الاستحالة
الجوهرية (transubstanthiation )
خلفية مفهوم
الاستحالة الجوهرية
يكمن افتراض خلف مفهوم التحول الجوهري مؤداه أن المسيح شخص يتم
استدعاؤه – من قبل الكنيسة – في صورة الخبز والخمر ، ثم يتم التهامه بواسطة
المؤمنين ، في ذات الصورة نفسها . ويترتب
على هذا كشف عن مضمون كارثي ذي وجهين :
1- الوجه الأول هو " آخرية
المسيح " بالنسبة للكنيسة ، أو قل الازدواجية بين المسيح والكنيسة ، أي أن
المسيح صار كيانا مستقلا - ممثلا في الجسم الأسراري الظاهر على المائدة - يتم التعاطي ماديا معه من قبل المؤمنين
الممارسين للإفخارستيا ، والذين هم كيان آخر مستقل يمثل الكنيسة.
2- الوجه الثاني هو انهيار "
رمزية الأكل الإفخارستي " ، وبالتالي قتل للسر إذ قد اختزل الحدث في المضمون
الساذج للأكل المادي ، واختزلت الشركة في مجرد شركة مادية تحققها عملية بيولوجية .
وأما صحيح الإيمان فهو أن المسيح
شخص يستوعب الكنيسة في كيانه ( جسده ) ، وفيما تمارس الكنيسة إفخارستيتها فهي في
الواقع تحقق وجودها الشخصي بظهورها كجسد للمسيح ، أي يتم "مسحنتها " (
إذا جاز التعبير ) بمعنى أن يتأسس لها وجود مستوعب بوجود شخص المسيح ذاته ، وأيضا
بينما تمارس الكنيسة إفخارستيتها يحدث أن شخص المسيح يتعاظم ويتضخم ويتمدد ويمتلئ
بانضمام أفراد الكنيسة كأعضاء جدد إلى كيانه
. هكذا لا يوجد أي نوع من الازدواجية بين الكنيسة والمسيح، ولا وجود مستقل
للكنيسة بدون المسيح ، ولا وجود مستقل لشخص المسيح ( الكامل ) بدون الكنيسة ، إذ
بدون الكنيسة يظل كيان المسيح مجرد رأس هو الرب يسوع القائم من الموت .
وهكذا - أيضا - تمتلئ رمزية الأكل
الإفخارستي ، إذ يتم شبع أعضاء الكنيسة باشتراكهم في الخبز الحي النازل من السماء
. هكذا تأكل الكنيسة طعام الخلود بتكميلها لكيان المسيح رئيس الحياة ومصدرها. فالمسيح
شخص لا يتحول إلى عالمنا ثانية بل نتحول إليه ككنيسة تمثل كل أعضاء كيانه المنضمين
إليه كرأس .
مفهوم الاستحالة الجوهرية يهدم استحقاق سر
التجسد
في مشهد التأسيس الإفخارستي الشهير - عشية صلبه - يقول الرب لتلاميذه كلمات
لا تأخذ من طرفنا العناية الكافية ، فعندما يقول : " خذوا " ، و " كلوا" ، و"
اشربوا " فهو بأي حال من الأحوال لا يختزل كيانه في خبز وخمر، ولو كان الأمر
اختزالا في شيء ظاهر لكان الأكثر منطقية وورودا أن يكون هذا الشيء جسده الظاهر
بينهم ، وإذ ذاك كنا قد أصبحنا من أكلة لحوم البشر!
أيضا لا يختزل الرب المدعوين إلى وليمته
في شخوص الأحد عشر تلميذا الذين تنالوا الخبز والخمر- بعد خروج يهوذا - وإلا
يفقد السر مضمونه كأساس تحقيق وجود الكنيسة في كل الزمان والمكان ، وليس في تلك
اللحظة تحديدا ، وفي ذلك المكان تحديدا . وعليه
يجدر القول بأنه لم يكن مشهد التأسيس الإفخارستي مجرد لحظة تاريخية في سياق معين
مورس فيها طقس ما بحضور نخبة ما ، ولكنه كان كشفا لواقع سر التجسد ذاته من خلال
صانع الوليمة ذاته الرب يسوع المسيح . فعندما يقول الرب لتلاميذه : " خذوا ، كلوا، هذا هو جسدي " و
" اشربوا هذا هو دمي " و " اصنعوا ( أثمروا = اصنعوا منتجا ) هذا
لذكري " ، فإنه كان يشير بلفظة الإشارة ( هذا ) إلى جسده الكامل الممتلئ بالكنيسة ، أي أنه كان
يشير إلى حدث تحقق وجود الكنيسة كاستحقاق
لامتداد سر التجسد فيها . فالكلمة بتجسده حينما اتخذ لذاته جسدا
إنسانيا بالاتحاد الأقنومي بين الله والإنسان فإنه قد أله هذا الجسد واهبا إياه
مجد الخلود ، وليس هذا فقط بل من خلال هذا التدبير صار هذا الجسد مصدرا ورأسا
لخلود الجميع ( الكنيسة ) ، أي الشركة في
الطبيعة الإلهية ، لسبب بسيط هو أن هذا الجسد هو جسد الكلمة الخاص، وكل من يشترك
بالعضوية فيه فإنه ينال بالنعمة مجد الشركة في حياة ووجود الكلمة ذاته.
إذن كان الرب يشير إلى جسد مترام
وممتد في الزمان والمكان ، جسد مزمع أن
يتكمل قي حركة إفخارستية هادرة تنطلق بعد كمال التدبير من صلب وقيامة وعنصرة . في
الإنسان يسوع أكلت الطبيعة البشرية وشبعت وصارت مصدر شبع الجميع بالطعام الباقي ، طعام الخلود ، وفي المشهد
التأسيسي يطلق لهم البشرى : " كما
أكلت ، كلوا ، وكما شربت اشربوا " و " أنتم لن تستطيعوا فعل هذا إلا إذا
انضممتم إلي وصرتم جسدا واحدا معي ، فأنا
كرأس أحقق وجودكم كأعضاء ، فيتحقق كمال غاية سر تجسدي ، فيكم ". فتدبير التجسد لم ينته بمجرد صعود الرب
ولا حتى بيوم العنصرة بل هو حدث ممتد
يستهدف الكنيسة أينما (وحينما ) وجد فرد من أفرادها إلى أن يكتمل بناؤها
كجسد للرب ، ويحدث هذا في حركة باطنية
مستيكية يحققها الروح القدس يطلق عليها " الإفخارستيا ". لا يمكن لخبز
وخمر في هذا العالم أن يتقدسا متحولين إلى كيان منعزل ومستقل للرب ليتم تناولهما
ماديا ( بيولوجيا ) – من قبل افراد المؤسسة الكنسية الزمانيين المستقلين عن الرب - مما يترتب تلقائيا - لهذا التناول - الشركة
والثبات الأبدي في جسد الرب. أما حقيقة الأمر فإن ما يحدث في الأنافورا ليس مجرد
تقديس الخبز والخمر بل تقديس الكنيسة المدعوة ككيان للرب حينما تنطلق من واقعها
المادي البيولوجي الذي لا يتحقق إلا بالأكل البيولوجي نحو وجود جديد روحاني
في المسيح الذي قال عن نفسه أنه هو الطعام
الباقي الخبز النازل من السماء. لابد أن تنطلق الكنيسة من واقعها في هذا العالم ، واقع الخبز والخمر
الماديين ، ولكنها لأنها تنطلق فهي بكل تأكيد مبارحة ومفارقة لنقطة انطلاقها
لتستقر في مبتغاها المسيح الرب ، وعليه ينبغي لنا أن ندرك أن حركة التقديس ليست
تستهدف مجرد الحلول والسكنى في الخبز والخمر بل تستهدف تحرر
أصحاب الخبز والخمر ، أي الكنيسة ، من
واقعهم المحتاج إلى التقديس والامتلاء ، ليتحرروا بشركتهم في حرية مجد أولاد الله المعطاة مستيكيا للمختارين كشركاء في الخبز
الحي والطعام الباقي المسيح الرب. الذي يتقدس حقيقة هو فعل الأكل ، وتقديسه يعني
امتلاء رمزيته ، فالأصل الرمزي الذي تشير
إليه طبيعتنا هو أن من يأكل لا
يموت ، ولكننا في الواقع نأكل ونموت أيضا ، ولكن فقط في المسيح نأكل لنحيا إلى
الأبد ، فهو المأكل الحق والمشرب الحق . ماذا يعني إذن مفهوم الاستحالة الجوهرية ؟
في الواقع لا يعني إلا بقاء " المقدس
" ( الخبز والخمر ) منعزلا عن البشر حتى ولوا تعاطوا معه بالأكل البيولوجي المادي ، لأن الأكل المادي
لما هو مقدس لا يصنع شركة في قداسة المقدس
بل في مادته الظاهرة ، وتبقى الفجوة اللانهائية بين المقدس ( كمقدس ) وبين من هو
مفتقد للتقديس أي الإنسان . وإذا أردنا أن
نرد الأمر إلى أصله وهو التجسد
لوجدنا صورة مشوهة بطريقة مدهشة
وهي صورة الكلمة المتجسد الذي يحل في
الليتورجية الإفخارستية كرأس معزول تفصله عن الكنيسة فجوة لا يمكن
عبورها ، فالاستحالة الجوهرية تصنع "
انقطاعية " بين المسيح والكنيسة بإخراجها لفعل التجسد الممتد في الإفخارستيا من المعادلة.
إن " السر " – بالتعريف - يعني أننا
ننظر كما في مرآه ، ففيما يحل الروح القدس ليحول الخبز والخمر إلى
جسد الرب ودمه فإن العطية الكبرى هي تحول
وعي الكنيسة بظهورها في كيان المسيح ذاته ، كمكمل عضوي ينهي عزلته عنها كمجرد رأس محتمل لها فيتحقق بذلك سريان استحقاق
سر التجسد إلى أن يتكمل بتكميل الكنيسة.
مفهوم الاستحالة الجوهرية ردة عن كهنوت المسيح
في حدث أبدي ، انطلقت ليتورجية التقدمة . وفي ذات الحدث تمت سيامة الرب
رئيسا للكهنة جاعلا ذاته منبعا لحياة البشر. أما موضوع التقدمة فهو كيانه الإنساني
الذي أظهر جدة الإنسانية المنتصرة على الموت . كيانه الإنساني هذا ، هو هكذا
بفضل الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وناسوته منذ أول
لحظة للتجسد . ظهر الكلمة بتجسده إنسانا كاملا منتصرا على الألم والموت ، ولكن على
الصليب ، إذ اضطلع الرب بخدمة تقدمة ذاته وأعلن النصرة بالقيامة، فحينئذ قد دشن
زمن استثمار تجسده ، في البشر . لذلك نجد أن المعنى العملي التطبيقي لصيرورة الرب
رئيسا للكهنة - عند الرسول بولس - هو صيرورته رأسا للكنيسة . فكهنوت المسيح يعني تجلي هبة الحياة التي نالها جسد الرب -
بفضل كونه جسد الكلمة الخاص – في الكنيسة.
ويكون معنى ذلك أيضا أن سيامته الكهنوتية تعني تدشين كيانه كحجر زاوية للكنيسة . بالتجسد صار الابن إنسانا، وبموت الصليب المحيي صار
الابن المتجسد بكرا بين إخوة كثيرين . بالتجسد تكرست الحياة لجسد الكلمة الخاص ،
وبكهنوت المسيح تكرست الحياة للذين يشتركون في جسد الكلمة الخاص ، بالنعمة .
بالتجسد صار الابن الوحيد إنسانا كاملا ، وبتكميله كرئيس للكهنة – بقبوله الآلام
والموت طائعا ومريدا- صار البشر مكملين فيه ، أي باشتراكهم في حياته ، ف " الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ،
يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ،
لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ.
لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ
وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ
رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ. لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ
مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، قَائِلًا: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي
وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ». ( عب
2: 9- 12 ) .
لذلك فقد نجح كهنوت المسيح في ما
قد فشل فيه الكهنوت العتيق . في الأخير لدينا كاهن معين يقدم خدمة مادية جسدية
لأجل نفسه ولأجل مجموعة معينة من البشر ، هذا فضلا عن أنه مضطر أن يكرر ذات الخدمة
مرارا ، وفي النهاية هو يمارس ظلا للحقيقة
، هو في ذاته طقسا ميتا غير قادر أن يهب الحياة. أما المسيح الرب فهو رئيس كهنة
وليس مجرد كاهن ، فكهنوته هو كهنوت أبدي ، وأبدية كهنوته هي ما تجعله رئيسا للكهنة
إذ أنه بتقدمة ذاته مرة واحدة قد جعل كل المعينين للخلاص يقدمون ذواتهم ، فيه ، فيشتركون في كهنوته جاعلا منهم كهنة
تحت رئاسته الأبدية للكهنوت ، حتى أن وجود الكنيسة ذاته كبناء مؤسس على حجر زاوية
رئاسته للكهنوت هو التعبير الأبدي عن مفهوم الكهنوت. كانت ذبيحة العهد القديم
ذبيحة ميتة، لم تكمل أحدا ، ولم تكن موضوعا لمسرة الله . كانت تقدم – في يأس –
مرارا كثيرة دون جدوى ، لكن حينما اضطلع رئيس كهنة العهد الجديد بعمله الكهنوتي
فقد قدم ذبيحة واحدة لمرة واحدة وإلى الأبد . وهو حينما أقام ليتورجيته هذه لم
يقدم ذبيحة غيره بل قدم ذبيحة ذاته . وحينما تقدم كذبيحة محرقة فهو لم يتقدم ليهلك
هلاك الموت بل قد اجتاز الموت منتصرا ومعلنا نصرته بالقيامة ، فهو ما كان له أن
" يمسك من الموت " بفضل الاتجاد
الأقنومي " بين إنسانيته ولاهوته. وهو حينما اجتاز موت البشر لم يكن بمثابة
بديل عقابي عن البشر ، بل قد اجتاز موت البشر لحساب البشر. وهو حينما أصعد ذاته
كتقدمة مقبولة لدى الآب وكموضوع لمسرته ، فهو قد دشن باكورة تقدمة الجميع فيه
فيلتحقون بقربانه الواحد الحي إلى الأبد الكائن في رئيس الكهنة الواحد، الجالس عن
يمين الله ، " فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ
يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً " ( عب10: 10 ). وقد فشلت ذبائح الكهنوت العتيق في تكفير
الخطايا ، فالقضية تخص طبيعة البشر الفاسدة
التي لم يستطع غير رئيس كهنة العهد الجديد أن يشفيها من داء الموت . وهو
حينما قدم ذاته كذبيحة - غالبا الموت
ومكرسا ذاته كباكورة لحياة الجميع فيه - فهو قد جعل من ذاته كفارة لخطايا الجميع ،
إذ فيه يتغطى عري موت الجميع ، بحياته . بتجسد الكلمة قد اكتست وتغطت إنسانيته
بمجد حياة الكلمة ، إذ هو الإله والإنسان بآن واحد ، وحينما سيم الرب رئيسا للكهنة على الخشبة ،
واجتاز الموت منتصرا ، فقد وهب كسوة مجد الحياة للذين يشتركون فيه صائرا كفارة
لخطايا الجميع . وإذا كان تكفير الخطايا
هو التسربل بمجد الحياة في المسيح رئيس الكهنة والكفارة بآن واحد ، فإن
الخطية هي حالة التعري من شركة الألوهة ، التعري من شركة الروح ، تلك
الحالة التي يتم الخلاص منها في المسيح يسوع . لذلك لم يستطع دم الذبائح الحيوانية
القديمة أن يكفر خطايا الشعب لأنه دم ميت لا حياة فيه ، أما دم المسيح فلأنه دم
ذلك الكائن في اتحاد أقنومي مع الكلمة فهو دم حي ومحيي إلى الأبد ، وحينما يعطى كشركة للذين
ينضمون إلى ذبيحة رئيس كهنة العهد الجديد فهو يعطى لمغفرة ( تغطية ) الخطايا ، إذ
بالشركة في المسيح رئيس الكهنة يتغطى عري " موت " الطبيعة البشرية بحياة
المسيح التي تفيض عليهم في دمه المسفوك لأجلهم . هذا هو حمل الله الذي بلا عيب ،
الذي اجتاز موتنا وهو رب الحياة ، وحمل عارنا وهو رب المجد. الحمل والكاهن والمذبح
والسكين ، بل والنار أيضا ، اجتمع الكل في واحد . صار الكاهن ذبيحة ، فصارت
الذبيحة حياة للجميع، فصار الجميع كهنة يستمدون كهنوتهم من رأسهم ، الذي جمعهم في
قربان واحد هو ذاته. وبالقربان الواحد تستعلن إلى الأبد مسرة الآب ، إذ قد صار
الجميع أبناء له باشتراكهم في جسد ابنه ، رئيس الكهنة، المسيح يسوع ربنا .
كيف لنا أن نتشح بالتقوى وبالتواضع من نحو هذه الليتورجية الكونية التي انطلقت
منذ اكتمال تدبير التجسد ،أي بالصليب
والقيامة والصعود ؟ ماذا يليق بنا ككنيسة من نحو هذا القداس الكوني الممتد منذ
ظهور الرب في عالمنا وحتى كمال ظهور الكنيسة فيه بنهاية العالم ؟ أليست ليتورجيتنا
وأنافورتنا في هذا العالم مجرد منطلق للتواصل مع الليتورجية الواحدة والقداس
الواحد والمذبح الواحد والكاهن الواحد
الذي هو ذاته رئيس الكهنة الذي أصعد ذاته
كباكورة للتقدمة المقبولة ، تلك التقدمة المتبوعة بهدير متدفق من تقدمات أعضاء
الكنيسة الصائرين فيه مجمعا للكهنة تحت رئاسته . المسيح كرئيس للكهنة حاضر منذ ذلك
الزمان وحتى نهاية الكون يصنع ليتورجيته
الواحدة التي تجتذب الجميع . والآن ماذا
لو اختزلت القضية في أن كاهنا في عالمنا الآن يستطيع أن يستدعي الروح القدس ليقدس الخبز والخمر فيتحولا إلى جسد الرب
ودمه في حدث منعزل تماما عن أفراد الكنيسة
الذين ينحصر دورهم في مجرد التعامل المادي
مع هذا المأكل والمشرب المقدسين ، فيتقدمون
ليأكلوا وليشربوا بغية أن يتقدسوا ولينالوا مغفرة الخطايا تلقائيا بمجرد
الأكل والشرب ، ألا يعد هذا نكوصا وردة إلى
الكهنوت العتيق الذي أبطله الرب
بتدبير تجسده وبذبيحة نفسه وبقيامته
وصعوده ؟ ألم يكن جوهر الكهنوت العتيق هو مجرد التواصل المادي مع الذبائح الحيوانية لتكفير ومغفرة
الخطايا ؟ إن المعضلة في مفهوم الاستحالة
الجوهرية هي في فهم السر على أنه مجرد إيجاد جزيرة مقدسة منعزلة وسط بحر العالم
المفتقد للقداسة ، مع تخيل إمكانية العبور
التلقائي للمنتمين لهذا العالم نحو هذه الجزيرة المقدسة بالرغم من أن واقع الأمر
هو أنه لا إمكانية لوجود جزر قداسة منعزلة
هنا في العالم ، فالمقدس والمقدسون مرتحلون ومغادرون
لعالمنا ، وحركة التقديس والقداسة صاعدة بالكنيسة في الروح القدس إلى حيث الابن المتجسد الجالس عن يمين
الآب ، وليس الأمر بأي حال
استقرارا للقداسة في عالمنا ، وعندما أطلق الرب البشرى لكنيسته المغتربة في
هذا العالم قائلا : " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي و إلهكم " ، فقد كان يرصد هذا الحدث الكهنوتي
الكوني العملاق الممتد – في زمن حاضر مستمر – من
إصعاده لباكورة هي ذاته – كرئيس للكهنة
– مرورا بإصعاد
جميع أعضاء الكنيسة وحتى اكتمال إصعاد الجميع . هذه هي الليتورجية
والأنافورا الحقيقية الواحدة التي يبتغي المسيحيون الانضمام إليها حينما
ينطلقون من مختلف الزمان والمكان وفي كنائسهم المختلفة وفي تشرذمهم
وفي غربتهم ، فيتواصلون مع حدث
واحد ينطلق من رئيس الكهنة الوحيد الذي يصعد قي ذاته كنيسة واحدة .
الاستحالة الجوهرية
كثقافة أسرارية
يخطئ من يظن أن الاستحالة الجوهرية – لمن يعتقد
بها – مجرد مفهوم يخص الإفخارستيا فقط فهي
مفهوم يعبر عن موقف ورؤية ثقافية
حيال كل الأسرار السبعة ، إذ تفترض هذه الثقافة أن السر الكنسي
هو مجرد طقس التجسيد المادي للقداسة والمقدس ،
ففي السر الكنسي – وفقا لأصحاب الاستحالة
الجوهرية – يتم اقتناص القداسة وتسكينها وأسرها في المادي الظاهر بدلا من تحرير
الإنسان من عبودية المادي الظاهري إلى
حرية الروحاني الباطني . وفقا لهؤلاء يحل الروح القدس في علامة ظاهرة لينتهي
الأمر بمجرد تعامل أفراد الكنيسة ظاهريا أيضا مع
هذه العلامة وكأن القداسة تنتقل
ميكانيكيا من الروح القدس الحال والساكن في العلامة إلى أفراد الكنيسة
الممارسين للطقس الأسراري .
الاستحالة الجوهرية ثقافة يمكن
رصد أصداءها بخصوص الستة أسرار الأخرى ، كالاتي :
1 - بخصوص المعمودية يعتقد أصحاب
الاستحالة الجوهرية بأنه بمجرد التغطيس في
ماء المعمودية المقدس فإن حدثا دراماتيكيا تلقائيا يتم للشخص الذي تم
تعميده وهو ولادته من فوق وصيرورته ابنا لله ، خليقة جديدة تصطبغ بصبغة المسيح ، ولكن تحدث الصدمة إذ أننا أمام
نص للرسول يوحنا في رسالته الأولى يفيد بأن " كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ
يُخْطِئُ، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ
" (1 يو 5: 18). بينما كل الذين
اعتمدوا يستطيعون أن يخطئوا ، فيحدث
التحايل بالقول بأن " التوبة
معمودية ثانية" على أساس أن
المعمودية لا تعاد مرة ثانية . وفيما يحاول
هؤلاء تبرير جهلهم بهذه الطريقة فهم يرتكبون جرما بإقرارهم بأن معمودية
المسيح يمكن إجهاضها . نسى هولاء أو تناسوا أن معمودية المسيح هي حدث الشركة
في بنوة الابن المتجسد بالنعمة أي التبني وهي حدث يستوعب زمن غربتنا في هذا العالم ، حدث يتم تراكميا ،
أجنة تتشكل وتتصور يوما بعد يوم بقدر ما يتصور المسيح فينا ، فنحن أعضاؤه ، وحينما
تكتمل خلقتنا نولد للحياة الأبدية فيكون المسيح فينا بكرا بين إخوة كثيرين . أما
إتمام طقس المعمودية فيكرس ويحقق " الدعوة "، و " الإمكانية "( بقوة الروح القدس ) ، للولادة من فوق ،
دعوة التبني. والدعوة أمر يحتمل الرفض
بنفس القدر الذي يحتمل القبول ، وكل الذين يقبلون الدعوة يعطيهم الروح سلطانا أن يصيروا أبناء الله
بالشركة في ابنه المتجسد. فقط في المسيح ، في الملكوت ، في حياة الدهر الآتي ،
تظهر الكنيسة وقد امتلأت فيها رمزبة طقس
التغطيس في جرن المعمودية بالشركة في موت
الرب وقيامته ، فيستعلن فيها سر المسيح ليظهر كل أعضاؤها وقد اصطبغوا بصبغة رأس
وجودهم الجديد الرب يسوع المسيح.
2- بخصوص المسحة يعتقد أصحاب
الاستحالة الجوهرية بأنه بمجرد دهان الجسم بزيت الميرون زيت المسحة فإن الفرد الإنساني يصير هيكلا للروح القدس
فيصير وجوده ثابتا بفضل المسحة والختم الذي للروح . للأسف نفس التوجه البائس
والسعي المستميت من أجل حصار القداسة
والمقدس في جزر منعزلة ، وقد نسى هؤلاء أو تناسوا أو عن جهل لم يدركوا أنه لا مسحة في عزلة ولا عزلة في المسحة ، فالممسوح والممسوحين جميعهم من واحد لأن " المقدس والمقدسين جميعهم من
واحد "( عب2 : 11 ) وما يوم العنصرة
- حينما كان الجميع مجتمعين بنفس واحدة - إلا برهان حاسم أمام عيني كل ذي بصر وبصيرة. وشخص المسيح ، الذي هو
الممسوح الأعظم ، هو وطن المسحة وكل من استوطنه مسح بفضل فيض المسحة المنساب من رأس الجسد إلى جميع الأعضاء
. وسر المسحة لايكشف عن مسحة فردية أو تقوى فردية أو قداسة فردية بل يظهر هيكلا
واحدا للرب مسحت كل لبناته بالروح المنسكب من حجر الزاوية الرب يسوع . وفقط في
المسيح ، في الملكوت تظهر الكنيسة مقدسة ممسوحة هيكلا واحدا هو جسد الكلمة
المستوعب للكنيسة والذي يسكنه إلى الأبد الروح القدس . وفقط في المسيح يثبت وجود الجميع كخليقة جديدة
، هيكلا أبديا راسخا مبنيا على صخرة هي الكلمة المتجسد الرب يسوع المسيح .
3- وبخصوص سر التوبة يتجلى الوجه الآخر لثقافة
أصحاب الاستحالة الجوهرية، فلأنهم يتبنون التجسيد المادي للقداسة والمقدس في جزر
منعزلة فهم يتبنون ذات النظرة الاختزالية من ناحية مفهوم الخطية ، فهي عندهم مجرد
سلوك بشري مرفوض دينيا ( على خلفية ناموسية عتيقة ) وعليه فمجرد الندم واعتزام
العودة عن الخطية والإقرار بها أمام الكاهن ، يعني أن صكا بالحل والتبرئة والمغفرة
قد صار حقا متاحا . ولم يدرك هؤلاء – عن جهل – أن الخطية ليست مجرد سلوك بشري
ينبغي العودة عنه بل هي حالة عزلة الطبيعة البشرية عن الشركة في الطبيعة الإلهية
الأمر المؤدي للهلاك الأبدي ، ومن ثم فإن ماينبغي العودة عنه هو هذه الحالة ، وما
ينبغي العودة إليه هو النموذج الأول الذي جبل الإنسان ليكون إياه أي المسيح . وفقط
في الملكوت ، في المسيح يبدو الجميع وقد أدركوا وفهموا واعترفوا انهم كانوا في
العالم في هذه الطبيعة الفاسدة المحكوم عليه بالموت وقد عادوا إلى النموذج الأصلي
المسيح الرب ذلك الذي حينما تسربلوا به فإن عري طبيعتهم قد تغطى ، وهم حينما لبسوا
المسيح فقد لبسوا شخصا هو الكفارة الحقيقية فنالوا مغفرة الخطايا .
4- وبخصوص سر الشفاء فإن نفس توجه
الاختزالية المقيتة يتم تبنيه ، فكما يتم اختزال مفهوم الخطية في السلوك المرفوض ( ناموسيا ) فإنه يتم اختزال الوجود
الإنساني – بصفة عامة – في صيغة الوجود في هذا العالم ، ولما كان هذا الوجود مهددا
دائما بالموت لاسيما بسبب المرض فإن مطلبا ملحا للتدخل المقدس لدرء خطر الموت
والوقاية منه بطلب الشفاء من خلال زيت مسحة المرضى ، فيبدو الأمر كما لو أن مجرد
الدهان بزيت القنديل ، المقدس كافيا لدفع الموت والوقاية منه بواسطة نوال الشفاء
من العلة التي تلوح به . ولم يدرك أصحاب ثقافة الاستحالة الجوهرية – عن
جهل – أن المرض الذي يعتور الطبيعة الإنسانية هو داء الموت نفسه ، فالإنسان فان وفاسد بالطبيعة ولا معنى ولا جدوى
من مجرد التماس الشفاء لجسد هذا العالم،
فهذا لايدفع حكم الموت الأبدي ، ولكن فقط في المسيح أي بالكينونة والعضوية فيه ،
في الملكوت، تبدو الكنيسة متعافية وقد نال
أعضاؤها الشفاء من داء الموت بالشركة في حياة الكلمة ذاته ،كأعضاء في جسده الخاص الذي اتخذه بالتجسد. من
خلال هذا السياق فقط يحدث شفاء الطبيعة
البشرية من الموت بل و الوقاية الأبدية منه ، فالوجود في المسيح هو سر الشفاء .
5- وبخصوص سر الكهنوت فأسوء
ماتفضي إليه الاختزالية التي تكرسها ثقافة الاستحالة الجوهرية هو اختزال سر المسيح
في ما يعرف بالسلطان الكهنوتي أو سلطان
الحل والربط فتم اقتطاع المشهد الكهنوتي من جذره الذي هو الرب يسوع المسيح رئيس
الكهنة الأعظم والأصل الوحيد لما يمكن أن
يعتبر كهنوتا . لم يدرك أصحاب هذه الثقافة
أن الرب يسوع الكلمة المتجسد حينما أتم
التدبير بالصليب والقيامة والصعود فقد دشن من نفسه -كباكورة تقدمة البشر –
رأسا ومصدرا وسببا لتقدمة الجميع الكهنوتية ، فهو كرئيس كهنة وله مايقدمه وهو
ذبيحة نفسه ففيما هو متم لذلك فقد أعطى
الذين يتحدون به أن يشتركوا في
كهنوته صائرين كهنة تحت رئاسته مقدمين ذبائح أنفسهم كتقدمات مقبولة بالشركة في
موته وقيامته ، وبالتالي بالصعود معه وفيه
إلى يمين الآب . هكذا فقط في الملكوت
الآتي تعتلن الكنيسة امتلاء سر الكهنوت ، سر المسيح .
6- أما بخصوص سر الزيجة فتبلغ المأساة ذروتها ، إذ
لم تقتصر مغبة الاختزالية المقيتة التي
تكرسها الاستحالة الجوهرية على تفريغ السر من مضمونه بل أتاحت مناخا مواتيا لظهور كوارث ومشاكل
اجتماعية مدمرة . فحينما يعتقد أصحاب هذه
الثقافة بأن سر الزيجة هو مجرد شرعنة العلاقة بين رجل وامراة وبأنه بمجرد حضور رجل
وامرأة طقس الإكليل المقدس ورشمهما بالزيت المقدس
فإن ذلك يضمن صيرورتهما جسدا واحدا وما جمعه الله لا يفرقه إنسان ، حينما يعتقدون بهذا فهم يدشنون علاقة زوجية غير
قابلة للحل لنجد أنفسنا أمام حالات
إنسانية يصل فيها الصراع وعدم الرغبة في مواصلة رحلة الزواج إلى إمكانية أن يقتل
أحدمهما الآخر ، فهل هذا هو ما قد جمعه
الله ؟ يحدث هذا بالرغم من أن الزيجة هي السر الوحيد – ضمن الأسرار السبعة – الذي
يوجد بخصوصه نص كتابي واضح وصريح يدرء عنه هذه الاختزالية المقيتة صانعا تمييزا
واضحا بين العلامة الظاهرة للسر - التي
لاينبغي التماهي معها كأفق ومبتغى للسر - وبين جوهر السر الذي هو المسيح ذاته ،
وعلاقته بالكنيسة ، فيرفع علاقة الحب الزيجي إلى حيث االعمق والملء ، فحينما يتحدث الرسول بولس عن علاقة الزواج التي
نخبرها نجده يختطفنا في لحظة مباغتة إلى عمق السر قائلا : " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ،
وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ" ( أف5: 32) . فقط في المسيح ، في الملكوت ، يتجلى
سر الزيجة ، إذ تعرب الكنيسة عن شبقها المعرفي الأبدي نحو الآب بالشركة في ابنه
المتجسد يسوع المسيح في الروح القدس . الكنيسة آنذاك عروس رائعة الجمال تتقبل في
رضا عطية الخلقة الجديدة من عريسها ورأسها
الرب يسوع المسيح ، مستعلنة إلى الأبد ملء سر الزيجة ، سر المسيح .
الاستحالة الجوهرية والحلقة المفقودة
لي دراسة على موقع الدراسات
القبطية والأرثوذكسية، بعنوان " الجوهر
الواحد للأسرار السبعة " ، وما أردت أن أصل إليه في هذا الطرح هو أن
للأسرار السبعة جوهر واحد هو شخص المسيح الرب المستوعب لكنيسته في كيانه ، فالسر الكنسي هو سر المسيح
أي سر ظهور الكنيسة في المسيح في حياة الدهر الآتي ، وسر المسيح سر واحد
وبولوجه يصير الجميع واحدا في جسد الرب الواحد . فالسر بطبيعته – وبالتعريف- يوحد المتشرذمين ويجبر المفتتين
إلى واحد ، والغريب أنه بدلا من هذه النظرة للأسرار كموحدة للكنيسة فإننا نجد من
يجاهد لاهثا ومستميتا في سبيل تفتيت الأسرار
نفسها واختزالها في موضوعات طقسية مختلفة ومتنوعة تتم في مناسبات ليتورجية متنوعة
بدون وجود رابط عضوي بينها .
ولأن السر الكنسي هو سر المسيح
فهو سر كامل ، فالأمر أشبه بالأواني
المستطرقة التي درسناها قي الطفولة ،
بمعنى أن امتلاء سر ما من الأسرار السبعة يعني امتلاء باقي الأسرار، فمثلا لا ولادة من فوق (
بالمعمودية ) أي التبني إلا لأولئك الذين صارت لهم شركة إفخارستية في جسد الرب أي
شركاء في جسد الابن ، أي التبني أيضا . ولا امتلاء بالروح القدس كهيكل لله ، أي
المسحة ،إلا لأولئك الذين صاروا أعضاء
في جسد الرب الذي هو هيكل الله الواحد
الجامع للكل ، أي إذا صاروا إفخارستيين . وهكذا نستطيع أن نفهم أن استعلان امتلاء سر ما هو استعلان لامتلاء كل الأسرار لأن أي سر
لا يستعلن إلا جوهرا واحدا هو المسيح وكنيسته الكائنة فيه . ونستطيع في عبارة
مكثفة أن نقول بأن ما يليق بالأسرار هو أن امتلاء أي من الأسرار هو امتلاء لكل
الاسرار لأن الكل ، المسيح الرب ، هو جوهر كل
سر من الأسرار ، وبعبارة أكثر تكثيفا وأكثر إلهاما نقول بأن امتلاء الواحد
يعني امتلاء الكل لأن الكل هو جوهر كل واحد
.
وعليه نقول بأن الجوهر الواحد
للأسرار ، المسيح الرب ، هو الحلقة المفقودة في الفكر الأسراري ، الأمر الذي يفرغ
السر من مضمونه مما يكرس ثقافة الاستحالة الجوهرية من خلال ثلاث خطوات متصلة :
1- العزل التاريخي لشخص المسيح
تنبع إشكالية الاستحالة الجوهرية
من نبع آسن بائس وهو تصور أن المسيح مجرد شخصية تاريخية فهو – وفقا لهذا التصور – شخص الرب يسوع التاريخي ، الكلمة المتجسد
الذي أكمل تدبير الخلاص بالصليب والقيامة والصعود لينتهي هنا حدث التجسد ليصبح
مجرد حدث تاريخي ترصده الأناجيل وليترك هذا الشخص التاريخي لكنيسته تراثا معرفيا
لاهوتيا روحيا رائعا في غيبة تامة للوعي بأي رابط أو علاقة عضوية بين الشخص (
المسيح ) وبين أفراد الكنيسة المتشرذمين .
2- مأسسة الكنيسة
العزل التاريخي للمسيح لا يثمر
إلا العزل المؤسسي للكنيسة . يختزل مفهوم الكنيسة في مؤسسة ذات هيراركية معينة
لطبقة الإكليروس تلك الطبقة التي لا يسبح
في مياهها إلا مايعرف بالسلطان الكهنوتي . وأما هذه الانقطاعية ( discontinuity ( أو هذه الفجوة بين المسيح
والكنيسة والمنتهية بمأسسة الكنيسة فتعكس مفهوما بائسا للكنيسة . فكنيسة لا ترى
ذاتها إلا مجرد مؤسسة زمنية في هذا
العالم قد أضاعت مالم تره عين من مجد هو مجد المسيح ذاته
. فالمسيح ليس مجرد شخص تاريخي بل هو
الشخص الذي ظهر في لحظة من لحظات التاريخ ليفترش كل التاريخ ، فلم ينته حدث التجسد بمجرد صعود الرب بل مايزال استحقاق تدبير التجسد
ساريا في الكون حتى نهايته . مايزال كيان
المسيح الرب يتضخم باستيعاب أعضاء جسده الذين هم في ذات الوقت محسوبون على الكنيسة
، وفيما يمتلئ كيان المسيح الآن بأعضاء جسده فإن تحقق وجود الكنيسة يكون أكثر اقترابا من كماله ، فاكتمال كيان المسيح هو
اكتمال الكنيسة ، وامتلاء سر المسيح
هو التجلي الكامل للكنيسة .
3- طقسنة الأسرار ( ritualisation )
ماذا تبقى لكنيسة عزلت مسيحها في
التاريخ وعزلت نفسها في المؤسسة الزمنية ؟ ماذا تبقى لكنيسة فصلت رأسها عن جسدها ؟ الواقع يؤكد أنه لا يوجد شيء سوى تبني ثقافة الاستحالة
الجوهرية التي تقتنص المقدس وتحاصر القداسة
وتختزل المنظومة المعرفية
الإنجيلية في جزر طقسية منعزلة ومتشرذمة ومشتتة في الزمان والمكان . حقا يتم
استدعاء الروح القدس في الليتورجية الأسرارية ولكن ليست الغاية هي حصار الروح في الزمان والمكان وإخضاعه لمنفعة
أبناء هذا الزمان والمكان ، فقد غاب عن
أصحاب هذه الثقافة أن الروح القدس قد هب
منطلقا من لحظة تاريخية معينة هي يوم الخمسين وما يزال هبوبه مدويا في مسار يستوعب الكون كله ، فيه يحقق
وجود الكنيسة ، فيه يصور المسيح في المختارين لتكميل كيان المسيح . قد غاب
عنهم أن الكنيسة ، بني العلي ، تأتي الآن في ابن الإنسان الآتي في سحاب
السماء الذي هوالروح القدس. طقسنة السر الكنسي باختزاله في مجرد طقس ليتورجي مع
إحداث التماهي بين جوهر السر وعلامته هي
الثمرة المرة والسامة في نفس الوقت التي
نبتت في تربة ثقافة الاستحالة الجوهرية ، والمفعول السام لهذه الثمرة هو تفريغ
السر من جوهره الذي هو المسيح المستوعب
لكنيسته ، والذي هو الكنيسة المالئة لمسيحها .
مجدي داود
0