من خلال شركة تناول الإنسان له . والمدهش حقا ، الذي يؤكد القضية أن الرسول بولس يفرق بين عمق مفهوم شركة الأكل الإفخارستي -كشركة في كيان المسيح الواحد ، فيستخدم الفعل الأول - وبين شركة الأكل كطقس ظاهري ، من المفترض أن يقودنا إلى عمق الشركة ، فيستخدم الفعل الثاني :" أقول للحكماء: احكموا أنتم في ما أقول. كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة (koinonia ) دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة ( koinonia ) جسد المسيح ؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد ، لأننا جميعنا ( من المفترض) نشترك ( metechomen ) في الخبز الواحد...لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا ( metechein )في مائدة الرب وفي مائدة شياطين ... فإن كنت أنا أتناول ( metecho ) بشكر، فلماذا يفترى علي لأجل ما أشكر عليه ؟ فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا، فافعلوا كل شيء لمجد الله ".( 1كو10 : 15- 31 ). الفرق الدقيق بين الفعلين يجعل لشركة الأولاد في اللحم والدم معنى " الانتماء" لطبيعة اللحم والدم ، أي معنى الطبيعة المشتركة بينهم . أما شركة يسوع في اللحم والدم فهي لاتستوعب كل إنسانيته ( كما للأولاد ،إخوته ) بل هي مجرد منطقة تقاطع بين إنسانيته، التي هي أعظم بكثير من ظاهر اللحم والدم ،وبين إنسانيتهم التي ليست أكثر من مجرد ذلك اللحم والدم . وعليه ، فبينما شركة " الكينونيا " هي شركة الانضمام للكل فإن المفهوم الآخر للشركة ،بحسب الفعل metecho " " هو المساهمة في علاقة وليس الاندراج تحت لافتة لشركة ما . لذلك فعندما يقول الرسول بأن يسوع قد اشترك ( بالمفهوم الأخير للشركة ) في اللحم والدم ، فهذا يعني أن إنسانية يسوع الكاملة كشخص لم تكن مختزلة في اللحم والدم كما هو الحال بالنسبة لإنسانية " الأولاد " ، بل هو قد اشترك فيهما بالقدر الذي يخصهم فيه ، أي عتيقه الظاهر ( اللحم والدم )، حتى إذا ما اجتاز الألم والموت في عتيقه هذا ،يكون قد رسم لهم طريقا في نفسه لكي ما يشتركوا في مايخصه هو ، أي طبيعته الإنسانية الجديدة ، عديمة الألم والموت ، الكائنة فيه منذ أول لحظة للتجسد ، منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية ، يستعلنها الإنسان يسوع . ثم ماهذه المفارقة المدهشة في قول الرسول: " لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت ، أي إبليس "؟ متى وكيف حدث هذا ؟ حدث هذا عندما اقترب الموت من يسوع ، فلم يستطع أن يفتك إلا بعتيقه الظاهر ، فإذ به يتضح أنه مجرد أداة تنتزع غطاءنا الفاسد بالطبيعة ، عن جوهرإنسانيته المنتصر على الألم والموت ، فتستعلن نصرة القيامة . على الصليب دفع الموت إلى الانتحار مهزوما ، وسحق سلطانه إلى الأبد ملعونا . إذن ، نستطيع أن نقول في وضوح شديد أن المدلول اللغوي المباشر لنص الرسول بولس يقرر أن نصيب شركة " اللحم والدم " في كيان الإنسان يسوع ،" الذي وضع قليلا عن الملائكة " ، هو بمثابة جزء من كل ، بينما نصيب الأولاد " إخوته " في ذات الشركة هو "كل من كل " أي أن طبيعتهم بكاملها هي " لحم ودم " . وهذا يتطابق تماما مع المنطق اللاهوتي الإنجيلي بأن "الكلمة المتجسد" قد حمل عارنا ( أي عتيقنا )، ولم يحمله اللاهوت العاري ( naked ). و"الحامل" يتمايز – بطبيعة الحال – عن "المحمول" ؛ فلو كان " عارنا "يمثل كيان إنسانية يسوع بجملتها ، لكان معنى ذلك أنه قد هزم أولا من الموت لمدة ثلاثة أيام ثم لحقت به نصرة القيامة ، في القبر ، بطريقة تعسفية إنقطاعية ، اللهم إلا إذا كان موته ليس كموتنا نحن ، أي العدم ، وفي هذه الحالة يكون مفهوم الفداء والخلاص قد ضرب في مقتل .ما معنى أن " لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ؟ماهو المقصود تحديدا بكلمة " ناسوته " ؟ هل يمكن اختزال ناسوت يسوع في ذلك الكيان البيولوجي ، الظاهر في تاريخنا ، والذي تقبل الألم والموت ؟ إذا كانت الإجابة بنعم ، فكيف ندحض تناقضا واضحا مع صرخة يسوع على الصليب :" إلهي، إلهي ، لماذا تركتني " enkatelipes " ( مت 27 : 46 )؟فالفعل المستخدم "enkataleipo "يعني مفهوم التخلي والإهمال والهجر وانعدام الشركة ، وقد استخدم في العهد الجديد بهذا المعنى ، كما في :- ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر...( 2تي4: 10 ).- لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني ... ولكن الرب وقف معي وقواني، لكي تتم بي الكرازة ،... ( 2تي4: 16و 17 ).- غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين ...( عب10: 25 ).- لأنه قال لا أهملك ولا أتركك ( عب13 :5 ).رؤيتي هي أن عتيق يسوع الظاهر هذا ، المعلق على الصليب ، والمهان ، والمتألم ، والمنحدر إلى الموت ، هو إنساننا العتيق المتروك بالطبيعة والمتخلى عنه والمقصي من شركة الألوهة . إن صرخة يسوع وهو ينازع الموت كانت ذروة افتضاح اللعنة التي حملها في كيانه ، لعنة الإقصاء في جحيم الموت . ويبلغ المشهد ذروته حينما يغلق القبر على الهيكل البيولوجي المهترئ ، فيبيده جحيم الموت . هكذا اجتاز مصير طبيعتنا العتيقة التي سوف تصير إليه ، أي العدم ، بل هو اجتاز مصير الخليقة كلها ، الذي لم تجتزه بعد . بموته قد أكمل الموت ، مثلما سبق أن أكمل وأتم ناموس الحياة في جوهر إنسانيته الحي بفضل الاتحاد بين لاهوته وناسوته ( الكامل وليس مجرد الظاهر العتيق ). ربما يقول قائل أن اللاهوت لم يترك " الجسد " في القبر ، ولا "النفس "في الجحيم – على افتراض أن الموت هو انفصال النفس عن الجسد ، ولكن الموت ليس هكذا بل هو انفصال النفس عن الجسد مع انهيار وتلاشي الاثنين - ولكن أية شركة هذه التي بين اللاهوت والجسد الميت ، الذي مايزال ميتا ، بالرغم من شركتة مع اللاهوت ؟ هل هذا موت ينتمي لموتنا نحن ؟ هل كان موته خياليا ؟! إن كان قد مات بالفعل مثلما نموت نحن ،وفقا لطبيعتنا البالية ، فلابد أن يكون قد انحدر بعتيقه إلى العدم ، ولما لم يستطع العدم أن يفتك إلا بهذا العتيق الظاهر ، فقد خرج من الجحيم منتصرا ،كجوهر إنساني غير قابل للألم والموت بفضل الوحدة الأقنومية مع لاهوت الكلمة ، وليس بفضل وحدة اللاهوت مع جسد عتيق ميت قد انحدر نحو مصيره البائس المحتوم ، " فإن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ، ولا يرث الفساد عدم الفساد " ( 1كو15: 50 )عبارة" لاهوته لم يفارق ناسوته " لا تتناقض مع "صرخة الترك "،على الصليب لأن الاتحاد الأقنومي قد أثمر شخصا إنسانيا منتصرا على الموت ، وحينما اجتاز الموت فهو قد ذاقه في كيانه الظاهر، المتروك والمهجور من شركة الألوهة . فعتيق يسوع الظاهر هو "متروك" بالطبيعة ، ولارجاء له ، هو لعنتنا التي قبلها في كيانه حتى يستعيدنا أيضا إلى كيانه. أما جوهر الشخص الإنساني الكامل، القدوس ، فهو الطبيعة الجديدة عديمة الموت ، المحصنة والمعصومة من " الترك " ؛ ففيها تستعلن الشركة الأبدية بين البشرية واللاهوت من خلال الوحدة الأقنومية .خلاصةبين عبارتين للمرنم نستطيع أن نرصد أن صاحب صرخة " إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟ " هو الكيان العتيق ليسوع ، المعلق على الخشبة . بينما الشخص الإنساني الكامل (عتيقه وجديده ، ظاهره وباطنه ) هو الذي يقول على لسان داود : :" لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادا ( أع2 :27 ) . ومنطق العبارة الثانية يؤكد أن يسوع شخص حي ، ولم يستطع الموت أن يمسك به ، وليس مجرد شخص ميت باغتته قوة القيامة .هو حي بطبيعته ، وقد اجتاز موت طبيعتنا ، في كيانه . والبون شاسع بين مهزوم من الموت تفتقده القيامة، وبين منتصر بطبيعته على الموت - بفضل اتحاده الأقنومي مع لاهوت الكلمة - يجتاز الموت، وبخلعه العتيق - الذي هو نحن - على الخشبة تعتلن القيامة التي هي بالطبيعة ، طبيعته وليست حدثا طارئا.مجدي داود
السبت، 8 نوفمبر 2014
الاتحاد الأقنومي (2 )
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق