الجمعة، 19 أبريل 2013

زمن مابعد التجسد


   

        التجسد حدث دراماتيكي قد انطلق في لحظة من تاريخ البشر ولا ينته إلا بمجيء شخص الرب الكامل والممتلئ بجميع أعضائه ، الذين هم كنيسته. وأما تلك النظرة الانقطاعية البائسة ، التي تتبنى أن ظهور الرب يسوع مجرد حدث ينتمي للماضي بينما ظهور الكنيسة في مجدها ( في حياة الدهر الآتي ) حدث ينتمي للمستقبل ، فهي تؤدي بنا إلى مفهومين أكثر بؤسا :
1- ظهور الرب يسوع كمجرد رأس قد توقف على النمو ، قد توقف على تكميل كيانه انتظارا لزمن مستقبلي يجتلب فيه جميع أعضائه دفعة واحدة في ما يسمى بيوم القيامة.  الأمر ببساطة يعنى تعطيل سر التجسد في منطقة زمنية لم يستطع فيها الرأس أن ينمو باجتلاب باقي الأعضاء .
2- الانحدار بمفهوم التجسد نحو تنظير فكري يعد مجرد مسحنة ( جعل الأمر يبدو مسيحيا ) لنظرية الثواب والعقاب التي تنحدر لأصول وثنية ؛ فانفصال ثمرة التجسد ( أي الكنيسة ) عن حدث التجسد ،زمنيا ، بجعله حدث مستقبلي ، يعني أن ظهور الكنيسة في حياة الدهر الآتي مجرد مصير إيجابي للأخيار الذين دعوا مسيحيين في هذا العالم ولكن بانتقالهم من العالم قد ظلوا في انتظار نهاية زماننا الأرضي ليتجلى خلودهم .
    عثرة الزمن
 الوعي بالواقع الحضوري الآني الذي دشنه حدث التجسد يجعلنا نقوم من عثرتنا بخصوص مدلولات زمنية يشير إليها ظاهر النص الإنجيلي ، من نحو مجيء الرب . التجسد قد كشف للكنيسة واقعا آنيا غير معقوب بمستقبل . قد كشف حاضرا أبديا غير قابل للتقادم ( aging ) . قد كشف لحظة ممتدة ( بل قل لحظة أبدية ) .  الكنيسة المشتتة في ماتبقى من زمن الكون يسري بين أفرادها استحقاق سر تجسد الكلمة . كل فرد في زمانه الخاص يستقبل المد الإفخارستي النابع من الرأس يسوع فيتم التهام لحظته الزمنية - التي يسجلها التاريخ البشري - من قبل اللحظة الآنية الممتدة ، من قبل " الآن المطلق " الذي شقه الكلمة المتجسد في زماننا المتغير . الأمر أشبه بشق البحر الأحمر . هذا هو فصح الكنيسة الحقيقي ،إذ قد اخترق زمان موتهم بظهور جسر الخلود الذي أناره الكلمة بتجسده في البشر . هكذا تنجو الكنيسة من بحر العالم بعبورها من الزمن على جسر الأبدية الذي كشفه سر التجسد . هذا هو العبور الأعظم الذي تجتازه الكنيسة ، العبور من الزمن بدوائره الثلاثة من ماض وحاضر ومستقبل ، إلى الحاضر فقط ، الحاضر الجديد دائما . ولأن مصطلح " الآن " لا يعني غير مجرد لحظة هي الآن، فالآن المطلق لا يمكن أن يكون إلا لحظة ممتدة ،  هو امتداد منسجم ,متجانس من ذات اللحظة ولا يمكن أن تداهمه لحظة مغايرة تدمر طبيعته جاعلة منه " لحظة ماضية " . لذلك عندما يبوح الرسول بسره قائلا :" لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير، في لحظة في طرفة عين، عند البوق الأخير "( 1كو15: 51،52 ) ، فهو يرصد ولوج الكنيسة الحاضرة - المشتتة في زمن مابعد التجسد - لحظة " الآن المطلق " ، لحظة " البوق السابع". والكنيسة بدخولها لتلك اللحظة العجيبة يتماس أعضاؤها في أزمنتهم المختلفة مع الزمن الآني  فيبدون من منظور زماننا كمن يتعرضون لحملة من الاختطاف . ويبدون من منظور الزمن الجديد ( الآني ) كرصيد يتراكم في مخزن ابن الإنسان .
     الزمن في الخطاب الإنجيلي
عندما يرصد الرب يسوع التاريخي حدثا قد انطلق من لحظة ظهوره مرورا بزمن مابعد التجسد وحتى لحظة نهاية العالم ، فهو يرصد ذلك من خلال لقب قد أطلقه على نفسه هو لقب " ابن الإنسان ". وهذا اللقب لا يشير بأي حال من الأحوال إلى مجرد كون الكلمة قد صار إنسانا بتجسده ولكنه يفترش مساحة أوسع بكثير هي مساحة تمتد لمفهوم الكنيسة الكاملة الممتلئة بجميع أفرادها، والتي تنتمي (كجسد ) إلى رأس هو الرب يسوع التاريخي ذاته. ولقب ابن الإنسان ، العجيب ، يتجذر في زمن أقدم من زمن التجسد فهو في رؤيا دانيال شخص  قد " أعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض "(  دانيال  7: 14 ) ، وبالرغم من ذلك فالعجب في الرؤيا هو تبدل الشخص إلى معادل آخر ،فيختفي الشخص من المشهد و " أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين"( دانيال7: 18 ). إذن   " ابن الإنسان " شخص كاثوليكي ( جماعي ) ، هو الكنيسة المشيدة في كامل بهائها وفخامتها ومجدها، وحجر زاويتها يسوع ، الذي أشار إلى ذاته كحجر زاوية للكنيسة حينما قال : " على هذه الصخرة أبني كنيستي ، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"( مت 16: 18 ).    زمن مجيء ابن الإنسان هو " الزمن الكنسي " ( إذا جاز التعبير ) ، زمن تكريس ( وتحقيق  وحضور ووجود ) الكنيسة كجسد كامل ينمو من الرب يسوع التاريخي ، الذي هو الرأس . وفي النصوص الإنجيلية التي تتناول هذا الأمر - بالطبع على لسان الرب يسوع - نكتشف طريقتنين - من زاويتين مختلفتين- لرصد الحدث :
1- الرصد من داخل الحدث
عندما يتحدث الرب يسوع التاريخي في لحظة تاريخية معينة من زمن وجوده بيننا على الأرض ، على مسمع من أناس " تاريخيين " معاصرين له في تلك اللحظة - ويقوم الوحي الإلهي بتسجيل هذه الكلمات التي تخص مجيء ابن الإنسان ، فإن حديث الرب يكشف أمرا مدهشا إذ قد انفتحت تلك اللحظة متحررة ، على حاضر ممتد قد ابتلع تاريخيتها لنجد أنفسنا نحن أبناء الكنيسة الحاضرة - حينما نقرأ وندرك هذه الكلمات - ندلف إلى ذات تلك اللحظة بعينها، التي من المفترض أنها بالنسبة لنا لحظة تنتمي إلى الماضي . بل والأكثر من ذلك ، ينطبق الأمر بالنسبة لأي فرد من أفراد الكنيسة المشتتين في مانعتبره مستقبل بالنسبة لنا ، من ماقد تبقى من زمن العالم . كل في زمانه الخاص يقرأ ذات الكلمات التي تنتمي لذات اللحظة فإذ بها لحظة تخص آنيته : "..الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة و ملائكة الله يصعدون و ينزلون على ابن الانسان  (يو1: 51).
إذن هاهي "الأرواح الخادمة المرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص "( عب1: 14) تؤدي خدمتها " الآن " في سياق تكريس الوجود الكامل للكنيسة الكائنة في وجود شخصي كاثوليكي اسمه " ابن الإنسان " ،سلم يعقوب الحقيقي الكائن بين السماء والأرض .
  أيضا نجد أن استجابة الكنيسة لنداء اللحظة الآنية الممتدة تأتي على نفس الأرضية من الرصد الآني ليتحقق وجود الكنيسة الآن :
- "  و لكن تأتي ساعة و هي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح و الحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له "( يو 4: 23  ).
- "   الحق الحق اقول لكم أنه تأتي ساعة و هي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله و السامعون يحيون ( يو5: 25).
- "   هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت  .  أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم "( يو6:50و51 ). إذن هو إن كان قد "نزل " ،بظهوره متجسدا في لحظة تاريخية معينة ، فهو مازال " نازلا " في الحاضر الكنسي الممتد ، هو قد جعل من ذاته وليمة أبدية تفترش واقع زمن مابعد التجسد حتى يكرس شبع وجود الكنيسة بشحم الحياة الأبدية. لذلك لم يكن غريبا أن يشبه يسوع مجيء كنيسته - التي تأتي في حركة متماهية مع مسار  حركة الإفخارستيا النابعة منه كرأس -  بهذا التشبيه المدهش :" حيث  تكون الجثة هناك تجتمع النسور" ( لو17: 37 ) ، ( مت24: 28 ).
2- الرصد البانورامي للحدث
 طبقا للطبيعة الآنية ( المضارعة ) لزمن مجيء ابن الإنسان ، زمن مجيء الكنيسة ، فإن نسيج هذا الزمن المتجانس لا يسمح بتمايز بين لحظة وأخرى ، بمعنى التمايز بين لحظة ماضية وبين أخرى حاضرة أو ثالثة مستقبلة ، وبالتالي تتماهى لحظة انطلاق الحدث ( لحظة ظهور الكلمة متجسدا ) مع لحظة نهاية العالم ( لحظة اكتمال بناء الكنيسة ،أي كمال مجيء وحضور ابن الإنسان).لذلك عندما يرصد يسوع هذا الحدث في رؤية بانورامية فإن الحدث يبدو لحظيا ولكن هذا لايعني أن الحدث بكامله قد تم في لحظة مستقبلية ذات وجود مستقل عن سياق اللحظة الممتدة . فالحدث تراكمي ويتم على مسار لحظة ممتدة واحدة ، ورصده من خلال هذه الزاوية لا يكشف عن هوة زمنية بين نقطة الانطلاق ونقطة الاكتمال . لذلك لا عجب حينما يرصد يسوع حدث مجيء ابن الإنسان " كالبرق ( الذي ) يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب "( مت 24: 27 )، ( لو17: 24 ). هكذا قد طوي زمن مابعد التجسد طيا في لحظة فبدى الحدث عروقا من نور تنقش صفحة السماء لتنير وجه الأرض الجديدة ، الكنيسة . 
وتتجلى الرؤية البانورامية للحدث في ذلك المشهد الكلاسيكي  لمجيء ابن الإنسان على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ثم يرسل ملائكته فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح : ( مت24 : 30, 31) ، ( مر13: 26و 27 ) ، ( مر 14: 62 )  ، ( لو21: 27 ) .والمشهد يذكرنا على نحو ما بالتبادلية الظهورية العجيبة بين ابن الإنسان وبني العلي في رؤيا دانيال ، فيبدو حدث مجيء الشخص معادلا لحدث تجميع المختارين ، فمجيء شخص ابن الإنسان كاملا وممتلئا يعني مجيء ملء هذا الشخص أي كنيسته ( مختاريه ) . سحاب السماء بطبيعة الحال هو الروح القدس الذي يحقق وجود الكنيسة مصورا المسيح فيها ، ناقلا إلى كل أعضائها ثمر استحقاق سر التجسد من رأس الكيان يسوع :" ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي و يخبركم "( يو16 : 14) . يمتد كيان جسد الرب يسوع في مسار  يهيمن عليه الروح القدس  ، هو  مسار الكنيسة في زمن مابعد التجسد ، إلى أن يكتمل بناؤها . هكذا يكتمل مجيء ابن الإنسان بقوة الروح القدس . هكذا يجيء على السحاب .
        زمن مجيء ابن الإنسان "مجال " وليس " نقطة "
لقد بات واضحا أن  ابن الإنسان ليس مجرد فرد مستقل منعزل بل شخص جماعي ، الشخص الملك والمملكة بآن واحد ( إذا جاز التعبير )، لذلك فإن زمن مجيء ابن الإنسان ( يوم الرب ) ليس مجرد لحظة تاريخية يمكن تسجيلها ( حتى ولو كانت لحظة نهاية العالم ) بل هو مجال زمني يستوعب زمن مابعد التجسد كاملا ،حتى لحظة نهاية الكون . لا يستطيع أي فرد من أفراد الكنيسة المبعثرين في زمن مابعد التجسد أن يرصد مجيء شخص ابن الإنسان في لحظة تاريخية معينة ، والسبب بسيط ومنطقي ، فكل فرد من أفراد الكنيسة ضالع في الحدث ، هو جزء من حركة بناء الشخص الكامل ، ولأن الذي يرصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة فلا تستطيع الكنيسة ( على مستوى الشخص أو الجماعة ) التي هي قلب الحدث وقلب الشخص الآتي ،أن ترقب ذاتها وهي آتية ، في ابن الإنسان الآتي ، فعندما "  سأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم وقال: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون: هوذا ههنا، أو: هوذا هناك لأن ها ملكوت الله داخلكم"( لو17: 20و21 ) ، " لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ،ويعطون آيات عظيمة وعجائب، لكي يضلوا لو أمكن المختارين أيضا. فانظروا أنتم. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء "( مر13: 22و23 ).
      فجائية زمن مجيء ابن الإنسان
هذا إذن " يوم الرب " الذي أشرق نهاره بظهور الرب يسوع في ذلك الزمان ،الذي انفتح على زماننا ، يوما واحدا وآنا متصلا . يتحقق حضور شخص الرب ، الآن ، في يوم الرب ، بتكميل كنيسته التي هي جسده.ولكن مامعنى أنه :" سيأتي كلص في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيه ." ( 2بط3: 10 ) ؟ الكنيسة التي يتحقق وجودها الآن في يوم الرب ليست معرضة لمفاجأة هذا اليوم ، فأفرادها في الزمان والمكان هم مسار الحدث التراكمي الذي يجمع شتاتهم في ابن الإنسان . ولكن ما أن يكتمل بنيان الكنيسة وما أن يكتمل مجيء ابن الإنسان ، إلا وتنفض سببية وجود العالم فيتخلى الكلمة عنه ليعود للعدم . وهنا تتجلى المفاجأة بالنسبة للعالم الذي قد وضع في الشرير والذي لم يكن لوجوده أي هدف سوى تحقق مجيء ابن الإنسان ، الشخص الذي بالعضوية في جسده  يتم تبني المختارين من البشر ،" لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبطل - ليس طوعا، بل من أجل الذي أخضعها- على الرجاء"(رو 8: 19و 20).  ويحدث الخلط دائما بين لحظة نهاية العالم - وهي بالتأكيد لحظة تاريخية يمكن أن يسجلها زمن العالم قبل زواله -  وبين زمن مجيء الرب ( يوم الرب )، والواقع هو أن نقطة التقاطع بين الزمنين هي نقطة اكتمال اجتلاب وجمع المختارين الذين يفترشون زمن مابعد التجسد ، وبمجرد خروج الكنيسة ناجية من العالم ، يؤمر بهلاكه "فكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضا في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون، ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع . كذلك أيضا كما كان في أيام لوط: كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم، أمطر نارا وكبريتا من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان "( لو17: 26- 30 ).
  انتهاء سطوة الزمن
 كانت لحظة التجسد هي اللحظة الكونية الوحيدة في تاريخ الكون التي تستحق أن يطلق عليها تعبير ” المستقبل ” . ظل المستقبل بهذا المفهوم لآلاف السنين من تاريخ علاقة الإنسان بالله . ظل الكون ينتظر مستقبلا هو تجسد الكلمة ، وما أن حدث الأمر الجلل بظهوره فينا إلا وابتلعت ” سطوة الزمن ” إلى غير رجعة ، فقد ظهر الزمن بالنسبة للذين في المسيح حاضرا أبديا وآنا مطلقا . ابتلع الزمن بواسطة حياته الأبدية التي بثها فينا ،إذ أن بظهوره قد ” أنار لنا الحياة والخلود “( 2تي1: 10). إضاءة الحياة والخلود بظهوره كبكر للحدث يعني تلاشي سطوة الزمن على كل من قبل المسيح في زمانه الخاص ،أو بحسب تعبير الرسول ” الشهادة في أوقاتها الخاصة “(1تي2: 6). العجيب والمدهش أن الكثير من الذين هم مفترض أن يكونوا في المسيح مازالوا يرزحون بأذهانهم تحت سطوة المستقبل ، سطوة الزمن ، مازالوا ينتظرون مستقبلا يأتي في نهاية زمان الكون يتم فيه تفعيل التجسد !ما أبأس نظرة هؤلاء نحو القديسين المنتقلين ، إذ ماتزال كيانات القديسين بالنسبة لهم فاقدة الأهلية كأعضاء في جسد الرب القائم والمنتصر على الموت ، هم بالنسبة لهؤلاء لم يصيروا بعد كنيسة ، لم يحيوا حياة الدهر الآتي بعد ، لم يأتوا في معية الرب في مجيئه الثاني بعد !  المستقبلية الزمنية لما يسمى بالمجيء الثاني للرب وانهيار فاعلية ومضمون الحاضر الأبدي الذي دشنه التجسد يدمر العلاقة العضوية بين تجسد الرب ( المجيء الأول ) وبين استحقاقات هذا التجسد في البشر ، في الكنيسة ( المجيء الثاني ) .والغائب عن الوعي هو أن الفرق بين المجيئين هو الفرق بين مجيء الباكورة ومجيء باقي الثمر. الرب لن يأتي ثانية كرأس ، بل من يأتي هو جميع أعضاء الجسد ( الكنيسة) المنتمين لهذا الرأس والكائنين فيه وبه. وكلمة “مجيء ” ( parousia )  لاتعني الوصول – سواء من منظور الزمان أو المكان – بل تعني ” الحضور” ( presence ) أي حضور الشخص أو الحضور الشخصي للرب ، أو اكتمال ملئه بتحقق حضور ووجود جميع أعضائه .هوقد حضر أولا كرأس للكنيسة والآن هو يظهر ( ثانية ) ليكمل كيانه باجتلاب جميع أعضاء جسده من أزمنتهم الخاصة بهم – والممتدة حتى نهاية زمن الكون – ليتم استيعابهم في حاضره الأبدي الذي كرسه بظهوره الأول ، وسط الأهازيج والأفراح الأبدية الصادحة ” هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه “( يه 14 ).
           نص مهم من رسالة تسالونيكي الأولى ( 14-17 )
  " لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ  سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ بِيَسُوعَ، أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً.  ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ."
تعليق
– لايتحدث الرسول عن حدث مستقبلي بل عن حدث آني يمتد منذ لحظة ظهور ” يسوع ” بيننا ، ذلك الحدث الذي شطر التاريخ إلى شطرين من منظور المؤمنين به  القابلين أن يقطنوا جسده كأعضاء. بتجسد الكلمة وظهور الرب يسوع بيننا استدعي القدماء الراقدون على رجاء ظهوره ، استدعي أولئك الأموات الذين ينتظرون مستقبلا هو لحظة تجسد الكلمة . استدعي هؤلاء من موتهم ( وفنائهم ) الطبيعي إذ قد أحضرهم الله وابتعثهم من هلاكهم الطبيعي بواسطة تجسد الابن الوحيد ليظهروا في الحياة عديمة الفساد في معية الرب يسوع . هؤلاء هم الذين سبقوا الكل ، سبقونا نحن الذين صارت إلينا بشارة الإنجيل ، سبقونا ليتم تسكينهم كأعضاء حية في جسد الرب ، سبقونا كرافد من روافد تكميل وامتلاء الكنيسة التي هي جسده . بوق الله هو البوق الأخير أو البوق السابع بحسب سفر الرؤيا، الذي في زمنه ( بحسب الرؤيا ) قد بوق الملاك السابع ليستعلن زمن التجسد الذي فيه ” قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين “( رؤ11: 15 ). وفي زمنه ظهرت آية المرأة المتسربلة بالشمس ، والقمر تحت رجليها .. فولدت ابنا ذكرا عتيدا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد .. الخ ( رؤ12 ) . عند البوق السابع ،أي في لحظة زمن التجسد تم إحياء القدماء من موتهم ، لذلك دعي موتهم رقادا ، مجرد رقاد .أما نحن أبناء دعوة الكرازة الرسولية الذين قبلنا بشارة الإنجيل ، فقد صارت لحظة تجسده بداية لحاضر أبدي يبتلع ماتبقى من زمان كوننا ، ذلك الحاضر الذي يتغير كل منا – في زمانه الخاص – إليه .  لانرقد كالسابقين ، أي لايفنى أقنومنا ، بل ننتقل إلى واقعنا الجديد بمجرد خلع العتيق فالأمر بالنسبة لنا اختطاف لملاقاة السابقين في معية الرب . – الكل ( قدماء ومسيحيون ) يتغير ، القدماء قد تغيروا بابتعاثهم من موتهم وأما نحن فقد تغيرنا باشتراكنا في المسيح مختطفين من زماننا الحاضر :” هوذا سر أقوله لكم : لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير، في لحظة في طرفة عين، عند البوق الأخير. فإنه سيبوق، فيقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغير .( 1كو: 51و 52 ).  ينبغي أن لا نعثر من الصيغة المستقبلية التي يتحدث بها الرسول فهو لا يتحدث عن مستقبل ينبغي أن ننتظره – بعد تجسد الرب- بل عن حاضرنا الذي كرسه الرب بتجسده ولكن كل مافي الأمر هو أن الرسول كان يستشرف الحدث كإرادة الله وتدبيره المسبق من نحو خلاص الإنسان ، فالأمر يتم زفه كبشرى للإنسان الهالك الذي قد تجسد الكلمة من أجل إنقاذه . - المقصود بعبارة ” سوف ينزل من السماء ” هو حدث التجسد ، والرب بالفعل قد نزل من السماء و”رأيناه ولمسته أيدينا “(1يو1: 1).- المقصود ب” الأحياء الباقين إلى مجيء الرب ” هو نحن أبناء دعوة الإنجيل ( المسيحيون ) الذين يكتمل بنا رصيد أعضاء جسد الرب ، إذ نحن الذين لم نرقد ( أي لم نفن قبل تجسده ) بالإضافة إلى أولئك الذي ابتعثوا من موتهم ( رقادهم ) ، نشكل معا كيان الكنيسة القائم من الموت ، كوعده : ” أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات ( الراقدون القدماء ) فسيحيا ، وكل من كان حيا ( نحن المسيحيون ) وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” ( يو 11: 25و26 ) .
           نتيجة إسقاط الواقع الآني الذي دشنه التجسد
 1- ضياع مضمون الإفخارستيا ( الحدث الإفخارستي ) إذا سقط الواقع الحاضر الذي يضم لحظة مجيئه الأول بلحظة مجيئه الثاني ، وصارت الانقطاعية فجوة ( وجفوة ) موحشة تفصل بين التجسد وبين  ثمار التجسد ، فإن الإفخارستيا تصبح حدثا غير ذي مضمون ؛ إذ كيف يصل هذا الفيض الإفخارستي من الرأس ( الرب ) يسوع إلى الأعضاء المنتظرين هناك في نهاية زمن الكون حتى ماتعتلن عضويهم،  وتستعلن كنسيتهم ، وتتجلى إفخارستيتهم ؟   الإفخارستيا هي الفيض الحي النابع من التجسد في واقع آني ، حضوري ، يمتد فيه جسد الرب – الذي بدا في لحظة انطلاق الحدث مجرد رأس – يمتد في الزمان والمكان ليملم باقي أشلاء جسده ، فتتجلى كأعضاء حية فيه . الحدث الإفخارستي فعل تراكمي ، وبمضي زمن الكون -المستوعب داخل الحاضر التجسدي الدائم – يتزايد كم الأعضاء التي انضمت لجسد الرب ، ويتناقص ماتبقى من رصيد أعضاء جسد الرب ، إلى أن يكتمل مجيء الرب ، أي يكتمل حضور شخص الرب الممتلئ بكنيسته . ترى هل نستطيع الآن تأويل عبارة الرسول بولس : “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس (1 )، تخبرون بموت الرب(2 ) إلى أن (3) يجيء (4 ) “( 1كو 11: 26 ).
1- كلما أكلتم وشربتم ، أي كلما امتدت إفخارستيتي فيكم وظهر منكم من هم أعضاء في جسدي .
2- تخبرون ( kataggellete ) بموت الرب ، أي تشهدون لي في أنفسكم كأعضاء تنتمي لجسدي وقد اجتازت معي موتي فأجزتها قيامتي .
ليست القضية دعوة أو تبشير ، فالفعل هنا يعني الشهادة الكيانية بموت وقيامة الرب . الفعل يعني نمو وامتداد الكنيسة في الزمان والمكان كجسد للرب بامتداد شهادة يسوع في الذين تظهرهم الإفخارستيا كأعضاء للرب .
3- إلى أن ( acris ou )، وهي لاتشير إلى توقيت معين ، أو إلى زمن بل إلى ” حد معين ” يتم الوصول إليه في سياق عملية تراكمية يتراكم فيها كم الأعضاء القادمين ، وهذا الحد هو : 4-” يجيء ” . هكذا يجيء الرب الآن في كنيسته ، يمتد الحدث الإفخارستي من الحدث الأم ” التجسد ” أو ” المجيء الأول ” ، يتراكم الآن مجيء الأعضاء ، يتناقص الآن الرصيد المتبقي من مجيء الأعضاء ، يستمر الحدث الآن وحتى نهاية زمن الكون ، الذي هو زمن مجيء آخر عضو . هكذا يكتمل مجيء الرب وتمتلئ قامة المسيح ، هكذا يأتي ملكوت الله ، الآن . إذا لم يكن الحدث الإفخارستي حدثا آنيا يتكمل به جسد الرب ، ويجيء به الشخص الكامل للرب ( الرأس والأعضاء )، فهل تصبح الإفخارستيا   مجرد طقس ناموسي يثاب من قاموا به في ميزان حسناتهم يوم الحشر؟ أرجو أن لا ننحدر إلى هذا الدرك المشين .
2- ضياع مضمون الكنيسة

إذا لم تكن الكنيسة ذلك الهيكل الذي يتم تشييده الآن على حجر زاوية هو الرب يسوع  الكلمة المتجسد، وإذا لم تكن هذا الكم المحدد من الأعضاء المشتتة في الزمان والمكان  والتي يتم لملمتها في ماتبقى من زمن العالم إلى أن يجيء الرب فيها شخصا كاملا ، إذا لم تكن هكذا وأصبحت مجرد ” الكيان الفكرة ” الذي ينتظر نهاية الكون حتى يثاب البشر  الأخيار بصيرورتهم إياه ، فأي هراء هذا !
مجدي داود

ليست هناك تعليقات: