إنها ليست مجرد مرثية
الأستاذ
ماأصعب أن ترثي أستاذك، ولكن العزاء هو في كون
الرجل ليس مستهدفا للرثاء – بحكم طبيعة الرثاء نفسه - فلايرثى إلا الأموات،
وأستاذنا قد زف إلى محفل الأحياء في الأرض الجديدة والسماء الجديدة، في الكنيسة
المتجلية في الرب يسوع المسيح. كان الرجل كسيده يسوع مضطهدا في هذا العالم وبالرغم
من كونه قبسا منيرا فقد تكالبت عليه قوى الظلم والظلمة فحمل الصليب مع سيده وسمر
عليه خارج المحلة. لم يستسلم وظل يجاهر كالمعمدان : " لا يحل لك "، لم
يهادن ولم يطلب مصالحة زائفة مدفوع ثمنها من قولة حق تم إجهاضها أو اعتراف بما
لاينبغي الاعتراف به أو قبول مالاتحتضنه ثلاثية : الوحي المقدس، كتابات الآباء،
والتقليد الليتورجي. كان الرجل – مع القمص متى المسكين - شريكه في صليب الرب -
جيلا كاملا من التنويرين العظماء الذين لم ينيروا إلا لأنهم قد قبلوا أن يحترقوا
مثل سيدهم كذبيحة محرقة،"
مُحْرَقَةٌ، وقُودُ رائحة سَرور للرب" (لا 1: 13) . اصطدم الرجل بالكنيسة،
الكيان المؤسسي الموجود في العالم، دفاعا عن الكنيسة، الكيان العضوي الموجود في
المسيح. واصطدم بظلامية أفكار العصر الوسيط التي خيمت قرونا على كنيستنا الوطنية،
دفاعا عن تراث الأساتذة من الآباء العظماء مثل أثناسيوس وكيرلس السكندريين.
وفيما يلي بعض قطوف من زهور العلاقة مع الأستاذ ، وهي غيض من فيض:
1- لم أكن لأتخيل نفسي ، ولو لوهلة واحدة، وأنا
أكتب لموقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية، لأتحدث عن - وليس إلى - الدكتور جورج
حبيب. علاقتي بالأستاذ على صفحات الموقع امتدت لأكثر من من عشر سنوات، حوارات
وسجالات، شد وجذب في إطار من المحبة بين الأستاذ المخضرم والتلميذ الجريء المشاغب
بعض الشيء، أحيانا. كان الأستاذ في كثير من الأحيان يسجل إعجابه بما يكتب
التلميذ - كما يسجل ملحوظاته الناقدة أيضا
- في رسائل بخط يده يحرص أن تصل إلى تلميذه عبر الموقع، تقديرا وحبا. أسفرت
الرحلة، في مسارها، عن تشريفي بأنني كنت القارئ الوحيد الذي نشر له خمس دراسات على
صفحات الموقع : " هل يخلص غير المسيحي: نص وتعليقات ، و البعد الإضافي للاسم
في يونانية العهد الجديد ، و الجوهر الواحد للأسرار السبعة و لغة الأرقام في
الكتاب المقدس، و مثل الابن الضال: قراءة جديدة ".
2- ولأن
البواكير دائما مايحتفى بها فقد كانت ملابسات نشر الدراسة الأولى فيها مايستحق
التذكر. بدأت القصة بمقال لأستاذنا المطران جورج خضر، مطران جبيل والبترون بلبنان،
بعنوان: هل يخلص غير المسيحي؟ وقد تم إعادة نشره في خريف ألفين وثمانية على صفحات مدونة "
مساحة حرة " الملحقة بموقع الدراسات القبطية، وكان المقال قد سبق نشره بجريدة
النهار اللبنانية في عام ألفين واثنين. كان المقال صادما للعقل المتعصب الذي يظن
نفسه مالكا للحقيقة المطلقة، فصرت متيما بالموضوع الذي تملكني بالكامل فشرعت في
ربيع ألفين وتسعة في كتابة سلسلة من المقالات المطولة وأرسلتها تباعا إلى الموقع
كتعليقات تحت اسم"m-david " وبالفعل كانت تنشر تباعا تحت مقال المطران
جورج خضر. وبعد أكثر من شهرين من النشر المتواتر للتعليقات ( المقالات ) فوجئت
بتواصل الموقع - ومن خلفه الدكتور جورج -
معي لعرض إمكانية تجميع التعليقات مع النص الأصلي بين دفتي كتاب ينشر على الموقع
في صيغة pdf،
في سابقة هي الأولى من نوعها على الموقع،
وقد كان؛ فتم نشر العمل مشفوعا بتعليق نقدي مطول أشبه بالدراسة للدكتور جورج حبيب،
ومن دوري قمت بإضافة تعليق على تعليق الأستاذ، في نهاية الكتاب، تحت عنوان: مجرد
محاولة لإعادة اكتشاف مسلمات الخريستولوجيا. هذا هو الرجل، الذي بالرغم من كونه
لاهوتيا آبائيا لايبارى، وله ثوابته التي لايحيد عنها مطلقا، إلا أنه لم يجد غضاضة
في أن يكون منفتحا على أي طرح لاهوتي مبدع لايتناقض مع تلك الثوابت. هذا من حيث
الشكل وأما من حيث المضمون فلم تكن أرثوذكسيته، التي يستميت في الدفاع عنها،
مرادفا للعنصرية والامتلاك الحصري
للحقيقة.
3- وأما
بالنسبة إلى دراسة " البعد الأضافي للاسم في يونانية العهد الجديد "
فأذكر أن جدة الموضوع قد تسببت في عدم وجود مراجع بحثية للدراسة بخلاف رؤية
الباحث، الأمر الذي أثار حفيظة بعض القراء وكتب معاتبا الأستاذ لتبنيه للدراسة على
غير اتباع لأسسس البحث العلمي المتعارف عليها، فما كان من الأستاذ إلا أن كتب
معلقا بأنه ينبغي أن نشجع هؤلاء الذين عندهم الموهبة. ليس هذا فحسب بل أنني أتذكر
أثناء الإعداد لنشر الدراسة، ومن خلال الرسائل المتبادلة ، أن كتب الأستاذ - وبخط
اليد - إلى تلميذه : " لا أستطيع أن أعبر لك عن سعادتي وفرحي عندما أقرأ ماهو
نافع وجديد ومن الله نفسه الذي يرسل نور استعلان يسوع المسيح لكي ينير قلوب الذين
يشهدون له. نحن نسير معا على طريق واحد. ونحن الآن في المؤخرة، والراية سلمت إليكم
بحكم الزمان والسن والظروف، وهذا قانون الله في الحياة. سعدت كثيرا بغزارة النص
المعدل وهو أفضل من سابقه وجيدجدا. إلى الأمام ياأخي نحو استعلان يسوع
المسيح." انتهى الاقتباس . هذا هو الأستاذ المشجع لتلاميذه والدافع لهم نحو
مزيد من الإبداع. هذا هو الأستاذ الذي لايرى ذاته إلا حلقة معرفية في سلسلة طويلة
تتواصل كل حلقة فيها بلاحقتها.
4- وبخصوص
دراسة" الجوهر الواحد للأسرار السبعة" كان حديث الأسرار الذي استدعاه
إعداد الموضوع للنشر حديثا ذا شجون؛ فيكتب الأستاذ إلى تلميذه في إحدى الرسائل
إثناء الإعداد : " قرأت بحثك أكثر من مرة، ربما ثلاث مرات. جيد جدا، سبق لي
أن قمت بنفس البحث في محاضرة في ألمانيا عام 1985 وهاجمني الأرثوذكس، رغم أنني قلت
أن السرائر هي من مصدر وينبوع واحد وهو اتحاد الرب يسوع بالكنيسة. لا أريد أن تمر
بالنفق المظلم الذي عشت فيه طوال 15عاما في مصر وأن تصارع الظلام أي الجهل. الرب
معنا، والصليب امتد طوال 25عاما ظلام العصر الوسيط ولكن سلاح كهنوت مزيف ،لايخدم
وإنما يسود ، لا يرعى بل يحكم، لا يبذل بل يذبح الذين يختلفون معه". وفي
رسالة تالية يكتب :" قرأت الإضافات مع التعديل وهذا يجعلك تسير في منهج
الآباء أنفسهم أي لا نكتفي بما لدينا من استنارة بل أن نراجع مالدينا على التسليم
الكنسي المودع في الليتورجية وكتابات الآباء. أرجو أن ينشر على الموقع. رائع يا أخ
مجدي وجيد، ولذلك إذا وضع الرب يسوع في قلبك أن تبحث، أرجو أن تكتب عن " دم
المسيح "، وهمسات روح يسوع فينا هي أقوى مرجع طالما أنها في ذات مجال الأسفار
وحسب التسليم أي أنها ليست اختراعات عقل بل إيحاء روح الحق ". هذا هو الأستاذ
الأكاديمي- وهو من هو على خريطة علم اللاهوت والآباء في العالم – حينما يتصدى إلى
حديث المرجعية والمراجع في البحث العلمي، اللاهوتي، فإنه يتجاوز الحرف والنص المادي
الجاف إلى دسم إيحاء الروح ، روح التسليم والأسفار، وربما يكون الرجل قد استوعب
الدرس المبكر ، درس الآباء الأساتذة الذين لم تكن مرجعيتهم كتبا ونصوصا لآخرين
قبلهم بل روحا وتسليما ، فالعظيم أثناسيوس، مثلا، لم يذكر مرجعا واحدا في نهاية
رائعته " تجسد الكلمة " وبالرغم من ذلك صار الأخير المرجع الأم الأهم
والأعظم - بعد كلمات الوحي المقدس - أمام كل من أراد أن يقترب من مفهوم التجسد.
5-
أحيانا كنت أضغط - عن غير قصد - على الأستاذ، طالبا سرعة رده، متجاهلا ظروف
عمله ، خصوصا أن الأمر يحتاج وقتا للقراءة ثم كتابة الملحوظات والتعليقات
والتعديلات. حدث هذا مع دراسة " لغة الأرقام في الكتاب المقدس "، فيضطر
الأستاذ ليكتب إلى في محبة عجيبة :" حاشا لي من قبل رب الحياة وسيدنا أن
أتجاهل رسائل أحد ولكن ظروف السفر من ولاية إلى أخرى للتدريس هي التي تمنعني من
الرد فورا... البحث جيد جدا ويجب نشره.." ، والرسالة الخطية الكاملة تتصدر
الدراسة المنشورة على الموقع.
6- وتكرر
نفس الموقف، الداعم من الأستاذ للتلميذ في دراسة " مثل الابن الضال: قراءة
جديدة"، فوقف في ظهره في مواجهة من اعتبروا جدة التفسير خروجا عن السياق الذي
أراده الرب للمثل ولم يقبلوا البعد الكوني له، الذي ناديت به.
7- لم تبدأ
العلاقة مع الأستاذ على صفحات موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية ولكن كان
للعلاقة جذور قديمة. وتبدأ القصة بانفتاح عيني
ذهن فتى مراهق ، في سبعينات القرن المنصرم ، على الأسئلة الإيمانية الكبرى ، فيجد نفسه
أمام إجابات " مدارس الأحد " التي ضخمت من رصيد أسئلته . بفطرته لم يقتنع
بمفهوم " الخلاص " كما شرحوه له . بفطرته كان مقتنعا أن نظرية "البديل
العقابي" ليست هي الحقيقة . لا بد أن تكون الحقيقة شيء آخر غير نظرية " صراع
العدل والرحمة ". كان مقتنعا أن هذه المسحة الناموسية الطقوسية لا يمكن أن تكون
جوهر المسيحية . خرج من هذا التناقض بقناعة أنه مقبل على صراع ومعركة ، على الأقل على
مستوى ذهنه. ولم يطل الأمر كثيرا حتى وجد فارسا
يخوض معركته هو. كان الدكتور جورج حبيب هو هذا الفارس . وكان يخوض معركته الأخيرة في
أوجها ضد ظلامية دامسة قد خيمت على عقول طبقة من الإكليروس يستمدون روحهم من العصور
الوسطى . وجدته قطرة ندى تنساب على جدباء نفسي . في موطني " طنطا " وفي كنيسة
مارجرجس بأبي النجا وجدتني جالسا أحضر محاضراته في عيد ثورة يوليو ، فتلاقت ثورة نفسي
مع ثورته . ظللت في دهشتي - التي شاركت فيها الكثيرين ، وعلى رأسهم مثلث الرحمات ،
العظيم الأنبا يوأنس - أستمع لطروحاته. كان
جريئا وجسورا إلى الحد الذي ظهر فيه صداميا متخطيا كل الخطوط الحمراء . عشقت الآباء
– لا سيما أثناسيوس – من خلاله. قرأت ،واستمتعت، وانتشيت برائعة أثناسيوس " تجسد
الكلمة " ، الذي أعتبره أعظم ماكتب على الأرض بعد الكتاب المقدس . كان كتابه " القديس أثاسيوس الرسولي في مواجهة التراث
الغربي غير الأرثوذكسي " الذي ظهر في مطلع الثمانينات ، منعطفا في حياتي الذهنية
. عكفت على كتبه وترجماته للتراث . وفجأة حلت
ظلمة مباغتة فقد تم إقصاؤه عن الساحة ، ولكن
فتيلة قد أوقدها في نفسي ، ماكان لها أن تنطفئ . فازددت في قراءة الآباء، والبحث اللاهوتي
، وقراءة الإنجيل في الأصل اليوناني .اقتنيت
وقرأت كتب الأب متى المسكين ، الذي أعتبره و الدكتور جورج جناحا جيل التنوير في كنيستنا
القبطية المعاصرة ، ذلك الجيل ، الذي أنا على يقين أنه سوف يتبوأ مكانته اللائقة في
تاريخ الكنيسة، يوما ما . كان البحث اللاهوتي المبدع هاجسا لي في يقظتي ومنامي . لم
تتملكني مهنتي " كصيدلي " مثلما فعل بي عشق اللاهوت والآباء . ظللت أحلم
طيلة الظلمة الدامسة حلم يقظة وحيد ، أن أجده فجأة أمام عيني كمسافر في قطار ، مثلا
، وتحقق الحلم فجأة ، وتلاشت الظلمة ولكنني لم أجده مسافرا في قطار بل وجدته قطار المعرفة ذاته ، إذ
ظهر موقع " coptology
"، فالتحقت بقطاره ، وعكفت على إرسال
الكثير من التعليقات على مختلف الموضوعات المنشورة . نلت استحسان الأستاذ إلى الحد
الذي بدأ فيه بنشر أعمالا كاملة لي .
8-
علاقتي بالأستاذ ليست قصة قصيرة فهي الهاجس المصاحب لرحلة العمر كله، وبدون
ظهوره في وعيي المبكر - فتتلاقح أفكاري بطروحاته، في زمن الأسئلة - وبدون دعمه
وتشجيعه لما أكتب، في زمن الكتابة والإبداع، بدون هذا وذاك، ما أصبحت على ما أنا
عليه.
9- معارك الأستاذ لم تكن مجرد صراع
مع الجهل، ولو كان الأمر بهذه البساطة لكان مقدورا عليه، فالجهل يدرأه إحداث المعرفة
مثلما أن الظلمة يدرأها إحداث النور، ولكن هناك ماهو أسوأ - وأخطر - من الجهل،
هناك السطحية المفرطة والتعامل السطحي مع المسائل اللاهوتية. العقل - والفكر -
السطحي ليس مؤهلا ولا مؤيدا بعمق مناسب لاستقبال الحقيقة اللاهوتية، وكأني بك ترد ماء
النهر بكفيك، بغية أن تحصل على احتياج يومك ، ولم تتحمل عناء اصطحاب جرتك. وهم في
معاركهم لايحتاجون منك أن تزف إليهم قائمة بالمراجع والأدلة ووثائق الآباء؛
فمرجعيتهم هي أوهام عقولهم، وماتذكره لهم من كتابات للآباء سيحطون من قدره ويشككون فيه، والطامة الكبرى هي
قدرتهم المدهشة على إسقاط سطحيتهم المفرطة على تصوراتك وتعريفاتك أنت، وبالتالي
فأنت مدان - مبدئيا -بالنسبة لهم، مع أن مايدينونه هو تصوراتهم هم التي أسقطوها
عليك.
هذا ومن المستحيل اختزال معارك أربعين عاما
في عدة سطور، ولكن هذه شذرات مكثفة عن أشهر هذه المعارك :
- واحدة من هذه المعارك - ضمن
قائمة طويلة - كانت حول عقيدة " تأليه الإنسان "، أو " التأله theosis
،
وفي هذا الاقتباس - من كتاب بدع حديثة لمثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث –
نرصد التعريف المدان للتأله - من وجهة
نظرهم - وهو تعريف ماكان لينادي به جاهل مجنون، فما بالنا بأساتذة اللاهوت
الأرثوذكسي في العالم، وعلى رأسهم الدكتور جورج بباوي، والاقتباس هو : " تأليه الإنسان معناه أن يتصف
بالصفات الإلهية: أن يصير الإنسان إلهًا، يعنى أنه يصير غير محدود، مالئ السماوات والأرض.
وأن يكون فاحصًا للقلوب والأفكار، وعارفًا بالخطايا، وموجودًا في كل مكان وصانعًا للعجائب
بقوته الخاصة..!! ومعنى كونه إلهًا، أن يكون قدوسًا معصومًا من الخطأ..وتأليه الإنسان
ينفى أن يكون مخلوقًا، بل الإله أزلى لا بداية له. ومعنى كون الإنسان إلهًا، أنه لا
يموت! فمن ذا الذي يجرؤ أن ينسب إلى الإنسان كل هذه الصفات..؟! "، انتهى
الاقتباس. وهكذا فإن سطحيتهم قد جعلتهم متمترسين خلف الانطباع اللغوي المباشر
الساذج عن كلمة " التأله "، ولم يستطيعوا أن يلجوا عمقا - يستره المصطلح
الآبائي الأصيل – فحواه أن تأله الإنسان هو الحياة الأبدية المعطاة للبشر ، في الكلمة
المتجسد ، تلك التي كانت - قبل ظهور تدبير تجسده - خصيصة إلهية . إذ له وحده - بطبيعته
- عدم الموت ( 1 تي 6 :16 ) . لذلك فعندما أعطيت نعمة الخلود وعدم الفساد للبشر ، بالحضور
الأبدي لله ، فيهم - في المسيح - وعندما صاروا كائنين داخل شركة الثالوث القدوس بنعمة
التبني ، فإنهم يقال لهم ، أنهم قد تألهوا، أي أن تألههم لايخرجهم من كونهم سيظلون
في حالة اعتمادية أبدية - كبشر - فيها يرتشفون
وجودهم عديم الفساد من الآب بالابن في الروح القدس.
- وبمثل المستوى من السطحية خاضوا معركتهم الضارية
حول مصطلح " شركة الطبيعة الإلهية "؛ فلم يتخيلوا - أو يتقبلوا – أنه
بتأنس الله الكلمة قد تأله الإنسان، وبالتالي قد صار البشر شركاء الطبيعة الإلهية
بفضل كونهم أعضاء في جسد الكلمة المتجسد المسيح الرب، الذين فيه أيضا قد مسحوا
صائرين مسكنا أبديا لروح الله القدوس، وهكذا هم في المسيح قد تقبلوا نعمة خلقتهم
الجديدة ، أي التبني ،من الآب بالابن في
الروح القدس، قد تقبلوا مسحتهم الفائضة من رأسهم المسيح الرب، الذي يضم كل
الممسوحين من البشر. أبعد هذا كله يجوز لأحد أن ينكر أن الذين للمسيح قد صاروا
شركاء الطبيعة الإلهية؟ واقع الحال هو أن سطحيتهم قد جعلتهم يعتقدون أن شركة
الطبيعة الإلهية هي شركة في المواهب أو في الطاقة وليس شركة في الشخص ( الأقنوم ).
نفس الفصام الذي شكل موقفهم من " التأله" قد وقف حائلا لتخيل أن ماهو
إلهي من الممكن أن يسكن ماهو بشري، وأن ماهو بشري من الممكن أن يتجلى جديدا متلبسا
ماهو إلهي، دون أن يتحول العنصر الإلهي إلى بشري ولا البشري إلى إلهي. وإن كان قمة
استعلان السر قد حدث في التجسد بواسطة الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وبشرية
الإنسان في يسوع ، الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد ، فإن الذين صاروا في
المسيح قد نالوا بالنعمة تألها - أي شركة الطبيعة الإلهية - بفضل اشتراكهم في جسد
الكلمة الخاص كأعضاء، أي الكنيسة.
- يبني السطحيون منظومتهم
اللاهوتية من مفردات قد قاموا بتأويلها تأويلا سطحيا ساذجا يقودهم إلى انحراف ضخم،
حينما تتكامل مفردات هذه المنظومة، والمفردة الأساسية التي ينطلقون منها هي سقوط
الإنسان الأول، آدم ، أو مابات يعرف عندهم بالخطية الجدية، أو الخطية الأصلية،
والاستخدام المتسلسل لهذه المفردة عندهم هو هكذا: الخطية ( الجدية الأصلية ) موجهة
نحو الله، وبالتالي فهي غير محدودة لأن الله الذي وجهت نحوه الخطية غير محدود،
وبالتالي فالفادي لابد أن يكون شخصا غير محدود، وبالتالي كان لابد من تجسد الكلمة
غير المحدود ليصير بديلا عقابيا عن الإنسان المحكوم عليه بالهلاك، فيرفع عنه الحكم.
إنها منظومة قانونية بحتة رسمتها سطحيتهم ولعلنا نتذكر ميمر العبد المملوك الذي
يرصد صراع عدل الله مع رحمته بخصوص مسألة الإنسان لتنتهي الملحمة بصدور القرار
بتجسد الابن الوحيد ليموت بدلا من الإنسان ليتم استيفاء العدل بنفس قدر استيفاء
الرحمة. شكرا للرب أن الميمر - بفضل الدكتور جورج حبيب، على ما أعتقد - لم يعد
يقرأ في نهار الجمعة العظيمة من الأسبوع المقدس.
- وليس مستغربا أن يتبنى هؤلاء
مفهوم " وراثة الخطية الجدية الأصلية "، وهو عندهم عقيدة لا يمكن
الاقتراب منها، ودونها الموت، وهي هكذا بالنسبة لهم لأنها مفهوم ضروري بل وحتمي
لاستكمال منظومة لاهوتهم السطحية وللحفاظ عليها من التهاوي والضياع؛ فالخلاص من
الخطية الجدية الذي ناله آدم، والذي تشرحه نظريتهم القانونية - المؤلفة من تضافر
ثلاثية "الخطية والعقوبة والبديل العقابي" - لا يمكن أن يصل إلى بني آدم
إلا إذا تم توريث الخطية الجدية لتصير سيفا مسلطا على رقبة كل مولود امرأة إلى أن
يتم مغفرتها ومحوها بالمعمودية فينالون ماناله أبوهم آدم من خلاص. أما افتراض عدم
تمسكهم بوراثة الخطية الجدية فهو يؤدي – من وجهة نظرهم - إلى اختزال الخلاص -
بمفهومه النظري هذا - في آدم فقط، وضياع فرصة الخلاص من كل أبنائه من الجنس البشري؛ لذلك
كان لابد لهم من الاستماتة في الدفاع عن عقيدتهم في وراثة وتوريث الخطية الجدية.
هكذا هم قد انحرفوا بنظريتهم الوهمية هذه وقد كان أجدى بهم أن يدركوا أن مايتم
توريثه من آدم إلى بنيه هو الموت الذي ساد على طبيعتهم، وأن الخلاص هو في المسيح الرب، الكلمة المتجسد، ليس
لأي أسباب نظرية أو قانونية، بل لسبب وحيد هو أن الرب هو القيامة والحياة ، والميت
لايخلص من موته إلا بتلبسه للحياة، وهكذا في المسيح تم إحياء الجميع، ونستطيع هنا
أن ندرك أن المعمودية لا علاقة لها بإبادة
الخطية الجدية بل بإبادة الموت، بلبس الحياة التي هي المسيح نفسه، كما في
عبارة الرسول بولس : "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ
قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ " (غل 3: 27).
-
وفي اعتقادي لم يجتز الأستاذ معركة بلغت فيها سطحيتهم مبلغا مثلما حدث في
المعركة حول مفهوم الكنيسة كجسد للمسيح ؛ فالمفهوم عندهم نوع من الاستعارة أو
المبالغة، الأمر الذي لايعرفه الكتاب المقدس لاسيما الرسول بولس في رسائله، هذا
فضلا عن أن هذا الجسد المجازي، للمسيح - عندهم - هو أحد ثلاثة أجساد ، بينما
الجسدان الآخران أحدهما جسد يسوع التاريخي والآخر هو الجسد الإفخارستي. وتبلغ
السطحية مبلغا مأساويا حينما تتحول إلى سخرية ، والسؤال الساخر هو: إذا كانت
الكنيسة جسدا واحدا هو جسد المسيح فهل تأكل الكنيسة نفسها ، أو تسجد لنفسها في
الإفخارستيا؟ والسؤال يتبنى المفهوم الساذج للأكل أي الأكل الطبيعي، وليس الأكل
المستيكي أي المأكل الحق، لذلك فقد أبتدعوا مفهوما عجيبا آخرا هو أن الإفخارستيا
أكل لناسوت الرب وليس للاهوته، فاللاهوت لايأكل، هكذا حاججوا. وأيضا يتبنى السؤال
المفهوم الساذج للسجود بينما لم يصلهم قول الرب: "السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ
يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ
لَهُ." (يو 4: 23). أي أن هؤلاء الذين صاروا شركاء في جسد الابن المتجسد
بالإفخارستيا هم قد صاروا مسكنا أبديا للروح القدس الذي فيه وبواسطته يستطيعون أن
يسجدوا سجودا أبديا للآب.
وفضلا عن سطحية مفهومهم عن الكنيسة - باعتبار أن تعبير " الكنيسة جسد المسيح " تعبير مجازي، أو
استعاري - فهم يندفعون في اتجاه مفهوم آخر للكنيسة يلقى قبولا طبيعيا ونفسيا لديهم ؛ فهم يعتقدون
أن الكنيسة الحقيقية هي الكنيسة المؤسسة في هذا العالم، بهيراركيتها (hierarchy ) الكهنوتية
من رجال الإكليروس، ببهائها، ومجدها، وقوتها، وقوانينها، وطقوسها، وسلطانها، سلطان
الحل والربط، وما أدراك ماسلطان الحل والربط! أترى بعد كل هذا الزخم والعظمة
لمفهومهم، هل يستطيعوا أن يتقبلوا مفهوم التنويريين أمثال الأستاذ ، وأمثال الأب
متى المسكين، عن كنيسة من جسد واحد، خبز واحد، لاتمييز فيها بين الأعضاء سوى كونهم
أعضاء متمايزة بطبيعتها، ومع ذلك هم مشتركون في ذبيحة واحدة ، ومذبح واحد ، وكاهن واحد
. والمذبح والذبيحة والكاهن، واحد هو المسيح الرب رئيس الكهنة الأعظم ورأس الجسد
الكنيسة بآن واحد ؟ هل يستطيعوا أن يتقبلوا كنيسة كائنة في حالة من الوجود
المتبادل مع المسيح؛ ففيما يتقبل أعضاء الكنيسة وجودهم، من الرأس الرب يسوع
المسيح، فالرب، فيهم، يتقبل تكميل جسده ؛ فهو لم يتجسد ليظل رأسا فقط.
- أيضا المعركة حول مسألة قد تبدو
بسيطة مثل تناول الحائض كانت كاشفة بطريقة فجة لمدى ضحالتهم وسطحيتهم في التعامل
مع السر الكنسي. ففضلا عن أن سطحيتهم قد أسلمتهم إلى تلبس يهودي لتطهيرات الشريعة
والناموس - في هذه المسألة تحديدا- فإن السياق الأشمل لنظرتهم إلى الإفخارستيا كان
في سيطرة مفهوم التحول الجوهري ( transubstanthiation ) على نظرتهم للسر –
وهو بالمناسبة مفهوم غير أرثوذكسي – ووفقا لهذا المفهوم فإن مادة السر – من خبز
وخمر – قد تحولت إلى جسد ودم المسيح بالطريقة التي تضمن أن التعامل البيولوجي
معهما هو تعامل طبيعي لأي طعام ، وبالتالي فإن مصيرهما هو نفس مصير الطعام الطبيعي؛
فيتحولان إلى دم بيولوجي وإفرازات .. إلخ، بينما العكس - الذي هو بالضرورة صحيح –
هو تحول مادة السر الإفخارستي، من خبز وخمر إلى جسد المسيح بالطريقة التي ترفع
المؤمنين المشتركين في السر إلى مستوى عضوية جسد الرب، ففي الإفخارستيا نتحول إلى
المسيح، وليس هو الذي يتحول إلينا. نحن الذين نرتفع فى السر وليس هو الذي يتم
تهديده بالاعتداء عليه بطريقة أو بأخرى وفقا لطبيعتنا أو تصرفاتنا غير المنضبطة.
التحول حقيقة- وإلا ماكان للسر وجود - ولكن لمن التحول، هذا هو السؤال. هل يبقى التحول حبيسا في مادة السر
المعزولة، أم أنه تحول متزامن ومتوازي لكل من المنظور وغير المنظور، أي جسده الذي
على المذبح وجسده الذي هو نحن، ولا معنى لحدوث الأول بمعزل عنا ؟ عندهم التحول يحدث في طبيعة مادة
الخبز والخمر بما يناسب الأكل البيولوجي الطبيعي لما يظن أن جسد الرب ودمه، وعند
الأستاذ وأمثاله يحدث " التحول
المستيكي " للكنيسة المجتمعة حول الخبز والخمر، فيصير لها الخبز والخمر مأكلا
حقا ومشربا حقا، فترتقي إلى مستوى كونها جسد المسيح. لذلك- فمن وجهة نظرهم -
ماكانوا ليسمحوا للحائض بالاقتراب من السر خوفا على كرامة وطهارة السر من أن تمس
بسبب نجاسة المرأة - من وجهة نظرهم - فعن أي مسيح يتحدثون؟!
- وحتى عقيدة الثالوث لم تفلت من
سطحيتهم، فروجوا إلى ثالوث الصفات: الذات والعقل والحياة، على اعتبار أن الآب هو
الذات والابن هو العقل والروح القدس هو الحياة. ولكن - وليتهم يدركون - الأقانيم
لاتتمايز في الصفات ولكن تتمايز في الوظائف الأقنومية؛ فلكل أقنوم وظيفة أقنومية
وهوية شخصية تخصه وحده تميزه عن الأقنومين الآخرين في كيفية أقنمته للجوهر الإلهي
الواحد ؛ فالله الآب - الذي منه ، تنبع الذات الإلهية - هو النبع الذاتي . هذه هي
الوظيفة الأقنومية للآب، أي كونه مصدرا. والله
الابن- الذي فيه ، تصب الذات الإلهية - هو
المصب (النهر ) الذاتي، الذي يتقبل كل ملء الآب . هذه هي الوظيفة الأقنومية للابن،
أي كونه مستقرا,. والله الروح القدس ، الفيض - الذي ينبع من الآب ليصب في الابن- هو
الشركة الذاتية للفيض الإلهي. هذه هي الوظيفة الأقنومية للروح القدس، أي كونه شركة
ووسطا (meso (،
لأنه روح الآب وروح الابن بآن واحد. وأيضا قد كان من الممكن بالنسبة لهؤلاء أن لا
يتورطوا في ثالوث " الذات والعقل والحياة " لو أنهم تخلوا عن سطحيتهم
فيستوعبوا مضمون المصطلح النيقاوي الأشهر ،" الهوموأوسيوس OMOOCIOC "، والمصطلح يعني
أن كل أقنوم له نفس الجوهر الذي لكل أقنوم من الأقنومين الآخرين؛ بمعنى أن جوهر
الآب هو نفسه جوهر الابن هو نفسه جوهر الروح القدس، وقد كانت مساواة الكلمة للآب
في الجوهر ( هوموأوسيوس ) أحد أبرز الدفاعات ضد هرطقة آريوس في مجمع نيقية. لو
كانوا هضموا المصطلح ماكانوا تورطوا في
ثالوثهم؛ فليس من المنطقي - على الأقل - اعتبار الجوهر ( الذات ) صفة تخص أحد
الأقانيم، أي الآب، فقط دون غيره من الأقنومين الآخرين؛ فإذذاك يكون ثالوثهم قد
انهار تماما.
وهكذا نستطيع أن نخلص إلى أن معارك الأستاذ كلها كانت صراعا لاهوتيا ضاريا ومواجهة ممتدة
طيلة أربعين عاما بين فكر لاهوتي عميق أصيل يتجذر في كتابات آباء القرون الأربعة
الأولى، وفكر لاهوتي نظري سطحي ينتمي إلى العصر الوسيط. وإن كان الجهل يدرأه إفشاء
المعرفة فإن سطحية العقل لا يدرأها سوى اكتساب عقلية جديدة، نطلب من الرب أن
يمنحها إياهم فيستطيعوا أن يتقبلوا استنارة تبدد ظلمة جهلهم.
10- وأخيرا، إلى سؤال قد يبدو
صادما بعض الشيء: هل نستطيع أن نرثي الرجل؟ وإجابتي الحاسمة : ليس في مقدورنا - على الأقل في الأفق المنظور - أن نصنع هذا؛
فالتنويريون لاترثيهم كلمات المحبين ولا شهادات المريدين. التنويريون ترثيهم
احتفالية الاستنارة التي يشعلونها بأجسادهم المحترقة في أزمنة الغربة وأمكنة
المنفى. إذن لابد من أن تدك حصون جهل، وتنهزم ظلمة عقول، وتستعاد أفئدة داسها موات
صنعه الشكل في غيبة الجوهر والمضمون والروح. إذذاك، يتكرس إنصاف تاريخي واعتراف
بما صنع التنويريون من فضل في تاريخ كنيستهم بل في تاريخ أمتهم، أيضا. ألعلني
أتحدث عن يوتوبيا، بشكل ما ؟ يبدو أننا مازلنا بعيدين جدا من أن نكون قادرين على
رثاء الأستاذ، ولكن الموقف المختلف من البابا تواضروس الثاني تجاه الرجل في نهاية
أيامه يجعل من حلم اليوتوبيا حلما ليس مستحيلا جدا .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق