الجمعة، 17 يناير 2020

مفتاح شرح سفر الرؤيا ( 7 )

      

       
      2- قرين الكنيسة في سفر الرؤيا
                      (  سر الأربعة والعشرين شيخا )

أدرك تماما أن حديثي عن الأربعة والعشرين شيخا سوف يبدو حديثا صادما وعجيبا ، وإن كان سفر الرؤيا – بطبيعة بنيته الرمزية- قد حيكت في كل مشهد من مشاهده الأساطير والإسقاطات التاريخية – فقد تميزت الانطباعات الأولى عن الشيوخ بشيء من التقديس، واعتبروا كائنات سماوية ضالعين في عمل كهنوتي يشفع للبشر أمام العرش، حيث  عروشهم التي حول العرش الإلهي. احتفل بهم في مناسبات خاصة بهم، ونظمت لهم التماجيد، وصاروا عقيدة وطقسا، صاروا جزءا من الليتورجية. وواقع الأمر، الذي أقرره هنا هو أن هؤلاء ليسوا موضوعا لليتورجية تؤديها الكنيسة – في هذا العالم – بل هم ضالعون في تكميل ليتورجية تتم فيها تقدمة الكنيسة، نفسها، وليس العكس.
 مفتاح فهم سر الشيوخ 
يتكرر ظهور الأربعة والعشرين شيخا عدة مرات، في خلفية عدة مشاهد – في سفر الرؤيا – آخرها في الإصحاح التاسع عشر. والكلمة التي ترجمت إلى " شيخ "( العجوز ، الطاعن في السن، presvyteros  ) هي ذاتها التي ترجمت إلى الأخ الأكبر ، في مثل الابن الضال، وهذا هو مفتاح فهم الأربعة والعشرين شيخا، في سفر الرؤيا. فالابن الضال هو الإنسان المستعاد إلى الله الآب، في الابن المتجسد، العجل المسمن المذبوح في وليمة لم يكن للابن الأكبر أن يكون مهيئا لحضورها. والابن الأكبر هو الخليقة ، الطبيعة ، الكون العتيق الذي ظهر موجودا قبل وجود الإنسان بزمن بعيد. وفي طاعة كاملة لإرادة جابله سار الكون في مساره المرسوم له حتى ماأثمر الكنيسة الكاملة- الكائنة في جسد المسيح- أي الإنسان الذي كان ضالا فوجد.  وإذذاك فإن غاية وجود الخليقة – الابن البكر – قد استوفيت بظهور ثمرتها، لذلك ففي مشاهد الرؤيا، التي ترصد ظهور الأربعة والعشرين شيخا، نجد هؤلاء في حالة احتفالية بتمام سر الله في الإنسان، الكنيسة، حتى وغن لم يكن لهم نصيب في الظهور في مشاهد مجد الحياة الأبدية التي اختصت بها الكنيسة دونا عنهم. قد كان الابن الأكبر في الحقل بينما كانت احتفالية عودة الضال ، في أوجها ، وعندما عاد لم يرد أن يدخل - ولم يذكر في سرد المثل أنه دخل ، حتى بعد أن أستعرض له أبوه مبررات الأمر -  والإشارة واضحة ، فالحقل هو العالم ( مت 13 : 38 ). والعالم ( الخليقة العتيقة ) لن يدخل إلى فرح الحياة الأبدية ، الذي صنعه الآب للذين عادوا إليه ، في ابنه المتجسد  ؛ فقد عاد الشيخ من الحقل في نهاية اليوم  وباقترابه من البيت اقتحمت مسامعه اصوات احتفالية صاخبة قد تم الإعداد لها عدة ساعات ، ولم يخطر ببال الأب أن يرسل غلاما إلى الحقل ليستدعي ذلك المستغرق في هامش المشهد . أيضا حينما خرج الأب للقاء الشيخ الغاضب لم يكن يتبنى غير خطاب تبريري كاشف لحقيقة مايحدث ولم يصدر من الأب دعوة واضحة صريحة للابن الأكبر لدخول البيت وحضور  الاحتفالية .   
  الابن الأكبر والرقم " أربعة وعشرون  "
في سفر الرؤيا - الذي يكشف بانوراما حركة تحقيق وجود الكنيسة ، جسد المسيح - لابد أن نرصد الخليقة العتيقة ، في هذا السياق . وتأتي هذه الخليقة  مرموزا إليها بالأربعة والعشرين شيخا . الرقم أربعة وعشرون " هو ناتج ضرب اثنين واثني عشر . " اثنان " هو البطلان والنقض . الرقم " اثنا عشر " هو رقم الكنيسة ، شعب الله وملكوته الذي يثمره هذا العالم بالنعمة ." أربعة وعشرون " هو رقم الخليقة العتيقة ( الطبيعية ) ، لأن وجودها هو وجود موقوت  ، وجود اللاكنيسة حيث المعية الموقوتة . وإذا أردنا أن نعتمد تحليلا آخرا للرقم، مثل " ستة مضروب أربعة"، فلن نصل إلى نتيجة مختلفة؛ فالأربعة يعني الإحاطة والاستيعاب، والستة هو الإقصاء، إذن هو الوجود المستوعب والمحاط بالإقصاء، من كونه كنيسة حية إلى الأبد. تحليل ثالث مثل " ثلاثة مضروب ثمانية " – أيضا - لا يخرجنا عن النص؛ فالثلاثة هو الشهادة الضامنة لوجود ما، والثمانية هو اليوم التالي،  الجديد، إذن هو وجود الخليقة العتيقة التي تشهد بتحقق وجود اليوم التالي، الخليقة الجديدة، الكنيسة الكائنة في الكلمة المتجسد.  الخليقة  العتيقة  لها زمن محدد من أجل غرض محدد . هي قائمة في معية الله  - بفضل الكلمة (  logos  ) الحاضر فيها -  ، إلى أجل مسمى ، وعندما يحين ذلك الأجل سوف ينتهي وجودها ، عائدة الى العدم ، أي سوف تنتهي معيتها لله ، بانتهاء حضور الكلمة فيها ولن يكون لها نصيب  أبدي . وفي ذلك يقول الرسول بطرس : " السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ.   وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ، فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ " ( 2بط3: 5-7 ). ولكننا قد نرصد تناقضا  بين هذا الطرح وبين قولة الأب لابنه الأكبر: "  أنت معي في كل حين " ( لو15 :31 ) ، ماعسى أن تكون هذه المعية ؟   ولعل مايزيل التناقض هو ماورد في سياق عتاب الشيخ لأبيه : " هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ " ( لو15 : 29 ) . المعية إذن هي معية طاعة الوصية ، بمعنى عدم خروج الكون والخليقة عن المرسوم لها من مسار تطوري خلال زمن وجودها المحتوم والمحسوم - بفضل الكلمة الحاضر الفاعل فيها من خلال القوانين الطبيعية الحتمية - وهو أمر  يتناقض ويتعاكس مع مافعله الإنسان الذي استقل بذاته وتقوقع داخل نرجسيته فخرج عن المسار المأمول لوجوده وهو صيرورته ابنا وارثا وشريكا في الابن الذاتي . لذلك قال الأب للكبير : "  أنت معي كل حين  " أي أن الخليقة تسلك زمن وجودها بالكامل  - منذ لحظة انطلاقه إلى لحظة انتهائه ، أي كل حين يخص زمن وجودها - في كشف كل مايخص طبيعة خلقتها ومصيرها المحتوم في ذهن الخالق  .      
 المشاهد  التي رصد فيها الأربعة والعشرون شيخا  
1- المشهد الأول : العروش 
عروشهم حول عرش الرب:" وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ" ( رؤ4 :4 ). والعرش ( الكرسي ) هو كرسي المجد : ( مت 19 : 28 ) ، ( مت 25 : 31 ). والمجد هو مجد الوجود " لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ  ... لأَنَّ نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ  . هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ.  يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ .. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا  .."( 1 كو 15 : 42 - 44 ) .  والكنيسة الكائنة في ابن الإنسان ، حينما يجلس على كرسي مجده - أي حينما يمتلئ كيانه بكل المفديين ، كأعضاء - إنما هي تجلس فيه على كراسي المجد ، أي يستعلن وجودها الأبدي ، فيكون لها أن تدين ، وتكشف زيف من هم خارج ابن الإنسان ، حتى وإن كان لهم مظهر التقوى ، فها هو الرب يخاطب الكنيسة ، ممثلة في تلاميذه ، قائلا : "  إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ  ."( مت 19: 28 ). إذن ، في مشهد جلوس الشيوخ الأربعة والعشرين على عروشهم حول عرش الرب ، نحن نرصد وجود الخليقة العتيقة ، في معية الله . وبالتأكيد أن للخليقة مجد ، يعجز العقل البشري عن سبر أغواره ، ولكن يظل المجد العلوي الذي للثالوث القدوس ، والذي استعلن في الخليقة الجديدة ، في المسيح ، هو المجد الحقيقي المستمر إلى الأبد ، بينما مجد الخليقة العتيقة إلى زوال لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا. "( 1 بط 1: 24و25)   .
 2-  المشهد الثاني : السجود وطرح الأكاليل قدام الجالس على العرش
  يخر الشيوخ ، الأربعة والعشرون ، ساجدين ، طارحين أكاليلهم قدام الجالس على العرش قائلين : " أَنْتَ مُسْتَحِقٌ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ  " ( رؤ  4 : 11 ). في هذا المشهد تؤكد الخليقة العتيقة ، عدم أهليتها - بحكم طبيعتها - للشركة في مجد الحياة الأبدية ، في المسيح الرب ، فتطرح أكليل وجودها أمام العرش ، إذ هو إكليل مخلوع بطبيعته ، كما أن جلوسها على العرش كان جلوسا موقوتا ، وهي تقر بذلك وترجع  المجد  إلى خالقها الذي أوجدها من العدم وأعطاها هذا المجد الزمني .
3- المشهد الثالث : فك ختوم السفر ، السبعة ( رؤ 5 : بالكامل )
  السفر المختوم هو سفر الحياة ، ولما كان الكلمة هو الحياة الذي بغيره لم يكن شيء مما كان - فإن الكلمة المتجسد هو الوحيد القادر على أن يفتح السفر ويفك ختومه ، وهذا هو الخبر  السار الذي زفته الخليقة على لسان أحد الشيوخ ، ليكف الرائي عن بكائه :  "  لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ  ".  إذ لا يستطيع أحد أن يفتح السفر أو يفك ختومه إلا خروف قائم كأنه مذبوح في وسط الشيوخ ، ولما أخذ السفر خر الشيوخ " وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ :  " مُسْتَحِقٌ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ".  في هذا المشهد تؤكد وتشهد الخليقة أن سر وجودها هو المسيح الكلمة المتجسد المذبوح من أجل حياة الخليقة . هذا هو محور وجودها ، إذ هو قائم في وسط الشيوخ .  فغاية وجود الخليقة العتيقة هي الوصول إلى لحظة ظهور الوجود الجديد الذي من أجله قد ذبح الخروف ، أي ليشتري كنيسته - بدمه - من كل شعوب الأرض ، جاعلا من الجميع ملوكا وكهنة ، في ملكوت السموات .   يحمل الشيوخ جامات من ذهب مملوءة بخورا هي صلوات القديسين . هكذا تشهد الخليقة أن غاية وجودها هي إصعاد القديسين لينضموا إلى باكورتهم ، الخروف المذبوح ، القائم في الوسط . لم يكن الأربعة والعشرون شيخا ، أي الخليقة العتيقة ، هم القديسون ، بل هم الذين يصعدون القديسين ، كثمرة عظمى لغرسهم العظيم ، الذي لم يكن ، دائما ، إلا طائعا ومسبحا لخالقه الذي استحضره من العدم لأجل هذا الهدف الوحيد . وهم بترنيمتهم الجديدة إنما يترنمون بماهو لسان حال الكنيسة المفدية والمجتمعة أشلاؤها عبر تاريخ البشر مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ . وهم وإذ يتحدثون بلسان المفديين فهم إنما يعربون عن رضاهم بدورهم العظيم في أدائهم ليتورجيتهم الكونية التي فيها تم تقديم صعيدة الكنيسة إلى الله الآب في ابنه المتجسد . هذا هو سر بقاء وانتظار الخليقة ،  مابقيت وماانتظرت ؛ " لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ . إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ  لِلْبُطْلِ  لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ.  فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا " (رو8 :19- 23 ) .
4- المشهد الرابع : فتح الختم السادس (6: 12-17و 7: 1- 17 )
في سياق هذا المشهد يقدم الأربعة والعشرون شيخا – على لسان أحد الشيوخ- شهادتهم عن قدوم رافد الأمم : " وَأجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ قَائِلًا لِي: «هؤُلاَءِ الْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، مَنْ هُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لِي: «هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ  مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ.  لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ،  لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ»(  7: 13 -17  ).
4- المشهد الخامس: البوق السابع ( رؤ 11 : 15 - 19 )
 البوق السابع هو البوق الأخير ، هو لحظة التجسد الإلهي ، لحظة مجيء الرب ، التي شطرت التاريخ قسمين ، فابتعث الأموات الراقدون- قبل التجسد - لينضموا إلى الكلمة المتجسد ، وأما الأحياء فلا يرقدون كالسابقين بل يختطفون لينضموا إلى الآخرين ، في الرب ، وهذا هو مضمون عبارتي بولس الرسول ، الآتيتين :
1-   "  هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ " ( 1كو15 : 51 و52)  .     
 2-   "  لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ "   ( 1 تس 4 : 16و17)   
نعود إلى مشهد البوق الأخير ، في رؤيا يوحنا اللاهوتي ، فنرصد حدوث تلك الأصوات العظيمة في السماء ، التي تعلن مجيء ملكوت الرب ومسيحه ، على العالم ، إلى أبد الآبدين ، وأما الأربعة والعشرون شيخا الجالسون على عروشهم أمام الله فيخرون على وجوههم ، ساجدين قائلين : "  نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظِيمَةَ وَمَلَكْتَ    ، ... " وينفتح هيكل الله في السماء ، ويظهر تابوت عهده في هيكله . هكذا تشهد الخليقة أن ذلك الأزلي ، الذي كان في أبيه منذ الأزل ، هو كائن فيها ، وبه هي كائنة ، وأما الخبر السار فهو أنه في زمن البوق الأخير ، زمن التجسد ، إنما هو يأتي فيها ، محققا ملكوته الأبدي. هذه هي الخليقة ، الطائعة لخالقها الذي أنشأها من العدم ، والسائرة في حركة طاعتها نحو تحقيق هدفها المنشود وهو تحقيق وجود الخليقة الجديدة ، الكنيسة ، الكائنة في شخص المسيح ، محور حركة الكون وحامله ، بحضوره فيه . هذا هو الابن الأكبر ( الشيخ ) ، الخليقة العتيقة التي لم تخذل الآب السماوي في خدمتها ، بل ظلت في مسار ليتورجيتها الكونية التي فيها تصعد الخليقة الجديدة إلى حيث ما يجب أن يسترد الضال ، وفي ذلك كله لا نصيب  للابن الأكبر ( الشيخ  ) في حضور احتفالية العودة . فيتكرر ذكر ( وظهور ) الأربعة والعشرين شيخا في ستة إصحاحات من رؤيا يوحنا ( 4، 5 ، 7،11 ، 14 ،19 ) ، وفي هذه المشاهد يؤكد ويوثق الشيوخ شهادتهم التاريخية على مسار حركة تكريس وإظهار وجود الكنيسة بكل منعطفاته وأحداثه ، كنمط من وجود جديد عديم الفساد عوضا عن وجودهم العتيق . يخرون ساجدين  مقدمين المجد والكرامة لمن يستحق المجد والكرامة . لنصل إلى آخر مشهد يظهر فيه الشيوخ - في الإصحاح التاسع عشر- حيث يشهدون دينونة المدينة العظيمة بابل . هكذا تكون الخليقة قد شهدت  وأدلت بشهادتها بخصوص كل البشر . شهدت مصيرا إيجابيا للذين  في المسيح ومصيرا سلبيا للذين ليسوا في المسيح . وأما في باقي الرؤيا - أي إصحاحات : 20 و 21 و22  - فنحن نشهد النهاية السعيدة لكل شي : السماء الجديدة والأرض الجديدة ( الخليقة الجديدة ) مسكن الله مع الناس ، أورشليم المدينة العظيمة المقدسة النازلة من السماء ، نهر الحياة الصافي ، ..  إلخ  . وفي كل مشاهد الإصحاحات الثلاثة ، المدهشة ، لم يأت أي ذكر من قريب أو من بعيد لأي تواجد للشيوخ . وأظن أن الأمر لايخلو من ثمة دلالة غير ضعيفة. هؤلاء هم الأربعة والعشرون شيخا ( الخليقة العتيقة ، بلغة سفر الرؤيا ) ،يؤكدون ويشهدون شهادة إيجابية فاعلة نشطة  - في رضا وامتنان ، في كل مشهد يتواجدون فيه  - عن دورهم المحوري في إصعاد الكنيسة  - من وسطهم  - إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة ، في الخروف القائم كأنه مذبوح ، في وسطهم ، أيضا . وما أن تنتهي مهمتهم النبيلة إلا  وبختفون تماما من المشهد ، فلامكان ولازمان للقديم وسط الجديد ، مثلما كان تماما لهم بصيغة مثل الابن الضال أي صيغة الابن الأكبر- الذي بالرغم من أن كل ماللأب كان له بعد أن أخذ الصغير نصيبه ، حتى تكلفة احتفالية العودة والعجل المسمن ، كل شيء كان من حساب الشيخ . هو الذي يعمل كعبد في تنمية نصيبه – وفي النهاية لم يكن له نصيب في احتفالية وليمة العجل المسمن ، ولكن من المفترض أن يفرح لأن أخاه كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد .
الأربعة والعشرون شيخا والليتورجية الكونية
لاشك أننا حينما نتحدث عن الأربعة والعشرين شيخا فنحن بصدد الحديث عن عمل كهنوتي ملوكي من الطراز الأول: قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخورا هو صلوات القديسين، وترنيمة جديدة تسبح ذلك الذي استطاع واستحق – بذبيحة نفسه- أن يأخذ السفر ويفك ختومه، جاعلا من شعبه – الذي أخذه من كل أمة- ملوكا وكهنة – هذه هي شهادة الشيوخ الجالسين على عروشهم حول العرش، والمتسربلين بثياب بيض وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب. هذه هي شهادتهم عن الكلمة المتجسد ، الأسد الذي من سبط يهوذا. الخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا ) منذ انطلاقها من العدم، وحتى فنائها، هي سائرة في مسار كاشف لسر الله المكتوم منذ الأزل، أي تجسده في البشر وجعلهم كنيسة في جسده الواحد. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية العظمى للخليقة، وهذه هي وظيفتها الكهنوتية التي تضطلع بها، وتلك هي الليتورجية الكونية التي انطلقت من لحظة تجسد الكلمة لتخترق كل الزمان، ماضيه وحاضره ومستقبله، في لحظة آنية ممتدة يأتي فيها بالكل كأنافورا صاعدة إلى الآب في ابنه المتجسد. وفي كل هذا ترضخ الخليقة لهذا العمل الكهنوتي، راصدة له، وضالعة فيه، بل وممتنة لكونها شريكا أساسيا في إنتاج هذه الثمرة العظمى، المسيح الكوني المحتضن لكنيسته في جسده إلى الأبد. وبالرغم من كون الرب، الكلمة المتجسد هو رئيس الكهنة الأعظم، و" لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهذَا أَيْضًا شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ"( عب8: 3 )، ولأن تقدمته هي جسده، فإن كهنوته هذا لم يكن غير دليل دامغ على الطبيعة الكهنوتية  للخليقة؛ فما قد قدمه ذاك ، هو قد سبق أن قبله وأخذه من الخليقة؛ لأن تجسده لا يعني إلا اتخاذه جسدا مخلوقا. هكذا – وإلى هذا الحد – نرصد أن الخليقة كم هي ضالعة في كهنوت رئيس الكهنة، المسيح الرب، بل هي التي قدمت له ماقد قدمه هو- وبالطبع كل شيء مسيطر عليه من الكلمة الحاضر في الخليقة منذ أن صارت خليقة – لذلك نجد في المشهد الثالث أن المخلص ليس فقط قائما وسط العرش – باعتباره الابن الوحيد الذي في حضن الآب – ولا هو قائم فقط وسط الحيوانات الأربعة المملوءة عيونا- باعتباره موضوعا لشهادتهم – ولكنه قائم أيضا وسط الشيوخ، باعتباره الثمرة العظمى للخليقة، والذي فيه تمتلئ الكنيسة بسباعية استعلانات الروح الواحد، الذي يرسله الآب باسمه ليتمم كل استحقاقات تجسده، وهكذا يكتب الرائي بكل وضوح :" وَرَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إِلَى كُلِّ الأَرْضِ "( 5: 6 ).
الأربعة والعشرون شيخا وخدمة اللاويين
يتبقى سؤال أخير: هل نحن مضطرون لقبول ترجمة الكلمة إلى " قس أو كاهن "- بدلا من " شيخ " -  طالما تجلت أمام أذهاننا الطبيعة الكهنوتية  - والوظيفة الليتورجية - للأربعة والعشرين ؟ الإجابة : بالطبع لا، لسنا مضطرين لقبول هذه الترجمة؛ فالأربعة والعشرون شيخا – بلغة سفر الرؤيا – ليسوا كهنة، مطلقا، بل هم – بلغة العهد القديم – لاويون. والكهنة واللاويون ينتمون إلى سبط لاوي، ولكن هناك فرقا بين وظيفتيهما ؛ فبينما الكهنة – أبناء هارون – هم المسئولون عن أعمال الذبائح والبخور والصلوات، فاللاويون يقومون بدور " لوجيستي "( إذا جاز التعبير ) مساعد. ولكن أبرز أدوارهم – بالإضافة إلى خدمة خيمة الاجتماع وحراستها – هو حمل الخيمة في الترحال وإعادة نصبها وتثبيتها في الحل، هذا – بالتأكيد – فضلا عن حمل تابوت العهد.
   ويدهشني التطابق – على مستوى الرمز - بين اللاويين ، من ناحية ، والابن الأكبر( في مثل الابن الضال) والأربعة والعشرين شيخا ، من ناحية أخرى، وقد استطعت بنعمة الرب أن أرصد عشرة أوجه في هذا السياق :
 1- اللاويون ( أبناء لاوي )، ولاوي اسم يعني " المقترن أو القرين ": " وَحَبِلَتْ ( لَيْئَةُ ) أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا، وَقَالَتِ: «الآنَ هذِهِ الْمَرَّةَ يَقْتَرِنُ بِي رَجُلِي، لأَنِّي وَلَدْتُ لَهُ ثَلاَثَةَ بَنِينَ». لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهُ «لاَوِيَ» ( تك29: 34 )؛ فالوجود الطبيعي، الكون - الذي سبق وجود الكنيسة ثم استمر ملازما مسارات تحققها، ملازما ومقترنا بذلك الفعل الكهنوتي الكوني الذي اكتمل في رئيس الكهنة الرب يسوع المسيح – هو اللاوي المقترن بالكنيسة في هذا العالم، مثلما كان اللاويون مقترنين بالخيمة وبأعمالها وبكهنتها من  أبناء هارون. وكما كان اقتران هؤلاء بالكهنوت الهاروني وبالخيمة أساسيا ومحوريا قي الليتورجية القديمة  فإن اقتران الوجود العتيق وتلازمه للكنيسة  المرتحلة في هذا العالم- حتى ماتصل إلى مبتغاها الأبدي، المسيح- أمر لا سبيل إلى الاستغناء عنه.
 2- بعض من الغموض يكتنف كلام الرب لموسى: «قَدِّمْ سِبْطَ لاَوِي وَأَوْقِفْهُمْ قُدَّامَ هَارُونَ الْكَاهِنِ وَلْيَخْدِمُوهُ... فَتُعْطِي اللاَّوِيِّينَ لِهَارُونَ وَلِبَنِيهِ. إِنَّهُمْ مَوْهُوبُونَ لَهُ هِبَةً مِنْ عِنْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ... «وَهَا إِنِّي قَدْ أَخَذْتُ اللاَّوِيِّينَ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَدَلَ كُلِّ بِكْرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ اللاَّوِيُّونَ لِي... لأَنَّ لِي كُلَّ بِكْرٍ. يَوْمَ ضَرَبْتُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ قَدَّسْتُ لِي كُلَّ بِكْرٍ فِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. لِي يَكُونُونَ. أَنَا الرَّبُّ»( عدد3: 6و 9 و 12 و 13 ). ماهذه البدلية العجيبة ؟ لماذا اختار الرب ، أولا، أبكار إسرائيل كلهم – من الناس والبهائم – وقدسهم ، ثم يأتي الآن ليختار اللاويين بدلا منهم كأبكار بالرغم من كون لاوي ليس البكر، ليعقوب، بل  هو الثالث؟ في اعتقادي لا يفك الاشتباك هنا سوى تطبيق وتنزيل الرمز على واقع الكنيسة، في المسيح من ناحية، وواقعها في هذا العالم من ناحية أخرى ؛ فهكذا قد دعيت الخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا  ) ابنا بكرا – دعيت الأخ الأكبر للكنيسة ، في هذا العالم - بالرغم من أن الكنيسة تضم الأبكار الحقيقيين المعينين من قبل خلقة العالم، والذين قد تحقق وجودهم في المسيح، وفي ذلك يكنب الرسول مخاطبا الكنيسة : " بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ. أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ"( عب12: 22- 24 ). هكذا نستطيع أن نرصد مستويين من البكورية: بكورية الخليقة الجديدة ، الكنيسة، جسد المسيح  ، وهي البكورية الأصلية الكائنة في إرادة الله قبل الخليقة. والبكورية الثانية هي بكورية الخليقة العتيقة، التي بحسب الزمن ؛ فبكورية الخليقة " اللاوية "( إذا جاز التعبير ) بكورية موقوتة، في هذا العالم، بحسب زمن خدمة إصعاد كنيسة الأبكار في رئيس الكهنة الأعظم الرب يسوع المسيح، ومتى اكتملت هذه الليتورجية الكونية انتفت سببية وجود الخليقة فما تلبث أن تتوارى عن المشهد تاركة خلفها ثمرة خدمتها العظمى، الكنيسة. فالخدمة اللاوية التي للخليقة ، تجاه الكنيسة تعني كونها " موهوبة " لهرون وبنيه الحقيقيين، كقرين لمسار الكنيسة في الزمان والمكان، منذ أن كان هناك زمان ومكان.
   3- وهناك وجه قد يبدو متناقضا – من حيث الظاهر – مع الوجه السابق؛ فبينما اتخذ اللاويون – من قبل الرب – بديلا لأبكار بني إسرائيل، وخصصوا للرب، فهم مقصيون ومستثنون من الإحصاء بين بني إسرائيل :" وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى فِي بَرِّيَّةِ سِينَاءَ، فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَائِلًا: «أَحْصُوا كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعَشَائِرِهِمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ، بِعَدَدِ الأَسْمَاءِ، كُلَّ ذَكَرٍ بِرَأْسِهِ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، كُلَّ خَارِجٍ لِلْحَرْبِ فِي إِسْرَائِيلَ. تَحْسُبُهُمْ أَنْتَ وَهَارُونُ حَسَبَ أَجْنَادِهِمْ ... «أَمَّا سِبْطُ لاَوِي فَلاَ تَحْسُبُهُ وَلاَ تَعُدَّهُ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.  بَلْ وَكِّلِ اللاَّوِيِّينَ عَلَى مَسْكَنِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى جَمِيعِ أَمْتِعَتِهِ وَعَلَى كُلِّ مَا لَهُ. هُمْ يَحْمِلُونَ الْمَسْكَنَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهِ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ، وَحَوْلَ الْمَسْكَنِ يَنْزِلُونَ. فَعِنْدَ ارْتِحَالِ الْمَسْكَنِ يُنَزِّلُهُ اللاَّوِيُّونَ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَسْكَنِ يُقِيمُهُ اللاَّوِيُّونَ. "( عدد1: 1-3 ، 49- 51 ). إذن، اللاويون غير محسوبين على بني إسرائيل لسبب وحيد هو خدمتهم للمسكن، في حله وترحاله وحراسته، في كل مساراته، هكذا أيضا الخليقة، الوجود العتيق، غير محسوب على الخلود الذي للكنيسة، في المسيح. هو فقط القرين الحامل والحارس للكنيسة المرتحلة في صحراء هذا العالم.    
4 - أيضا اللاويون، مثلما هم غير محسوبين – إحصائيا - على بني إسرائيل، هم أيضا لم يكن لهم نصيب- في اقتسام الأرض مع إخوتهم، الرب هو نصيبهم ( راجع تث10: 9 ). وهو نفس الموقف من الابن الأكبر ، حينما عاد ليفاجأ بأفراح عودة أخيه الضال ، الذي أخذ القسم الذي يخصه من ثروة أبيه، بينما هو لم يأخذ شيئا، ولم يكن له نصيب مخصص له, قد كان نصيبه هو نصيب اللاويين، وهذا ماقد أكده له أبوه : " كل مالي فهو لك " ( لو15: 31  ).
5 - بالرغم من أن اللاويين لا نصيب لهم مع إخوتهم -كقسم ظاهر واضح، في مكان واحد محدد، مقارنة بأقسام الأسباط الأخرى – إلا أنهم قد حصلوا عل نصيب عظيم، ولكنه منتشر في وسط كل الأسباط:  " جَمِيعُ مُدُنِ اللاَّوِيِّينَ فِي وَسَطِ مُلْكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ مَدِينَةً مَعَ مَسَارِحِهَا" ( يش21 : 41 ). والرقم ذو دلالة مهمة؛ فهو " أربعة مضروب اثني عشر " أي الإحاطة والاستيعاب للكنيسة، وهذا يقودنا إلى ذروة عبقرية الرمز.
6 - وكما أطاع اللاويون موسى في موقفهم الشجاع في حادثة العجل الذهبي، هكذا أيضا كان الابن الأكبر – طيلة حياته – طائعا وخاضعا لإرادة أبيه، الذي أقر بهذه الحقيقة : " أنت معي في كل حين " (لو15: 31   ).
7 -  قام داود ، في أيامه الأخيرة، بتنظيم اللاويين وتقسيمهم على فرق، وقد كان الرقم " أربعة وعشرون " رقما محوريا وأساسيا في تقسيمهم ( راجع: 1أخ 24و 25)
8 - كان محظورا على اللاويين أن يقدموا ذبائح أو يحرقوا بخورا أو يروا الأشياء المقدسة إلا مغطاة، هكذا أيضا الخليقة، الأخ الأكبر للكنيسة، فيما تخدم ليتورجية إصعاد الكنيسة فهي ليست شريكة في مجد الحياة الأبدية في المسيح، بل تتعامل مع أمجاد الكنيسة من وراء حجاب وظيفتها أي خدمة اللاويين وليس خدمة الكهنة؛ فلا كاهن إلا واحد وهو الكلمة المتجسد.
9 - بينما يحمل الشيوخ " قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ."( رؤ5: 8 )، فهم لم يحرقوا هذا البخور بل هم – فقط – حاملون له في جاماتهم ومصعدون إياه. هم فقط خادمون شاهدون على سر إصعاد القديسين إلى الآب في ابنه رئيس الكهنة الأعظم الرب يسوع المسيح، الوحيد الذي يستطيع أن يحرق بخور القديسين، المشتركين في ذبيحة محرقة موته المحيي.
 10-حدود خدمة اللاويين هي سن الخمسين :" مِنِ ابْنِ خَمْسِينَ سَنَةً يَرْجِعُونَ مِنْ جُنْدِ  الْخِدْمَةِ وَلاَ يَخْدِمُونَ بَعْدُ" ( عدد8:  25)، والرقم خمسون هو " مضروب خمسة وعشرة "، والخمسة هو الفئة، والعشرة هو الكل؛ فالخليقة ( الأربعة والعشرون شيخا ، اللاويون ) هي الفئة الخادمة لكل أفراد الكنيسة،  وبمجيء الكل ينتهي دورها وتنتفي سببية وجودها. والسنة الخمسون هي سنة اليوبيل، وهي السنة الأولى بعد سبع سبعات من السنوات ( ستة عمل معتاد، والسابعة راحة )، وهي : سنة العتق ( لا25: 10 )، سنة البركة ( لا25: 20- 22)،  سنة الرب المقبولة ( لو4: 17- 19 ). واليوبيل كلمة تعني " القرن "، الذي ينفخ فيه إيذانا ببدء الاحتفال بهذه السنة. هكذا يأخذنا الرمز إلى البوق السابع، زمن تمام سر الله، التجسد، وتأخذنا رمزية حدود خدمة اللاويين ( أي الخمسين سنة ) إلى حدود خدمة الخليقة للكنيسة باستيعابها لكل مسار استحقاقات سر التجسد في الزمان والمكان حتى ماتكتمل الكنيسة، في سنة اليوبيل الحقيقي  التي تتكمل فيها الخليقة الجديدة الآتية في اليوم الجديد، اليوم الثامن ( بعد سباعية السبعات ). هكذا تأخذنا حقيقة خدمة الأربعة والعشرين " اللاوية "( إذا جاز التعبير ) إلى تخوم تتميم سر المسيح، سر الكنيسة، وإذذاك يكون قد اكتمل دورها العظيم. أيضا لدينا عيد الخمسين، العنصرة، سواء في صيغته القديمة، عند اليهود – وكان يطلق عليه عيد الأسابيع لأنه يأتي بعد سبعة أسابيع من ثاني يوم لعيد الفصح، أي اليوم الخمسين من عيد الفصح، وكانوا يحتفلون فيه بتقديم كل إنسان لرغيف من باكورة حصاده؛ لذلك دعي، أيضا، عيد الحصاد – أو في صيغته الجديدة، في العهد الجديد، حيث هبوب الريح العاصف وحلول الروح القدس ليكرس وجود الكنيسة كهيكل أبدي لروح الله، يكرس وجود مخزن حصيد الحنطة البشرية، المسيح الرب ( بحسب يوحنا الصابغ، في لو3: 17 ). هكذا ينقلنا الرمز بصيغتيه،  القديمة والجديدة إلى حدود الدور اللاوي العظيم للخليقة في مسارها المنتج لحصيد الكنيسة، حتى ولو لم يكن لها – بحكم طبيعتها – نصيب في مجد الخلود الذي للكنيسة، وهذا يذكرنا بالابن الأكبر، الذي بينما كان في الحقل، كانت أصوات احتفالية عودة أخيه، المستعاد بعد ضلاله، صادحة في الأفق منطلقة من البيت معلنة استمتاع المحتفلين بخيرات حصيده وبثمرة خدمته في الحقل دون أن يستدعيه أحد لحضور الاحتفالية ( راجع لو 15: 25- 32 ). وبالتأكيد، إن مجرد تنظيم الجماهير الجائعة - فرقا، خمسين خمسين – ليس كافيا لإحداث الاختراق العجائبي الذي فيه يتم إشباع  خمسة آلاف رجل من خمسة أرغفة وسمكتين، ولكنه يكفي لتحديد مسارات استقبال النعمة المجانية المشبعة للجميع ( راجع: مر6 : 40- 42 ، لو9: 13- 17 ). وعلى نفس القياس نقول: ليس للخليقة، الأخ الأكبر للكنيسة دور في إصعاد الكنيسة سوى طاعة الخالق في تحديد مسارات الزمان والمكان التي يستقبل فيها أفراد الكنيسة النعمة، فيتم تقدمتهم كصعيدة إلى الآب في الابن المتجسد، رئيس الكهنة الأعظم. فقط الخليقة لها هذا الدور اللاوي " المقترن" بكهنوت هارون وبنيه الحقيقيين، المسيح المستوعب لكنيسته في جسده. وباختصار شديد فإن الرقم "خمسين"، كحد للخدمة اللاوية للخليقة ، يعني الوصول إلى تخوم المجيء الكامل للكنيسة في الرب. هكذا قد وهبت الخليقة للكنيسة كقرين كاشف وحامل لهذا المسار في هذا العالم.  والخدمة اللاوية التي تقوم بها الخليقة- بهذا الشكل - هي ماقد أشارت إليها رمزية أرض الطريق، في مثل الزارع؛ فهذه الأرض ليست مستهدفة؛ لذلك لم تأت أرض الطريق بالثمر المرجو، فهذا لم يكن دورها،  بينما كان كل دورها حمل أقدام الزارع إلى الأرض الجيدة حيث الثمر المرتجى للكنيسة الكاملة، المملوءة من روافدها الثلاثة: ثلاثون ( خمسة مضروب ستة، أي رافد الأمم )، وستون ( خمسة مضروب اثني عشر، أي رافد الراقدين )، ومئة ( عشرة مضروب عشرة، الكل في الكل، أي رافد دعوة الكرازة ).  

ليست هناك تعليقات: