الجمعة، 17 يناير 2020

مفتاح شرح سفر الرؤيا ( 2 )







            ثانيا: روافد الكنيسة في سباعية الباقات

  لدينا في سفر الرؤيا ثلاث سباعيات: سباعية الختوم وسباعية الابواق وسباعية الجامات. وما قد اكتشف في هذه الدراسة هو أمران: الأول هو أن  العلاقة بين هذه الأنساق الثلاثة هي علاقة التوازي وليس التوالي الزمني؛ فسفر الرؤيا بطبيعته لا يعرف الزمن المتقادم. سفر الرؤيا يكشف عن حقيقة يوم الرب الذي انطلق من لحظة التجسد ليخترق الماضي والحاضر والمستقبل في آن متصل، من الممكن أن نطلق عليه " الآن المطلق"، ذلك الزمان الماسياني  الذي يتكرس فيه وجود الكنيسة جسد المسيح، الحدث الذي، بتعبير آخر، يطلق عليه مصطلح مجيء الرب. الأمر الثاني هو أن هناك وحدة موضوعية بين عناصر ثلاثية " الختم والبوق والجام " الذين لهم نفس الترتيب، كل في سباعيته، فمثلا الموضوع الذي يكشفه فتح الختم الأول له علاقة عضوية بمايتم بصحبة صوت البوق الأول، وله علاقة بالآخر المدان والمعاقب بصب الجام الأول، وهكذا بالنسبة للكل. لذلك فقد اقتربت من محاولة شرح كل ثلاثية ، كاملة، وليس لكل عنصر من عناصر السباعية الواحدة، منفردا. وقد أطلقت على ثلاثية " الختم والبوق والجام"- ذات الترتيب الواحد لكل منهم في سباعياتهم – مصطلح الباقة " package  ". إذن لدينا نموذج صلب "  concrete model " من " سباعية الباقات "، النموذج الذي يمثل العمود الفقري لسفر الرؤيا. وتنقسم سباعية الباقات إلى :1- رباعية الحيوانات المملوءة أعينا، التي تكشف عن رافد دعوة الكرازة بالإنجيل، وهي الباقات الأربع الأولى من سباعية الباقات.2- الباقة الخامسة، وهي التي تكشف عن رافد الراقدين. 3- الباقة السادسة، وهي التي تكشف عن رافد الأمم. 4- الباقة السابعة، وهي باقة الباقات، تلك التي ينطلق منها كل شيء، مع صوت بوقها، ويتم فيها كل شيء، مع صب جامها.

               1- رباعية الحيوانات المملوءة أعينا
                        ( رباعية أصحاب دعوة  الإنجيل )

رباعية أناجيل العهد الجديد التي يفك ختومها في صدر سباعية الختوم، وفيما تستعلن الكلمة المتجسد المسيح الرب، فهي تكشف تحقق أحد روافد امتلاء الكنيسة، أحد مكونات الكنيسة جسد الرب، وهو رافد أصحاب دعوة الكرازة الرسولية الذين قبلوا وأطاعوا الإنجيل عن وعي، رافدنا نحن المدعوين مسيحيين. وهنا ربما يسأل أحد- وقد تملكته الدهشة : وهل يوجد روافد أخرى غيرنا نحن المسيحيين في الكنيسة ؟ والإجابة الصادمة هي الموضوع الرئيس لأبوكاليبسيس يوحنا.
فلنبدأ إذن بذكر النص الذي يتناول رباعية أناجيل العهد الجديد:
"    قُدَّامَ الْعَرْشِ بَحْرُ زُجَاجٍ شِبْهُ الْبَلُّورِ. وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُونًا مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ: وَالْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ،( بداية " صوت صارخ في البرية " عند مرقس ) وَالْحَيَوَانُ الثَّانِي شِبْهُ عِجْل،(  العجل المسمن عند لوقا ) وَالْحَيَوَانُ الثَّالِثُ لَهُ وَجْهٌ مِثْلُ وَجْهِ إِنْسَانٍ،( نسب يسوع عند متى )  وَالْحَيَوَانُ الرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ طَائِرٍ( يوحنا ). وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ حَوْلَهَا، وَمِنْ دَاخِل مَمْلُوَّةٌ عُيُونًا، وَلاَ تَزَالُ نَهَارًا وَلَيْلًا قَائِلَةً: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي».

                      أولا : الباقة الأولى ( باقة الأسد )
1- فتح الختم الأول
 " نَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الْخَرُوفُ وَاحِدًا مِنَ الْخُتُومِ السَّبْعَةِ، وَسَمِعْتُ وَاحِدًا مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَائِلًا كَصَوْتِ رَعْدٍ: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلًا، وَخَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ" ( 6: 1و2 ).
2- البوق الأول
 "   فَبَوَّقَ الْمَلاَكُ الأَوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ، وَأُلْقِيَا إِلَى الأَرْضِ، فَاحْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَارِ، وَاحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ"( 8: 7).
3- الجام الأول
 " فَمَضَى الأَوَّلُ وَسَكَبَ جَامَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحَدَثَتْ دَمَامِلُ خَبِيثَةٌ وَرَدِيَّةٌ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ بِهِمْ سِمَةُ الْوَحْشِ وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِصُورَتِهِ"( 16: 2).
                               التعليق
1- فارس الفرس الأبيض، الذي معه قوس وقد أعطي إكليلا، وقد خرج غالبا ولكي يغلب، هو المفهوم القديم عن الإله المنتصر، الذي يحارب ويقاتل، وينتصر لشعبه، على أعداء شعبه. قديما عاش موسى هذه الخبرة كثيرا لذلك كان يطئن شعبه قائلا:" الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ» ( خروج14: 14)، وهذا ماقد تم بالفعل وانتصر الرب بهم على فرعون وجنوده وعبر بهم البحر الأحمر وأغرق أعداءهم فيه. هذا النمط من الإله المنتصر لشعبه على أعدائهم الماديين قد تغير في الكلمة المتجسد، لتغير طبيعة العدو وبالتالي طبيعة الحرب،"فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ " ( أف 6: 12). وهكذا يقدم " استعلان يوحنا " الصورة الجديدة للفارس الراكب على الفرس الأبيض وهو يخوض حربه مع كل ماهو ضد المسيح : " ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِّلاَ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ». وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْل بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ وَنَقِيًّا.  وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.  وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ».  ..  وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْضِ وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَرْبًا مَعَ الْجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ. فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصَّانِعِ قُدَّامَهُ الآيَاتِ الَّتِي بِهَا أَضَلَّ الَّذِينَ قَبِلُوا سِمَةَ الْوَحْشِ وَالَّذِينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ. وَطُرِحَ الاثْنَانِ حَيَّيْنِ إِلَى بُحَيْرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ" ( رؤ19: 11- 20 ).
هكذا، في صوت كصوت الرعد، يستعلن إنجيل مرقس، الأسد الخارج من سبط يهوذا ، كلمة الله الذي بتجسده انتصر للبشر على أجناد الشر الروحية، على الموت، وعلى كل ماهو ضد مجيء المسيح في كنيسته. مفهوم جديد للنصرة عوضا عن مفهوم انتصار الله لشعبه على أعدائه الماديين.
2- صوت البوق، في سياق هذه السباعية، هو انطلاق آلية عمل الله وسره في تحقيق وجود الكنيسة، والآلية هنا – فيما يخص أبناء دعوة الكرازة الرسولية، نحن المدعوين مسيحيين- هي شركة الموت المحيي مع المسيح. في البوق الأول يشترك رافد دعوة الكرازة- الذي هو أحد روافد ثلاثة للكنيسة – في موت الرب، مرموزا لهذا باحتراق ثلث الأشجار بسبب البرد والنار المخلوطان بدم. والبرد والنار - قديما - هما الضربة السابعة ، من الضربات العشر التي استخدمها الله في سياق حربه التي اجتازها منتصرا لحساب شعبه:" فَكَانَ بَرَدٌ، وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ فِي وَسَطِ الْبَرَدِ. شَيْءٌ عَظِيمٌ جِدًّا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ مُنْذُ صَارَتْ أُمَّةً. فَضَرَبَ الْبَرَدُ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ جَمِيعَ مَا فِي الْحَقْلِ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. وَضَرَبَ الْبَرَدُ جَمِيعَ عُشْبِ الْحَقْلِ وَكَسَّرَ جَمِيعَ شَجَرِ الْحَقْلِ"( خروج 9: 24و 25 ). الفرق الوحيد بين الجديد والقديم هو أن " البرد والنار" - اللذان يهلكان أشجار رافد أصحاب دعوة الكرازة الرسولية  - مخلوطان بدم، دم المسيح ؛ فهو ليس مجرد موت بل موت الرب المحيي، موت يبشرون به في ذواتهم إلى أن يجيء الرب فيهم.
3- جام غضب الله مصبوب دائما على الآخر المضاد لسر المسيح ولمجيئه في الكنيسة ، وهنا في سياق الحرب الروحية التي يخوضها الكلمة المتجسد، في هذه الباقة - من المنطقي أن يتم عقاب الذين بهم سمة الوحش، ومعركة رؤيا 19 ، خير شاهد:" وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْضِ وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَرْبًا مَعَ الْجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ. فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصَّانِعِ قُدَّامَهُ الآيَاتِ الَّتِي بِهَا أَضَلَّ الَّذِينَ قَبِلُوا سِمَةَ الْوَحْشِ وَالَّذِينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ. وَطُرِحَ الاثْنَانِ حَيَّيْنِ إِلَى بُحَيْرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ"( رؤ19:  19و 20).
 .

                   ثانيا: الباقة الثانية ( باقة العجل )
1- فتح الختم الثاني
  " وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّانِيَ، سَمِعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّانِيَ قَائِلًا: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!»
 فَخَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحْمَرُ، وَلِلْجَالِسِ عَلَيْهِ أُعْطِيَ أَنْ يَنْزِعَ السَّلاَمَ مِنَ الأَرْضِ، وَأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأُعْطِيَ سَيْفًا عَظِيمًا "( 6: 3و4 ).
2- البوق الثاني
 "   ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّانِي، فَكَأَنَّ جَبَلًا عَظِيمًا مُتَّقِدًا بِالنَّارِ أُلْقِيَ إِلَى الْبَحْرِ، فَصَارَ ثُلْثُ الْبَحْرِ دَمًا. وَمَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئِقِ الَّتِي فِي الْبَحْرِ الَّتِي لَهَا حَيَاةٌ، وَأُهْلِكَ ثُلْثُ السُّفُنِ"(8: 8و9 ).
3- الجام الثاني
   " ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّانِي جَامَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَصَارَ دَمًا كَدَمِ مَيِّتٍ. وَكُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ فِي الْبَحْرِ"( 16: 3 ).
                                التعليق
1- فارس الفرس الأحمر - والأحمر يشير للدم - الذي ينزع السلام من الأرض ، هو وضع البشرية في مرحلة ماقبل ظهور الرب متجسدا في عالمنا. كنا قبلا محسوبين على من قيل عنهم " لاسلام قال إلهي للأشرار" ( أش 27: 21 )، أما وقد تجسد فينا وأسلم ذاته للموت فداء لنا، فقد صار ذبيحة سلامتنا التي اشتركنا فيها. العجل المسمن في ( لوقا15: 23 )، الذي هو رمز إنجيل لوقا، صار احتفالية عودتنا إلى الآب في الابن المتجسد ، بعد ضلالنا وموتنا. سلام العالم المفقود رد إليه في الرب المذبوح، ذبيحة السلامة الحقيقية وليس ظل السماويات، هذا الذي بفمه قد وعدنا: " "«سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ." (يو 14: 27)    
2- البوق - في سياقنا هنا  - دائما هو بدء تحقق سر الله في الكنيسة، وفي سياق الباقة الثانية، باقة الذبيحة والدم، "ذبيحة سلامة"، العجل المسمن، يشترك "رافد" أصحاب دعوة الكرازة الرسولية، ثلث الكنيسة، في موت الرب المحيي بفعل الروح القدس الذي يشتعل فيهم، كما من جبل عظيم متقد ألقي إلى البحر.رمزيا يصير ثلث البحر دما ويموت ثلث الخلائق التي في البحر. ويهلك ثلث السفن. السفن هي سفن صيد السمك، التي بارك الرب صيدها في معجزتين، ولدينا  سفن ثلاث - تمثل روافد الكنيسة الثلاثة : اثنتان في:( لوقا5: 1-11)، كادتا تغرقان من كمية السمك، بعد أن كانت شبكتهما تتخرق. هاتان السفينتان هما سفينتا رافدي الكنيسة  الذين معنا – نحن أصحاب دعوة الكرازة – يكملان الكنيسة جسد الرب. الرافدان كانا في خطر بالغ وكانت سفينتيهما تغرقان، رافد القدماء ماتوا، ولم يستحضروا إلى الحياة إلا بواسطة يسوع أيضا معه، لذلك دعوا رافد الراقدين لأن موتهم كان كما لو كان رقادا. رافد أصحاب الجهالة، كنيسة الأمم حكم عليهم بالإقصاء والتجاهل من قبلنا بالإضافة إلى جهلهم بأنفسهم  -ككنيسة . السفينة الثالثة مذكورة في : (يو21: 6- 11 )، وبالرغم من كثرة السمك - أيضا  - لم تتخرق الشبكة، هذه هي سفينتنا - الآمنة  - سفينة رافد أصحاب الكرازة . عندما تهلك ثلث السفن – أي سفينة واحدة ، التي هي غائبة عند لوقا - بمصاحبة بوق الباقة الثانية فهذا يعني ذلك الموت المحيي، الاستثماري ( إذا جاز التعبير ) لرافد دعوة الكرازة.
3- جام غضب الله دائما مصبوب على الذين خارج شركة موت الرب، والمفردات هنا متسقة مع فكرة الذبيحة والدم ولكن من المنظور المعاكس.       

                      ثالثا: الباقة الثالثة ( باقة الإنسان )
1- فتح الختم الثالث
 وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّالِثَ، سَمِعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّالِثَ قَائِلًا: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ وَإِذَا فَرَسٌ أَسْوَدُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ مِيزَانٌ فِي يَدِهِ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي وَسَطِ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَائِلًا: «ثُمْنِيَّةُ قَمْحٍ بِدِينَارٍ، وَثَلاَثُ ثَمَانِيِّ شَعِيرٍ بِدِينَارٍ. وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا»(6: 5و6 ).
  2- البوق الثالث
  ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّالِثُ، فَسَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ مُتَّقِدٌ كَمِصْبَاحٍ، وَوَقَعَ عَلَى ثُلْثِ الأَنْهَارِ وَعَلَى يَنَابِيع الْمِيَاهِ. وَاسْمُ الْكَوْكَبِ يُدْعَى «الأَفْسَنْتِينُ». فَصَارَ ثُلْثُ الْمِيَاهِ أَفْسَنْتِينًا، وَمَاتَ كَثِيرُونَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمِيَاهِ لأَنَّهَا صَارَتْ مُرَّةً"( 8: 10و 11) .
 3- الجام الثالث
   ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّالِثُ جَامَهُ عَلَى الأَنْهَارِ وَعَلَى يَنَابِيعِ الْمِيَاهِ، فَصَارَتْ دَمًا. وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ: «عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا. لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَاءَ، فَأَعْطَيْتَهُمْ دَمًا لِيَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ!» وَسَمِعْتُ آخَرَ مِنَ الْمَذْبَحِ قَائِلًا: «نَعَمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! حَقٌ وَعَادِلَةٌ هِيَ أَحْكَامُكَ»(  16: 4- 7).  
                               التعليق
1- فارس الفرس الأسود ، الذي ينطلق حينما يفتح الختم الثالث، يستعلن الوجه الإنساني للمسيح الرب، مسيح كل الإنسانية؛ فبالإضافة إلى كون إنجيل متى يقدم الوجه الإنساني ليسوع مظهرا سلسلة نسبه حتى آدم، فهو يظهره كمعطى للكل، وكنيسته - التي هي جسده -كائنة في الكل. والصوت المنطلق من وسط  الحيوانات الأربعة يؤكد ذلك: "  «ثُمْنِيَّةُ قَمْحٍ بِدِينَارٍ، وَثَلاَثُ ثَمَانِيِّ شَعِيرٍ بِدِينَارٍ. وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا». هذه هي ثلاثية تركيب الكنيسة، في المسيح: ثمنية القمح هي نحن كنيسة العهد الجديد ، كنيسة دعوة الكرازة الرسولية. وثلاث ثماني الشعير هي كنيسة القدماء، كنيسة الراقدين. والزيت والخمر كنيسة الأمم، كنيسة الجهالة.
يكشف إنجيل متى هذا الوجه التسامحي الإنساني من نحو رافد كنسي مرفوض ومجهول وغير مرئي، من قبلنا نحن أبناء دعوة الكرازة ، بالرغم من كونه رافدا معنا في الكنيسة الواحدة التي للرب، فيكتب متى على لسان الرب: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.  وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" ( مت7: 1- 6) . والمعنى : أنتم إن قبلتم هذا الآخر بينكم ، ولم تحكموا عليه بالإقصاء فأنتم بذلك لن تكونوا قد أعطيتم القدس للكلاب ولا تكونوا قد طرحتم درركم قدام الخنازير. المعنى الحقيقي للنص يبدو عكس مايفهم من ظاهر النص ، خصوصا باعتماد مثل هكذا ترجمة. الزيت والخمر يشيران إلى ذلك الرافد الآخر؛ فالسامري الصالح قبل الآخر وضمد جراحاته بينما تجاهله اخوته بني جلدته ( لو10: 34  ).
الشعير يذكرنا بخمسة خبزات الشعير والسمكتين التي باركها الرب لتشبع خمسة آلاف ويفضل من الكسر اثنتا عشر قفة مملوءة . والمعجزة مذكورة في كل الأناجيل، وهي المعجزة الوحيدة التي لها هذا الوضع. وأما ذكر " خبز  الشعير فهو مذكور تحديدا في ( يو6: 9). معجزة الخمس خبزات والسمكتين هي إفخارستيا القدماء، الراقدين ، رافد من روافد الكنيسة الذين استحضروا بيسوع أيضا معه. أما إفخارستيا الأمم أو رافد الجهالة فهي في معجزة السبعة أرغفة وصغار السمك. وبالمناسبة فإن إفخارستيتنا نحن أصحاب دعوة الكرازة فهي إفخارستيا العشاء الأخير عشية تعليقه على الخشبة . سياقا المعجزتين، الأولى والثانية، ذا دلالة، عند متى :  فقد وردت الأولى في : ( مت 14) مباشرة بعد التنويه عن مأساة قطع رأس المعمدان، السابق الصابغ، آخر أنبياء القدماء، والعلاقة هنا غير بعيدة عن الإدراك. وقد وردت الثانية مباشرة بعد ذكر متى لقصة المرأة الكنعانية، المدانة والمقصية من قبل الفكر الديني السائد الذي نكأ السيد جرحه بقوله الصادم للمرأة: " «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ"( مت15: 26- 28 ).
لم يأت الرب ديانا للعالم بل مخلصا؛ فهو القائل:" لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ" ( يو12 : 47 ).وكون فارس الفرس الأسود معه ميزان في يده ، وتيمة العدالة هي صنوه، فلم يمنعه هذا من احتضانه للجميع في ذاته بما فيهم من هذا الرافد المرفوض والمدان من قبلنا نحن الذين قبلنا الإنجيل.
2- البوق الثالث، كطبيعة الأبواق- في هذا السياق، سياق الأربعة الأوائل  - يستعلن الموت مع المسيح، موت أصحاب دعوة الكرازة الرسولية الذين أطاعوا الإنجيل، الموت المحيي للثلث ، ثلث الكنيسة؛ الذي آمن بدعوة الأربعة حيوانات المملوءة عيونا. والمرارة ( بسبب كوكب الأفسنتين ) هي شعورنا وإحساسنا وموقفنا من جهة إيمان مفترض لرافد مجهول ومقصي بالنسبة لنا، والمشهد الرؤيوي لأكل يوحنا للسفر الصغير من يد الملاك  الواقف على البحر والأرض، أمر ذو دلالة في سياقنا هذا:" وَالْمَلاَكُ الَّذِي رَأَيْتُهُ وَاقِفًا عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ، رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ،  وَأَقْسَمَ بِالْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَالْبَحْرَ وَمَا فِيهِ: أَنْ لاَ يَكُونَ زَمَانٌ بَعْدُ! بَلْ فِي أَيَّامِ صَوْتِ الْمَلاَكِ السَّابعِ مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوِّقَ، يَتِمُّ أَيْضًا سِرُّ اللهِ، كَمَا بَشَّرَ عَبِيدَهُ الأَنْبِيَاءَ.  وَالصَّوْتُ الَّذِي كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ السَّمَاءِ كَلَّمَنِي أَيْضًا وَقَالَ: «اذْهَبْ خُذِ السِّفْرَ الصَّغِيرَ الْمَفْتُوحَ فِي يَدِ الْمَلاَكِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ».  فَذَهَبْتُ إِلَى الْمَلاَكِ قَائِلًا لَهُ: «أَعْطِنِي السِّفْرَ الصَّغِيرَ». فَقَالَ لِي: «خُذْهُ وَكُلْهُ، فَسَيَجْعَلُ جَوْفَكَ مُرًّا، وَلكِنَّهُ فِي فَمِكَ يَكُونُ حُلْوًا كَالْعَسَلِ».  فَأَخَذْتُ السِّفْرَ الصَّغِيرَ مِنْ يَدِ الْمَلاَكِ وَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ فِي فَمِي حُلْوًا كَالْعَسَلِ. وَبَعْدَ مَا أَكَلْتُهُ صَارَ جَوْفِي مُرًّا.11 فَقَالَ لِي: «يَجِبُ أَنَّكَ تَتَنَبَّأُ أَيْضًا عَلَى شُعُوبٍ وَأُمَمٍ وَأَلْسِنَةٍ وَمُلُوكٍ كَثِيرِينَ» ( رؤ10: 5- 11 ) .إذن كلمة الإيمان التي هي حلوة - بطبيعتها في فم أصحاب دعوة الإنجيل  - نحن -  هي مرة في أعماقنا التي أهلكنا فيها الآخر الذي لم تبلغه دعوتنا ولا آمن بإنجيلنا لكن  يوجد بداخله من ينتمي إلينا كرافد آخر يكمل وجودنا ككنيسة في المسيح. وفي عبارة صادمة يفجر الرسول بولس هذه المفاجأة فيكتب :" لكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ «اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ» أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا: لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ.  لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ.  لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: «كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى».  لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ.  لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ».  فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ». لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟ » ( رو10: 8- 16 ).
3- الجام الثالث متسق مع نفس التيمة ، تيمة العدالة والدينونة، ولكن لطبيعة جام الغضب  - بصفة عامة بالنسبة للجامات السبعة - فهو يستهدف الآخر الذي ليس له شركة في الكنيسة، مصير الواقعين تحت حكم الدينونة أي الموت وليس الموت المحيي الذي تعتلنه الأبواق.
                  رابعا: الباقة الرابعة ( باقة النسر )
1- فتح الختم الرابع
 " وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الرَّابِعَ، سَمِعْتُ صَوْتَ الْحَيَوَانِ الرَّابعِ قَائِلًا: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!»  فَنَظَرْتُ وَإِذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمَوْتُ، وَالْهَاوِيَةُ تَتْبَعُهُ، وَأُعْطِيَا سُلْطَانًا عَلَى رُبْعِ الأَرْضِ أَنْ يَقْتُلاَ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَوْتِ وَبِوُحُوشِ الأَرْضِ "( 6: 7و 8 ).
2- البوق الرابع
 "   ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الرَّابِعُ، فَضُرِبَ ثُلْثُ الشَّمْسِ وَثُلْثُ الْقَمَرِ وَثُلْثُ النُّجُومِ، حَتَّى يُظْلِمَ ثُلْثُهُنَّ، وَالنَّهَارُ لاَ يُضِيءُ ثُلْثُهُ، وَاللَّيْلُ كَذلِكَ.  ثُمَّ نَظَرْتُ وَسَمِعْتُ مَلاَكًا طَائِرًا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «وَيْلٌ! وَيْلٌ! وَيْلٌ لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَجْلِ بَقِيَّةِ أَصْوَاتِ أَبْوَاقِ الثَّلاَثَةِ الْمَلاَئِكَةِ الْمُزْمِعِينَ أَنْ يُبَوِّقُوا!»( 8: 12و 13 ).
3- الجام الرابع
 " ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الرَّابعُ جَامَهُ عَلَى الشَّمْسِ، فَأُعْطِيَتْ أَنْ تُحْرِقَ النَّاسَ بِنَارٍ، فَاحْتَرَقَ النَّاسُ احْتِرَاقًا عَظِيمًا، وَجَدَّفُوا عَلَى اسْمِ اللهِ الَّذِي لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هذِهِ الضَّرَبَاتِ، وَلَمْ يَتُوبُوا لِيُعْطُوهُ مَجْدًا "( 16: 8و 9).
                               التعليق
1- فارس الفرس الأخضر الذي اسمه الموت، والهاوية تتبعه، هو ذلك الوضع القديم للعلاقة مع الله: لا يراني الإنسان ويعيش، هذا الوضع الذي تغير في المسيح الكلمة المتجسد. نسر اللاهوت المحلق قد حط على أرضنا؛ فالكلمة صار جسد وحل بيننا ( فينا ). هذا المهوب اللامرئي قد رأته عيوننا ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، بل صار يخاطبنا : أنا القيامة، أنا الحياة، أنا الطريق والحق، أنا نور العالم، وصارت شركتنا فيه وسيلة حياتنا الأبدية. الجديد الذي يكشفه إنجيل يوحنا هو حياتنا في الله بالشركة في ابنه المتجسد عوضا عن الموت بمجرد رؤيته.
2- صوت البوق، الذي بطبيعته يؤذن بانطلاق سر الله في الكنيسة ، يمثل شركة الموت المحيي مع المسيح بالنسبة لأصحاب دعوة الكرازة الرسولية، ولأن إنجيل يوحنا يقدم الرب نورا للعالم وبالتالي فإن موت الذين يشتركون فيه، ثلث الكنيسة ، الذين هم أيضا نور العالم، هو - على سبيل الرمز - إظلام لثلث أنوار العالم: الشمس والقمر والنجوم وضوء النهار والليل. 
3- جام الغضب الإلهي على الذين ليسوا نورا هو تحول نورهم المحتمل إلى نار حارقة ليحترقوا احتراقا عظيما، هالكين في تجديفهم.

                              خلاصة الرباعية
1- الفارس وفرسه  - في سياق رباعية الحيوانات المملوءة عيونا – يشير إلى مفهوم سلبي قديم، عن الله وقد تبدل وتغير من النقيض إلى النقيض، في الكلمة المتجسد، ويعتلن هنا في أناجيل العهد الجديد، وفقا لشخصية كل إنجيل: فمفهوم النصرة والغلبة على الأعداء القدماء يمثله فارس الفرس الأبيض المنطلق كصوت رعد، كزئير الأسد، الأمر الذي تبدل في المسيح إلى النصرة الحقيقية على الموت. هذا مايستعلنه الإنجيل الأول مرقس. ومفهوم السلام المفقود بالنسبة للعالم – في حقبة ماقبل التجسد – يستعاد في ذبيحة السلامة التي للعجل المسمن، هذا مايستعلنه الإنجيل الثاني لوقا، ممثلا في فارس الفرس الأحمر. ومفهوم الله الديان، الذي لايعرف إلا شعبا واحدا مختارا بالنسبة له بينما الآخرون، الأمم، مرفضون ولا مكان له. هذا قد تغير في المسيح ليعتلنه الإنجيل الثالث ، متى، بوجهه الإنساني الذي يعطي المسيح للإنسانية كلها بما فيها من لا نعرفهم ومن لم تبلغهم دعوتنا. هكذا بفتح الختم الثالث يستعلن تغير مفهوم الدينونة التي تقصي الآخر، من قبل الفرس الأسود وفارسه الحامل للميزان. ومفهوم الله البعيد اللامرئي، الذي في الاقتراب منه ورؤيته، الهلاك المحقق، هذا قد تغير في المسيح؛ فبتجسده قد صار فينا وصرنا فيه وسقط بالكامل المفهوم السلبي الذي للفرس الأخضر وفارسه، وصارت لنا الحياة في الخبز النازل من السماء، هذا ماتستعلنه نسرية ( من النسر ) الطبيعة اللاهوتية المحلقة ( إذا جاز التعبير )- والتي حطت في أرضنا- للإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا.
الختم، في سياق رباعية الحيوانات المملوءة أعينا، الأناجيل – تحديدا – يطرح تناقضا لايستطيع أن يحل لغزه إلا الكلمة المتجسد، فلم يستطع أحد إلا الخروف المذبوح أن يفك ختوم السفر. في الختم الأول رأينا أنه بينما الله يحارب عن شعبه وينتصر له على أعدائه الماديين، فهو في المسيح قد صار بطل المعركة الروحية الأخيرة مع كل ماهو ضد مجيء الرب في كنيسته. وفي الختم الثاني قتله البشر وإذ به يصير ذبيحة سلامتهم. وفي الختم الثالث رأينا أنه بالرغم من كونه الديان العادل فقد صار – بالتجسد – مسيحا لكل الإنسانية، بما فيها من نعتبرهم مدانين ومرفوضين لأنهم لا ينتمون إلى مذهبنا أو طائفتنا، أو حتى ديانتنا. وفي الختم الرابع رأيناه بالرغم من كونه مرهوبا متعاليا في سمائه لا يقترب منه ولايرى، رأيناه بيننا وفينا ولمسته أيدينا بل فاجأنا بقوله : أنا هو حياتكم ووجودكم الأبدي  .
2- مفهوم صوت البوق في سياق السفر- هو الإيذان بانطلاق عمل سر الله في الكنيسة، أي حدث تحققها ومجيئها في الرب، وبطبيعة الحال – وإن كان الحدث في مفهومه إيجابيا، فله وجهه السلبي أي الموت؛ الموت مع المسيح، في مايخص أبناء دعوة الكرازة الرسولية في الأربعة الأوائل من السباعية، ومن هنا يتحقق فيهم قول الرسول بولس " تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء"، أي إلى أن يجيء فيهم. ولأن رافد دعوة الكرازة هو أحد روافد ثلاثة تملأ الكنيسة الكاملة، جسد الرب، فإن اشتراك أفراد هذا الرافد في الموت المحيي الذي للمسيح إنما يعبر عنه دائما، في سياق الرباعية، في صيغة " هلاك الثلث ": ثلث الأشجار، في البوق الأول. ثلث البحر وثلث الخلائق التي في البحر وثلث السفن، في البوق الثاني. ثلث الأنهار، في البوق الثالث. ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم وثلث النهار والليل، في البوق الرابع.
3- مفهوم " جام غضب الله " لا يحتاج إلى مجهود لإدراك مغزاه، فهو المصير الطبيعي للذين ليس لهم شركة في الفعل الحادث بمصاحبة "البوق"، كل في مايخص شريحة  معينة، وهنا وحتى الآن، فالجامات الأربع مصبوبة   على من لم يشتركوا في موت المسيح المحيي في الأبواق الأربعة لأصحاب دعوة الكرازة الرسولية.
 مجدي داود 

ليست هناك تعليقات: