1- العلاقة بين مفهوم الألوهية ومفهوم الربوبية
يحدث الالتباس دائما بين ألوهية الله وربوبيته ،
وبالتأكيد لم تعرف الخليقة – وعلى رأسها الإنسان – ربا غير الله . ولكن الربوبية –
لغة واصطلاحا – هي العناية والرعاية من قبل الرب تجاه المربوب . وعليه فلم يكن الله
ربا – من الناحية العملية - إلا حينما صار خالقا ، وإذ ذاك فقد اقتنى لنفسه موضوعا
لعنايته ورعايته. وبالتأكيد إن قدرة الله على العناية والرعاية لخليقة ما، فضلا عن
خلقتها من الأصل ، هي قدرة كائنة فيه منذ الأزل من منظور صلاحه ، ولكن توفر القدرة
على عمل شيء لا يعني بأي حال من الأحوال ظهور هذا الشيء عمليا ، وإلا كانت الخليقة
– وفقا لهذا الطرح – أزلية ، وهذا ما لا تعرفه المسيحية . الألوهية حقيقة سرمدية تخص الوجود الإلهي ذاته كوجود
قائم في شركة الثالوث القدوس ، بينما الربوبية حقيقة " نعموية " ( إذا جاز
التعبير ) ،أي حقيقة لا يمكن تفهمها إلا من منظور النعمة . والنعمة بالتعريف هي استعلان
حضور الثالوث القدوس في الخليقة ، فبحسب القديس أثناسيوس : النعمة واحدة من الآب تنبع
وبالابن تتم في الروح القدس ( من الآب بالابن في الروح القدس ). ولكن النعمة وفقا لطرح
" الحضور الثالوثي " هذا ، والذي فيه وبه تستعلن الربوبية ، إنما هي بمثابة
كاشف لحضور ذلك الذي هو حاضر سرمديا ، من ذاته كشخص الآب ، وحاضر سرمديا ، بذاته كشخص
الابن ، وحاضر سرمديا ، في ذاته كشخص الروح القدس .إذن الربوبية هي الاستعلان النعموي
للألوهية في الخليقة . وإذا كانت الألوهية هي حقيقة وجود الله فإن الربوبية - كاستعلان
لهذه الحقيقة في الخليقة – هي حقيقة وجود الخليقة وتمتعها بالشركة في حياة الله . والمسألة ليست مجرد ترف لاهوتي أو فلسفي ، بل هي
ضالعة في عمق أعماق الطرح المسيحي ، فالربوبية
ليست مجرد ذلك الفعل الرعائي الذي قام به الله من نحو الخليقة ، بدءا من استحضارها
من العدم ومرورا باكتمال مسيرتها في هذا العالم المادي المنظور ، ولكن الله في المسيحية
قد أكمل وأتم ربوبيته للخليقة بأن جددها وأعتقها من مصيرها الطبيعي أي الفناء والعدم
، حينما أعطى ابنه الوحيد إلى العالم فاكتملت وامتلأت ربوبية الرب لخليقته بأن صارت
كائنة وساكنة فيه إلى الأبد وذلك بأن أصبح البشر – تاج هذه الخليقة وثمرتها - الذين
يقبلون الشركة في المسيح ، شركاء الطبيعة الإلهية ، كائنين إلى الأبد كأهل بيت الله
، بل كأعضاء في جسد ابنه الذي اتخذه منهم في تدبير سر تجسده العجيب . إذن الربوبية
ليست مجرد اجتلاب للخليقة من العدم والعناية بها لزمن محدد ، بل هي اجتلاب للخليقة
لتصير كائنة إلى الأبد في الله حيث العناية والرعاية الأبدية. وعليه فالربوبية ليست
مجرد فعل يتكمل في زمن محدد بل هي شخص يتكمل الآن هو الرب ، هو الابن الوحيد المتجسد الذي يجمع في جسده كل شعبه
ورعيته أي كل مربوبيه. وهذا يقودنا إلى المفهوم العجيب – الذي يكاد يكون غائبا عن الوعي
به من قبل معظم المسيحيين – مفهوم " مجيء الرب " ، وهو مفهوم يمثل درة تاج الإنجيل . وللأسف يتماهى هذا المفهوم
مع مفهوم زوال العالم فيعتقد بأن الرب سوف يأتي مكانيا وزمانيا ليكون شاهد هذه اللحظة
وبطلها . ولكن مفهوم المجيء هنا ليس مفهوما
مكانيا أو زمانيا ، فكلمة " باروسيا = parosia " تعنى تحقق الوجود أوالحضور
الشخصي ، وعليه فمجيء الرب هو تحقق اكتمال وامتلاء شخص الرب يسوع المسيح الكلمة المتجسد
بشعب رعيته ومربوبيه الذين اقتناهم كأعضاء تحقق كيان جسده الكامل . وباكتمال جسد الرب
، الكنيسة ، يكتمل مفهوم الربوبية وتصل إلى سقفها الأبدي في المسيح ، ويكتمل مجيء شخص
الرب ، أي يتحقق وجوده الممتلئ بالبشر المفديين بدم الخروف الذي يرعاهم إلى الأبد
. هكذا صار الله ربا إلى الأبد ، وصارت ربوبيته للخليقة ربوبية أبدية إذ قد جعل ابنه
المتجسد يسوع ربا ومسيحا، وفيه قد مسح الجميع
.
2- علاقة الشخص بالجوهر في سر الثالوث القدوس
تلتبس هذه العلاقة عند الكثير من المسيحيين
- وبالأحرى عند كل غير المسيحيين – فيحدث اختزال وهمي وتماه بين الأقنوم والجوهر والنتيجة
الخاطئة هي الاعتقاد - أو على الأقل تكريس صورة ذهنية - بوجود ثلاثة كيانات مستقلة
ومنعزلة ، عمليا . والحقيقة هي أن هذه العلاقة تمثل عمق السر الفائق للإدراك ، والذي يتحقق من خلاله - سرمديا
- وجود الله .
الأقانيم الثلاثة هي ثلاث هويات شخصية إرادية
فاعلة ، متمايزة في مابينها وكائنة في شركة تحقق الوجود الإلهي الواحد : - هوية إصدار
( إعطاء ) الذات الإلهية ،وهي هوية شخص الآب .- هوية قبول الذات الإلهية ( قبول عطاء الآب )، وهي هوية
شخص الابن .- هوية الشركة بين عطاء الآب وقبول الابن ، وهي هوية شخص الروح القدس .
الشركة الكائنة بين الأقانيم لها مفهوم ليس له مايشبهه في ماندركه بخبرتنا عن معنى
كلمة " شركة "، فالتعبير العملي والحقيقي عن الكلمة هو مصطلح " الاحتواء
المتبادل "( Perichoresis ) بين شخوص الثالوث . ولا أريد التوقف كثيرا
عند الترجمات أو التأويلات المختلفة للمصطلح ، وسواء كان المعنى يخص " احتواء..
استيعاب..وجود ..تواجد أو حلول "، فالمهم
هو مفهوم " الضمنية المتبادلة " بين شخص الثالوث ،أي تضمن كل شخص للشخصين
الآخرين ، فحينما يذكر حضور أحد الشخوص فهذا
يعني حضورا مستترا للشخصين الآخرين. فلايوجد الشخص منعزلا أو مستقلا بل في شركة . حضور الآب يتضمن حضور الابن لأنه لا آب بدون ابن
، وحضور الآب والابن يتضمن حضور الروح القدس لأنه روح الآب والابن بآن واحد. العلاقة
بين الشخص والجوهر ليس فيها أي شبهة للثنائية . فالجوهر هو جوهر كل شخص وليس للشخص
جوهر أو ذات مستقلة غير ذلك الجوهر الواحد المستعلن في شركة ثلاث هويات شخصية مريدة
. وحينما يجتمع ذكر الشخص مع الجوهر في عبارة واحدة فنحن بصدد الحديث عن فعل تحقق الوجود
الإلهي الواحد من منظور شخص معين من شخوص الثالوث ، ولذلك فحينما نضع تعريفا للوجود
الإلهي مفاده أن " الله الآب هو الجوهر الحي الوحيد الذي يصدر ذاته ، والله الابن
هو الجوهر الحي الوحيد الذي يقبل وجود ذاته " فإن كلمة " ذات " في الحالتين
تعني الجوهر الإلهي المتضمن داخل هوية كل شخص ، وبدون هذا الجوهر المستتر خلف تلك الهوية
يصبح مفهوم الشخص نفسه فارغا بل ويتلاشى تماما . عبارة " فعل إصدار الذات الإلهية"
هي تطوير معمق لمفهوم " الينبوع " الذي قدمه القديس أثناسيوس الرسولي كتوصيف
– يتقبله العقل البشري – لشخص الآب . فقط أردت أن أرصد أن هوية الشخص هي هوية ديناميكية
حرة مريدة ، فالينبوع هوشخص قد اختار سرمديا بإرادته أن يكون ينبوعا . علاقة الضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث – الذين
يستعلن كل شخص منهم الذات الإلهية ، مؤقنما إياها وكاشفا لها كجوهر شخصي حي – تكشف
أمرين جوهريين :
1- التمايز المطلق بين شخوص الثالوث
.
2- واحدية الجوهر الإلهي .
خلاصة
مايدحض شبهة ثنائية الجوهر والشخص هو أن الجوهر ليس مجرد جوهر حي ولكنه " جوهر
شخصي " ، والشخص ليس مجرد شخص بل هو شخص يستعلن الجوهر الذي له ، و الذي هو -
في نفس الحدث - ذات الجوهر الذي للشخصين الآخرين ، فكل شخص يقع موقع "الهوموأووسيوس
" بالنسبة لكل شخص من الشخصين الآخرين ؛ أي أن كل شخص له ذات الجوهر الذي لأي
من الشخصين الآخرين .كل شخص من شخوص الثالوث هو الألوهة الكاملة التي تتضمن الشخصين الآخرين اللذين يستعلنان ذات الألوهة الواحدة
. فالألوهة الكاملة مستعلنة بأبوة الآب لأنه لا ألوهة كاملة لله مالم يكن مصدرا لذاته
. ولأنه – أيضا - لا أبوة بدون بنوة ، فالألوهة الكاملة مستعلنة ببنوة الابن ، الذي
يتقبل بإرادته كل ملء أبيه الذاتي. أيضا ، ولأنه لا أبوة ولا بنوة بدون الروح القدس
الذي هو روح الآب وروح الابن بآن واحد ، فالألوهة الكاملة مستعلنة بشركة الروح الذي
هو وسط ( meso ) بين الآب والابن .
3- العلاقة بين
"عتيق " يسوع و"جديده "
للطبيعة البشرية صيغتان ، من منظور
اللاهوت المسيحي . الصيغة الأولى هي الصيغة البيولوجية ، صيغة اللحم والدم، الكيان
الحيواني ، الطبيعي، الذي يتحقق فيه الوجود البشري الفاسد بالطبيعة . والصيغة الثانية
هي صيغة الوجود الروحاني ، أي الشريك في الروح القدس، شريك الطبيعة الإلهية ، الذي
له الخلود وعدم الموت بفضل اشتراكه في حياة الكلمة بالعضوية في جسده الذي ظهر فيه بتدبير
سر تجسده العجيب . وعن العلاقة بين الصيغتين ، الفاسدة وعديمة الفساد ، يقول الرسول
بولس :
" يزرع في فساد و يقام في عدم فساد. يزرع في هوان و يقام في مجد .
يزرع في
ضعف و يقام في قوة. يزرع جسما حيوانيا و يقام
جسما روحانيا "( 1كو15 : 42- 44 ).
