لعل
تعبير " الحضور المتجسد للكلمة " هو أنضج تعبير لاهوتي ، من الممكن أن يبلور
عمق اللاهوت الأرثوذكسي . وواقع الحال هو أن هذا التعبير هو مضمون كتاب " تجسد
الكلمة " للعظيم أثناسيوس . وعبقرية هذا التعبير تكمن في إنهاء الانقطاعية وعدم
الإتصال الوهميين الظاهرين بين مفهوم " الحضور " ومفهوم " التجسد
" . فالتجسد ليس حدثا تعسفيا يقتحم الكون بل هو امتلاء ووصول بالواقع الحضوري
إلى قمته .فحضور الكلمة في الخليقة هو تجسد بطريقة ما، وبقدر ما ، للكلمة . وتجسد الكلمة هو أقصى حضور – غير قابل
للانحلال- للكلمة في الخليقة . تعبير" الحضور المتجسد للكلمة
" هو بمثابة رؤية بانورامية للحقيقة اللاهوتية الأرثوذكسية ، فالمفهوم الأصيل
للنعمة لايمكن بلوغ أعماقه خارجا عن سياق هذا التعبير . فإذا كانت قمة امتلاء مفهوم
النعمة واستعلانها تتجلى في حضور الكلمة في الإنسان بالتجسد ، فإن ذلك يعني ببساطة
استعلان قمة هرم النعمة الذي يمتد بقاعدته في الخليقة كلها . فلم يصر الكلمة حاضرا
في الخليقة منذ لحظة التجسد فقط ، بل كانت تلك اللحظة كشفا لقمة حضوره في الكون . فحدث
الخلقة لم يكن استعلانا لإرادة الخالق ، من بعد ، بل كان كشفا لذلك الحضور، فالنعمة
بمفهومها الشامل هي استعلان للحضور الإلهي وكشف له . والإبحار الهادئ المتأني في كتاب
" تجسد الكلمة " يقودنا إلى رصد تلك المستويات المتراكمة المتصاعدة للنعمة
والتي تكشف تصاعدا وتراكما لمستويات حضور الكلمة في الخليقة . فالخليقة الطبيعيةالجامدة
، أي الكون ، قد ظهرت موجودة لتستعلن حضورا للكلمة . وظهور الحياة البيولوجية (الحيوانية
) يكشف حضورا أكثر كثافة للكلمة . بينما ظهور الإنسان وتمتعه بنعمة مماثلة الصورة الإلهية
، ككائن عاقل ، يكشف قدرا أكثر كثافة من حضور الكلمة، وبحسب تعبير أثناسيوس ، يكشف
" نعمة إضافية " وبتعبير آخر لأثناسيوس ،أيضا ، يظهر العقل الإنساني"
كظل للكلمة " . ويبلغ حضور الكلمة في الخليقة قمته وأقصى قدر لكثافته في حدث تجسد
الكلمة في شخص الرب يسوع المسيح الذي يحل فيه كل الملء ، والذي لم يكن ظهوره حدثا غريبا
عن الخليقة بل كشفا لقمة حضور من هو كائن في الخليقة منذ أول لحظة لها وبحضوره فيها
هي كائنة وحاضرة فيه.
إشكالية اختزال حضور الكلمة
في حدث تجسده
لم يكن حدث تجسد الكلمة في شخص الرب
يسوع التاريخي حدثا منشئا لمفهوم الحضور بل كان حدثا ينتمي إلى ذات نسيج حضوره في الكون
. وبالتأكيد قد كان تجسد الرب حدثا جديدا على الكون ولكن لم تكن جدة الحدث في طبيعته
المنشئة له ولكن في عمقه وفي ديمومته ، فإذا كان التجسد هو الحضور الأبدي للكلمة في
الخليقة ، ممثلة في الإنسان ، فقد كانت الخليقة الطبيعية منذ نشأة الكون – واستمرار
وجودها وتطورها حتى نهايتها وعودتها للعدم – تجسدا زمنيا للكلمة، ولكن ماينجم عن فصل
التجسد كقمة لهرم الحضور ، عن قاعدته ، أي حضوره في الخليقة ، هو عدم الفهم لعدة قضايا
أساسية :
1- قضية الخلق من العدم
لم تظهر الخليقة من العدم بطريقة سحرية
تعسفية وفقا لإرادة خالق مطلق القوة يقبع في سمائه ممسكا بأداة للتحكم من بعد ، بل
قد كان ظهورها موجودة كشفا واستعلانا لحضور الخالق ، الكلمة الذاتي . كانت الخليقة
المادية الطبيعية تجسيدا لحضرته ليس فقط في لحظة انطلاق الحدث بل في ديمومة ذلك الحدث
، الأمر الذي يعني أن إنهاء الحضور هو نهاية وجود الخليقة وارتدادها إلى العدم . كل
ذرة ، أو قل كل مايمكن أن يكتشفه العلم من مكونات ما تحت الذرة ، هو تجسيد لحضور الكلمة
. منظومة القوانين الطبيعية التي تحكم الكون في جميع مستوياته من الجزء إلى الكل ،
هي تجسيد لحضور الكلمة الذي يحمل الكل ، الذي يحضر الكل ، الذي يحضر في الكل.
2- قضية النعمة
ليست النعمة هبة تتساقط من السماء
عابرة لتلك الفجوة البائسة التي يفترضها الفكر الثنائي الذي يحتفل دائما بالفصل المأساوي
بين السماء والأرض ، بل هي استعلان وكشف للحضور الإلهي ، كشف لحضور الكلمة ، كشف لحدث
ينبع من الآب ليحققه الابن في الروح القدس . وإذا كان ظهور الكلمة متجسدا في شخص الرب
يسوع التاريخي هو ظهور لملء وعمق ومنبع النعمة الأبدي ، فلم يكن ذلك إلا وصولا بالنعمة
إلى قمة هرمها ، المشيد على قاعدة تمتد منذ لحظة نشأة الكون الطبيعي.
3- قضية الأسرار
ليس السر الكنسي حدثا للتقوى الفردية
التي تنتشل الإنسان من وجوده الطبيعي لتلحقه بعالم جديد وخليقة جديدة لا تنتمي إلى
العتيقة ، بل هو نمو وامتلاء للخليقة العتيقة ووصول بها إلى هدفها الذي هو المسيح الحاضر
فيها . السر الكنسي هو نمو للوعي البشري بحضور الكلمة فيه ، الأمر الذي يبلغ قمته بالشركة
في جسد الكلمة المتجسد ، أي الانتماء إلى وطن الحضور الأبدي للكلمة في الخليقة .
ماهية الحضور الإلهي
ليس الحضور الإلهي استيعابا مكانيا أو زمانيا للاهوت ، فالمكان والزمان ذاتيهما
هما بعض من تجلي الحضور الإلهي ، هما مجال لإعلان هذا السر العجيب.الحضور الإلهي هو
شركة اللاهوت في الآخر ، تلك الشركة التي تتجلى في وجود ذلك الآخر . فالوجود هو الحضور
الإلهي المنطوق ، هو الحضور المستعلن .في اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي نستطيع أن نرصد
ثلاثة مستويات للحضور الإلهي :
1- الحضور الإلهي الذاتي ( سر الثالوث )
في شركة الثالوث القدوس يتكشف نمط
مدهش وفائق للعقل البشري ، من الحضور الإلهي ، من حضور متبادل بين شخوص الثالوث . كل
شخص حاضر في الآخر في علاقة ضمنية متبادلة . كل شخص هو " هومو أوسيوس " بالنسبة
للآخر ، أي أن كل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر . ومن خلال حركة المحبة المطلقة التي
لتلك " الآخرية الذاتية " يتحقق الوجود الإلهي .شخص الابن ، الكلمة الذاتي
، حاضر في أبيه الذاتي ، فهو كل ملء الآب ، كما أن الآب هو منبع ومصدر ابنه الذاتي
. والابن ، أيضا ، حاضر في شخص الروح القدس ، لأن الأخير هو روح الإبن كما أنه أيضا
روح الآب ، لأنه شركة .شخص الابن ، اللوغوس هو الحضور الإلهي المنطوق ذاتيا ، أي من
أبيه الذاتي ، والذي يستعلن كل ما للجوهر الإلهي . الحضور المتبادل بين شخوص الثالوث
المقدس هو مايتجلى وجودا وجوهرا إلهيا .
2- الحضور الإلهي المتجسد
( سر التجسد )
في شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد
، يتكشف نمط جديد من الحضور الإلهي في الخليقة ، إذ قد صار الكلمة حاضرا إلى الأبد
حضورا تجلى في إنسان له عدم الموت وعدم افساد ، بل والأكثر من ذلك قد صار هذا الإنسان
، الرب يسوع ، رأسا للحياة الأبدية وعدم الفساد لكل البشر الصائرين أعضاءا له . بتجسد
الكلمة وظهور الرب يسوع كرأس ، بامتداد كيانه في الكنيسة ، كجسد له ، يكون الحضور الإلهي
قد تجلى مسيحا يستوعب كنيسته في كيانه ، تجلى خليقة جديدة تتمتع بالوجود الأبدي في
مظلة شركة الثالوث الأقدس .
3- الحضور الإلهي الخالق
( سر الخليقة )
لم يكن الكون مجرد إرادة لخالق خارجي
منعزل ومنفصل عنه ، بل كان تجليا لحضور إلهي ، تجليا لقدر من الشركة في شخص الكلمة
الحامل للكون على مستوى الكل ، كما على مستوى كل جزء . الخليقة ، زمانا ومكانا ، تكشف
حضورا إلهيا ديناميكيا فاعلا ، فليست الخليقة ، وليس الكون ، إلا سيمفونية قام بتأليفها
المايسترو الحاضر والقائد للأوركسترا التي تعزفها. خلقة الكون واستمراره وتطوره حتى نهايته هو حدث
كاشف للمستوى الأولي للحضور الالهي .
خلاصة
الحضور الإلهي مفهوم متسع ، واتساعه
يتخطى محدودية العقل البشري . ويتقاطع هذا المفهوم مع الخليقة من خلال مفهوم
" النعمة " بمستوييها : مستوى الخليقة الطبيعية ، والمستوى الأكمل والأتم
الذي للخليقة الجديدة التي في المسيح . بينما يظل مركز وبؤرة مفهوم الحضور الإلهي هو
الثالوث القدوس ، ذاته . بينما تستعلن شركة
الثالوث حضور الله أي تحقق وجوده الذاتي في حدث
سرمدي فائق لعقولنا، فإن لدينا نمطا آخرا للحضور الإلهي يمكن أن نطلق عليه
" الحضور الإلهي النعموي " ، وهو استعلان حضور الله في الخليقة . الحضور
الإلهي الذاتي هو حضور نوعي ( كيفي ) لا مثيل له في الخليقة ، بينما الحضور النعموي
هو حضور كمي ( تراكمي ) وهو مفهوم متصل له طرفان
: طرف خلقة الكون من العدم ، والطرف
الآخر طرف اكتمال مجيء الخليقة الجديدة ، أي الكنيسة ، الكون الجديد الكائن في المسيح،
أي اكتمال مجيء ( حضور ) الرب .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق