الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

ملء الزمان


 


 

 

                                 ملء الزمان                                  

 

   تعبير غريب وغامض للرسول بولس ، لكن لكي نلج إلى داخل أعماق المفهوم - وهو بالفعل في غاية العمق - علينا  أن نقترب بتأني من كلمة " ملء Plhrwma  " ، واقترابنا منها يخص الاستخدام الكتابي للكلمة ، وتحديدا العهد الجديد . وبتفحص المواضع المختلفة التي ذكرت فيها الكلمة نجد أنها تأتي بمعنى " المكمل " أي الملء الذي يكمل نقصا ما، وبوجوده يتحقق الوجود الكامل للشيء، وهنا قد فضلت الاستعانة باقتباسين يقدمان هذا المعنى بطريقة مباشرة واضحة: 1-" لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ"( مر2: 21 ). 2-" فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ، وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟"(رو11: 12 ). إذن الملء – هنا – هو الكم الذي يحقق اكتمالا ما، لشيء ما وليس يعني مفهوم الامتلاء بصفة عامة، أي هو الكم المطلوب إضافته لتحقيق وجود ما. وليس من قبيل الخروج عن هذا المعنى أن يستخدم العهد الجديد كلمة " Plhrwma " بمعنى التتميم بالنسبة للنبوات القديمة . وعليه ، فمن الناحية الأخرى فليس من صحيح المعنى أن يكون المقصود من عبارة " ملء الزمان " الإشارة إلى توقيت معين، فملء الزمان هو تلك الحقبة الزمنية المفتوحة على كل زمان الخليقة والتي يتم فيها سر الله، سر التجسد، بكل استحقاقته في البشر، الذين يتغير واقعهم من العبودية إلى التبني باشتراكهم في الابن المتجسد، فيكتب الرسول بولس : " هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا: لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ، كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ،  لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.  ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ». إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ بِالْمَسِيحِ "( غل 4: 3- 7 ).

  وماكان لينسب الملء إلى الزمان لولا أن الحدث المستعلن في ملء الزمان هو الملء الممتد من ذاك الذي هو بطبيعته الملء، أي الكلمة المتجسد، إلى الذين يمتلئون به وفيه، أي الكنيسة ، فيكتب البشير يوحنا:  "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.  ....  وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعًا أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (  يو1: 14- 16 ). ويكتب الرسول بولس: فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا. وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ"( كو2: 10 ).   والملء الممتد من المسيح نحو الكنيسة - والمستعلن في ملء الزمان - هو سر مشيئته المخفي وراء خلقة كل شيء ، فشخص المسيح الممتلئ بالكنيسة – المعين أفرادها قبل خلقة العالم - هو محور وجود الكون وغاية وجوده، عبر مسار الأزمنة المختلفة التي يتم تجميع الكنيسة منها، فيكتب الرسول بولس :  " إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ  الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ "( اف1: 3- 11 ). ويكتب أيضا: وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ،  الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" ( اف1: 22و23 ). ويكتب أيضا: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ" ( كو1: 16- 18 ).

   ولكن علاقة " الملء الممتد" بين المسيح والكنيسة ليست العلاقة الوحيدة التي تستعلن في ملء الزمان فهناك علاقة داخل الشخص ( المسيح ) تدعو لمزيد من الدهشة لغرابتها، وهي علاقة " الملء المتبادل " بين المسيح والكنيسة؛ ففيما  يمتلئ أفراد الكنيسة - بوجودهم كأعضاء في جسد المسيح - فإن شخص المسيح ،ذاته، يتكمل ويمتلئ كشخص، وليس يبقى كمجرد رأس، الذي هو الرب يسوع، الكلمة المتجسد. فيكتب الرسول بولس: " اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ.  وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ،  لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ.  كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ" ( اف4: 10- 16 ). ويكتب أيضا:  "كَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ،  لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ،  وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ" ( اف3: 16- 19 ).

   ولكن الملء المتبادل - أو قل الوجود المتبادل أو الحضور ( الحلول ) المتبادل - بين المسيح والكنيسة، عند الرسول بولس، ينبع من فهمه للهوية الفريدة لشخص المسيح، فالأخير شخص يتحقق تراكميا بضم أعضاء الكنيسة إليه، وبالتالي فالكنيسة هي المجال الذي يتحقق فيه شخص المسيح في مخاض كوني ينطلق من الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد إلى أن تمتلئ الكنيسة فيمتلئ تصوير المسيح فيها، فيكتب الرسول بولس:"..  أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ." (غل 4: 19). ومفهوم تصوير المسيح في الكنيسة هو ذاته حلول المسيح بالإيمان في الكنيسة، في رسالة أفسس : " لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ "، وهو ذاته  مفهوم تلبس الكنيسة للمسيح، الذي ذكره الرسول في موضع آخر: "لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ:  لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ"( غل3: 26- 28 ). ووصل الأمر عند بولس أن أصبح تلبس المسيح وصية، فيخاطب أهل رومية :"  الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ" ( رو13: 14 ).

                                     خلاصة                                           

   ملء الزمان هو ذاته زمان الملء والامتلاء، الذي انطلق واقعا في حياة الخليقة، عندما ظهر - متجسدا في البشر - ذلك الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت، ثم يمتد الملء والامتلاء منه كرأس إلى كل الأعضاء المشتتين في الزمان والمكان - كل الزمان وكل المكان - ليتم تجميع كل أفراد الكنيسة في تدبير يستوعب الكل، أي " تدبير ملء الأزمنة "، بحسب تعبير الرسول بولس. وعليه فملء الزمان ليس زمانا معينا لحدوث أمر ما بل هو ذلك النسيج الزمني الممتد من الرب يسوع الكلمة المتجسد  في كل زمن الخليقة بغية الإتيان بكل المعينين من قبل الخليقة ليتموقعوا كأعضاء في  جسد المسيح؛ فكل عضو حينما ينضم إلى جسد المسيح - في زمانه الخاص، الذي قد يكون أي زمن من أزمنة البشر - فهو يلج إلى ذات ملء الزمان المنطلق من الرب يسوع التاريخي، وفيما يمتلئ بالحياة الفائضة إليه من جسد الكلمة  -كعضو فيه  - فهو - كعضو ، أيضا - يملأ مكانا ينتظر قدومه في ذلك الجسد ،  أي أنه فيما يمتلئ البشر بعضويتهم في جسد المسيح، فإن شخص المسيح ذاته يمتلئ بتراكم الأعضاء الجدد فيه إلى أن تكتمل الكنيسة - التي هي جسده - فيكون شخص المسيح قد اكتمل وامتلأ ، رأسا وجسدا 

  وتقودنا هذه العلاقة الأبدية للملء المتبادل بين شخص المسيح والكنيسة، التي تنطلق في ملء الزمان ، إلى تساؤل : هل هناك أدنى شك في أن حدث مجيء ملء الزمان هو ذاته حدث مجيء الرب  - الذي هو مشتهى ومنتظر العهد الجديد - ذلك الحدث الذي فج ضوءه من وسط ظلمة ذلك المزود الحقير في ذلك الزمان، إذ قد ظهر رأس الكيان يسوع التاريخي، ثم مالبث أن تمدد في الزمان والمكان باحثا عن أعضاء جسده: في الزمان ، أيي في الماضي والمستقبل مثلما هو في الحاضر، وفي المكان، أي في الأربعة رياح الأرض. هكذا هو يتكمل ويمتلئ بالأعضاء المشتتين، ومتى  اكتمل وامتلأ بكل   المعينين للحياة الأبدية تكون قد اكتملت الكنيسة ويكون قد اكتمل مجيء الرب، أي يكون قد اكتمل مجيء ملء الزمان.

                               خلاصة الخلاصة                               

   تعبير" ملء الزمان "  ليس كما يظن عنه أنه يشير – فقط - إلى  الوقت المناسب، أو الوقت المعين، وإلا كان أحرى بالرسول أن يستخدم تعبيرا مباشرا واضحا يفيد هذا المعنى. أيضا الاستخدام الكتابي لكلمة الملء بمعنى المكمل أو المتمم  يوجه أذهاننا نحو سؤال الغائية ( teleology )، غائية الزمان، أو غائية وجود الزمان؛ فالزمان منذ انطلاقه يتمدد بغية الكشف عن شبكة ديناميكية ضخمة من التمددات المنطلقة من الرب يسوع التاريخي - كرأس  - إلى جميع الأعضاء الذين له من البشر - في كل زمان وجد فيه بشر - أي الكنيسة، وباكتمال مجيء جميع أعضاء جسد الرب ، إلى جسد الرب ، يكون قد تحققت الغاية من خلقته ب " مجيء الرب في ربوات قديسيه"( يه1: 14 )، أي بمجيء ملء الزمان 

مجدي داود

السبت، 28 نوفمبر 2020

الكرازة في الجحيم

  •                        الكرازة للأرواح التي في السجن 

                                   ( نص وتعليق )         

    النص

    " فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ،  إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ.

      الَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ الآنَ، أَيِ الْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ الْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ اللهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى السَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ" ( 1بط3: 18- 22 ).

    التعليق

      يتفرد الرسول بطرس  - في رسالته الأولى- من بين كل كتبة الوحي الكتابي – ومن بين كل الكارزين بالإنجيل في هذا العالم – بكونه الوحيد الذي تجاوز منطق الكرازة الرسولية - و هو أحد أعظم رجالاتها- بأن كشف السر العجيب الذي لوجود نوع آخر من الكرازة  بالمسيح في عالم آخر غير عالمنا وهو عالم الأموات، أقصد كرازة الرب عن نفسه، بنفسه للذين في سجن الجحيم. والنص يدخلنا في منعطف غاية في الصعوبة والالتباس بالرغم من بساطة انطباعاتنا عن ظاهره المباشر. ولكي نصل إلى الشرح السليم - الذي يفضي بنا إلى الاستنارة بواسطة هذا السر المدهش الذي كشفه  الرسول - لابد لنا من  التصدي للإجابة على سؤالين مرتبطين ببعضهما، السؤال الأول: لماذا يتم اختزال ماهية " الأرواح التي في السجن " - التي كرز لها الرب - في هؤلاء العصاة القدماء الذين لم يستجيبوا لدعوة نوح فهلكوا بالطوفان بعد أن رفضوا أن ينضموا لفلك النجاة ؟ ألا يوجد عصاة آخرون - ينتمون إلى أزمنة كثيرة أخرى غير زمان نوح - في سجن الجحيم، ويحتاجون لكرازة الرب لهم ؟ لماذا ذهب الرب فكرز لهؤلاء تحديدا دونا عن غيرهم ؟ أما السؤال الثاني فهو: ما هي الجدوى من استدعاء  المعمودية، في سياق الحديث عن كرازة المسيح لهؤلاء العصاة الهالكين بالطوفان والقابعين في سجن الجحيم، خصوصا أنه إذا كان الفلك رمزا ومثالا ( typos  ) للمعمودية فبالضرورة وبالتبعية يصبح العصاة الهالكون الرافضون لدعوة نوح، رمزا لاحتقار المعمودية، فهل يستقيم أمر كرازة المسيح في الجحيم، بنفسه، فقط لمن قد احتقروا معموديته ؟ تعقيد غير مبرر أثمرته اختزالية ساذجة وراء السؤال الأول، وسر مخفي وراء السؤال الثاني.

     حل الأحجية يبزغ ضوءه من إدراكنا أن نموذج الفلك هو الذي يتم استدعاؤه في سياق حديث الكرازة في الجحيم – كأحد نوعين للكرازة يرصدهما الرسول بطرس – وليس أن المعمودية هي التي يتم استدعاؤها. فكل ماندركه نحن عن الكرازة لايخرج عن كونها الكرازة الرسولية بالإنجيل في هذا العالم، في هذه الأرض، ولكن مفاجأة الرسول بطرس التي يفجرها في رسالته الأولى - وباستدعائه لنموذج ومثال ( typos) الفلك – أن الكرازة الرسولية التي نحن المسيحيون أبناؤها ، في النهاية يخلص بها قليلون ، بحسب نموذج الفلك، أي المعمودية. وإذا كانت المعمودية هي الصبغة، أي الاصطباغ بالمسيح، أو لبس المسيح، " لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" ( غل3: 27 )  - وقد توهمنا نحن المسيحيون أننا وحدنا نحتكر المسيح، ولاينتمي آخرون - عضويا - للمسيح غيرنا، وبالتالي لايخلص – بالمسيح – غيرنا نحن الذين آمنا واعتمدنا له تطبيقا لجوهر إرساليته للرسل حينما قال لهم: " «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا.

      مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" ( مر16: 15و 16 ). فالآن، وهنا ، يصدمنا الرسول بطرس بأننا قليلون ولانعادل سوى ثمانية أنفس في نموذج الفلك، حتى لو بلغ تعداد المسيحيين - الذين خلصوا بكرازة الرسل ، على مر العصور- المليارات . وبالرغم من هذا اعتبرنا أنفسنا أننا الفرقة الوحيدة الناجية التي بفضل انضمامها واحتكارها لفلك المسيح وباصطباغها بمعموديته قد نجت من هلاك طوفان هذا العالم الفاسد دونا عن الجميع الذين في الخارج والذين قد هلكوا ولم يكن غير الجحيم مستقرا لهم. أما الواقع الصادم  لمشاعرنا نحن المسيحيين  هو أنه بالرغم من أننا نحن أبناء دعوة الكرازة الرسولية على الأرض، كلنا مجتمعين، لانمثل إلا قليلا في جسد المسيح - وقد نجونا بفضل فلك معموديته – فإن الكثرة الكثيرة من رصيد امتلاء المسيح بالأعضاء - أي تكميل الكنيسة - إنما يفتقدها الرب كارزا لها في سجن الجحيم. وإذا كنا قد نجونا، بانضمامنا إلى فلك المسيح، وقد أطلق اسمه الحسن علينا - وقد تخيلنا أنه لايوجد في المسيح غيرنا - فإن الكشف الذي يقدمه الرسول بطرس هو أنه في فلك المسيح منازل كثيرة مهيأة لأن تستقبل أمما وقبائلا - غيرنا – تفوقنا من حيث العدد كثيرا جدا، وإن كانت معموديتنا - التي هي جوهر الكرازة الرسولية بالإنجيل - هي وسيلة اصططباغنا بالمسيح وبالتالي نجاتنا بفلكه فإن لللآخرين القابعين في سجن الجحيم والذين لم يدركهم الرب بتجسده أو لم تدركهم الكرازة الرسولية بالإنجيل فإن لهم وسيلة وتدبير آخر عجيب وغريب علينا ويفوق إدراكنا ويتجاوز منطق الكرازة الرسولية بالإنجيل، ذلك التدبير الذي افتقدهم فيه الرب بنفسه وليس بواسطة  أي رسل، فضمهم لنفسه كأعضاء فاصطبغوا به لابسين إياه معتمدين له بتدبير للمعمودية خاص بهم، ولايمكن لنا أن ندركه، إذ قد تعلمنا المعمودية بطريقة تناسب تدبير الكرازة الرسولية الذي يخصنا، الأمر الذي يختلف كل الاختلاف عن التدبير الخاص بهؤلاء، وإن كانت نهاية الأمر ومستقره هي اصطباغ الجميع بالمسيح ككنيسة واحدة تثمرها كرازتان: كرازة الرسل في هذا العالم الحاضر، وكرازة المسيح للأرواح التي في سجن الجحيم .

       نموذج فلك نوح هو نموذج الفرقة الوحيدة الناجية من الهلاك- بفضل استجابتها لدعوة الخلاص، واصطباغها بالمسيح الذي ليس بغير فلكه النجاة والخلاص - التي نحن إياها، في مقابل الذين لم يقبلوا دعوة  الكرازة بالإنجيل، سواء أولئك الذين لم تصلهم دعوة الكرازة الإنجيلية في زماننا الحاضر- حتى إلى انتهاء الزمان-  قبل أن يقضوا، أو أولئك الذين قضوا قبل تجسد الرب، امتدادا في التاريخ حتى إلى آدم الأول.كل البشر في كل تاريخ البشر ، فيما عدا أبناء وأصحاب دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل، ينطبق عيهم تصنيف " الأرواح التي في السجن " ، هؤلاء الذين لم يفتقروا إلى إله عادل منصف قادر أن يدبر لهم أمر افتقادهم بأن يكرز لهم بنفسه مقتحما غياهب سجن جحيمهم صانعا خلاصا عظيما لهم مثلما صنع - بتدبير آخر - مع الذين صارت إليهم دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل.

       كلمة " الأرواح "، في تعبير " الأرواح التي في السجن " - مستهدف كرازة المسيح - تنسجم مع طبيعة الكارز، " المحيي في الروح "، وكلمة " الروح " -  بمفردها- في هذا السياق لها مضمون إيجابي، يشير إلى الطبيعة الإنسانية الجديدة المعطاة لأعضاء الكنيسة، في المسيح، أي الوجود الروحاني عديم الفساد المعطى عوضا عن الحيواني الفاسد، " لكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلًا بَلِ الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذلِكَ الرُّوحَانِيُّ "( 1كو15: 46 ). أما وجود كلمة " السجن " فقد صنع قيدا وشرطا على المضمون الإيجابي لكلمة " الأراوح " كان من نتيجته أن أصبح المضمون المقصود بالأرواح التي في السجن هو أولئك الأموات من البشر الذين لم تدركهم بشارة الإنجيل في حياتهم ولم يصطبغوا به ولكنهم - في عيني الرب - آنية مهيأة للمجد ، حينما يلتقيهم الرب كارزا ومحررا إياهم من قيود سجن الجحيم. والمسيح قد صنع هذا التدبير " لِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ، "( رو9: 23 ).

       أما سؤال " الماهية " فلا غنى عنه، والكرازة كما نعرفها - أقصد الكرازة الرسولية  - هي فعل توصيل بشارة الإنجيل إلى البشر الأحياء على الأرض بواسطة الرسل، والذين يقبلون الدعوة يعتمدون ويصطبغون بالمسيح في هذا الدهر ويصيرون كنيسة حية إلى الأبد في حياة  الدهر الآتي. أما الكرازة للأرواح التي في السجن، أو الكرازة في الجحيم، فهي وصول المسيح نفسه إلى وعي كل واحد من أولئك المختارين المهيأين بطبيعتهم، أولئك الذين ماتوا  دون أن تصل إليهم دعوة الكرازة الرسولية ، ويحدث هذا بتدبير يفوق عقولنا، فتنفتح أعينهم في المسيح ،ككنيسة حية أبدية.

      ولمحاولة أعمق فهما نقول بأن لحظة تجسد الرب - إذا  رصدناها بنظرة بانورامية شاملة  - تبدو مفصلا في تاريخ البشر، وإذا كان الرب القائم المنتصر قد أرسل تلاميذه ورسله - بعد تلبسوا قوة من الأعالي في يوم العنصرة - إلى العالم كله ليكرزوا بالإنجيل ويعمدوا باسم الآب والابن والروح القدس، فإن الثمر العظيم للكرازة  - مهما تعاظم – فإنه قليل جدا مقارنة بحصيد حنطة البشر الذي اجتناه الرب ضاما إياه إلى مخزنه - الذي هو ذاته - بكرازة ذاته - حينما انطلق الفعل الكرازي من رأس الوجود الإنساني الجديد " يسوع " ليخترق الزمان والمكان ، كل الزمان وكل المكان، ليأتي بكل ساكني الجحيم من البشر المهيأين لذلك، أولئك " الذين لو كان الرب قد ظهر متجسدا في زمان حياتهم لكانوا قد آمنوا به "( بحسب تعبير القديس كيرلس السكندري ) . هكذا كما يضم الرب إلى جسده ثمر الكرازة الرسولية ككنيسة فإنه يضم ثمرا أوفر وأكثر بكثير - قد اجتلبه من شتات الزمان والمكان، من أعماق سجن الجحيم - إلى ذاته لتكتمل به الكنيسة جسد المسيح. وهاهو الرب نفسه يقرر – في مناسبة إرساله للسبعين رسولا كإرسالية ثانية بعد  الإثني عشر تلميذا - أن "الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ "( لو10: 2 ). هكذا يكشف الرب أن فعلة الكرازة، القليلين، يتصدون لحصاد الكرازة الرسولية " القليل " - المعادل للثمانية أنفس الناجين في نموذج فلك نوح - في مقابل الحصاد الكثير المتبقي ، الذي بلا فعلة لأن الرب نفسه هو الفاعل، هو الحاصد وهو المخزن ، هو الكارز الذي اقتحم سجن حصيد الأرواح محررا جميع المستعدين - بطبيعتهم لقبوله – ومجتلبا إياهم إلى مخزن ذاته.

        وبحسب الرسول بولس فإن " الأرواح التي في السجن " هي " الراقدون "، وهي " الأموات في المسيح"، وقد ورد  التعبيران في الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، والمفاجأة التي يفجرها الرسول بولس هي أن هؤلاء الذين لم تصلهم كرازة الرسل، قد سبقوا أبناء دعوة كرازة الرسل إلى التموقع في المسيح ككنيسة، وهذا منطقي فهؤلاء هم حصاد كرازة الرب نفسه بنفسه لهم في سجن الجحيم، عندما نزل إلى عالمنا المنحدر إلى الجحيم  بطبيعته، وعندما أتم التدبير واستعلن نصرته بالقيامة فقد استعلن أيضا مجيء هؤلاء معه، أما نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية – فئة الأحياء المتبقية من رصيد الكنيسة جسد المسيح، في العالم – فإننا لانرقد مثلما رقدوا بل  ننضم إليهم ونلحق بهم، هكذا يكتب الرسول:" أَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ.  فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ" (1تس4: 14-  17). وفي موضع آخر يكتب كاشفا السر: " لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ"( 1كو15: 51و52 ). و"البوق الأخير" في كورنثوس الأولى، هو "بوق الله " في تسالونيكي الأولى، هو البوق السابع في رؤيا يوحنا، هو لحظة التجسد التي أصبحت زمنا آنيا ممتدا من لحظة ظهور يسوع ، رأس الكنيسة، إلى كل الأعضاء في كل زمان وكل مكان لذلك " لا يَكُونَ زَمَانٌ بَعْدُ!  بَلْ فِي أَيَّامِ صَوْتِ الْمَلاَكِ السَّابعِ مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوِّقَ، يَتِمُّ أَيْضًا سِرُّ اللهِ، كَمَا بَشَّرَ عَبِيدَهُ الأَنْبِيَاءَ"( رؤ10: 6و7 )  . 

        إذا كان كل البشر المعينين للحياة - في تدبير المسيح، المخفى عن مداركنا-   الذين ماتوا دون أن تصلهم  دعوة كرازة الإنجيل بواسطة الرسل- سواء قبل التجسد أو بعده – ينطبق عليهم توصيف وتصنيف" الأرواح التي في السجن "، فهم جميعا ليسوا نسيجا واحدا منسجما من حيث المنبع الثقافي لكل منهم، فمن بين أولئك الأقوام، لدينا نحن –  أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - بعض الوعي بوجود فئة معينة نتتبع أخبار رموزها في العهد القديم ، فئة شعب الله القديم، فئة رجالات الله منذ آدم وحتى تجسد الرب، هذه الفئة التي أدركت ظل حقيقة المسيح وانتظرته وارتجت ظهوره، وماتت على رجاء أن يكون لها نصيب في قيامته، التي هي القيامة الأولى - حينما يدخل عالمنا متجسدا صائرا أول إنسان ينتصر على الموت بفضل كونه الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد- و"  "مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى "( رؤ20: 6 ). هذه الفئة نستطيع أن نطلق عليها :" كنيسة العهد القديم " أما الفئة الثانية التي افتقدها الرب كارزا لها في غياهب الجحيم فهي فئة أولئك المهيئين للحياة في المسيح كآنية رحمة بالرغم من كونها فئة متغربة في ثقافات وديانات وخلفيات كثيرة لاعلاقة مباشرة لها بالمسيح، هم يجهلون وضعهم كمشروع للرب وككنيسة له في حياة الدهر الآتي وليس في هذا العالم. أيضا هم مجهولون ومقصيون، بل ومدانون ، من قبل أصحاب دعوة الكرازة الرسولية لأنهم لم يكونوا من ضمن سياق تدبير دعوة الكرازة الرسولية بالإنجيل، وهكذا هم يبدون آخرا مرفوضا ومقصيا في الخارج، من منظور المسيحيين . هؤلاء كانوا بلا ناموس ولكنهم كانوا ناموسا لأنفسهم " "لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ،" (رو 2: 14). هذه الفئة نستطيع أن نطلق عليها :" كنيسة الأمم "، أي الكنيسة المقصية من وعي أصحاب دعوة الكرازة الرسولية، بل والمدانة من قبلهم.

                                         خلاصة  

      " الكرازة للأرواح التي في السجن "، أو " الكرازة في الجحيم"، عقيدة مهمة جدا، وبالرغم من ذلك فهي - بالنسبة لنا نحن أصحاب دعوة الكرازة الرسولية - العقيدة المنسية، أو قل المتناساة، هي العقيدة المجهولة، أو قل المجهلة. وأهمية قبولنا لهذه العقيدة هي في إنقاذنا من العنصرية والتعصب الديني الأعمى الذي يجعلنا نسلك نحو الآخر كما لو كنا الملاك الحصريين للحقيقة المطلقة ( بحسب تعبير د ./ مراد وهبة ). يحدث هذا – بشكل طبيعي جدا – بالنسبة للفكر الديني بصفة عامة، وليست ثنائية " اليهود والأمم " أكثر من مجرد مثل لتلك الحالة. أما أن يكون هذا الحال واقعا للمسيحيين أصحاب دعوة الإنجيل، فيحتكرون المسيح لأنفسهم ظنا منهم أنهم وحدهم في مجموعهم يمثلون الكنيسة الكاملة الممتلئة، جسد المسيح. ويبلغ الأمر قمة مأساته حينما تتنزل هذه الحالة المرضية إلى مستوى الطائفة والمذهب ، بل على مستوى المؤسسة الكنسية الواحدة داخل الطائفة الواحدة فأي جنون هذا! هل من المنطقي - ومن الصحيح ومن الحق - أن يحتكر المسيحيون شخص المسيح؟ أليس المسيح شخصا كونيا انطلق وجوده من ظهور رأسه في التجسد ليمتد في الزمان والمكان، يمتد في الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة آنية مستمرة ليكمل ذاته، أي الكنيسة؟ هل إذا شاء الرب أن تثمر كرازة الرسل بالإنجيل رافدا من الروافد المالئة للكنيسة ، نتجرأ ونتجاسر بدورنا فنغلق عليه أي منفذ لأن يجتلب إلى ذاته آخرين غيرنا ؟ من نحن لندعي بأن تدبير خلاصنا- المعلن في الكتب المقدسة لاسيما الأناجيل  - هو التدبير الوحيد المحتمل المتاح أمام المسيح ليخلص به  قوما من الهلاك ؟! هل لأن تدبير خلاصنا - بقبولنا دعوة الإنجيل - الذي جعل من رافدنا بؤرة لوعي الكنيسة بذاتها، في هذا العالم – يجعلنا نضع رافدا مثل قديسي العهد القديم في هامش الوعي، وكأنهم ليسوا هم الذين سبقونا إلى عضوية جسد المسيح، ويجعلنا نضع المليارات من البشر الذين لم تصلهم دعوة الإنجيل – سواء قبل التجسد أو بعده – في سجن الإقصاء والتجاهل بل والإدانة والحكم عليهم بالهلاك ؟ بعيدا عن الأسئلة الاستنكارية نعود فنقول: كرز المسيح في الجحيم للأرواح التي في السجن فاجتلب منهم قسما إلى ذاته، كان قد ارتجى ظهوره متجسدا وماتوا على هذا الرجاء، هؤلاء هم الرافد الكنسي الذي يمكن أن نطلق عليه كنيسة العهد القديم. واجتلب القسم الثاني أيضا إلى ذاته، ذلك القسم الذي كان سيؤمن أفراده بالرب لو كان قد ظهر في زمانهم متجسدا ( حسب كيرلس السكندري )، هؤلاء هم الرافد الكنسي الذي يمكن أن نطلق عليه كنيسة الأمم، أو كنيسة الجهالة ( إذ هم مجهولون بالنسبة لنا ومجهولون - ككنيسة  - بالنسبة لأنفسهم ).

     

     

     

الأربعاء، 11 مارس 2020

مفتاح شرح سفر الرؤيا ( 8 )






            3- الخلاصة حول سفر الرؤيا
                    ( إشكاليات النص )

إن شئت أن تعتبرها "خلاصة"، فهذا لك، وإن شئت أن تعتبرها " مقدمة "، قبل الاقتراب من السفر ، فهذا – أيضا – لك، على كل حال هذه بعض الإشكاليات التي يجب الإحاطة بها بخصوص سفر الرؤيا:
1- إشكالية التأويل
تنبع إشكالية تأويل النص من اختلاف طبيعة منطلقاتنا التفسيرية، قبل الاقتراب من النص، وإذا افترضنا بأن موضوع السفر هو الكنيسة سيترتب على ذلك مساران تفسيريان، الأول: إذا كان مفهوم الكنيسة لدينا هو تلك المؤسسة التي في العالم، لوجدنا أنفسنا نقترب من السفر لنحاول اكتشاف مايؤيد توجهنا، في ماتتعرض له الكنيسة في هذا العالم، وقد كان هذا بالفعل ماحدث في بداية ظهور السفر، فتلقفه الشراح ليسقطوا على النص ماتتعرض له الكنيسة من ويلات واضطهادات على يد الامبراطورية الرومانية، واعتبر أن نيرون هو وحش سفر الرؤيا، ضد المسيح، واعتبر أن روما هي بابل الزانية العظيمة، السكرى من دم القديسين. وأما الثاني : إذا كان مفهومنا عن الكنيسة هو ذلك الذي يعتبرها كيانا روحانيا هائلا كائنا في المسيح كجسد له، خالدا كملكوت أبدي – كتوجهنا في هذه الدراسة – فالأمر جد مختلف؛ فلابد أن نظرتنا لتركيبة السفر ستكون مختلفة، ولابد أن نظرتنا إلى الأحداث والشخوص ستكون أيضا مختلفة، أيضا ستتغير نظرتنا إلى أنفسنا، ككنيسة، تتغير من كوننا ملاك الحقيقة المطلقة ( بحسب تعبير فيلسوفنا العظيم د/ مراد وهبة ) إلى كوننا أعضاء في جسد المسيح، وقد تحررنا من نرجسيتنا وتمركزنا حول ذواتنا، إلى أفق هو شخص الكلمة المتجسد، الذي يستطيع - كما أتى بنا مستحضرا إيانا إلى ذاته- أن يأتي بآخرين – أيضا إلى ذاته – دون علم أو توقع منا.
بالتأكيد أن كلمة الله في الكتاب كله تنطلق من منطلقات بشرية وتاريخية، أحداث وشخوص وواقع زمكاني، ولكن شتان الفرق بين المنطلق والأفق. ماينبغي أن يشغلنا في شرح وتفسير النص هو الأفق اللانهائي الذي نسعى -  بحركة أذهاننا – نحوه، وبالتأكيد لن ندركه في هذا العالم، ولا حتى في الدهر الآتي، ولكن إن توقفنا عن الحركة وتشبثت أذهاننا بمواقع أقدامنا فقدنا روح النص وسقطنا في عبادتنا لأنفسنا. بالتأكيد قد انطلق يوحنا من أزمة الكنيسة مع نيرون، وخاطب في رسائله إلى السبع كنائس، خاطب كنائسا موجودة بالفعل هي كنائس آسيا. قد تنطبق بعض الأحداث - في مسار السفر، ظاهريا – على هذه الحقبة ولكن أفق السفر وموضوعه يتخطى زمكانية الكنيسة هنا ويتخطى وجودنا نحن ككنيسة في العالم.
  2- إشكالية الشكل
من حيث الشكل، هذا النمط من الكتابة الأدبية التي تحمل زخما من الصور والمشاهد المتلاحقة، ينبغي أن لا يأسر عيون أذهانننا في الزمن؛ بمعنى أن نتخيل أن خطا زمنيا " time line  " يجمع مثل هذه المشاهد؛ فالوحي الإلهي عندما يخاطب البشر فإنه يتكثف بطريقة يبدو فيها أحداثا وشخوصا، أي زمكانا ( من الزمان والمكان معا )، خصوصا إذا كانت الحقائق التي نتحدث عنها تحتاج إلى مستويات عليا من الروحانية للاقتراب منها، أي حقائق الدهر الآتي التي تتجاوز محدودية عقولنا وزمكانيتها. كل مشهد من مشاهد الأبوكاليبسس هو تناول -  من زاوية معينة – للحقيقة أو لجزء من الحقيقة. وعندما يذكر الراوي – الذي هو الرائي في نفس الوقت – عندما يذكر كلمة " ثم " أو " حدث كذا ثم كذا " فينبغي علينا أن لا نقع في فخ التصور الزمني فنتخيل حدوث مشهد معين كتال لمشهد آخر، في الزمن، وببساطة نحن، في السفر ، نستعرض أحداثا قال عنها السفر، نفسه  : " قد تم ". على أنه إذا لم يكن هناك خط زمني يجمع مشاهد الأبوكاليبسس فهذا لا يعني أن لا يوجد مايجمعها، بالمطلق، وهذا هو جديد هذه الدراسة التي اكتشفت وجود نموذج "  pattern " يجمع لآلئ المشاهد المتلاحقة في خيط مسبحة واحد، وقد أسميناه " نموذج سباعية الباقات "، حيث كل باقة من الباقات السبع هي ثلاثية " الختم والبوق والجام "، تلك الثلاثية التي تجتمع عناصرها حول كشف محدد بخصوص الكنيسة وروافدها، في وحدة موضوعية لا يشذ عنها أي عنصر من عناصر الثلاثية، هذا بالرغم من ورود السباعيات الثلاث ( الختوم والأبواق والجامات ) - في السفر- بطريقة عمودية، متوالية، كل سباعية تتلو الأخرى، وليست في هذا النسيج المتضافر للسباعيات الثلاث بعد وضعهم في حالة التوازي، الأمر الموجود في النموذج.
 3 – إشكالية المضمون
من حيث المضمون، سفر الرؤيا ليس - بأي حال من الأحوال- سفرا نبويا بمعنى أنه كاشف لمستقبل الكنيسة أو لمستقبل العالم، ولكنه سفر نبوي بمعنى أنه كاشف لحقيقة وجود الكنيسة، كيفا وكما، ذلك الحدث الذي انطلق لحظة تجسد الرب ليكتمل بنهاية الكون، في زمن آني متصل يعبر عنه إنجيل يوحنا بتعبير " تأتي ساعة وهي الآن ". هذا هو زمن سفر الرؤيا ، زمن "يوم الرب" الذي  ولج إليه يوحنا في الروح. في هذا الزمن المسيحي يبدو الأبوكاليبسس رحلة استكشافية للذات والآخر، بآن واحد؛ فمفاجأة سفر الرؤيا هي أن الكنيسة ليست نسيجا متجانسا واحدا – من حيث روافده - بمعنى أن الكنيسة ليست هي " نحن فقط " الذين قبلنا دعوة الإنجيل التي وصلتنا على يد الرسل المكرمين، ولكن قد سبقنا إلى الانضمام إلى الكنيسة جسد المسيح، رافد الراقدين، أولئك الذين ماتوا قبل تجسد الرب، على رجاء مجيئه. وبالإضافة إلى رافدينا: الراقدين والكرازة، يتكشف لنا رافد ثالث، أطلقت عليه" رافد الامم " أو " كنيسة الأمم " تيمنا بالمصطلح التاريخي الذي كان عند اليهود وكان يعني عندهم رفض، وتكفير ( إذا جاز التعبير ) الآخر المغاير ، الأغيار، بل ويعتبروهم من الكلاب. هذا هو كشف سفر الرؤيا المدهش للذات والآخر؛ أي نحن أصحاب رافد الكرازة، والآخر الذي نحسبه على كل ماهو ضد المسيح، ولكنه الكنيسة المتغربة التي يفتقدها الرب على نحو غائب عن عقولنا، مجهول بالنسبة لنا، وحتى بالنسبة إلى نفسه. 
 4- إشكالية البنية الرمزية
من حيث البنية، فبنية السفر هي بنية رمزية، والرمز في السفر على صنفين، الأول هو الصورة أو المشهد، والصورة مستمدة من الطبيعة – بظواهرها وكائناتها – حتى لو تم إعادة صياغتها وتشكيلها. وقد تكون الصورة مستمدة من حدث تاريخي، حقيقي، ورد في العهد القديم، كحدث سقوط بابل الذي أصبح في السفر رمزا لخلفية مقدم رافد الأمم، المسبي في ماهو محسوب على ضد المسيح. والصنف الثاني هو دلالات الأرقام واستخدامها الكتابي، لاسيما في سفر الرؤيا – الذي بلغ فيه هذا الاستخدام ذروة لايوجد مايتجاوزها في الكتاب  المقدس كله – وللكاتب دراسة بعنوان " لغة الأرقام في الكتاب المقدس "وهي موجودة على الشبكة العنكبوتية ويمكن الرجوع إليها. وباختصار شديد، إذا استعرضنا بعض الدلالات لبعض الأرقام، فإننا نستطيع أن نقول: "الواحد" هو حد الإيجابية، هو الحد الأدنى لوجود ما. "الاثنان " هو النسخ والمحو والنقض والإلغاء لوجود ما . "الثلاثة" هو الشهادة الإيجابية لوجود ما. " الأربعة "هو الإحاطة والاستيعاب لوجود ما." الخمسة " هو الفئة من وجود ما. " الستة " هو الإقصاء والتجاهل لوجود ما. " السبعة " هو الامتلاء لوجود ما. " الثمانية" هو التالي والجديد لوجود ما. " التسعة " هو التخلي عن وجود ما. " العشرة" هو الإجمالي والكلي لوجود ما.
 ومن هنا نستطيع أن نتسلح بآلية مهمة تدعمنا في الاقتراب من السفر؛ فنستطيع أن ندرك أن التركيب السباعي للسفر - والذي أسفر عن نموذج " سباعية الباقات "- ليس عبثا، بل هو أن الباقة السابعة، باقة الباقات، هي باقة الملء والامتلاء التي تحتضن البوق السابع الذي تم فيه سر الله في الكنيسة، أي سر التجسد ليبطل الزمان بمفهومه القديم ليصير نسيجا آنيا واحدا يتحقق فيه وجود الكنيسة. وغير سباعية الباقات لدينا حالة أخرى عجيبة يرصده السفر، الروح القدس، روح الله المعطى ليملأ الكنيسة، هيكل روح الله، يدعوه السفر " سبعة أرواح الله. ونستطيع أن ندرك أن ثلاثية تركيب الكنيسة هي الشهادة لوجودها الواحد ككنيسة جامعة للكل في المسيح.ونستطيع أن ندرك سر الرقم " أربعة "، في رباعية الباقات الأربعة الأولى – الأربعة حيوانات المملوءة أعينا -  ككشف لرافد دعوة الكرازة بالإنجيل، هؤلاء الذين توفر لهم – في هذا العالم –  بخلاف الراقدين والأمم - الاستيعاب والإحاطة، والوعي بذاتهم ككنيسة. ونستطيع أن ندرك سر الرقم "خمسة "، في الباقة الخامسة التي تكشف عن رافد الراقدين على أنه " الفئة " الوحيدة، من منظور رافد الكرازة – في هذا العالم – التي لها نصيب معه ككنيسة، عل خلفية إقصاء رافد الأمم. ونستطيع أن ندرك سر الرقم " ستة"، في الباقة السادسة التي تكشف رافد الأمم، رافد الإقصاء والتجاهل والتجهيل من قبل رافد الكرازة في هذا العالم. ونستطيع أن ندرك أيضا سر الرقم " اثني عشر "، رقم الكنيسة؛ فهو " ثلاثة" مضروبا في "أربعة "، أي أن الكنيسة هي ما يستوعب ( أربعة ) كل الروافد الثلاثة ليجمعها ككيان واحد في المسيح. وإن شئت أن تعتمد تحليلا آخرا ( اثنان مضروبا في ستة ) فقد حصلت على نفس النتيجة ولكن من الناحية السلبية، أي بطلان ( اثنان ) الإقصاء والتجاهل ( ستة ) لأي أحد، أي الكيان الذي يجمع الكل في المسيح بدون إقصاء لأحد. ونستطيع أن ندرك مفهوم الكنيسة، أورشليم المدينة العظيمة النازلة من السماء ذات الاثني عشرية المطلقة. ونستطيع أن ندرك أن الرقم " ألف " هو الأبدية والخلود؛ فهو " الكل"( عشرة ) مضروبا في الكل ( عشرة ) مضروبا في الكل ( عشرة )؛ أي كل ماللطول مضروبا في كل ماللعرض مضروبا في كل ماللارتفاع. أي الوجود اللانهائي،  الأبدية. هذه بعض الأمثلة ولكن خلاصة الخلاصة في هذا السياق هي أنه بدون عصا موسى ، التي هي لغة الأرقام ، لايمكننا  بأي حال من الأحوال أن نعبر اليم العظيم المعروف بسفر الرؤيا.   
5- إشكالية الغموض 
أما عن هذا الغموض العجيب الذي يتسم به سفر الرؤيا- ويبدو مقصودا  ومستهدفا - فلابد أن نجد له مايبرره؛ فإدراك مبرر هذا الغموض هو الطريق الذهبي إلى فك طلاسم السفر. علينا أن نسأل : ماهذا الكم – وماهذه الكثافة- من المشاهد والصور المتلاحقة المتوازية، والتي تبدو أنها تريد أن تؤكد – في إصرار – على شيء ما، دون أن تصرح بهذا بطريقة مباشرة؟ هذا هو التناقض الأول، وهو تناقض من حيث الشكل، وأما من حيث المضمون فهذا هو التناقض الثاني، فكيف يتفق  غموض السفر مع  كون أن مضمونه  هو "  الأبوكاليبس، apocalypse "، أي الكشف ورفع الغطاء وإزالة الغموض؟ أي كشف هذا الذي يتخذ من الغموض آلية له؟  أما إذا كنا متفقين على أن مايكشفه السفر هو حقيقة الكنيسة، حقيقة تكريس وجودها في المسيح، ذلك الوجود الذي يتجاوز رافد دعوة الإنجيل إلى رافد ثاني هو رافد الراقدين، وثالث هو رافد الأمم. أي إذا اتفقنا على أن مايكشفه الأبوكاليبس هو كنيسة دعوة الإنجيل المتجاوزة لذاتها إلى كل ملء المسيح، إي انتمائها إلى وجود يتجاوز وجودها في هذا العالم. إذا اتفقنا على هذا نكون قد وقعنا في محظور التناقض الثالث؛ فكيف يحمل الرسل كرازة الإنجيل إلى العالم وهم يؤكدون على أنه إن قبل أحد دعوتهم وآمن بالإنجيل واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن، بينما هم يؤكدون أيضا – في نفس الوقت – أن من لم يؤمنوا بدعوتهم لأنها لم تصلهم فهؤلاء أيضا يوجد بينهم من له نصيب في المسيح! هذه لغة متناقضة ولا تستقيم بأي حال، بل وتحمل في ذاتها آلية إفسادها وتحطيمها ككرازة. وليس غريبا أن الرسول بولس، رسول الأمم ( الأمم بالمعنى التاريخي للكلمة ) هو الذي واجه هذه الإشكالية، ليضعنا في هذا المأذق، وهذا التناقض، فيكتب :" لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ.  لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ».  فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ».  لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟»  إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ. لكِنَّنِي أَقُولُ: أَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! «إِلَى جَمِيعِ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُمْ، وَإِلَى أَقَاصِي الْمَسْكُونَةِ أَقْوَالُهُمْ».  لكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلًا مُوسَى يَقُولُ: «أَنَا أُغِيرُكُمْ بِمَا لَيْسَ أُمَّةً. بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ». ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي»( رو10: 12- 20 ). والرسول في هذا النص يأخذنا من تاريخية مفهوم الأمم كآخر بالنسبة لليهود، إلى رافد الأمم كآخر بالنسبة لمن دعوا مسيحيين ( رافد الكرازة ). ولكي تتجلى روعة النص، بالأكثر، علينا أن نلتزم بالترجمة الصحيحة للفعل " epikaleomai "، الذي ترجم في النص إلى مايفيد الدعوة إلى شيء ما، أما الصحيح فهو مايفيد اطلاق لقب معين على أحد ما، فيكون: " كل من يدعى ( بضم الياء وتسكين الدال ) باسم الرب يخلص "، و" كيف يدعون ( بضم الياء وتسكين الدال ) بمن لم يؤمنوا به ". إذن هناك مجال أوسع من مجال من دعوا باسم المسيح ، أي المسيحيين، أصحاب رافد الكرازة، هناك مجال من دعوا باسم الرب، أي الربانيين، ذلك المجال الذي يشمل آخرين لم يدعوا مسيحيين، في تجاوز لمسار دعوة الكرازة الرسولية، ولكن في النهاية " للرب الأرض وملؤها"( مز24: 1 ).
إذن لابد أن تبدو لغة الخطاب الكرازي لغة احتكارية ( إذا جاز التعبير )، ولابد أن يبدو الرسل على أنهم الحاملون " الحصريون " للمسيح إلى العالم، وأما أي طريق آخر فهو طريق الهلاك. ولكن تبقى إشكالية وهي كون أن كلمة الله الموحى بها قد حملت كل مايستطيع البشر إدراكه عن الحقيقة، الكاملة، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى نص يلقي بصيصا خافتا من الضوء - يمكن التقاطه من البعض – على الحقيقة، وفي نفس الوقت تمر مسيرة الكرازة في العالم بسلام، لتأتي برافدها الذي يؤمن أن المسيح له وحده، في هذا العالم، على أن تؤجل استنارته بالحقيقة الكاملة للكنيسة في حياة الدهر الآتي. من أجل هذا، كان سفر الرؤيا، ومن أجل هذا كان غموض سفر الرؤيا.   
6- إشكالية لغز المرآة
 عندما يقرر الرسول بولس حقيقة مستوى قدراتنا المعرفية في هذا العالم، فيكتب: "إِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ"( 1كو13: 12 )، فإننا حقا إزاء إشكالية عجيبة، بل قل إزاء صدمة لنا، عن أنفسنا، فما معنى أن شخصا ينظر في المرآة فلا يجد إلا لغزا، بينما كان من المفترض أن يرى أقرب صورة إلى نفسه، صورة وجهه؟ إننا إزاء ضعف مزري في قدرتنا على معرفة ذواتنا وبالتالي على معرفة الآخر. وهنا يحدث التأثير السلبي من قبل " الذات " أي " نحن " على " الموضوع " أي سفر الرؤيا؛ فالأخير –  بطبيعة مضمونه – هو كاشف لنا ككنيسة، كاشف للذات وللآخر؛ فإذا كنا بطبيعتنا غير قادرين على اكتشاف ذواتنا وبالتالي على اكتشاف الآخر، فكيف نستطيع أن نسبر أعماق سفر الرؤيا؟ وإذا كنا ننظر في المرآة فلا نرى إلا لغزا بدلا من أن نرى وجهنا فما بالنا إذا نظرنا إلى منظومة هائلة من الألغاز، أي الأبوكاليبس ؟ معرفة الذات، وبالتالي معرفة الآخر- التي هي الطبيعة العلاقاتية داخل جسد الكنيسة في المسيح ، أي المعرفة المتبادلة " سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ "- هي الوجه الآخر لمجد العضوية في المسيح، وهي بالنسبة لنا – نحن رافد دعوة الكرازة – حالة متنامية إلى أن تكتمل في الرب، وبالتأكيد هناك مايمنعنا من رؤية مجد المسيح وهو في ذاته نفس المانع الذي يعوق رؤيتنا لأنفسنا ورؤيتنا للآخر، ولكن حينئذ نكون قد أصبحنا – نحن والآخر – مسيحا واحدا، وفي رؤيتنا لمجد المسيح نرى أنفسنا ونرى الآخرين ككنيسة واحدة. وبقدر مايزول الحاجز أو " البرقع " عن وجوهنا نتغير من مجد إلى مجد، هذا ماكتبه الرسول بولس حينما قارن حالنا بحال القدماء :" وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعًا عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ.  بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ. لكِنْ حَتَّى الْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ.  وَلكِنْ عِنْدَمَا يَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ الْبُرْقُعُ.  وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.  وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ"( 2كو 3: 13- 18 ). وعبارة " نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ " ترجمة سيئة للنص اليوناني وأما الصحيح فهو ترجمتها إلى " عاكسين ( reflecting  ) مجد الرب بوجه مكشوف "، على خلاف مافعل موسى قديما حينما وضع برقعا ليحجب انعكاس مجد الرب – المؤقت الزائل – على وجهه. ونستطيع هنا أن ندرك لماذا إذا نظرنا في المرآة لا نرى إلا لغزا، بدلا من وجهنا. نحن هكذا - بهذا التردي المعرفي- لأنه في حقيقة الأمر - لا وجه حقيقي لنا في هذا العالم؛ فوجهنا الحقيقي هو وجه المسيح، الكنيسة الكاملة: ذاتا وآخرا. هذه هي أعظم إشكاليات التعامل مع سفر الرؤيا، أن نتتبع مضمونا هو ذاته جوهر وجودنا الجديد في المسيح، وبحسب يعقوب الرسول – في رسالته – فإن غياب الشركة في اللوغوس ( الكلمة ) يعني تلقائيا فقدان إدراك صورتنا في المرآة، وهذا هو النص الثاني، والأخير – بعد نص كورنثوس الأولى، في العهد الجديد -  الذي تذكر فيه كلمة " المرآة "، فيكتب: " وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلًا، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلًا نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ"( يع1: 22- 24 ). سفر الرؤيا، الأبوكاليبس - على عكس ظاهره الملغز – هو مرآة الكنيسة، ننظر فيه فنرى وجهنا الحقيقي، المسيح، ليس كمرآة وجودنا الزائفة- هنا، على الأرض - التي ننظر فيها فلا نرى إلا لغزا - على عكس توقعاتنا منها - ففي وجه المسيح نرى ذواتنا كرافد واع من روافد الكنيسة، وقد أدركنا أن هناك، أيضا، من سبقنا إلى معية الرب، أي القدماء الراقدين، وهناك أيضا من لا نعرفه في هذا العالم ولكن بالنظر إلى وجهنا الأبدي، المسيح، فإذذاك لسان حال رافدنا هو:" سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ ".
 7- إشكالية الرسالة
الرسالة التي يحملها السفر إلى المدعوين مسيحيين – الذين تدعوهم هذه الدراسة " رافد دعوة الكرازة "- تبدو كما لو كانت ركضا في الطريق المعاكس، ولكن واقع الحال هي تمثل النقطة الحاكمة في تبيان صدق هؤلاء ككنيسة؛ أقصد مسألة تجاوز الذات نحو الآخر المغاير، وتتبع المسيح في وجوه كل البشر، بصرف النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم الثقافية المختلفة. أنت كارز بالإنجيل وبالمسيح ولكنك لست المحتكر للمسيح؛ فالمسيح شخص كوني يكمل ذاته، بذاته، آتيا بكنيسته المشتتة في الزمان والمكان. كرازتك وعملك وجهادك لاقيمة له إلا في إطار الاستخدام النعموي لها في ذات مسار مجيء الرب في كنيسته وإلا مااستطاع الرسول بولس أن يقولها صريحة :" لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ"( 1كو1:  21 ). وتعبير " جهالة الكرازة "، يعني - في الأصل اليوناني – هنا – الحيادية وعدم الفاعلية، وليس عدم المعرفة التي توحي بها الترجمة العربية. الجهالة هي المعنى المقابل للقوة والفعل، كما يتضح في عبارة قريبة جدا في نفس السياق عند الرسول بولس:"  فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"(1كو1:  18 )، أي أن الصليب عند الهالكين لافعل ولا قوة له – كشركة في موت المسيح المحيي – أما بالنسبة لنا فهو قوة الله المحيية على عكس هؤلاء.الفعل، نفسه، الذي منه كلمة" الجهالة "- في هذا السياق- قد استخدم إنجيليا في التعبير عن عن فساد الشيء وبطلان مفعوله وتأثيره، كما يحدث للملح في هذه العبارة:" أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ"( مت5: 13 ). إذن لاعلاقة مباشرة لكلمة " الجهالة " بالمعرفة والحكمة، كما توحي الترجمة، إلا إذا فهمت كغياب للحكمة والمنطق في وجود شيء ما وبالتالي فقدان الجدوى من وجوده. الشاهد أن الكرازة في حد ذاتها ليست القوة الأساسية الفاعلة في تحقق وجود الكنيسة ولكن شخص المسيح ذاته هو الذي يجتلب كنيسته إلى ذاته، وعليه فإذا كان مسار الكرازة هو المسار الذي أتى برافد الكنيسة الذي يتمتع بقدر من الوعي بذاته ككنيسة وبقدر من الوعي بصورة المسيح كرأس للكنيسة، هنا في هذا العالم، فهل يعني هذا أن أي مسار آخر نحو المسيح  - خارج مسار الكرازة - هو مسار مسدود ومحكوم بالفشل؟ أليس المسيح هو الفاعل؟ أليس المسيح شخصا يتكمل الآن في العالم بفضل قدرته الشخصية كشخص الكلمة المتجسد، وليس مجرد صورة الشخص التي يرسمها خطاب الكرازة بالإنجيل؟ من هو الفاعل الشخص أم صورة الشخص؟ أليس المسيح حال في الكل ويستطيع – بتدبير أو بتدابير أخرى، لا حصر لها – أن يأتي بآخرين إلى ذاته؟ الا يوبخكم قول المعمدان :"   إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ"( مت3: 9 ). هل تلامس وعيكم بذاتكم ككنيسة – ووعيكم بالمسيح- مع سقف الحقيقة، أم أنكم مازلتم تعرفون بعض المعرفة، كما يقرر الرسول بولس:" فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ"( 1كو13: 12 ). إذن لماذا الكبرياء وتخيل أن ماتعرفونه – وهو القدر الذي لا يعرفه غيركم- يكفي ليجعلكم ، وحدكم، مركزا للاحتفالية، ويكفي لطرد غيركم منها؟ لو أنني تلبست ماقد فهمته من السفر لقلت موجها حديثي إلى من يهمه الأمر : أخي المسيحي المنتمي – معي – إلى رافد دعوة الكرازة الرسولية، سوف تدرك يوما، أي في يوم الرب، أن إخوة لك في المسيح كانوا بالنسبة لك – في هذا العالم – مدانين ومحكوم عليهم بالهلاك من قبلك بسبب أنهم يخالفونك العقيدة أو الدين أو الطائفة، أو حتى مبدأ الإيمان بالله، نفسه، وسوف تفاجأ أنهم معك في المسيح، في الكنيسة؛ فللرب آنيته المهيأة للمجد بصرف النظر عن ماتراه أنت – في هذا العالم – عن محتوى هذه الآنية. هذا هو الرافد الثالث - مع رافدينا الراقدين والكرازة – الذي يصب ليملأ الكنيسة الواحدة، جسد المسيح. هذا هو مفتاح شرح سفر الرؤيا.
               
  






الجمعة، 17 يناير 2020

مفتاح شرح سفر الرؤيا ( 7 )

      

       
      2- قرين الكنيسة في سفر الرؤيا
                      (  سر الأربعة والعشرين شيخا )

أدرك تماما أن حديثي عن الأربعة والعشرين شيخا سوف يبدو حديثا صادما وعجيبا ، وإن كان سفر الرؤيا – بطبيعة بنيته الرمزية- قد حيكت في كل مشهد من مشاهده الأساطير والإسقاطات التاريخية – فقد تميزت الانطباعات الأولى عن الشيوخ بشيء من التقديس، واعتبروا كائنات سماوية ضالعين في عمل كهنوتي يشفع للبشر أمام العرش، حيث  عروشهم التي حول العرش الإلهي. احتفل بهم في مناسبات خاصة بهم، ونظمت لهم التماجيد، وصاروا عقيدة وطقسا، صاروا جزءا من الليتورجية. وواقع الأمر، الذي أقرره هنا هو أن هؤلاء ليسوا موضوعا لليتورجية تؤديها الكنيسة – في هذا العالم – بل هم ضالعون في تكميل ليتورجية تتم فيها تقدمة الكنيسة، نفسها، وليس العكس.
 مفتاح فهم سر الشيوخ 
يتكرر ظهور الأربعة والعشرين شيخا عدة مرات، في خلفية عدة مشاهد – في سفر الرؤيا – آخرها في الإصحاح التاسع عشر. والكلمة التي ترجمت إلى " شيخ "( العجوز ، الطاعن في السن، presvyteros  ) هي ذاتها التي ترجمت إلى الأخ الأكبر ، في مثل الابن الضال، وهذا هو مفتاح فهم الأربعة والعشرين شيخا، في سفر الرؤيا. فالابن الضال هو الإنسان المستعاد إلى الله الآب، في الابن المتجسد، العجل المسمن المذبوح في وليمة لم يكن للابن الأكبر أن يكون مهيئا لحضورها. والابن الأكبر هو الخليقة ، الطبيعة ، الكون العتيق الذي ظهر موجودا قبل وجود الإنسان بزمن بعيد. وفي طاعة كاملة لإرادة جابله سار الكون في مساره المرسوم له حتى ماأثمر الكنيسة الكاملة- الكائنة في جسد المسيح- أي الإنسان الذي كان ضالا فوجد.  وإذذاك فإن غاية وجود الخليقة – الابن البكر – قد استوفيت بظهور ثمرتها، لذلك ففي مشاهد الرؤيا، التي ترصد ظهور الأربعة والعشرين شيخا، نجد هؤلاء في حالة احتفالية بتمام سر الله في الإنسان، الكنيسة، حتى وغن لم يكن لهم نصيب في الظهور في مشاهد مجد الحياة الأبدية التي اختصت بها الكنيسة دونا عنهم. قد كان الابن الأكبر في الحقل بينما كانت احتفالية عودة الضال ، في أوجها ، وعندما عاد لم يرد أن يدخل - ولم يذكر في سرد المثل أنه دخل ، حتى بعد أن أستعرض له أبوه مبررات الأمر -  والإشارة واضحة ، فالحقل هو العالم ( مت 13 : 38 ). والعالم ( الخليقة العتيقة ) لن يدخل إلى فرح الحياة الأبدية ، الذي صنعه الآب للذين عادوا إليه ، في ابنه المتجسد  ؛ فقد عاد الشيخ من الحقل في نهاية اليوم  وباقترابه من البيت اقتحمت مسامعه اصوات احتفالية صاخبة قد تم الإعداد لها عدة ساعات ، ولم يخطر ببال الأب أن يرسل غلاما إلى الحقل ليستدعي ذلك المستغرق في هامش المشهد . أيضا حينما خرج الأب للقاء الشيخ الغاضب لم يكن يتبنى غير خطاب تبريري كاشف لحقيقة مايحدث ولم يصدر من الأب دعوة واضحة صريحة للابن الأكبر لدخول البيت وحضور  الاحتفالية .   
  الابن الأكبر والرقم " أربعة وعشرون  "
في سفر الرؤيا - الذي يكشف بانوراما حركة تحقيق وجود الكنيسة ، جسد المسيح - لابد أن نرصد الخليقة العتيقة ، في هذا السياق . وتأتي هذه الخليقة  مرموزا إليها بالأربعة والعشرين شيخا . الرقم أربعة وعشرون " هو ناتج ضرب اثنين واثني عشر . " اثنان " هو البطلان والنقض . الرقم " اثنا عشر " هو رقم الكنيسة ، شعب الله وملكوته الذي يثمره هذا العالم بالنعمة ." أربعة وعشرون " هو رقم الخليقة العتيقة ( الطبيعية ) ، لأن وجودها هو وجود موقوت  ، وجود اللاكنيسة حيث المعية الموقوتة . وإذا أردنا أن نعتمد تحليلا آخرا للرقم، مثل " ستة مضروب أربعة"، فلن نصل إلى نتيجة مختلفة؛ فالأربعة يعني الإحاطة والاستيعاب، والستة هو الإقصاء، إذن هو الوجود المستوعب والمحاط بالإقصاء، من كونه كنيسة حية إلى الأبد. تحليل ثالث مثل " ثلاثة مضروب ثمانية " – أيضا - لا يخرجنا عن النص؛ فالثلاثة هو الشهادة الضامنة لوجود ما، والثمانية هو اليوم التالي،  الجديد، إذن هو وجود الخليقة العتيقة التي تشهد بتحقق وجود اليوم التالي، الخليقة الجديدة، الكنيسة الكائنة في الكلمة المتجسد.  الخليقة  العتيقة  لها زمن محدد من أجل غرض محدد . هي قائمة في معية الله  - بفضل الكلمة (  logos  ) الحاضر فيها -  ، إلى أجل مسمى ، وعندما يحين ذلك الأجل سوف ينتهي وجودها ، عائدة الى العدم ، أي سوف تنتهي معيتها لله ، بانتهاء حضور الكلمة فيها ولن يكون لها نصيب  أبدي . وفي ذلك يقول الرسول بطرس : " السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ.   وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ، فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ " ( 2بط3: 5-7 ). ولكننا قد نرصد تناقضا  بين هذا الطرح وبين قولة الأب لابنه الأكبر: "  أنت معي في كل حين " ( لو15 :31 ) ، ماعسى أن تكون هذه المعية ؟   ولعل مايزيل التناقض هو ماورد في سياق عتاب الشيخ لأبيه : " هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ " ( لو15 : 29 ) . المعية إذن هي معية طاعة الوصية ، بمعنى عدم خروج الكون والخليقة عن المرسوم لها من مسار تطوري خلال زمن وجودها المحتوم والمحسوم - بفضل الكلمة الحاضر الفاعل فيها من خلال القوانين الطبيعية الحتمية - وهو أمر  يتناقض ويتعاكس مع مافعله الإنسان الذي استقل بذاته وتقوقع داخل نرجسيته فخرج عن المسار المأمول لوجوده وهو صيرورته ابنا وارثا وشريكا في الابن الذاتي . لذلك قال الأب للكبير : "  أنت معي كل حين  " أي أن الخليقة تسلك زمن وجودها بالكامل  - منذ لحظة انطلاقه إلى لحظة انتهائه ، أي كل حين يخص زمن وجودها - في كشف كل مايخص طبيعة خلقتها ومصيرها المحتوم في ذهن الخالق  .      
 المشاهد  التي رصد فيها الأربعة والعشرون شيخا  
1- المشهد الأول : العروش 
عروشهم حول عرش الرب:" وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ" ( رؤ4 :4 ). والعرش ( الكرسي ) هو كرسي المجد : ( مت 19 : 28 ) ، ( مت 25 : 31 ). والمجد هو مجد الوجود " لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ  ... لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ  . هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ.  يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ .. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا  .."( 1 كو 15 : 42 - 44 ) .  والكنيسة الكائنة في ابن الإنسان ، حينما يجلس على كرسي مجده - أي حينما يمتلئ كيانه بكل المفديين ، كأعضاء - إنما هي تجلس فيه على كراسي المجد ، أي يستعلن وجودها الأبدي ، فيكون لها أن تدين ، وتكشف زيف من هم خارج ابن الإنسان ، حتى وإن كان لهم مظهر التقوى ، فها هو الرب يخاطب الكنيسة ، ممثلة في تلاميذه ، قائلا : "  إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ  ."( مت 19: 28 ). إذن ، في مشهد جلوس الشيوخ الأربعة والعشرين على عروشهم حول عرش الرب ، نحن نرصد وجود الخليقة العتيقة ، في معية الله . وبالتأكيد أن للخليقة مجد ، يعجز العقل البشري عن سبر أغواره ، ولكن يظل المجد العلوي الذي للثالوث القدوس ، والذي استعلن في الخليقة الجديدة ، في المسيح ، هو المجد الحقيقي المستمر إلى الأبد ، بينما مجد الخليقة العتيقة إلى زوال لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا. "( 1 بط 1: 24و25)   .
 2-  المشهد الثاني : السجود وطرح الأكاليل قدام الجالس على العرش
  يخر الشيوخ ، الأربعة والعشرون ، ساجدين ، طارحين أكاليلهم قدام الجالس على العرش قائلين : " أَنْتَ مُسْتَحِقٌ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ  " ( رؤ  4 : 11 ). في هذا المشهد تؤكد الخليقة العتيقة ، عدم أهليتها - بحكم طبيعتها - للشركة في مجد الحياة الأبدية ، في المسيح الرب ، فتطرح أكليل وجودها أمام العرش ، إذ هو إكليل مخلوع بطبيعته ، كما أن جلوسها على العرش كان جلوسا موقوتا ، وهي تقر بذلك وترجع  المجد  إلى خالقها الذي أوجدها من العدم وأعطاها هذا المجد الزمني .
3- المشهد الثالث : فك ختوم السفر ، السبعة ( رؤ 5 : بالكامل )
  السفر المختوم هو سفر الحياة ، ولما كان الكلمة هو الحياة الذي بغيره لم يكن شيء مما كان - فإن الكلمة المتجسد هو الوحيد القادر على أن يفتح السفر ويفك ختومه ، وهذا هو الخبر  السار الذي زفته الخليقة على لسان أحد الشيوخ ، ليكف الرائي عن بكائه :  "  لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ  ".  إذ لا يستطيع أحد أن يفتح السفر أو يفك ختومه إلا خروف قائم كأنه مذبوح في وسط الشيوخ ، ولما أخذ السفر خر الشيوخ " وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ :  " مُسْتَحِقٌ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ".  في هذا المشهد تؤكد وتشهد الخليقة أن سر وجودها هو المسيح الكلمة المتجسد المذبوح من أجل حياة الخليقة . هذا هو محور وجودها ، إذ هو قائم في وسط الشيوخ .  فغاية وجود الخليقة العتيقة هي الوصول إلى لحظة ظهور الوجود الجديد الذي من أجله قد ذبح الخروف ، أي ليشتري كنيسته - بدمه - من كل شعوب الأرض ، جاعلا من الجميع ملوكا وكهنة ، في ملكوت السموات .   يحمل الشيوخ جامات من ذهب مملوءة بخورا هي صلوات القديسين . هكذا تشهد الخليقة أن غاية وجودها هي إصعاد القديسين لينضموا إلى باكورتهم ، الخروف المذبوح ، القائم في الوسط . لم يكن الأربعة والعشرون شيخا ، أي الخليقة العتيقة ، هم القديسون ، بل هم الذين يصعدون القديسين ، كثمرة عظمى لغرسهم العظيم ، الذي لم يكن ، دائما ، إلا طائعا ومسبحا لخالقه الذي استحضره من العدم لأجل هذا الهدف الوحيد . وهم بترنيمتهم الجديدة إنما يترنمون بماهو لسان حال الكنيسة المفدية والمجتمعة أشلاؤها عبر تاريخ البشر مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ . وهم وإذ يتحدثون بلسان المفديين فهم إنما يعربون عن رضاهم بدورهم العظيم في أدائهم ليتورجيتهم الكونية التي فيها تم تقديم صعيدة الكنيسة إلى الله الآب في ابنه المتجسد . هذا هو سر بقاء وانتظار الخليقة ،  مابقيت وماانتظرت ؛ " لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ . إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ  لِلْبُطْلِ  لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ.  فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا " (رو8 :19- 23 ) .
4- المشهد الرابع : فتح الختم السادس (6: 12-17و 7: 1- 17 )
في سياق هذا المشهد يقدم الأربعة والعشرون شيخا – على لسان أحد الشيوخ- شهادتهم عن قدوم رافد الأمم : " وَأجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ قَائِلًا لِي: «هؤُلاَءِ الْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، مَنْ هُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لِي: «هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ  مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ.  لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ،  لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ»(  7: 13 -17  ).
4- المشهد الخامس: البوق السابع ( رؤ 11 : 15 - 19 )
 البوق السابع هو البوق الأخير ، هو لحظة التجسد الإلهي ، لحظة مجيء الرب ، التي شطرت التاريخ قسمين ، فابتعث الأموات الراقدون- قبل التجسد - لينضموا إلى الكلمة المتجسد ، وأما الأحياء فلا يرقدون كالسابقين بل يختطفون لينضموا إلى الآخرين ، في الرب ، وهذا هو مضمون عبارتي بولس الرسول ، الآتيتين :
1-   "  هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ " ( 1كو15 : 51 و52)  .     
 2-   "  لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ "   ( 1 تس 4 : 16و17)   
نعود إلى مشهد البوق الأخير ، في رؤيا يوحنا اللاهوتي ، فنرصد حدوث تلك الأصوات العظيمة في السماء ، التي تعلن مجيء ملكوت الرب ومسيحه ، على العالم ، إلى أبد الآبدين ، وأما الأربعة والعشرون شيخا الجالسون على عروشهم أمام الله فيخرون على وجوههم ، ساجدين قائلين : "  نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظِيمَةَ وَمَلَكْتَ    ، ... " وينفتح هيكل الله في السماء ، ويظهر تابوت عهده في هيكله . هكذا تشهد الخليقة أن ذلك الأزلي ، الذي كان في أبيه منذ الأزل ، هو كائن فيها ، وبه هي كائنة ، وأما الخبر السار فهو أنه في زمن البوق الأخير ، زمن التجسد ، إنما هو يأتي فيها ، محققا ملكوته الأبدي. هذه هي الخليقة ، الطائعة لخالقها الذي أنشأها من العدم ، والسائرة في حركة طاعتها نحو تحقيق هدفها المنشود وهو تحقيق وجود الخليقة الجديدة ، الكنيسة ، الكائنة في شخص المسيح ، محور حركة الكون وحامله ، بحضوره فيه . هذا هو الابن الأكبر ( الشيخ ) ، الخليقة العتيقة التي لم تخذل الآب السماوي في خدمتها ، بل ظلت في مسار ليتورجيتها الكونية التي فيها تصعد الخليقة الجديدة إلى حيث ما يجب أن يسترد الضال ، وفي ذلك كله لا نصيب  للابن الأكبر ( الشيخ  ) في حضور احتفالية العودة . فيتكرر ذكر ( وظهور ) الأربعة والعشرين شيخا في ستة إصحاحات من رؤيا يوحنا ( 4، 5 ، 7،11 ، 14 ،19 ) ، وفي هذه المشاهد يؤكد ويوثق الشيوخ شهادتهم التاريخية على مسار حركة تكريس وإظهار وجود الكنيسة بكل منعطفاته وأحداثه ، كنمط من وجود جديد عديم الفساد عوضا عن وجودهم العتيق . يخرون ساجدين  مقدمين المجد والكرامة لمن يستحق المجد والكرامة . لنصل إلى آخر مشهد يظهر فيه الشيوخ - في الإصحاح التاسع عشر- حيث يشهدون دينونة المدينة العظيمة بابل . هكذا تكون الخليقة قد شهدت  وأدلت بشهادتها بخصوص كل البشر . شهدت مصيرا إيجابيا للذين  في المسيح ومصيرا سلبيا للذين ليسوا في المسيح . وأما في باقي الرؤيا - أي إصحاحات : 20 و 21 و22  - فنحن نشهد النهاية السعيدة لكل شي : السماء الجديدة والأرض الجديدة ( الخليقة الجديدة ) مسكن الله مع الناس ، أورشليم المدينة العظيمة المقدسة النازلة من السماء ، نهر الحياة الصافي ، ..  إلخ  . وفي كل مشاهد الإصحاحات الثلاثة ، المدهشة ، لم يأت أي ذكر من قريب أو من بعيد لأي تواجد للشيوخ . وأظن أن الأمر لايخلو من ثمة دلالة غير ضعيفة. هؤلاء هم الأربعة والعشرون شيخا ( الخليقة العتيقة ، بلغة سفر الرؤيا ) ،يؤكدون ويشهدون شهادة إيجابية فاعلة نشطة  - في رضا وامتنان ، في كل مشهد يتواجدون فيه  - عن دورهم المحوري في إصعاد الكنيسة  - من وسطهم  - إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة ، في الخروف القائم كأنه مذبوح ، في وسطهم ، أيضا . وما أن تنتهي مهمتهم النبيلة إلا  وبختفون تماما من المشهد ، فلامكان ولازمان للقديم وسط الجديد ، مثلما كان تماما لهم بصيغة مثل الابن الضال أي صيغة الابن الأكبر- الذي بالرغم من أن كل ماللأب كان له بعد أن أخذ الصغير نصيبه ، حتى تكلفة احتفالية العودة والعجل المسمن ، كل شيء كان من حساب الشيخ . هو الذي يعمل كعبد في تنمية نصيبه – وفي النهاية لم يكن له نصيب في احتفالية وليمة العجل المسمن ، ولكن من المفترض أن يفرح لأن أخاه كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد .
الأربعة والعشرون شيخا والليتورجية الكونية
لاشك أننا حينما نتحدث عن الأربعة والعشرين شيخا فنحن بصدد الحديث عن عمل كهنوتي ملوكي من الطراز الأول: قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخورا هو صلوات القديسين، وترنيمة جديدة تسبح ذلك الذي استطاع واستحق – بذبيحة نفسه- أن يأخذ السفر ويفك ختومه، جاعلا من شعبه – الذي أخذه من كل أمة- ملوكا وكهنة – هذه هي شهادة الشيوخ الجالسين على عروشهم حول العرش، والمتسربلين بثياب بيض وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب. هذه هي شهادتهم عن الكلمة المتجسد ، الأسد الذي من سبط يهوذا. الخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا ) منذ انطلاقها من العدم، وحتى فنائها، هي سائرة في مسار كاشف لسر الله المكتوم منذ الأزل، أي تجسده في البشر وجعلهم كنيسة في جسده الواحد. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية العظمى للخليقة، وهذه هي وظيفتها الكهنوتية التي تضطلع بها، وتلك هي الليتورجية الكونية التي انطلقت من لحظة تجسد الكلمة لتخترق كل الزمان، ماضيه وحاضره ومستقبله، في لحظة آنية ممتدة يأتي فيها بالكل كأنافورا صاعدة إلى الآب في ابنه المتجسد. وفي كل هذا ترضخ الخليقة لهذا العمل الكهنوتي، راصدة له، وضالعة فيه، بل وممتنة لكونها شريكا أساسيا في إنتاج هذه الثمرة العظمى، المسيح الكوني المحتضن لكنيسته في جسده إلى الأبد. وبالرغم من كون الرب، الكلمة المتجسد هو رئيس الكهنة الأعظم، و" لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهذَا أَيْضًا شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ"( عب8: 3 )، ولأن تقدمته هي جسده، فإن كهنوته هذا لم يكن غير دليل دامغ على الطبيعة الكهنوتية  للخليقة؛ فما قد قدمه ذاك ، هو قد سبق أن قبله وأخذه من الخليقة؛ لأن تجسده لا يعني إلا اتخاذه جسدا مخلوقا. هكذا – وإلى هذا الحد – نرصد أن الخليقة كم هي ضالعة في كهنوت رئيس الكهنة، المسيح الرب، بل هي التي قدمت له ماقد قدمه هو- وبالطبع كل شيء مسيطر عليه من الكلمة الحاضر في الخليقة منذ أن صارت خليقة – لذلك نجد في المشهد الثالث أن المخلص ليس فقط قائما وسط العرش – باعتباره الابن الوحيد الذي في حضن الآب – ولا هو قائم فقط وسط الحيوانات الأربعة المملوءة عيونا- باعتباره موضوعا لشهادتهم – ولكنه قائم أيضا وسط الشيوخ، باعتباره الثمرة العظمى للخليقة، والذي فيه تمتلئ الكنيسة بسباعية استعلانات الروح الواحد، الذي يرسله الآب باسمه ليتمم كل استحقاقات تجسده، وهكذا يكتب الرائي بكل وضوح :" وَرَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إِلَى كُلِّ الأَرْضِ "( 5: 6 ).
الأربعة والعشرون شيخا وخدمة اللاويين
يتبقى سؤال أخير: هل نحن مضطرون لقبول ترجمة الكلمة إلى " قس أو كاهن "- بدلا من " شيخ " -  طالما تجلت أمام أذهاننا الطبيعة الكهنوتية  - والوظيفة الليتورجية - للأربعة والعشرين ؟ الإجابة : بالطبع لا، لسنا مضطرين لقبول هذه الترجمة؛ فالأربعة والعشرون شيخا – بلغة سفر الرؤيا – ليسوا كهنة، مطلقا، بل هم – بلغة العهد القديم – لاويون. والكهنة واللاويون ينتمون إلى سبط لاوي، ولكن هناك فرقا بين وظيفتيهما ؛ فبينما الكهنة – أبناء هارون – هم المسئولون عن أعمال الذبائح والبخور والصلوات، فاللاويون يقومون بدور " لوجيستي "( إذا جاز التعبير ) مساعد. ولكن أبرز أدوارهم – بالإضافة إلى خدمة خيمة الاجتماع وحراستها – هو حمل الخيمة في الترحال وإعادة نصبها وتثبيتها في الحل، هذا – بالتأكيد – فضلا عن حمل تابوت العهد.
   ويدهشني التطابق – على مستوى الرمز - بين اللاويين ، من ناحية ، والابن الأكبر( في مثل الابن الضال) والأربعة والعشرين شيخا ، من ناحية أخرى، وقد استطعت بنعمة الرب أن أرصد عشرة أوجه في هذا السياق :
 1- اللاويون ( أبناء لاوي )، ولاوي اسم يعني " المقترن أو القرين ": " وَحَبِلَتْ ( لَيْئَةُ ) أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا، وَقَالَتِ: «الآنَ هذِهِ الْمَرَّةَ يَقْتَرِنُ بِي رَجُلِي، لأَنِّي وَلَدْتُ لَهُ ثَلاَثَةَ بَنِينَ». لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهُ «لاَوِيَ» ( تك29: 34 )؛ فالوجود الطبيعي، الكون - الذي سبق وجود الكنيسة ثم استمر ملازما مسارات تحققها، ملازما ومقترنا بذلك الفعل الكهنوتي الكوني الذي اكتمل في رئيس الكهنة الرب يسوع المسيح – هو اللاوي المقترن بالكنيسة في هذا العالم، مثلما كان اللاويون مقترنين بالخيمة وبأعمالها وبكهنتها من  أبناء هارون. وكما كان اقتران هؤلاء بالكهنوت الهاروني وبالخيمة أساسيا ومحوريا قي الليتورجية القديمة  فإن اقتران الوجود العتيق وتلازمه للكنيسة  المرتحلة في هذا العالم- حتى ماتصل إلى مبتغاها الأبدي، المسيح- أمر لا سبيل إلى الاستغناء عنه.
 2- بعض من الغموض يكتنف كلام الرب لموسى: «قَدِّمْ سِبْطَ لاَوِي وَأَوْقِفْهُمْ قُدَّامَ هَارُونَ الْكَاهِنِ وَلْيَخْدِمُوهُ... فَتُعْطِي اللاَّوِيِّينَ لِهَارُونَ وَلِبَنِيهِ. إِنَّهُمْ مَوْهُوبُونَ لَهُ هِبَةً مِنْ عِنْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ... «وَهَا إِنِّي قَدْ أَخَذْتُ اللاَّوِيِّينَ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَدَلَ كُلِّ بِكْرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ اللاَّوِيُّونَ لِي... لأَنَّ لِي كُلَّ بِكْرٍ. يَوْمَ ضَرَبْتُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ قَدَّسْتُ لِي كُلَّ بِكْرٍ فِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. لِي يَكُونُونَ. أَنَا الرَّبُّ»( عدد3: 6و 9 و 12 و 13 ). ماهذه البدلية العجيبة ؟ لماذا اختار الرب ، أولا، أبكار إسرائيل كلهم – من الناس والبهائم – وقدسهم ، ثم يأتي الآن ليختار اللاويين بدلا منهم كأبكار بالرغم من كون لاوي ليس البكر، ليعقوب، بل  هو الثالث؟ في اعتقادي لا يفك الاشتباك هنا سوى تطبيق وتنزيل الرمز على واقع الكنيسة، في المسيح من ناحية، وواقعها في هذا العالم من ناحية أخرى ؛ فهكذا قد دعيت الخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا  ) ابنا بكرا – دعيت الأخ الأكبر للكنيسة ، في هذا العالم - بالرغم من أن الكنيسة تضم الأبكار الحقيقيين المعينين من قبل خلقة العالم، والذين قد تحقق وجودهم في المسيح، وفي ذلك يكنب الرسول مخاطبا الكنيسة : " بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ. أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ"( عب12: 22- 24 ). هكذا نستطيع أن نرصد مستويين من البكورية: بكورية الخليقة الجديدة ، الكنيسة، جسد المسيح  ، وهي البكورية الأصلية الكائنة في إرادة الله قبل الخليقة. والبكورية الثانية هي بكورية الخليقة العتيقة، التي بحسب الزمن ؛ فبكورية الخليقة " اللاوية "( إذا جاز التعبير ) بكورية موقوتة، في هذا العالم، بحسب زمن خدمة إصعاد كنيسة الأبكار في رئيس الكهنة الأعظم الرب يسوع المسيح، ومتى اكتملت هذه الليتورجية الكونية انتفت سببية وجود الخليقة فما تلبث أن تتوارى عن المشهد تاركة خلفها ثمرة خدمتها العظمى، الكنيسة. فالخدمة اللاوية التي للخليقة ، تجاه الكنيسة تعني كونها " موهوبة " لهرون وبنيه الحقيقيين، كقرين لمسار الكنيسة في الزمان والمكان، منذ أن كان هناك زمان ومكان.
   3- وهناك وجه قد يبدو متناقضا – من حيث الظاهر – مع الوجه السابق؛ فبينما اتخذ اللاويون – من قبل الرب – بديلا لأبكار بني إسرائيل، وخصصوا للرب، فهم مقصيون ومستثنون من الإحصاء بين بني إسرائيل :" وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى فِي بَرِّيَّةِ سِينَاءَ، فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَائِلًا: «أَحْصُوا كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعَشَائِرِهِمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ، بِعَدَدِ الأَسْمَاءِ، كُلَّ ذَكَرٍ بِرَأْسِهِ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، كُلَّ خَارِجٍ لِلْحَرْبِ فِي إِسْرَائِيلَ. تَحْسُبُهُمْ أَنْتَ وَهَارُونُ حَسَبَ أَجْنَادِهِمْ ... «أَمَّا سِبْطُ لاَوِي فَلاَ تَحْسُبُهُ وَلاَ تَعُدَّهُ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.  بَلْ وَكِّلِ اللاَّوِيِّينَ عَلَى مَسْكَنِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى جَمِيعِ أَمْتِعَتِهِ وَعَلَى كُلِّ مَا لَهُ. هُمْ يَحْمِلُونَ الْمَسْكَنَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهِ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ، وَحَوْلَ الْمَسْكَنِ يَنْزِلُونَ. فَعِنْدَ ارْتِحَالِ الْمَسْكَنِ يُنَزِّلُهُ اللاَّوِيُّونَ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَسْكَنِ يُقِيمُهُ اللاَّوِيُّونَ. "( عدد1: 1-3 ، 49- 51 ). إذن، اللاويون غير محسوبين على بني إسرائيل لسبب وحيد هو خدمتهم للمسكن، في حله وترحاله وحراسته، في كل مساراته، هكذا أيضا الخليقة، الوجود العتيق، غير محسوب على الخلود الذي للكنيسة، في المسيح. هو فقط القرين الحامل والحارس للكنيسة المرتحلة في صحراء هذا العالم.    
4 - أيضا اللاويون، مثلما هم غير محسوبين – إحصائيا - على بني إسرائيل، هم أيضا لم يكن لهم نصيب- في اقتسام الأرض مع إخوتهم، الرب هو نصيبهم ( راجع تث10: 9 ). وهو نفس الموقف من الابن الأكبر ، حينما عاد ليفاجأ بأفراح عودة أخيه الضال ، الذي أخذ القسم الذي يخصه من ثروة أبيه، بينما هو لم يأخذ شيئا، ولم يكن له نصيب مخصص له, قد كان نصيبه هو نصيب اللاويين، وهذا ماقد أكده له أبوه : " كل مالي فهو لك " ( لو15: 31  ).
5 - بالرغم من أن اللاويين لا نصيب لهم مع إخوتهم -كقسم ظاهر واضح، في مكان واحد محدد، مقارنة بأقسام الأسباط الأخرى – إلا أنهم قد حصلوا عل نصيب عظيم، ولكنه منتشر في وسط كل الأسباط:  " جَمِيعُ مُدُنِ اللاَّوِيِّينَ فِي وَسَطِ مُلْكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ مَدِينَةً مَعَ مَسَارِحِهَا" ( يش21 : 41 ). والرقم ذو دلالة مهمة؛ فهو " أربعة مضروب اثني عشر " أي الإحاطة والاستيعاب للكنيسة، وهذا يقودنا إلى ذروة عبقرية الرمز.
6 - وكما أطاع اللاويون موسى في موقفهم الشجاع في حادثة العجل الذهبي، هكذا أيضا كان الابن الأكبر – طيلة حياته – طائعا وخاضعا لإرادة أبيه، الذي أقر بهذه الحقيقة : " أنت معي في كل حين " (لو15: 31   ).
7 -  قام داود ، في أيامه الأخيرة، بتنظيم اللاويين وتقسيمهم على فرق، وقد كان الرقم " أربعة وعشرون " رقما محوريا وأساسيا في تقسيمهم ( راجع: 1أخ 24و 25)
8 - كان محظورا على اللاويين أن يقدموا ذبائح أو يحرقوا بخورا أو يروا الأشياء المقدسة إلا مغطاة، هكذا أيضا الخليقة، الأخ الأكبر للكنيسة، فيما تخدم ليتورجية إصعاد الكنيسة فهي ليست شريكة في مجد الحياة الأبدية في المسيح، بل تتعامل مع أمجاد الكنيسة من وراء حجاب وظيفتها أي خدمة اللاويين وليس خدمة الكهنة؛ فلا كاهن إلا واحد وهو الكلمة المتجسد.
9 - بينما يحمل الشيوخ " قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ."( رؤ5: 8 )، فهم لم يحرقوا هذا البخور بل هم – فقط – حاملون له في جاماتهم ومصعدون إياه. هم فقط خادمون شاهدون على سر إصعاد القديسين إلى الآب في ابنه رئيس الكهنة الأعظم الرب يسوع المسيح، الوحيد الذي يستطيع أن يحرق بخور القديسين، المشتركين في ذبيحة محرقة موته المحيي.
 10-حدود خدمة اللاويين هي سن الخمسين :" مِنِ ابْنِ خَمْسِينَ سَنَةً يَرْجِعُونَ مِنْ جُنْدِ  الْخِدْمَةِ وَلاَ يَخْدِمُونَ بَعْدُ" ( عدد8:  25)، والرقم خمسون هو " مضروب خمسة وعشرة "، والخمسة هو الفئة، والعشرة هو الكل؛ فالخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا ، اللاويون ) هي الفئة الخادمة لكل أفراد الكنيسة،  وبمجيء الكل ينتهي دورها وتنتفي سببية وجودها. والسنة الخمسون هي سنة اليوبيل، وهي السنة الأولى بعد سبع سبعات من السنوات ( ستة عمل معتاد، والسابعة راحة )، وهي : سنة العتق ( لا25: 10 )، سنة البركة ( لا25: 20- 22)،  سنة الرب المقبولة ( لو4: 17- 19 ). واليوبيل كلمة تعني " القرن "، الذي ينفخ فيه إيذانا ببدء الاحتفال بهذه السنة. هكذا يأخذنا الرمز إلى البوق السابع، زمن تمام سر الله، التجسد، وتأخذنا رمزية حدود خدمة اللاويين ( أي الخمسين سنة ) إلى حدود خدمة الخليقة للكنيسة باستيعابها لكل مسار استحقاقات سر التجسد في الزمان والمكان حتى ماتكتمل الكنيسة، في سنة اليوبيل الحقيقي  التي تتكمل فيها الخليقة الجديدة الآتية في اليوم الجديد، اليوم الثامن ( بعد سباعية السبعات ). هكذا تأخذنا حقيقة خدمة الأربعة والعشرين " اللاوية "( إذا جاز التعبير ) إلى تخوم تتميم سر المسيح، سر الكنيسة، وإذذاك يكون قد اكتمل دورها العظيم. أيضا لدينا عيد الخمسين، العنصرة، سواء في صيغته القديمة، عند اليهود – وكان يطلق عليه عيد الأسابيع لأنه يأتي بعد سبعة أسابيع من ثاني يوم لعيد الفصح، أي اليوم الخمسين من عيد الفصح، وكانوا يحتفلون فيه بتقديم كل إنسان لرغيف من باكورة حصاده؛ لذلك دعي، أيضا، عيد الحصاد – أو في صيغته الجديدة، في العهد الجديد، حيث هبوب الريح العاصف وحلول الروح القدس ليكرس وجود الكنيسة كهيكل أبدي لروح الله، يكرس وجود مخزن حصيد الحنطة البشرية، المسيح الرب ( بحسب يوحنا الصابغ، في لو3: 17 ). هكذا ينقلنا الرمز بصيغتيه،  القديمة والجديدة إلى حدود الدور اللاوي العظيم للخليقة في مسارها المنتج لحصيد الكنيسة، حتى ولو لم يكن لها – بحكم طبيعتها – نصيب في مجد الخلود الذي للكنيسة، وهذا يذكرنا بالابن الأكبر، الذي بينما كان في الحقل، كانت أصوات احتفالية عودة أخيه، المستعاد بعد ضلاله، صادحة في الأفق منطلقة من البيت معلنة استمتاع المحتفلين بخيرات حصيده وبثمرة خدمته في الحقل دون أن يستدعيه أحد لحضور الاحتفالية ( راجع لو 15: 25- 32 ). وبالتأكيد، إن مجرد تنظيم الجماهير الجائعة - فرقا، خمسين خمسين – ليس كافيا لإحداث الاختراق العجائبي الذي فيه يتم إشباع  خمسة آلاف رجل من خمسة أرغفة وسمكتين، ولكنه يكفي لتحديد مسارات استقبال النعمة المجانية المشبعة للجميع ( راجع: مر6 : 40- 42 ، لو9: 13- 17 ). وعلى نفس القياس نقول: ليس للخليقة، الأخ الأكبر للكنيسة دور في إصعاد الكنيسة سوى طاعة الخالق في تحديد مسارات الزمان والمكان التي يستقبل فيها أفراد الكنيسة النعمة، فيتم تقدمتهم كصعيدة إلى الآب في الابن المتجسد، رئيس الكهنة الأعظم. فقط الخليقة لها هذا الدور اللاوي " المقترن" بكهنوت هارون وبنيه الحقيقيين، المسيح المستوعب لكنيسته في جسده. وباختصار شديد فإن الرقم "خمسين"، كحد للخدمة اللاوية للخليقة ، يعني الوصول إلى تخوم المجيء الكامل للكنيسة في الرب. هكذا قد وهبت الخليقة للكنيسة كقرين كاشف وحامل لهذا المسار في هذا العالم.  والخدمة اللاوية التي تقوم بها الخليقة- بهذا الشكل - هي ماقد أشارت إليها رمزية أرض الطريق، في مثل الزارع؛ فهذه الأرض ليست مستهدفة؛ لذلك لم تأت أرض الطريق بالثمر المرجو، فهذا لم يكن دورها،  بينما كان كل دورها حمل أقدام الزارع إلى الأرض الجيدة حيث الثمر المرتجى للكنيسة الكاملة، المملوءة من روافدها الثلاثة: ثلاثون ( خمسة مضروب ستة، أي رافد الأمم )، وستون ( خمسة مضروب اثني عشر، أي رافد الراقدين )، ومئة ( عشرة مضروب عشرة، الكل في الكل، أي رافد دعوة الكرازة ).