النقطة الهامة في هذا السياق هي أن
العتيق الفاسد الميت بطبيعته ليس أكثر من مجرد بذرة يتم استثمار موتها لحساب وجود جديد
. ويقرر الرسول أن البذرة التي تدفن فتموت - لحساب الحياة – شيء ، والجسم المنتج شيء
آخر : " الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت
. و الذي تزرعه، لست تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ،ربما من حنطة أو أحد
البواقي. و لكن الله يعطيها جسما كما أراد. و لكل واحد من البزور جسمه ."
( 1كو15 :36- 38 ) .وفي موضع آخر يكشف الرسول عن أن الصيغة العتيقة
البالية هي صيغة العري التي يتم علاج مأساتها بلبس الجديد . والجديد هنا لا يبيد العتيق
ولا يلغي وجوده بل يستر عري الطبيعة البشرية بظهورها متسربلة بالصيغة الجديدة عديمة
الموت :" لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي ، فلنا في السماوات بناء من
الله ، بيت غير مصنوع بيد ، أبدي.فإننا في هذه أيضا نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها
مسكننا الذي من السماء.وإن كنا لابسين لا نوجد عراة. فإننا نحن الذين في الخيمة نئن
مثقلين، إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها ، لكي يبتلع المائت من الحياة"(
2كو5 :1- 4 ).وإذا كانت الصيغة الجديدة لطبيعة البشرية تنشأ حينما يشترك البشر في حياة
الكلمة بالعضوية في جسده ، فماذا عن إنسانية ذاك الذي هو بطبيعته جسد الكلمة الخاص
، أي إنسانية يسوع ، الجديدة ؟ ماذا عن ذاك الذي هو آدم الثاني الذي من السماء، الروحاني،
الذي هو أصل ومنبع الطبيعة الروحانية الجديدة للبشر ؟ وما هي النقطة الحاكمة في ظهوره
؟ والإجابة الوحيدة الصحيحية هي أن إنسانية يسوع بفضل كونها إنسانية الكلمة المتجسد
الخاصة فهي الإنسانية الروحانية المنتصرة على الألم والموت ؛ فالاتحاد الأقنومي هو
النقطة الحاكمة في الأمر. وعليه فهو كآدم الثاني الروحاني الذي من السماء ، هو قائم
هكذا منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بين إنسانيته ولاهوته. وهذا يقودنا إلى النقطة
شديدة الالتباس في الأمر، فماذا عن علاقة إنسانية يسوع الروحانية الجديدة بذلك الكيان
البيولوجي العتيق الذي رأيناه يولد بيننا على الأرض وينمو ويتألم ثم يموت ؟والمشكلة
الصعبة هنا هي اختزال إنسانية يسوع بكاملها ( ظاهرها وباطنها) في ذلك العتيق الظاهر
، وهي مشكلة عويصة لدرجة أنها - في ما أعتقد – كانت الأصل في نشأة الهرطقات الكبرى
التي واجهت وارهقت الفكر المسيحي في القرون الخمسة الأولى . ففي النسطورية أدى هذا
الاختزال إلى أن يربأ نسطور بلاهوت الكلمة أن يكون في وحدة أقنومية مع بشريته - التي
أعثر فيها من وجهة نظره – فادعى بمفهوم المصاحبة بين الطبيعتين . وفي الأوطاخية أدى
الاختزال إلى قناعة بعدم قدرة الطبيعة البشرية على الصمود والبقاء في مقابل اللاهوت
فذابت في اللاهوت ذوبان الخل في الماء . وفي
الأبولينارية لم يتخيل أبوليناريوس أن نفسا بشرية تحيا في هذه الصيغة العتيقة من الممكن
أن تكون نفسا لإنسانية الكلمة المتجسد فادعى بأن الكلمة اللوغوس ذاته قد حل محل النفس
البشرية العاقلة .والحقيقة إن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يدركوا أن هذه الطبيعة العتيقة
إنما هي قمة جبل الجليد الظاهرة من الكيان الإنساني للكلمة المتجسد بينما " غاطس
" هذا الكيان هو آدم الثاني الروحاني الذي هو متحرر - بطبيعته - من قيود الزمان
والمكان ومن الألم والموت منذ أن صار اتحاد أقنومي بين لاهوته وناسوته ، بل والأكثر
من ذلك هو – ولأنه جسد الكلمة الخاص – فهو كائن حيثما وأينما يكون الكلمة المجتمع معه
في وحدة أقنومية ؛ فإنسانية يسوع الجديدة هي الإنسانية " الكونية " منذ أول
لحظة للتجسد ، فقد صارت كائنة في وحدة شخصية مع ذاك الذي هو كائن في الكل والكل كائن
به . إن الطبيعة البشرية الجديدة ليسوع لم تنشأ بالقيامة بل قد أظهرت بالقيامة، وإذا
كان ظاهر يسوع قد أظهر موتنا وفسادنا الطبيعي فهو بخلعه ، بموت الصليب، قد كشف عن باطنه
الجديد الذي هو المضمون العملي الوحيد للاتحاد الأقنومي. هذا هو الشخص الذي قال عن
نفسه - قبل أن يسلم عتيقه لمصيره المحتوم ، الذي هو مصيرنا - : " أنا هو القيامة
والحياة " . في خلاصة كاشفة نستطيع أن نقول بأن الفرق بين الصيغة الجديدة ، الروحانية
لإنسانية يسوع والصيغة الروحانية الجديدة لإنسانية البشر الذين في المسيح تكمن في أمرين
:
1- من منظور العلاقة الزمنية بين الجديد
والعتيق ، فبينما يحكم ظهور الجديد - عوضا عن العتيق – بالنسبة لأعضاء جسد المسيح
– بعد زمني تراكمي يولد فيه الجديد على أنقاض موت العتيق مع المسيح ، فإن العلاقة بين
ظهور جديد يسوع وظهور عتيقه هي علاقة تزامن مطلق ، فقد ظهر جديد يسوع منذ أول لحظة لظهور العتيق في أحشاء العذراء بفضل
الاتحاد الأقنومي . وهذا لا يتناقض مع السيرة الذاتية للصيغة العتيقة لإنسانيته التي
انتهت بموت الصليب ، والتي حسب أن الكيان بجملته قد اجتازه منتصرا بظهور قيامة من هو
– بطبيعته – القيامة .
2- من منظور نشأة وأصل الحدث ، فيتمايز
الوجود الإنساني الجديد ليسوع عن نظيره الذي لأولئك الذين في المسيح في كونه الأصل
والمنبع والرأس للوجود الروحاني ، فالبشر يصيرون روحانيين حينما يقبلون أصلا لذريتهم
الجديدة ولخلقتهم الجديدة هو آدم الثاني ، الروحاني الذي من السماء .
4- العلاقة بين اسمي الرب
( "يسوع " و"المسيح" )
هناك من يقول بأنه لا فرق بين الاسمين ، فيسوع هو
اسم الشخص و" المسيح " هو اسم الوظيفة التي اضطلع بها الشخص . ولكن يكمن اللغز في مضمون " الوظيفة " التي
يعتلنها اسم " المسيح ". فالكلمة بتجسده قد أعطى جسده الخاص مسحة الحياة
وعدم الفساد بفضل كونه جسد الكلمة الخاص . هكذا صار الرب باكورة للممسوحين . ولكن الله
قد جعل من " يسوع " ربا ومسيحا ( أع2: 36 ) . هكذا صار الرب يسوع مصدرا لمسحة جميع أفراد الكنيسة حينما يؤتى بهم بالنعمة فيمسحوا
كأعضاء تنتمي إلى رأس المسحة ذاته الرب يسوع التاريخي . هنا نجد أنفسنا أننا أمام أعجب
وظيفة من الممكن أن يقوم بها شخص ما ، فشخص الرب يسوع التاريخي رأس المسحة يمتد إفخارستيا
في الزمان والمكان ململما شتات الكنيسة آتيا بها كأعضاء تنتمي إلى هذا الرأس . هكذا
نجد أن الشخص وهو يؤدي مهام وظيفته فهو لا
يمارس فقط عمل النعمة المعطاة للآخر ( الكنيسة )، ولكنه – وهذا هام جدا – يؤدي وظيفة
كيانية خاصة به كشخص ، فالشخص لم يعد مجرد رأس ، بل هو يتضخم ويمتلئ بقدر مايستقبل
من أعضاء جدد تضيف إليه وتزيده من الناحية الكمية ، إلى أن يمتلئ إلى قياس قامة ملء
المسيح ( أفس4 :13 ) ،وهنا يكون الشخص قد أتم مهام وظيفته . حقا دعي يسوع التاريخي
من جهة اسم وظيفته أنه المسيح ، ولكن تظل خصوصية هذه الوظيفة في كونها عملية
( process ) حاضرة ،آنية ، تنطلق منذ لحظة ظهوره وإلى لحظة
نهاية الكون . هذه الآنية تكشفها وتؤكدها شهادة
مرثا ، في خطابها ليسوع" أنت هو المسيح الآتي ( الآن ) إلى العالم
" ، ويكشفها ويؤكدها تعليق يسوع على شهادة بطرس عنه بأنه " المسيح ابن الله الحي " ،
بقوله :" على هذه الصخرة ( صخرة ذاتي ) أبني ( الآن ) كنيستي " .لذلك فشخص
المسيح ليس شخصية تاريخية، لأنه شخص لامثيل لخصوصية طبيعته في ماندرك عن معنى
"الشخصية التاريخية"، فهو شخص يظهر رأسه في لحظة تاريخية فيقبض على ماتبقى
من التاريخ مستثمرا إياه في إظهار باقي أعضاء كيان جسده ، وباكتمال عمل النعمة بمجيء
الكنيسة وباجتماع كل أفرادها داخل كيانه ، يسمح بانتهاء التاريخ .إذن هو شخص
" كل التاريخ "، والذي من أجله ظهر التاريخ . في الأكل الإفخارستي نحن نأكل
فنتحول إلى ماهو مزمع أن نصير إليه . ونحن لانأكل فنصير رأسا بل نأكل فنتحول إلى أعضاء
. لذلك نحن لانأكل جسد يسوع التاريخي بل نأكل جسد المسيح الذي هو بطبيعته - وبالتعريف
- ممتلئ بنا ، والذي بدون وجودنا فيه يظل مجرد
رأس بلا أعضاء. هنا يكمن الفرق الشديد الدقة بين الاسمين " يسوع والمسيح
" ، وهو الفرق بين رأس الكيان ومؤسسه وبين الكيان الممتلئ . هو الفرق بين الأساس
والبنيان الشاهق المكتمل .هذا الطرح لايتناقض مطلقا مع كلمات الاعتراف بل على العكس
يؤكدها ؛ فحينما يقال أن جسد يسوع التاريخي هو " الجسد المحيي " الذي
" يعطى عنا خلاصا وغفرانا للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه " ،فهذا
يعني أن الكنيسة تقر بقبولها للنعمة التي تفيض من جسد يسوع الكلمة المتجسد كاستحقاق
لتدبير تجسده ، فيها ، هذا الذي صنعه لأجلها فهو " معطى عنها " . وهذا يعني أن الكنيسة تقبل امتداده فيها وتكريسه
لها فتتحول إلى كيان عضوي ينتمي إليه. وهنا
وجب التمييز بين رأس ، هو مصدر الحياة ، وبين أعضاء تستقبل إلى الأبد نعمة الحياة بالشركة
مع مصدر الحياة.هكذا يبدو انضمام أعضاء الكنيسة إلى الرأس يسوع كقيمة تراكمية تضاف
إلى رصيد امتلاء شخص المسيح إلى أن يكتمل مجيء (
Parousia) المسيح ، أي يتحقق امتلاء كيانه باجتماع كل أعضاء الكنيسة فيه . والآن علينا الاختيار بين أمرين ، إما أننا نؤمن
بأن الكنيسة هي جسد المسيح بالفعل ، فنرى الأمر
على النحو السابق شرحه ،أو أن نكتفي بأن الأمر مجرد تعبير مجازي رومانسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق