الخميس، 25 فبراير 2021

الاستحالة الجوهرية ( 1 )

 

 

 

 

               الاستحالة الجوهرية (transubstanthiation )

 

خلفية مفهوم الاستحالة الجوهرية

يكمن افتراض خلف مفهوم  التحول الجوهري مؤداه أن المسيح شخص يتم استدعاؤه – من قبل الكنيسة – في صورة الخبز والخمر ، ثم يتم التهامه بواسطة المؤمنين ، في ذات الصورة  نفسها . ويترتب على هذا كشف عن مضمون كارثي ذي  وجهين :

1- الوجه الأول هو " آخرية المسيح " بالنسبة للكنيسة ، أو قل الازدواجية بين المسيح والكنيسة ، أي أن المسيح صار كيانا مستقلا - ممثلا في الجسم الأسراري الظاهر على المائدة  - يتم التعاطي ماديا معه من قبل المؤمنين الممارسين للإفخارستيا ، والذين هم كيان آخر مستقل يمثل الكنيسة.

2- الوجه الثاني هو انهيار " رمزية الأكل الإفخارستي " ، وبالتالي قتل للسر إذ قد اختزل الحدث في المضمون الساذج للأكل المادي ، واختزلت الشركة في مجرد شركة مادية تحققها عملية بيولوجية .

وأما صحيح الإيمان فهو أن المسيح شخص يستوعب الكنيسة في كيانه ( جسده ) ، وفيما تمارس الكنيسة إفخارستيتها فهي في الواقع تحقق وجودها الشخصي بظهورها كجسد للمسيح ، أي يتم "مسحنتها " ( إذا جاز التعبير ) بمعنى أن يتأسس لها وجود مستوعب بوجود شخص المسيح ذاته ، وأيضا بينما تمارس الكنيسة إفخارستيتها يحدث أن شخص المسيح يتعاظم ويتضخم ويتمدد ويمتلئ بانضمام أفراد الكنيسة كأعضاء جدد إلى كيانه  . هكذا لا يوجد أي نوع من الازدواجية بين الكنيسة والمسيح، ولا وجود مستقل للكنيسة بدون المسيح ، ولا وجود مستقل لشخص المسيح ( الكامل ) بدون الكنيسة ، إذ بدون الكنيسة يظل كيان المسيح مجرد رأس هو الرب يسوع القائم من الموت .

وهكذا - أيضا - تمتلئ رمزية الأكل الإفخارستي ، إذ يتم شبع أعضاء الكنيسة باشتراكهم في الخبز الحي النازل من السماء . هكذا تأكل الكنيسة طعام الخلود بتكميلها لكيان المسيح رئيس الحياة ومصدرها. فالمسيح شخص لا يتحول إلى عالمنا ثانية بل نتحول إليه ككنيسة تمثل كل أعضاء كيانه المنضمين إليه كرأس .

  مفهوم الاستحالة الجوهرية يهدم استحقاق سر التجسد

  في مشهد التأسيس الإفخارستي الشهير - عشية صلبه - يقول الرب لتلاميذه كلمات لا تأخذ من طرفنا العناية الكافية ، فعندما يقول : " خذوا  " ، و " كلوا"   ، و" اشربوا " فهو بأي حال من الأحوال لا يختزل كيانه في خبز وخمر، ولو كان الأمر اختزالا في شيء ظاهر لكان الأكثر منطقية وورودا أن يكون هذا الشيء جسده الظاهر بينهم ، وإذ ذاك كنا قد أصبحنا من أكلة لحوم البشر!

أيضا لا يختزل الرب المدعوين إلى  وليمته  في شخوص الأحد عشر تلميذا الذين تنالوا الخبز والخمر- بعد خروج يهوذا - وإلا يفقد السر مضمونه كأساس تحقيق وجود الكنيسة في كل الزمان والمكان ، وليس في تلك اللحظة تحديدا ، وفي ذلك المكان  تحديدا . وعليه يجدر القول بأنه لم يكن مشهد التأسيس الإفخارستي مجرد لحظة تاريخية في سياق معين مورس فيها طقس ما بحضور نخبة ما ، ولكنه كان كشفا لواقع سر التجسد ذاته من خلال صانع الوليمة ذاته الرب يسوع المسيح . فعندما يقول الرب لتلاميذه :  " خذوا ، كلوا، هذا هو جسدي " و " اشربوا هذا هو دمي  " و  " اصنعوا ( أثمروا = اصنعوا منتجا ) هذا لذكري  " ، فإنه كان يشير  بلفظة الإشارة ( هذا ) إلى  جسده الكامل الممتلئ بالكنيسة ، أي أنه كان يشير إلى حدث تحقق وجود الكنيسة  كاستحقاق لامتداد سر التجسد  فيها  . فالكلمة بتجسده حينما اتخذ لذاته جسدا إنسانيا بالاتحاد الأقنومي بين الله والإنسان فإنه قد أله هذا الجسد واهبا إياه مجد الخلود ، وليس هذا فقط بل من خلال هذا التدبير صار هذا الجسد مصدرا ورأسا لخلود الجميع  ( الكنيسة ) ، أي الشركة في الطبيعة الإلهية ، لسبب بسيط هو أن هذا الجسد هو جسد الكلمة الخاص، وكل من يشترك بالعضوية فيه فإنه ينال بالنعمة مجد الشركة في حياة ووجود الكلمة ذاته.

إذن كان الرب يشير إلى جسد مترام وممتد في الزمان والمكان ، جسد  مزمع أن يتكمل قي حركة إفخارستية هادرة تنطلق بعد كمال التدبير من صلب وقيامة وعنصرة . في الإنسان يسوع أكلت الطبيعة البشرية وشبعت وصارت مصدر شبع الجميع  بالطعام الباقي ، طعام الخلود ، وفي المشهد التأسيسي يطلق لهم البشرى :  " كما أكلت ، كلوا ، وكما شربت اشربوا  " و  " أنتم لن تستطيعوا فعل هذا إلا إذا انضممتم إلي وصرتم  جسدا واحدا معي ، فأنا كرأس  أحقق وجودكم كأعضاء ، فيتحقق  كمال غاية سر تجسدي ، فيكم  ". فتدبير التجسد لم ينته بمجرد صعود الرب ولا حتى بيوم العنصرة بل هو حدث ممتد  يستهدف الكنيسة أينما (وحينما ) وجد فرد من أفرادها إلى أن يكتمل بناؤها كجسد  للرب ، ويحدث هذا في حركة باطنية مستيكية يحققها الروح القدس يطلق عليها " الإفخارستيا ". لا يمكن لخبز وخمر في هذا العالم أن يتقدسا متحولين إلى كيان منعزل ومستقل للرب ليتم تناولهما ماديا ( بيولوجيا ) – من قبل افراد المؤسسة الكنسية الزمانيين المستقلين عن الرب  - مما يترتب تلقائيا - لهذا التناول - الشركة والثبات الأبدي في جسد الرب. أما حقيقة الأمر فإن ما يحدث في الأنافورا ليس مجرد تقديس الخبز والخمر بل تقديس الكنيسة المدعوة ككيان للرب حينما تنطلق من واقعها المادي البيولوجي الذي لا يتحقق إلا بالأكل البيولوجي نحو وجود جديد روحاني في  المسيح الذي قال عن نفسه أنه هو الطعام الباقي الخبز النازل من السماء. لابد أن تنطلق الكنيسة من  واقعها في هذا العالم ، واقع الخبز والخمر الماديين ، ولكنها لأنها تنطلق فهي بكل تأكيد مبارحة ومفارقة لنقطة انطلاقها لتستقر في مبتغاها المسيح الرب ، وعليه ينبغي لنا أن ندرك أن حركة التقديس ليست تستهدف  مجرد  الحلول والسكنى في الخبز والخمر بل تستهدف تحرر أصحاب الخبز  والخمر ، أي الكنيسة ، من واقعهم المحتاج إلى التقديس والامتلاء ، ليتحرروا بشركتهم في  حرية مجد أولاد الله  المعطاة مستيكيا للمختارين كشركاء في الخبز الحي والطعام الباقي المسيح الرب. الذي يتقدس حقيقة هو فعل الأكل ، وتقديسه يعني امتلاء رمزيته ، فالأصل الرمزي الذي تشير  إليه طبيعتنا هو  أن من يأكل لا يموت ، ولكننا في الواقع نأكل ونموت أيضا ، ولكن فقط في المسيح نأكل لنحيا إلى الأبد ، فهو المأكل الحق والمشرب الحق . ماذا يعني إذن مفهوم الاستحالة الجوهرية ؟ في الواقع لا يعني  إلا بقاء " المقدس " ( الخبز والخمر ) منعزلا عن البشر حتى ولوا تعاطوا معه  بالأكل البيولوجي المادي ، لأن الأكل المادي لما هو  مقدس لا يصنع شركة في قداسة المقدس بل في مادته الظاهرة ، وتبقى الفجوة اللانهائية بين المقدس ( كمقدس ) وبين من هو مفتقد للتقديس أي الإنسان . وإذا أردنا أن  نرد الأمر إلى أصله وهو التجسد  لوجدنا صورة  مشوهة بطريقة مدهشة وهي صورة الكلمة المتجسد الذي يحل في  الليتورجية الإفخارستية كرأس معزول تفصله عن الكنيسة فجوة لا يمكن عبورها  ، فالاستحالة الجوهرية تصنع " انقطاعية " بين المسيح والكنيسة بإخراجها لفعل التجسد الممتد في  الإفخارستيا من المعادلة.

   إن  " السر " – بالتعريف - يعني أننا ننظر  كما في مرآه ،  ففيما يحل الروح القدس ليحول الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه  فإن العطية الكبرى هي تحول وعي الكنيسة بظهورها في كيان المسيح ذاته ، كمكمل عضوي ينهي عزلته عنها  كمجرد رأس محتمل لها فيتحقق بذلك سريان استحقاق سر التجسد إلى أن يتكمل بتكميل الكنيسة.

 مفهوم الاستحالة الجوهرية  ردة عن كهنوت المسيح

  في حدث أبدي ، انطلقت ليتورجية التقدمة . وفي ذات الحدث تمت سيامة الرب رئيسا للكهنة جاعلا ذاته منبعا لحياة البشر. أما موضوع التقدمة فهو كيانه الإنساني الذي أظهر جدة الإنسانية المنتصرة على الموت . كيانه الإنساني هذا ، هو هكذا بفضل   الاتحاد  الأقنومي بين لاهوت الكلمة وناسوته منذ أول لحظة للتجسد . ظهر الكلمة بتجسده إنسانا كاملا منتصرا على الألم والموت ، ولكن على الصليب ، إذ اضطلع الرب بخدمة تقدمة ذاته وأعلن النصرة بالقيامة، فحينئذ قد دشن زمن استثمار تجسده ، في البشر . لذلك نجد أن المعنى العملي التطبيقي لصيرورة الرب رئيسا للكهنة - عند الرسول بولس - هو صيرورته رأسا للكنيسة . فكهنوت المسيح  يعني تجلي هبة الحياة التي نالها جسد الرب - بفضل كونه جسد الكلمة الخاص  – في الكنيسة. ويكون معنى ذلك أيضا أن سيامته الكهنوتية تعني تدشين كيانه كحجر زاوية للكنيسة . بالتجسد  صار الابن إنسانا، وبموت الصليب المحيي صار الابن المتجسد بكرا بين إخوة كثيرين . بالتجسد تكرست الحياة لجسد الكلمة الخاص ، وبكهنوت المسيح تكرست الحياة للذين يشتركون في جسد الكلمة الخاص ، بالنعمة . بالتجسد صار الابن الوحيد إنسانا كاملا ، وبتكميله كرئيس للكهنة – بقبوله الآلام والموت طائعا ومريدا- صار البشر مكملين فيه ، أي باشتراكهم في حياته  ، ف " الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ.

 لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ. لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً،  قَائِلًا: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ». (  عب 2: 9- 12 ) .

لذلك فقد نجح كهنوت المسيح في ما قد فشل فيه الكهنوت العتيق . في الأخير لدينا كاهن معين يقدم خدمة مادية جسدية لأجل نفسه ولأجل مجموعة معينة من البشر ، هذا فضلا عن أنه مضطر أن يكرر ذات الخدمة مرارا ، وفي النهاية هو يمارس ظلا  للحقيقة ، هو في ذاته طقسا ميتا غير قادر أن يهب الحياة. أما المسيح الرب فهو رئيس كهنة وليس مجرد كاهن ، فكهنوته هو كهنوت أبدي ، وأبدية كهنوته هي ما تجعله رئيسا للكهنة إذ أنه بتقدمة ذاته مرة واحدة قد جعل كل المعينين للخلاص يقدمون ذواتهم  ، فيه ، فيشتركون في كهنوته جاعلا منهم كهنة تحت رئاسته الأبدية للكهنوت ، حتى أن وجود الكنيسة ذاته كبناء مؤسس على حجر زاوية رئاسته للكهنوت هو التعبير الأبدي عن مفهوم الكهنوت. كانت ذبيحة العهد القديم ذبيحة ميتة، لم تكمل أحدا ، ولم تكن موضوعا لمسرة الله . كانت تقدم – في يأس – مرارا كثيرة دون جدوى ، لكن حينما اضطلع رئيس كهنة العهد الجديد بعمله الكهنوتي فقد قدم ذبيحة واحدة لمرة واحدة وإلى الأبد . وهو حينما أقام ليتورجيته هذه لم يقدم ذبيحة غيره بل قدم ذبيحة ذاته . وحينما تقدم كذبيحة محرقة فهو لم يتقدم ليهلك هلاك الموت بل قد اجتاز الموت منتصرا ومعلنا نصرته بالقيامة ، فهو ما كان له أن " يمسك من الموت " بفضل  الاتجاد الأقنومي " بين إنسانيته ولاهوته. وهو حينما اجتاز موت البشر لم يكن بمثابة بديل عقابي عن البشر ، بل قد اجتاز موت البشر لحساب البشر. وهو حينما أصعد ذاته كتقدمة مقبولة لدى الآب وكموضوع لمسرته ، فهو قد دشن باكورة تقدمة الجميع فيه فيلتحقون بقربانه الواحد الحي إلى الأبد الكائن في رئيس الكهنة الواحد، الجالس عن يمين الله ، " فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً " ( عب10:  10 ). وقد فشلت ذبائح الكهنوت العتيق في تكفير الخطايا ، فالقضية تخص طبيعة البشر الفاسدة  التي لم يستطع غير رئيس كهنة العهد الجديد أن يشفيها من داء الموت . وهو حينما قدم  ذاته كذبيحة - غالبا الموت ومكرسا ذاته كباكورة لحياة الجميع فيه - فهو قد جعل من ذاته كفارة لخطايا الجميع ، إذ فيه يتغطى عري موت الجميع ، بحياته . بتجسد الكلمة قد اكتست وتغطت إنسانيته بمجد حياة الكلمة ، إذ هو الإله والإنسان بآن واحد ،   وحينما سيم الرب رئيسا للكهنة على الخشبة ، واجتاز الموت منتصرا ، فقد وهب كسوة مجد الحياة للذين يشتركون فيه صائرا كفارة لخطايا الجميع . وإذا كان  تكفير الخطايا هو التسربل بمجد الحياة في المسيح رئيس الكهنة والكفارة بآن واحد  ، فإن  الخطية هي حالة التعري من شركة الألوهة ، التعري من شركة الروح ، تلك الحالة التي يتم الخلاص منها في المسيح يسوع . لذلك لم يستطع دم الذبائح الحيوانية القديمة أن يكفر خطايا الشعب لأنه دم ميت لا حياة فيه ، أما دم المسيح فلأنه دم ذلك الكائن في  اتحاد أقنومي  مع الكلمة فهو دم حي  ومحيي إلى الأبد ، وحينما يعطى كشركة للذين ينضمون إلى ذبيحة رئيس كهنة العهد الجديد فهو يعطى لمغفرة ( تغطية ) الخطايا ، إذ بالشركة في المسيح رئيس الكهنة يتغطى عري " موت " الطبيعة البشرية بحياة المسيح التي تفيض عليهم في دمه المسفوك لأجلهم . هذا هو حمل الله الذي بلا عيب ، الذي اجتاز موتنا وهو رب الحياة ، وحمل عارنا وهو رب المجد. الحمل والكاهن والمذبح والسكين ، بل والنار أيضا ، اجتمع الكل في واحد . صار الكاهن ذبيحة ، فصارت الذبيحة حياة للجميع، فصار الجميع كهنة يستمدون كهنوتهم من رأسهم ، الذي جمعهم في قربان واحد هو ذاته. وبالقربان الواحد تستعلن إلى الأبد مسرة الآب ، إذ قد صار الجميع أبناء له باشتراكهم في جسد ابنه ، رئيس الكهنة، المسيح يسوع ربنا .

 كيف لنا أن نتشح بالتقوى وبالتواضع من  نحو هذه الليتورجية الكونية التي انطلقت منذ  اكتمال تدبير التجسد ،أي بالصليب والقيامة والصعود ؟ ماذا يليق بنا ككنيسة من نحو هذا القداس الكوني الممتد منذ ظهور الرب في عالمنا وحتى كمال ظهور الكنيسة فيه بنهاية العالم ؟ أليست ليتورجيتنا وأنافورتنا في هذا العالم مجرد منطلق للتواصل مع الليتورجية الواحدة والقداس الواحد  والمذبح الواحد والكاهن الواحد الذي  هو ذاته رئيس الكهنة الذي أصعد ذاته كباكورة للتقدمة المقبولة ، تلك التقدمة المتبوعة بهدير متدفق من تقدمات أعضاء الكنيسة الصائرين فيه مجمعا للكهنة تحت رئاسته . المسيح كرئيس للكهنة حاضر منذ ذلك الزمان وحتى نهاية الكون  يصنع ليتورجيته الواحدة  التي تجتذب الجميع . والآن ماذا لو اختزلت القضية في أن كاهنا في عالمنا  الآن يستطيع أن يستدعي الروح  القدس ليقدس الخبز والخمر فيتحولا إلى جسد الرب ودمه  في حدث منعزل تماما عن أفراد الكنيسة الذين ينحصر  دورهم في مجرد التعامل المادي مع هذا المأكل والمشرب المقدسين ، فيتقدمون  ليأكلوا وليشربوا بغية أن يتقدسوا ولينالوا مغفرة الخطايا تلقائيا بمجرد الأكل والشرب ، ألا يعد هذا نكوصا وردة إلى  الكهنوت العتيق  الذي أبطله الرب بتدبير تجسده  وبذبيحة نفسه وبقيامته وصعوده  ؟ ألم يكن جوهر الكهنوت  العتيق هو مجرد التواصل  المادي مع الذبائح الحيوانية لتكفير ومغفرة الخطايا ؟ إن  المعضلة في مفهوم الاستحالة الجوهرية هي في فهم السر على أنه مجرد إيجاد جزيرة مقدسة منعزلة وسط بحر العالم المفتقد للقداسة ، مع تخيل إمكانية  العبور التلقائي للمنتمين لهذا العالم نحو هذه الجزيرة المقدسة بالرغم من أن واقع الأمر هو أنه لا  إمكانية لوجود جزر قداسة منعزلة هنا في العالم ، فالمقدس  والمقدسون مرتحلون  ومغادرون  لعالمنا ، وحركة التقديس والقداسة صاعدة بالكنيسة في الروح القدس  إلى حيث الابن المتجسد الجالس عن  يمين  الآب ،  وليس الأمر بأي حال استقرارا للقداسة في عالمنا  ،  وعندما أطلق الرب البشرى لكنيسته المغتربة في هذا العالم قائلا : " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي و إلهكم  " ، فقد كان يرصد هذا الحدث الكهنوتي الكوني العملاق الممتد – في زمن حاضر مستمر – من   إصعاده لباكورة هي ذاته – كرئيس للكهنة    مرورا  بإصعاد  جميع  أعضاء الكنيسة وحتى  اكتمال إصعاد الجميع . هذه هي  الليتورجية  والأنافورا الحقيقية الواحدة التي يبتغي المسيحيون الانضمام إليها حينما ينطلقون  من مختلف  الزمان والمكان وفي  كنائسهم المختلفة وفي  تشرذمهم  وفي  غربتهم ، فيتواصلون مع حدث واحد ينطلق من رئيس الكهنة الوحيد الذي يصعد قي ذاته كنيسة واحدة  .

الاستحالة الجوهرية كثقافة أسرارية

 يخطئ من يظن أن الاستحالة الجوهرية – لمن يعتقد بها – مجرد مفهوم يخص الإفخارستيا فقط  فهي مفهوم يعبر عن  موقف  ورؤية ثقافية  حيال  كل الأسرار   السبعة ، إذ تفترض هذه الثقافة أن السر الكنسي هو مجرد طقس التجسيد المادي للقداسة والمقدس ،  ففي السر الكنسي  – وفقا لأصحاب الاستحالة الجوهرية – يتم اقتناص القداسة وتسكينها وأسرها في المادي الظاهر بدلا من تحرير الإنسان من عبودية المادي  الظاهري إلى حرية الروحاني  الباطني . وفقا  لهؤلاء يحل الروح القدس في علامة ظاهرة لينتهي الأمر بمجرد تعامل أفراد الكنيسة ظاهريا أيضا مع  هذه العلامة  وكأن  القداسة تنتقل  ميكانيكيا من  الروح القدس  الحال والساكن في العلامة إلى أفراد الكنيسة الممارسين للطقس الأسراري .

الاستحالة الجوهرية ثقافة يمكن رصد  أصداءها  بخصوص الستة أسرار الأخرى ، كالاتي :

1 - بخصوص المعمودية يعتقد أصحاب الاستحالة الجوهرية  بأنه بمجرد التغطيس في ماء المعمودية المقدس فإن حدثا دراماتيكيا تلقائيا يتم  للشخص الذي تم  تعميده وهو ولادته من فوق وصيرورته ابنا لله  ، خليقة جديدة تصطبغ  بصبغة المسيح ، ولكن تحدث الصدمة إذ أننا أمام نص للرسول يوحنا في رسالته الأولى يفيد بأن " كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ يُخْطِئُ، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ " (1 يو 5: 18). بينما  كل الذين اعتمدوا يستطيعون أن  يخطئوا ، فيحدث التحايل بالقول بأن " التوبة   معمودية ثانية" على أساس  أن المعمودية لا تعاد مرة ثانية . وفيما يحاول  هؤلاء تبرير جهلهم بهذه الطريقة فهم يرتكبون جرما بإقرارهم بأن معمودية المسيح يمكن إجهاضها . نسى هولاء أو تناسوا أن معمودية المسيح هي حدث الشركة في  بنوة الابن المتجسد  بالنعمة أي التبني وهي حدث يستوعب  زمن غربتنا في هذا العالم ، حدث يتم تراكميا ، أجنة تتشكل وتتصور يوما بعد يوم بقدر ما يتصور المسيح فينا ، فنحن أعضاؤه ، وحينما تكتمل خلقتنا نولد للحياة الأبدية فيكون المسيح فينا بكرا بين إخوة كثيرين . أما إتمام طقس المعمودية  فيكرس ويحقق  " الدعوة  "، و " الإمكانية  "( بقوة الروح القدس ) ، للولادة من فوق ، دعوة  التبني. والدعوة أمر يحتمل الرفض بنفس القدر الذي يحتمل القبول ، وكل الذين يقبلون الدعوة  يعطيهم الروح سلطانا أن يصيروا أبناء الله بالشركة في ابنه المتجسد. فقط في المسيح ، في الملكوت ، في حياة الدهر الآتي ، تظهر الكنيسة وقد امتلأت فيها رمزبة  طقس التغطيس في جرن المعمودية  بالشركة في موت الرب وقيامته ،  فيستعلن فيها  سر المسيح ليظهر كل أعضاؤها  وقد اصطبغوا بصبغة  رأس  وجودهم الجديد الرب يسوع المسيح.

2- بخصوص المسحة يعتقد أصحاب الاستحالة الجوهرية بأنه بمجرد دهان الجسم بزيت الميرون زيت المسحة  فإن الفرد الإنساني يصير هيكلا للروح القدس فيصير وجوده ثابتا بفضل المسحة والختم الذي للروح . للأسف نفس التوجه البائس والسعي المستميت من أجل حصار  القداسة والمقدس في جزر منعزلة ، وقد نسى هؤلاء أو تناسوا أو عن جهل لم يدركوا  أنه لا مسحة في عزلة ولا عزلة في  المسحة ، فالممسوح والممسوحين جميعهم من  واحد لأن " المقدس والمقدسين جميعهم من واحد  "( عب2 : 11 ) وما يوم العنصرة - حينما كان الجميع مجتمعين بنفس واحدة - إلا برهان حاسم أمام  عيني كل ذي بصر وبصيرة. وشخص المسيح ، الذي هو الممسوح الأعظم ، هو وطن المسحة وكل من استوطنه مسح بفضل فيض  المسحة المنساب من رأس الجسد إلى جميع الأعضاء . وسر المسحة  لايكشف عن مسحة فردية  أو تقوى فردية أو قداسة فردية بل يظهر هيكلا واحدا للرب مسحت كل لبناته بالروح المنسكب من حجر الزاوية الرب يسوع . وفقط في المسيح ، في الملكوت تظهر الكنيسة مقدسة ممسوحة هيكلا واحدا هو جسد الكلمة المستوعب للكنيسة والذي يسكنه إلى الأبد الروح القدس .  وفقط في المسيح يثبت وجود الجميع كخليقة جديدة ، هيكلا أبديا راسخا مبنيا على صخرة هي الكلمة المتجسد الرب يسوع المسيح .

 3- وبخصوص سر التوبة يتجلى الوجه الآخر لثقافة أصحاب الاستحالة الجوهرية، فلأنهم يتبنون التجسيد المادي للقداسة والمقدس في جزر منعزلة فهم يتبنون ذات النظرة الاختزالية من ناحية مفهوم الخطية ، فهي عندهم مجرد سلوك بشري مرفوض دينيا ( على خلفية ناموسية عتيقة ) وعليه فمجرد الندم واعتزام العودة عن الخطية والإقرار بها أمام الكاهن ، يعني أن صكا بالحل والتبرئة والمغفرة قد صار حقا متاحا . ولم يدرك هؤلاء – عن جهل – أن الخطية ليست مجرد سلوك بشري ينبغي العودة عنه بل هي حالة عزلة الطبيعة البشرية عن الشركة في الطبيعة الإلهية الأمر المؤدي للهلاك الأبدي ، ومن ثم فإن ماينبغي العودة عنه هو هذه الحالة ، وما ينبغي العودة إليه هو النموذج الأول الذي جبل الإنسان ليكون إياه أي المسيح . وفقط في الملكوت ، في المسيح يبدو الجميع وقد أدركوا وفهموا واعترفوا انهم كانوا في العالم في هذه الطبيعة الفاسدة المحكوم عليه بالموت وقد عادوا إلى النموذج الأصلي المسيح الرب ذلك الذي حينما تسربلوا به فإن عري طبيعتهم قد تغطى ، وهم حينما لبسوا المسيح فقد لبسوا شخصا هو الكفارة الحقيقية فنالوا مغفرة الخطايا .

4- وبخصوص سر الشفاء فإن نفس توجه الاختزالية المقيتة يتم تبنيه ، فكما يتم اختزال مفهوم الخطية في السلوك  المرفوض ( ناموسيا ) فإنه يتم اختزال الوجود الإنساني – بصفة عامة – في صيغة الوجود في هذا العالم ، ولما كان هذا الوجود مهددا دائما بالموت لاسيما  بسبب المرض  فإن مطلبا ملحا للتدخل المقدس لدرء خطر الموت والوقاية منه بطلب الشفاء من خلال زيت مسحة المرضى ، فيبدو الأمر كما لو أن مجرد الدهان بزيت القنديل ، المقدس كافيا لدفع الموت والوقاية منه بواسطة نوال الشفاء من العلة التي  تلوح به  . ولم يدرك أصحاب ثقافة الاستحالة الجوهرية – عن جهل – أن المرض الذي يعتور الطبيعة الإنسانية هو داء الموت نفسه ،  فالإنسان فان وفاسد بالطبيعة ولا معنى ولا جدوى من مجرد التماس الشفاء لجسد  هذا العالم، فهذا لايدفع حكم الموت الأبدي ، ولكن فقط في المسيح أي بالكينونة والعضوية فيه ، في الملكوت،  تبدو الكنيسة متعافية وقد نال أعضاؤها الشفاء من داء الموت بالشركة في حياة الكلمة ذاته  ،كأعضاء في جسده الخاص الذي اتخذه بالتجسد. من خلال هذا  السياق فقط يحدث شفاء الطبيعة البشرية من الموت بل و الوقاية الأبدية منه ، فالوجود في المسيح هو سر الشفاء .

5- وبخصوص سر الكهنوت فأسوء ماتفضي إليه الاختزالية التي تكرسها ثقافة الاستحالة الجوهرية هو اختزال سر المسيح في ما يعرف بالسلطان  الكهنوتي أو سلطان الحل والربط فتم اقتطاع المشهد الكهنوتي من جذره الذي هو الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الأعظم  والأصل الوحيد لما يمكن أن يعتبر كهنوتا . لم يدرك  أصحاب هذه الثقافة أن الرب يسوع الكلمة  المتجسد حينما أتم التدبير بالصليب والقيامة والصعود فقد دشن من نفسه -كباكورة تقدمة البشر – رأسا  ومصدرا  وسببا لتقدمة الجميع  الكهنوتية ، فهو كرئيس كهنة وله مايقدمه وهو ذبيحة نفسه ففيما هو متم لذلك فقد أعطى  الذين يتحدون به أن  يشتركوا في كهنوته صائرين كهنة تحت رئاسته مقدمين ذبائح أنفسهم كتقدمات مقبولة بالشركة في موته وقيامته  ، وبالتالي بالصعود معه وفيه إلى يمين الآب . هكذا فقط  في الملكوت الآتي تعتلن الكنيسة امتلاء سر الكهنوت ، سر المسيح .

6-  أما بخصوص سر الزيجة فتبلغ المأساة ذروتها ، إذ لم تقتصر مغبة الاختزالية  المقيتة التي تكرسها الاستحالة الجوهرية على تفريغ السر من مضمونه بل  أتاحت مناخا مواتيا لظهور كوارث ومشاكل اجتماعية مدمرة . فحينما  يعتقد أصحاب هذه الثقافة بأن سر الزيجة هو مجرد شرعنة العلاقة بين رجل وامراة وبأنه بمجرد حضور رجل وامرأة طقس الإكليل المقدس ورشمهما بالزيت المقدس  فإن ذلك يضمن صيرورتهما جسدا واحدا وما جمعه الله لا يفرقه إنسان ،  حينما يعتقدون بهذا فهم يدشنون علاقة زوجية غير قابلة للحل  لنجد أنفسنا أمام حالات إنسانية يصل فيها الصراع وعدم الرغبة في مواصلة رحلة الزواج إلى إمكانية أن يقتل أحدمهما  الآخر ، فهل هذا هو ما قد جمعه الله ؟ يحدث هذا بالرغم من أن الزيجة هي السر الوحيد – ضمن الأسرار السبعة – الذي يوجد بخصوصه نص كتابي واضح وصريح يدرء عنه هذه الاختزالية المقيتة صانعا تمييزا واضحا بين العلامة الظاهرة للسر  - التي لاينبغي التماهي معها كأفق ومبتغى للسر - وبين جوهر السر الذي هو المسيح ذاته ، وعلاقته بالكنيسة ، فيرفع علاقة الحب الزيجي إلى حيث االعمق والملء ،  فحينما يتحدث الرسول بولس عن علاقة الزواج التي نخبرها نجده يختطفنا في لحظة مباغتة إلى عمق السر قائلا : " هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ" (  أف5: 32) . فقط في المسيح ، في الملكوت ، يتجلى سر الزيجة ، إذ تعرب الكنيسة عن شبقها المعرفي الأبدي نحو الآب بالشركة في ابنه المتجسد يسوع المسيح في الروح القدس . الكنيسة آنذاك عروس رائعة الجمال تتقبل في رضا عطية الخلقة الجديدة من عريسها  ورأسها الرب يسوع المسيح ، مستعلنة إلى الأبد ملء سر الزيجة ، سر المسيح .

  الاستحالة الجوهرية والحلقة المفقودة

لي دراسة على موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية، بعنوان  " الجوهر الواحد للأسرار السبعة  "  ، وما أردت أن أصل إليه في هذا الطرح هو أن للأسرار السبعة جوهر واحد هو شخص المسيح الرب المستوعب لكنيسته في كيانه  ، فالسر الكنسي هو سر  المسيح  أي سر ظهور الكنيسة في المسيح في حياة الدهر الآتي ، وسر المسيح سر واحد وبولوجه يصير الجميع واحدا في جسد الرب الواحد . فالسر بطبيعته  – وبالتعريف- يوحد المتشرذمين ويجبر المفتتين إلى واحد ، والغريب أنه بدلا من هذه النظرة للأسرار كموحدة للكنيسة فإننا نجد من يجاهد لاهثا ومستميتا في  سبيل تفتيت الأسرار نفسها واختزالها في موضوعات طقسية مختلفة ومتنوعة تتم في مناسبات ليتورجية متنوعة بدون وجود رابط عضوي بينها .

ولأن السر الكنسي هو سر المسيح فهو سر كامل ،  فالأمر أشبه بالأواني المستطرقة  التي درسناها قي الطفولة ، بمعنى أن امتلاء سر ما من الأسرار السبعة يعني امتلاء  باقي الأسرار، فمثلا لا ولادة من فوق ( بالمعمودية ) أي التبني إلا لأولئك الذين صارت لهم شركة إفخارستية في جسد الرب أي شركاء في جسد الابن ، أي التبني أيضا . ولا امتلاء بالروح القدس كهيكل لله ، أي المسحة ،إلا  لأولئك الذين صاروا أعضاء في  جسد الرب الذي هو هيكل الله الواحد الجامع للكل ، أي إذا صاروا إفخارستيين . وهكذا نستطيع  أن نفهم أن استعلان امتلاء  سر ما هو استعلان لامتلاء كل الأسرار لأن أي سر لا يستعلن إلا جوهرا واحدا هو المسيح وكنيسته الكائنة فيه . ونستطيع في عبارة مكثفة أن نقول بأن ما يليق بالأسرار هو أن امتلاء أي من الأسرار هو امتلاء لكل الاسرار لأن الكل ، المسيح الرب ، هو جوهر كل  سر من الأسرار ، وبعبارة أكثر تكثيفا وأكثر إلهاما نقول بأن امتلاء الواحد يعني امتلاء الكل لأن الكل هو جوهر كل واحد  .

وعليه نقول بأن الجوهر الواحد للأسرار ، المسيح الرب ، هو الحلقة المفقودة في الفكر الأسراري ، الأمر الذي يفرغ السر من مضمونه مما يكرس ثقافة الاستحالة الجوهرية من خلال ثلاث خطوات متصلة  :

1- العزل التاريخي لشخص المسيح

تنبع إشكالية الاستحالة الجوهرية من نبع آسن بائس وهو تصور أن المسيح مجرد شخصية تاريخية فهو  – وفقا لهذا التصور  – شخص الرب يسوع التاريخي ، الكلمة المتجسد الذي أكمل تدبير الخلاص بالصليب والقيامة والصعود لينتهي هنا حدث التجسد ليصبح مجرد حدث تاريخي ترصده الأناجيل وليترك هذا الشخص التاريخي لكنيسته تراثا معرفيا لاهوتيا روحيا رائعا في غيبة تامة للوعي بأي رابط أو علاقة عضوية بين الشخص ( المسيح ) وبين أفراد الكنيسة المتشرذمين  .

2- مأسسة الكنيسة

العزل التاريخي للمسيح لا يثمر إلا العزل المؤسسي للكنيسة . يختزل مفهوم الكنيسة في مؤسسة ذات هيراركية معينة لطبقة الإكليروس تلك الطبقة التي لا يسبح  في مياهها إلا مايعرف بالسلطان الكهنوتي . وأما هذه الانقطاعية ( discontinuity ( أو هذه الفجوة بين المسيح والكنيسة والمنتهية بمأسسة الكنيسة فتعكس مفهوما بائسا للكنيسة . فكنيسة لا ترى ذاتها إلا مجرد مؤسسة زمنية في هذا  العالم  قد  أضاعت مالم تره عين من مجد هو مجد المسيح ذاته . فالمسيح ليس مجرد شخص تاريخي  بل هو الشخص الذي ظهر في لحظة من لحظات التاريخ ليفترش كل التاريخ  ، فلم ينته حدث التجسد بمجرد  صعود الرب بل مايزال استحقاق تدبير التجسد ساريا في الكون  حتى نهايته . مايزال كيان المسيح الرب يتضخم باستيعاب أعضاء جسده الذين هم في ذات الوقت محسوبون على الكنيسة ، وفيما يمتلئ كيان المسيح الآن بأعضاء جسده فإن تحقق وجود الكنيسة يكون أكثر  اقترابا من كماله ، فاكتمال كيان المسيح هو اكتمال الكنيسة  ، وامتلاء سر المسيح هو  التجلي الكامل للكنيسة .

3- طقسنة الأسرار ( ritualisation )

ماذا تبقى لكنيسة عزلت مسيحها في التاريخ وعزلت نفسها في المؤسسة الزمنية ؟ ماذا تبقى  لكنيسة فصلت رأسها عن جسدها ؟ الواقع  يؤكد أنه لا يوجد شيء سوى تبني ثقافة الاستحالة الجوهرية التي تقتنص المقدس وتحاصر القداسة  وتختزل المنظومة  المعرفية الإنجيلية في جزر طقسية منعزلة ومتشرذمة ومشتتة في الزمان والمكان . حقا يتم استدعاء الروح القدس في الليتورجية الأسرارية ولكن ليست الغاية هي  حصار الروح في الزمان والمكان وإخضاعه لمنفعة أبناء  هذا الزمان والمكان ، فقد غاب عن أصحاب هذه الثقافة أن الروح القدس قد هب  منطلقا من لحظة تاريخية معينة هي يوم الخمسين وما يزال هبوبه  مدويا في مسار يستوعب الكون كله ، فيه يحقق وجود الكنيسة ، فيه يصور المسيح في المختارين لتكميل كيان المسيح . قد غاب عنهم  أن الكنيسة ، بني العلي ،  تأتي الآن في ابن الإنسان الآتي في سحاب السماء  الذي هوالروح القدس. طقسنة  السر الكنسي باختزاله في مجرد طقس ليتورجي مع إحداث التماهي بين جوهر السر وعلامته  هي الثمرة المرة  والسامة في نفس الوقت التي نبتت في تربة ثقافة الاستحالة الجوهرية ، والمفعول السام لهذه الثمرة هو تفريغ السر من جوهره الذي هو  المسيح المستوعب لكنيسته ، والذي هو الكنيسة المالئة لمسيحها .

مجدي داود

 

0

الثلاثاء، 23 فبراير 2021

مرثية الأستاذ

 

 

 

 

                     إنها ليست مجرد مرثية الأستاذ

 

   ماأصعب أن ترثي أستاذك، ولكن العزاء هو في كون الرجل ليس مستهدفا للرثاء – بحكم طبيعة الرثاء نفسه - فلايرثى إلا الأموات، وأستاذنا قد زف إلى محفل الأحياء في الأرض الجديدة والسماء الجديدة، في الكنيسة المتجلية في الرب يسوع المسيح. كان الرجل كسيده يسوع مضطهدا في هذا العالم وبالرغم من كونه قبسا منيرا فقد تكالبت عليه قوى الظلم والظلمة فحمل الصليب مع سيده وسمر عليه خارج المحلة. لم يستسلم وظل يجاهر كالمعمدان : " لا يحل لك "، لم يهادن ولم يطلب مصالحة زائفة مدفوع ثمنها من قولة حق تم إجهاضها أو اعتراف بما لاينبغي الاعتراف به أو قبول مالاتحتضنه ثلاثية : الوحي المقدس، كتابات الآباء، والتقليد الليتورجي. كان الرجل – مع القمص متى المسكين - شريكه في صليب الرب - جيلا كاملا من التنويرين العظماء الذين لم ينيروا إلا لأنهم قد قبلوا أن يحترقوا مثل سيدهم كذبيحة  محرقة،" مُحْرَقَةٌ، وقُودُ رائحة سَرور للرب" (لا 1: 13) . اصطدم الرجل بالكنيسة، الكيان المؤسسي الموجود في العالم، دفاعا عن الكنيسة، الكيان العضوي الموجود في المسيح. واصطدم بظلامية أفكار العصر الوسيط التي خيمت قرونا على كنيستنا الوطنية، دفاعا عن تراث الأساتذة من الآباء العظماء مثل أثناسيوس وكيرلس السكندريين.

  وفيما يلي بعض قطوف من زهور العلاقة مع الأستاذ ، وهي غيض من فيض:

     1- لم أكن لأتخيل نفسي ، ولو لوهلة واحدة، وأنا أكتب لموقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية، لأتحدث عن - وليس إلى - الدكتور جورج حبيب. علاقتي بالأستاذ على صفحات الموقع امتدت لأكثر من من عشر سنوات، حوارات وسجالات، شد وجذب في إطار من المحبة بين الأستاذ المخضرم والتلميذ الجريء المشاغب بعض الشيء، أحيانا. كان الأستاذ في كثير من الأحيان يسجل إعجابه بما يكتب التلميذ  - كما يسجل ملحوظاته الناقدة أيضا - في رسائل بخط يده يحرص أن تصل إلى تلميذه عبر الموقع، تقديرا وحبا. أسفرت الرحلة، في مسارها، عن تشريفي بأنني كنت القارئ الوحيد الذي نشر له خمس دراسات على صفحات الموقع : " هل يخلص غير المسيحي: نص وتعليقات ، و البعد الإضافي للاسم في يونانية العهد الجديد ، و الجوهر الواحد للأسرار السبعة و لغة الأرقام في الكتاب المقدس، و مثل الابن الضال: قراءة جديدة ".

  2- ولأن البواكير دائما مايحتفى بها فقد كانت ملابسات نشر الدراسة الأولى فيها مايستحق التذكر. بدأت القصة بمقال لأستاذنا المطران جورج خضر، مطران جبيل والبترون بلبنان، بعنوان: هل يخلص غير المسيحي؟ وقد تم إعادة نشره في  خريف ألفين وثمانية على صفحات مدونة " مساحة حرة " الملحقة بموقع الدراسات القبطية، وكان المقال قد سبق نشره بجريدة النهار اللبنانية في عام ألفين واثنين. كان المقال صادما للعقل المتعصب الذي يظن نفسه مالكا للحقيقة المطلقة، فصرت متيما بالموضوع الذي تملكني بالكامل فشرعت في ربيع ألفين وتسعة في كتابة سلسلة من المقالات المطولة وأرسلتها تباعا إلى الموقع كتعليقات تحت اسم"m-david   " وبالفعل كانت تنشر تباعا تحت مقال المطران جورج خضر. وبعد أكثر من شهرين من النشر المتواتر للتعليقات ( المقالات ) فوجئت بتواصل الموقع - ومن خلفه الدكتور جورج  - معي لعرض إمكانية تجميع التعليقات مع النص الأصلي بين دفتي كتاب ينشر على الموقع في صيغة pdf، في سابقة هي الأولى من نوعها على  الموقع، وقد كان؛ فتم نشر العمل مشفوعا بتعليق نقدي مطول أشبه بالدراسة للدكتور جورج حبيب، ومن دوري قمت بإضافة تعليق على تعليق الأستاذ، في نهاية الكتاب، تحت عنوان: مجرد محاولة لإعادة اكتشاف مسلمات الخريستولوجيا. هذا هو الرجل، الذي بالرغم من كونه لاهوتيا آبائيا لايبارى، وله ثوابته التي لايحيد عنها مطلقا، إلا أنه لم يجد غضاضة في أن يكون منفتحا على أي طرح لاهوتي مبدع لايتناقض مع تلك الثوابت. هذا من حيث الشكل وأما من حيث المضمون فلم تكن أرثوذكسيته، التي يستميت في الدفاع عنها، مرادفا للعنصرية  والامتلاك الحصري للحقيقة.

  3- وأما بالنسبة إلى دراسة " البعد الأضافي للاسم في يونانية العهد الجديد " فأذكر أن جدة الموضوع قد تسببت في عدم وجود مراجع بحثية للدراسة بخلاف رؤية الباحث، الأمر الذي أثار حفيظة بعض القراء وكتب معاتبا الأستاذ لتبنيه للدراسة على غير اتباع لأسسس البحث العلمي المتعارف عليها، فما كان من الأستاذ إلا أن كتب معلقا بأنه ينبغي أن نشجع هؤلاء الذين عندهم الموهبة. ليس هذا فحسب بل أنني أتذكر أثناء الإعداد لنشر الدراسة، ومن خلال الرسائل المتبادلة ، أن كتب الأستاذ - وبخط اليد - إلى تلميذه : " لا أستطيع أن أعبر لك عن سعادتي وفرحي عندما أقرأ ماهو نافع وجديد ومن الله نفسه الذي يرسل نور استعلان يسوع المسيح لكي ينير قلوب الذين يشهدون له. نحن نسير معا على طريق واحد. ونحن الآن في المؤخرة، والراية سلمت إليكم بحكم الزمان والسن والظروف، وهذا قانون الله في الحياة. سعدت كثيرا بغزارة النص المعدل وهو أفضل من سابقه وجيدجدا. إلى الأمام ياأخي نحو استعلان يسوع المسيح." انتهى الاقتباس . هذا هو الأستاذ المشجع لتلاميذه والدافع لهم نحو مزيد من الإبداع. هذا هو الأستاذ الذي لايرى ذاته إلا حلقة معرفية في سلسلة طويلة تتواصل كل حلقة فيها بلاحقتها.

  4- وبخصوص دراسة" الجوهر الواحد للأسرار السبعة" كان حديث الأسرار الذي استدعاه إعداد الموضوع للنشر حديثا ذا شجون؛ فيكتب الأستاذ إلى تلميذه في إحدى الرسائل إثناء الإعداد : " قرأت بحثك أكثر من مرة، ربما ثلاث مرات. جيد جدا، سبق لي أن قمت بنفس البحث في محاضرة في ألمانيا عام 1985 وهاجمني الأرثوذكس، رغم أنني قلت أن السرائر هي من مصدر وينبوع واحد وهو اتحاد الرب يسوع بالكنيسة. لا أريد أن تمر بالنفق المظلم الذي عشت فيه طوال 15عاما في مصر وأن تصارع الظلام أي الجهل. الرب معنا، والصليب امتد طوال 25عاما ظلام العصر الوسيط ولكن سلاح كهنوت مزيف ،لايخدم وإنما يسود ، لا يرعى بل يحكم، لا يبذل بل يذبح الذين يختلفون معه". وفي رسالة تالية يكتب :" قرأت الإضافات مع التعديل وهذا يجعلك تسير في منهج الآباء أنفسهم أي لا نكتفي بما لدينا من استنارة بل أن نراجع مالدينا على التسليم الكنسي المودع في الليتورجية وكتابات الآباء. أرجو أن ينشر على الموقع. رائع يا أخ مجدي وجيد، ولذلك إذا وضع الرب يسوع في قلبك أن تبحث، أرجو أن تكتب عن " دم المسيح "، وهمسات روح يسوع فينا هي أقوى مرجع طالما أنها في ذات مجال الأسفار وحسب التسليم أي أنها ليست اختراعات عقل بل إيحاء روح الحق ". هذا هو الأستاذ الأكاديمي- وهو من هو على خريطة علم اللاهوت والآباء في العالم – حينما يتصدى إلى حديث المرجعية والمراجع في البحث العلمي، اللاهوتي، فإنه يتجاوز الحرف والنص المادي الجاف إلى دسم إيحاء الروح ، روح التسليم والأسفار، وربما يكون الرجل قد استوعب الدرس المبكر ، درس الآباء الأساتذة الذين لم تكن مرجعيتهم كتبا ونصوصا لآخرين قبلهم بل روحا وتسليما ، فالعظيم أثناسيوس، مثلا، لم يذكر مرجعا واحدا في نهاية رائعته " تجسد الكلمة " وبالرغم من ذلك صار الأخير المرجع الأم الأهم والأعظم - بعد كلمات الوحي المقدس - أمام كل من أراد أن يقترب من مفهوم التجسد.

    5-  أحيانا كنت أضغط - عن غير قصد - على الأستاذ، طالبا سرعة رده، متجاهلا ظروف عمله ، خصوصا أن الأمر يحتاج وقتا للقراءة ثم كتابة الملحوظات والتعليقات والتعديلات. حدث هذا مع دراسة " لغة الأرقام في الكتاب المقدس "، فيضطر الأستاذ ليكتب إلى في محبة عجيبة :" حاشا لي من قبل رب الحياة وسيدنا أن أتجاهل رسائل أحد ولكن ظروف السفر من ولاية إلى أخرى للتدريس هي التي تمنعني من الرد فورا... البحث جيد جدا ويجب نشره.." ، والرسالة الخطية الكاملة تتصدر الدراسة المنشورة على الموقع. 

   6-  وتكرر نفس الموقف، الداعم من الأستاذ للتلميذ في دراسة " مثل الابن الضال: قراءة جديدة"، فوقف في ظهره في مواجهة من اعتبروا جدة التفسير خروجا عن السياق الذي أراده الرب للمثل ولم يقبلوا البعد الكوني له، الذي ناديت به.  

   7- لم تبدأ العلاقة مع الأستاذ على صفحات موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية ولكن كان للعلاقة جذور قديمة.  وتبدأ القصة بانفتاح عيني ذهن فتى مراهق ، في سبعينات القرن المنصرم ، على الأسئلة الإيمانية الكبرى ، فيجد نفسه أمام إجابات " مدارس الأحد " التي ضخمت من رصيد أسئلته . بفطرته لم يقتنع بمفهوم " الخلاص " كما شرحوه له . بفطرته كان مقتنعا أن نظرية "البديل العقابي" ليست هي الحقيقة . لا بد أن تكون الحقيقة شيء آخر غير نظرية " صراع العدل والرحمة ". كان مقتنعا أن هذه المسحة الناموسية الطقوسية لا يمكن أن تكون جوهر المسيحية . خرج من هذا التناقض بقناعة أنه مقبل على صراع ومعركة ، على الأقل على مستوى ذهنه.  ولم يطل الأمر كثيرا حتى وجد فارسا يخوض معركته هو. كان الدكتور جورج حبيب هو هذا الفارس . وكان يخوض معركته الأخيرة في أوجها ضد ظلامية دامسة قد خيمت على عقول طبقة من الإكليروس يستمدون روحهم من العصور الوسطى . وجدته قطرة ندى تنساب على جدباء نفسي . في موطني " طنطا " وفي كنيسة مارجرجس بأبي النجا وجدتني جالسا أحضر محاضراته في عيد ثورة يوليو ، فتلاقت ثورة نفسي مع ثورته . ظللت في دهشتي - التي شاركت فيها الكثيرين ، وعلى رأسهم مثلث الرحمات ، العظيم الأنبا يوأنس - أستمع لطروحاته.  كان جريئا وجسورا إلى الحد الذي ظهر فيه صداميا متخطيا كل الخطوط الحمراء . عشقت الآباء – لا سيما أثناسيوس – من خلاله. قرأت ،واستمتعت، وانتشيت برائعة أثناسيوس " تجسد الكلمة " ، الذي أعتبره أعظم ماكتب على الأرض بعد الكتاب المقدس . كان  كتابه " القديس أثاسيوس الرسولي في مواجهة التراث الغربي غير الأرثوذكسي " الذي ظهر في مطلع الثمانينات ، منعطفا في حياتي الذهنية . عكفت على كتبه وترجماته  للتراث . وفجأة حلت ظلمة مباغتة فقد تم إقصاؤه  عن الساحة ، ولكن فتيلة قد أوقدها في نفسي ، ماكان لها أن تنطفئ . فازددت في قراءة الآباء، والبحث اللاهوتي ، وقراءة الإنجيل في  الأصل اليوناني .اقتنيت وقرأت كتب الأب متى المسكين ، الذي أعتبره و الدكتور جورج جناحا جيل التنوير في كنيستنا القبطية المعاصرة ، ذلك الجيل ، الذي أنا على يقين أنه سوف يتبوأ مكانته اللائقة في تاريخ الكنيسة، يوما ما . كان البحث اللاهوتي المبدع هاجسا لي في يقظتي ومنامي . لم تتملكني مهنتي " كصيدلي " مثلما فعل بي عشق اللاهوت والآباء . ظللت أحلم طيلة الظلمة الدامسة حلم يقظة وحيد ، أن أجده فجأة أمام عيني كمسافر في قطار ، مثلا ، وتحقق الحلم فجأة ، وتلاشت الظلمة ولكنني لم أجده  مسافرا في قطار بل وجدته قطار المعرفة ذاته ، إذ ظهر موقع " coptology "، فالتحقت بقطاره ، وعكفت على إرسال الكثير من التعليقات على مختلف الموضوعات المنشورة . نلت استحسان الأستاذ إلى الحد الذي بدأ فيه بنشر أعمالا كاملة لي .

   8-  علاقتي بالأستاذ ليست قصة قصيرة فهي الهاجس المصاحب لرحلة العمر كله، وبدون ظهوره في وعيي المبكر - فتتلاقح أفكاري بطروحاته، في زمن الأسئلة - وبدون دعمه وتشجيعه لما أكتب، في زمن الكتابة والإبداع، بدون هذا وذاك، ما أصبحت على ما أنا عليه.

   9- معارك الأستاذ لم تكن مجرد صراع مع الجهل، ولو كان الأمر بهذه البساطة لكان مقدورا عليه، فالجهل يدرأه إحداث المعرفة مثلما أن الظلمة يدرأها إحداث النور، ولكن هناك ماهو أسوأ - وأخطر - من الجهل، هناك السطحية المفرطة والتعامل السطحي مع المسائل اللاهوتية. العقل - والفكر - السطحي ليس مؤهلا ولا مؤيدا بعمق مناسب لاستقبال الحقيقة اللاهوتية، وكأني بك ترد ماء النهر بكفيك، بغية أن تحصل على احتياج يومك ، ولم تتحمل عناء اصطحاب جرتك. وهم في معاركهم لايحتاجون منك أن تزف إليهم قائمة بالمراجع والأدلة ووثائق الآباء؛ فمرجعيتهم هي أوهام عقولهم، وماتذكره لهم من كتابات للآباء  سيحطون من قدره ويشككون فيه، والطامة الكبرى هي قدرتهم المدهشة على إسقاط سطحيتهم المفرطة على تصوراتك وتعريفاتك أنت، وبالتالي فأنت مدان - مبدئيا -بالنسبة لهم، مع أن مايدينونه هو تصوراتهم هم التي أسقطوها عليك.

    هذا ومن المستحيل اختزال معارك أربعين عاما في عدة سطور، ولكن هذه شذرات مكثفة عن أشهر هذه المعارك :

  -  واحدة من هذه المعارك - ضمن قائمة طويلة - كانت حول عقيدة " تأليه الإنسان "، أو " التأله theosis  ، وفي هذا الاقتباس - من كتاب بدع حديثة لمثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث – نرصد التعريف المدان للتأله  - من وجهة نظرهم - وهو تعريف ماكان لينادي به جاهل مجنون، فما بالنا بأساتذة اللاهوت الأرثوذكسي في العالم، وعلى رأسهم الدكتور جورج بباوي،  والاقتباس هو : " تأليه الإنسان معناه أن يتصف بالصفات الإلهية: أن يصير الإنسان إلهًا، يعنى أنه يصير غير محدود، مالئ السماوات والأرض. وأن يكون فاحصًا للقلوب والأفكار، وعارفًا بالخطايا، وموجودًا في كل مكان وصانعًا للعجائب بقوته الخاصة..!! ومعنى كونه إلهًا، أن يكون قدوسًا معصومًا من الخطأ..وتأليه الإنسان ينفى أن يكون مخلوقًا، بل الإله أزلى لا بداية له. ومعنى كون الإنسان إلهًا، أنه لا يموت! فمن ذا الذي يجرؤ أن ينسب إلى الإنسان كل هذه الصفات..؟! "، انتهى الاقتباس. وهكذا فإن سطحيتهم قد جعلتهم متمترسين خلف الانطباع اللغوي المباشر الساذج عن كلمة " التأله "، ولم يستطيعوا أن يلجوا عمقا - يستره المصطلح الآبائي الأصيل – فحواه أن تأله الإنسان هو الحياة الأبدية المعطاة للبشر ، في الكلمة المتجسد ، تلك التي كانت - قبل ظهور تدبير تجسده - خصيصة إلهية . إذ له وحده - بطبيعته - عدم الموت ( 1 تي 6 :16 ) . لذلك فعندما أعطيت نعمة الخلود وعدم الفساد للبشر ، بالحضور الأبدي لله ، فيهم - في المسيح - وعندما صاروا كائنين داخل شركة الثالوث القدوس بنعمة التبني ، فإنهم يقال لهم ، أنهم قد تألهوا، أي أن تألههم لايخرجهم من كونهم سيظلون في حالة اعتمادية أبدية  - كبشر - فيها يرتشفون وجودهم عديم الفساد من الآب بالابن في الروح القدس.

    -  وبمثل المستوى من السطحية خاضوا معركتهم الضارية حول مصطلح " شركة الطبيعة الإلهية "؛ فلم يتخيلوا - أو يتقبلوا – أنه بتأنس الله الكلمة قد تأله الإنسان، وبالتالي قد صار البشر شركاء الطبيعة الإلهية بفضل كونهم أعضاء في جسد الكلمة المتجسد المسيح الرب، الذين فيه أيضا قد مسحوا صائرين مسكنا أبديا لروح الله القدوس، وهكذا هم في المسيح قد تقبلوا نعمة خلقتهم الجديدة ،  أي التبني ،من الآب بالابن في الروح القدس، قد تقبلوا مسحتهم الفائضة من رأسهم المسيح الرب، الذي يضم كل الممسوحين من البشر. أبعد هذا كله يجوز لأحد أن ينكر أن الذين للمسيح قد صاروا شركاء الطبيعة الإلهية؟ واقع الحال هو أن سطحيتهم قد جعلتهم يعتقدون أن شركة الطبيعة الإلهية هي شركة في المواهب أو في الطاقة وليس شركة في الشخص ( الأقنوم ). نفس الفصام الذي شكل موقفهم من " التأله" قد وقف حائلا لتخيل أن ماهو إلهي من الممكن أن يسكن ماهو بشري، وأن ماهو بشري من الممكن أن يتجلى جديدا متلبسا ماهو إلهي، دون أن يتحول العنصر الإلهي إلى بشري ولا البشري إلى إلهي. وإن كان قمة استعلان السر قد حدث في التجسد بواسطة الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وبشرية الإنسان في يسوع ، الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد ، فإن الذين صاروا في المسيح قد نالوا بالنعمة تألها - أي شركة الطبيعة الإلهية - بفضل اشتراكهم في جسد الكلمة الخاص كأعضاء، أي الكنيسة.

  -  يبني السطحيون منظومتهم اللاهوتية من مفردات قد قاموا بتأويلها تأويلا سطحيا ساذجا يقودهم إلى انحراف ضخم، حينما تتكامل مفردات هذه المنظومة، والمفردة الأساسية التي ينطلقون منها هي سقوط الإنسان الأول، آدم ، أو مابات يعرف عندهم بالخطية الجدية، أو الخطية الأصلية، والاستخدام المتسلسل لهذه المفردة عندهم هو هكذا: الخطية ( الجدية الأصلية ) موجهة نحو الله، وبالتالي فهي غير محدودة لأن الله الذي وجهت نحوه الخطية غير محدود، وبالتالي فالفادي لابد أن يكون شخصا غير محدود، وبالتالي كان لابد من تجسد الكلمة غير المحدود ليصير بديلا عقابيا عن الإنسان المحكوم عليه بالهلاك، فيرفع عنه الحكم. إنها منظومة قانونية بحتة رسمتها سطحيتهم ولعلنا نتذكر ميمر العبد المملوك الذي يرصد صراع عدل الله مع رحمته بخصوص مسألة الإنسان لتنتهي الملحمة بصدور القرار بتجسد الابن الوحيد ليموت بدلا من الإنسان ليتم استيفاء العدل بنفس قدر استيفاء الرحمة. شكرا للرب أن الميمر - بفضل الدكتور جورج حبيب، على ما أعتقد - لم يعد يقرأ في نهار الجمعة العظيمة من الأسبوع المقدس.

  -  وليس مستغربا أن يتبنى هؤلاء مفهوم " وراثة الخطية الجدية الأصلية "، وهو عندهم عقيدة لا يمكن الاقتراب منها، ودونها الموت، وهي هكذا بالنسبة لهم لأنها مفهوم ضروري بل وحتمي لاستكمال منظومة لاهوتهم السطحية وللحفاظ عليها من التهاوي والضياع؛ فالخلاص من الخطية الجدية الذي ناله آدم، والذي تشرحه نظريتهم القانونية - المؤلفة من تضافر ثلاثية "الخطية والعقوبة والبديل العقابي" - لا يمكن أن يصل إلى بني آدم إلا إذا تم توريث الخطية الجدية لتصير سيفا مسلطا على رقبة كل مولود امرأة إلى أن يتم مغفرتها ومحوها بالمعمودية فينالون ماناله أبوهم آدم من خلاص. أما افتراض عدم تمسكهم بوراثة الخطية الجدية فهو يؤدي – من وجهة نظرهم - إلى اختزال الخلاص - بمفهومه النظري هذا  - في آدم فقط، وضياع  فرصة الخلاص من كل أبنائه من الجنس البشري؛ لذلك كان لابد لهم من الاستماتة في الدفاع عن عقيدتهم في وراثة وتوريث الخطية الجدية. هكذا هم قد انحرفوا بنظريتهم الوهمية هذه وقد كان أجدى بهم أن يدركوا أن مايتم توريثه من آدم إلى بنيه هو الموت الذي ساد على طبيعتهم، وأن  الخلاص هو في المسيح الرب، الكلمة المتجسد، ليس لأي أسباب نظرية أو قانونية، بل لسبب وحيد هو أن الرب هو القيامة والحياة ، والميت لايخلص من موته إلا بتلبسه للحياة، وهكذا في المسيح تم إحياء الجميع، ونستطيع هنا أن ندرك أن المعمودية لا علاقة لها بإبادة  الخطية الجدية بل بإبادة الموت، بلبس الحياة التي هي المسيح نفسه، كما في عبارة الرسول بولس : "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ " (غل 3: 27). 

   -  وفي اعتقادي لم يجتز الأستاذ معركة بلغت فيها سطحيتهم مبلغا مثلما حدث في المعركة حول مفهوم الكنيسة كجسد للمسيح ؛ فالمفهوم عندهم نوع من الاستعارة أو المبالغة، الأمر الذي لايعرفه الكتاب المقدس لاسيما الرسول بولس في رسائله، هذا فضلا عن أن هذا الجسد المجازي، للمسيح - عندهم - هو أحد ثلاثة أجساد ، بينما الجسدان الآخران أحدهما جسد يسوع التاريخي والآخر هو الجسد الإفخارستي. وتبلغ السطحية مبلغا مأساويا حينما تتحول إلى سخرية ، والسؤال الساخر هو: إذا كانت الكنيسة جسدا واحدا هو جسد المسيح فهل تأكل الكنيسة نفسها ، أو تسجد لنفسها في الإفخارستيا؟ والسؤال يتبنى المفهوم الساذج للأكل أي الأكل الطبيعي، وليس الأكل المستيكي أي المأكل الحق، لذلك فقد أبتدعوا مفهوما عجيبا آخرا هو أن الإفخارستيا أكل لناسوت الرب وليس للاهوته، فاللاهوت لايأكل، هكذا حاججوا. وأيضا يتبنى السؤال المفهوم الساذج للسجود بينما لم يصلهم قول الرب: "السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ." (يو 4: 23). أي أن هؤلاء الذين صاروا شركاء في جسد الابن المتجسد بالإفخارستيا هم قد صاروا مسكنا أبديا للروح القدس الذي فيه وبواسطته يستطيعون أن يسجدوا سجودا أبديا للآب.  

  وفضلا عن سطحية مفهومهم عن الكنيسة - باعتبار أن تعبير "  الكنيسة جسد المسيح " تعبير مجازي، أو استعاري - فهم يندفعون في اتجاه مفهوم آخر للكنيسة  يلقى قبولا طبيعيا ونفسيا لديهم ؛ فهم يعتقدون أن الكنيسة الحقيقية هي الكنيسة المؤسسة في هذا العالم، بهيراركيتها (hierarchy ) الكهنوتية من رجال الإكليروس، ببهائها، ومجدها، وقوتها، وقوانينها، وطقوسها، وسلطانها، سلطان الحل والربط، وما أدراك ماسلطان الحل والربط! أترى بعد كل هذا الزخم والعظمة لمفهومهم، هل يستطيعوا أن يتقبلوا مفهوم التنويريين أمثال الأستاذ ، وأمثال الأب متى المسكين، عن كنيسة من جسد واحد، خبز واحد، لاتمييز فيها بين الأعضاء سوى كونهم أعضاء متمايزة بطبيعتها، ومع ذلك هم مشتركون في ذبيحة واحدة ، ومذبح واحد ، وكاهن واحد . والمذبح والذبيحة والكاهن، واحد هو المسيح الرب رئيس الكهنة الأعظم ورأس الجسد الكنيسة بآن واحد ؟ هل يستطيعوا أن يتقبلوا كنيسة كائنة في حالة من الوجود المتبادل مع المسيح؛ ففيما يتقبل أعضاء الكنيسة وجودهم، من الرأس الرب يسوع المسيح، فالرب، فيهم، يتقبل تكميل جسده ؛ فهو لم يتجسد ليظل رأسا فقط.

  -  أيضا المعركة حول مسألة قد تبدو بسيطة مثل تناول الحائض كانت كاشفة بطريقة فجة لمدى ضحالتهم وسطحيتهم في التعامل مع السر الكنسي. ففضلا عن أن سطحيتهم قد أسلمتهم إلى تلبس يهودي لتطهيرات الشريعة والناموس - في هذه المسألة تحديدا- فإن السياق الأشمل لنظرتهم إلى الإفخارستيا كان في سيطرة مفهوم التحول الجوهري ( transubstanthiation  )  على نظرتهم للسر – وهو بالمناسبة مفهوم غير أرثوذكسي – ووفقا لهذا المفهوم فإن مادة السر – من خبز وخمر – قد تحولت إلى جسد ودم المسيح بالطريقة التي تضمن أن التعامل البيولوجي معهما هو تعامل طبيعي لأي طعام ، وبالتالي فإن مصيرهما هو نفس مصير الطعام الطبيعي؛ فيتحولان إلى دم بيولوجي وإفرازات .. إلخ، بينما العكس - الذي هو بالضرورة صحيح – هو تحول مادة السر الإفخارستي، من خبز وخمر إلى جسد المسيح بالطريقة التي ترفع المؤمنين المشتركين في السر إلى مستوى عضوية جسد الرب، ففي الإفخارستيا نتحول إلى المسيح، وليس هو الذي يتحول إلينا. نحن الذين نرتفع فى السر وليس هو الذي يتم تهديده بالاعتداء عليه بطريقة أو بأخرى وفقا لطبيعتنا أو تصرفاتنا غير المنضبطة. التحول حقيقة- وإلا ماكان للسر وجود - ولكن لمن التحول،  هذا هو السؤال. هل يبقى التحول حبيسا في مادة السر المعزولة، أم أنه تحول متزامن ومتوازي لكل من المنظور وغير المنظور، أي جسده الذي على المذبح وجسده الذي هو نحن، ولا معنى لحدوث الأول  بمعزل عنا ؟ عندهم التحول يحدث في طبيعة مادة الخبز والخمر بما يناسب الأكل البيولوجي الطبيعي لما يظن أن جسد الرب ودمه، وعند الأستاذ وأمثاله يحدث  " التحول المستيكي " للكنيسة المجتمعة حول الخبز والخمر، فيصير لها الخبز والخمر مأكلا حقا ومشربا حقا، فترتقي إلى مستوى كونها جسد المسيح. لذلك- فمن وجهة نظرهم - ماكانوا ليسمحوا للحائض بالاقتراب من السر خوفا على كرامة وطهارة السر من أن تمس بسبب نجاسة المرأة - من وجهة نظرهم - فعن أي مسيح يتحدثون؟! 

  -  وحتى عقيدة الثالوث لم تفلت من سطحيتهم، فروجوا إلى ثالوث الصفات: الذات والعقل والحياة، على اعتبار أن الآب هو الذات والابن هو العقل والروح القدس هو الحياة. ولكن - وليتهم يدركون - الأقانيم لاتتمايز في الصفات ولكن تتمايز في الوظائف الأقنومية؛ فلكل أقنوم وظيفة أقنومية وهوية شخصية تخصه وحده تميزه عن الأقنومين الآخرين في كيفية أقنمته للجوهر الإلهي الواحد ؛ فالله الآب - الذي منه ، تنبع الذات الإلهية - هو النبع الذاتي . هذه هي الوظيفة الأقنومية للآب، أي كونه مصدرا.  والله  الابن- الذي فيه ، تصب الذات الإلهية - هو المصب (النهر ) الذاتي، الذي يتقبل كل ملء الآب . هذه هي الوظيفة الأقنومية للابن، أي كونه مستقرا,. والله الروح القدس ، الفيض - الذي ينبع من الآب ليصب في الابن- هو الشركة الذاتية للفيض الإلهي. هذه هي الوظيفة الأقنومية للروح القدس، أي كونه شركة ووسطا (meso (، لأنه روح الآب وروح الابن بآن واحد. وأيضا قد كان من الممكن بالنسبة لهؤلاء أن لا يتورطوا في ثالوث " الذات والعقل والحياة " لو أنهم تخلوا عن سطحيتهم فيستوعبوا مضمون المصطلح النيقاوي الأشهر ،" الهوموأوسيوس  OMOOCIOC والمصطلح يعني أن كل أقنوم له نفس الجوهر الذي لكل أقنوم من الأقنومين الآخرين؛ بمعنى أن جوهر الآب هو نفسه جوهر الابن هو نفسه جوهر الروح القدس، وقد كانت مساواة الكلمة للآب في الجوهر ( هوموأوسيوس ) أحد أبرز الدفاعات ضد هرطقة آريوس في مجمع نيقية. لو كانوا هضموا المصطلح  ماكانوا تورطوا في ثالوثهم؛ فليس من المنطقي - على الأقل - اعتبار الجوهر ( الذات ) صفة تخص أحد الأقانيم، أي الآب، فقط دون غيره من الأقنومين الآخرين؛ فإذذاك يكون ثالوثهم قد انهار تماما.

       وهكذا نستطيع أن نخلص إلى أن معارك الأستاذ  كلها كانت صراعا لاهوتيا ضاريا ومواجهة ممتدة طيلة أربعين عاما بين فكر لاهوتي عميق أصيل يتجذر في كتابات آباء القرون الأربعة الأولى، وفكر لاهوتي نظري سطحي ينتمي إلى العصر الوسيط. وإن كان الجهل يدرأه إفشاء المعرفة فإن سطحية العقل لا يدرأها سوى اكتساب عقلية جديدة، نطلب من الرب أن يمنحها إياهم فيستطيعوا أن يتقبلوا استنارة تبدد ظلمة جهلهم.

  10-  وأخيرا، إلى سؤال قد يبدو صادما بعض الشيء: هل نستطيع أن نرثي الرجل؟ وإجابتي الحاسمة : ليس في مقدورنا  - على الأقل في الأفق المنظور - أن نصنع هذا؛ فالتنويريون لاترثيهم كلمات المحبين ولا شهادات المريدين. التنويريون ترثيهم احتفالية الاستنارة التي يشعلونها بأجسادهم المحترقة في أزمنة الغربة وأمكنة المنفى. إذن لابد من أن تدك حصون جهل، وتنهزم ظلمة عقول، وتستعاد أفئدة داسها موات صنعه الشكل في غيبة الجوهر والمضمون والروح. إذذاك، يتكرس إنصاف تاريخي واعتراف بما صنع التنويريون من فضل في تاريخ كنيستهم بل في تاريخ أمتهم، أيضا. ألعلني أتحدث عن يوتوبيا، بشكل ما ؟ يبدو أننا مازلنا بعيدين جدا من أن نكون قادرين على رثاء الأستاذ، ولكن الموقف المختلف من البابا تواضروس الثاني تجاه الرجل في نهاية أيامه يجعل من حلم اليوتوبيا حلما ليس مستحيلا جدا .

مجدي داود