1- مسألة الطلاق ، والبعد اللاهوتي المفقود
تمثل مسألة الطلاق بصورتها الحالية
في الكنيسة القبطية قمة جبل الجليد الظاهرة فوق سطح المياه ، ويمكننا تشخيص المشهد
كالآتي :
1- ثقافة
النص والحرف هي الثقافة السائدة ، فينظر إلى الكتاب المقدس كمجرد نص مقدس ينبغي التقوقع
فيه وفقا لما يبدو من ظاهره .
2- ثقافة
امتلاك الحقيقة المطلقة من قبل قادة الكنيسة ، وبالتالي امتلاك التأويل الوحيد الصحيح
للنص المقدس .
3- لأن الثقافة السائدة هي ثقافة النص
والحرف فهي أبعد ما تكون من الرمزية والمستيكية التي هي جوهر الأرثوذكسية .
4- كانت الثمرة المرة لتلك الثقافة
أن تم تفريغ لاهوت الأسرار من قوته ومضمونه بأن صار التماهي بين علامة السر الظاهرة
وجوهره . حدث هذا بالنسبة لكل الأسرار بما فيها سر الزيجة ، فأصبح الأخير هو مجرد شرعنة
للعلاقة بين الرجل والمرأة ، وأصبح ما يجمعه الله هو الرجل والمرأة في علاقتهما الخاصة
، وضاع مفهوم السر الذي قال عنه الرسول : " هذا السر عظيم ، ولكنني أنا أقول من
نحو المسيح والكنيسة" ( أفس5 : 32 ) . فالزيجة هي سر المسيح ، سر تحقق وجود الكنيسة
. وشأنها في ذلك شأن السر الكنسي بصفة عامة . الكنيسة بكل أفرادها عروس واحدة لعريسها
ورأسها الرب يسوع ، الكلمة المتجسد . في طقس سر الزيجة تعيش الكنيسة هذا الحدث وعيناها
تسابقان الأفق نهو رجلها ورأسها .
5- من المستحيل
فهم مسألة – ومعضلة – الطلاق خارجا عن مفهوم سر الحب الزيجي ، سر المسيح ، سر الكنيسة
. لا يوجد شيء قد جمعه الله ، ولا يستطيع أن يفرقه إنسان ، إلا في المسيح ، الذي " فيه يجمع كل شيء ، ما في
السماوات وما على الأرض " ( أفس1 : 10 ) .
6- بالرجوع
إلى الأربعة مواضع التي ذكرت فيه مسألة الطلاق : ( مت5 : 32 ) ، ( مت19 : 9 ) ، ( مر10
: 11 ) و ( لو 16 :18 ) ، نجد أن مدلول النص – لمن يتمسك بالنص – يضع الطلاق مكافئا
للزنا ، لأن الطلاق ببساطة – كما الزنا أيضا – هو شق للعلاقة الزوجية وارتباط بالآخر
. مع ملاحظة أنه لاترد في النصوص الإشارة إلى طرف ظالم وآخر مظلوم ، وبالطبع لا ترد
الإشارة إلى التصريح لطرف دون آخر بالزواج ، وأيضا لا ترد الإشارة إلى المفهوم المبتدع
: " بطلان الزواج " . إذن عندما نتوه عن أفق النص ، عن المسيح ، نجد أنفسنا
نتلمس ثغرات واجتهادات غريبة ، فمن ناحية لم تستطع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن
تكون أمينة حتى النهاية في حرفيتها ، مثل الكنيسة الكاثوليكية ، ومن ناحية أخرى لم
تستطع أيضا أن تتحرر من عبودية ظاهر النص وحرفيته إلى سر المسيح .
7- تأثيم
الطلاق ، انجيليا ، وجعله مكافئا للزنا ينبع من رمزيته كفصل للكنيسة عن رأسها المسيح
. الموضوع عميق جدا وضارب بجذوره في المستيكية الأرثوذكسية ، والإنجيل ليس كتابا للتشريعات
والناموس ، فهذا قد تخطيناه في المسيح . كلمة الله المكتوبة هي ما تجد تأويلها وشرحها
في شخص المسيح المستوعب لكنيسته . أما أن ينظر إلى علاقة الزيجة المعزولة ، على أنها
سر المسيح ، وبالتالي لا ينبغي فصل هذه العلاقة مهما وصلت إلى طريق مسدود ، ولا يسمح
بالتطليق إلا بسبب الزنا ، والمخطئ لا يتزوج ثانية ، فكل هذا بعيد كل البعد عن روح
المسيح وعن روح النص المقدس ، فهل يجوز الحكم بالإعدام على الزاني الخائن لزواجه ؟
أليست الخيارات المطروحة عليه هي أحد الإحتمالات : 1- أن يترك الإيمان .2- أن يظل في
الخطية طيلة حياته .3- أن يصبح راهبا قديسا ، رغم أنفه !
2- مسألة
الطلاق ، وإشكالية الفهم الحرفي للنص
" لا اجتهاد مع النص " ، هذه قاعدة فقهية قانونية وقل ، أيضا ، فريسية
ناموسية . ولكن هل من الممكن تطبيق هذه القاعدة على النص الإنجيلي ؟ دعونا نجرب على
نص ، في صميم موضوعنا ، وهو ما قد ورد في سياق عظة الرب على الجبل: " قد سمعتم أنه قيل للقدماء : لا تزن . وأما
أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت
عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك ، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك
كله في جهنم .وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك ، لأنه خير لك أن يهلك
أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل : من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق . وأما
أنا فأقول لكم : إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه
يزني " ( مت5 :27- 32).
ملحوظات وتعليقات
- ورد حديث " الطلاق " في سياق الحديث
العام عن " الزنى " وكجزء تكميلي له ، لنا أن نتساءل : هل نستطيع أن نطبق منهج التفسير الحرفي على النص
الذي يشير إلى نظرة الشهوة من قبل الرجل نحو المرأة ؟
إذا كانت الإجابة بالإيجاب فقد كان
من الواجب علينا أن نتخيل أنه يينبغي أن ينتمي كل الرجال المسيحيين – بلا استثناء ،
فيما عدا غير الطبيعيين منهم - لأضخم منظمة عالمية للعميان !
- الخطية التي تثمرها النظرة الشهوانية من قبل
الرجل للمرأة هي ذاتها نفس الخطية التي يثمرها " الطلاق " ، وبالرغم من ذلك
نجد أن الذين يتبنون التفسير الحرفي لنص " زنى الطلاق " يتملصون من هذا المنهج
في تعرضهم لنص " زنى النظرة الشهوانية " ، ومما يزيد الأمر غرابة أن نص
" زنى النظرة " قد ورد فيه مايقرر – بوضوح – مبدأ العقوبة ( فإن كانت عينك
اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك ) بينما لم يرد في نص " زنى الطلاق " ما
يفيد بنفس الوضوح ، مبدأ العقوبة ، أي منع الزواج الثاني للطرف المخطئ.
3- مسألة
الطلاق ، وإشكالية الفهم الخاطئ للأسرار
التعنت المستميت من قبل المؤسسة الكنسية القبطية المعاصرة نحو مسألة الطلاق
، هو موقف كاشف لتبني رؤية خاطئة لسر الزيجة ، وبالتالي هو موقف كاشف أيضا لما هو أكثر
فشلا من ذلك وهو الفهم الخاطئ للأسرار جميعها بصفة عامة ، وهذا ماسبق أن شبهناه بقمة
جبل الجليد الظاهرة فوق سطح المحيط بينما البنية الضخمة التي تمثل جوهر لاهوت الأسرار
الذي تم اجهاضه ، لاتظهر فوق سطح المياه.
وانطلاقا من هذا المدخل لابد لنا
– مبدئيا – أن نثبت قاعدة فهم السر الكنسي الأرثوذكسي ، فنقول بأنه يجب أن نميز مابين
مفردات ثلاث تخص السر الكنسي وتجمعها علاقة من الضمنية المتبادلة ، علاقة من الإحتواء
المتبادل ، وهذه المفردات هي : 1- علامة السر ، الظاهرة . 2- البنية الرمزية للسر
. 3- جوهر السر ومستهدفه .
- للسر الكنسي – أيا كان ماتعارفنا
عليه من اسم للسر ، ونحن لدينا سبعة أسماء – مستهدف وجوهر واحد هو شخص المسيح الممتلئ
بالكنيسة . وتنطلق الكنيسة في هذا العالم نحو التموقع العضوي في جسد المسيح حيث تستعلن
امتلاء وكشف السر الكنسي . علامة السر ، الظاهرة
، هي واقعنا الطبيعي العتيق الذي تنطلق منه الكنيسة في الليتورجيا . وأيا كان هذا الواقع
الظاهر الملموس – خبزا وخمرا ، مياها ، زيتا ، رجلا منا يترأس الليتورجيا ، رجلا وامرأة
يتحدان في علاقة الحب الزيجي – فسيبقى في النهاية أن العلامة هي مجرد منطلق ديناميكي
نحو جوهر السر ، نحو المسيح.
وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط
، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد أكلوا وشبعوا بالمأكل الحق والمشرب
الحق ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد صاروا إفخارستيين ، قد صاروا خبزا واحدا وكأسا
واحدة .
وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط
، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد ولدوا من الله ، قد اصطبغوا بالمسيح
، قد لبسوا المسيح .وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط
، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد مسحوا هيكلا واحدا لروح الله الساكن
فيهم إلى الأبد . وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط
، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد صاروا ملوكا وكهنة بانضمامهم إلى كيان
رئيس الكهنة الأوحد الذي هو رأسهم والذي في جسده الذي أخذه منهم قد رفع إلى الآب مرة
واحدة تقدمة أبدية . هكذا يستعلن كهنوت الكنيسة الكائنة في جسد رئيس الكهنة الوحيد
، المسيح الرب . وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد
الكنيسة قد صاروا عروسا واحدة تجمعها برجلها وربها الذي هو رأسها ، علاقة عشق أبدي
وشبق معرفي لانهائي نحو الآب السماوي " فهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت
الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " ( يو 17 : 3 ) . هكذا تستعلن تلك
الزيجة الأبدية بين المسيح والكنيسة . البنية الرمزية للسر هي تلك الحركة النعموية
المحمولة بقوة الروح القدس والتي تنطلق من العلامة الظاهرة للسر نحو جوهر السر ومضمونه
، نحو المسيح . ماذا حدث نتيجة لغياب هذا العمق في فهم السر الكنسي ؟ الإجابة هي مانراه
من ذلك الاختزال المأساوي لكل من الرمز وجوهرالسر في العلامة الظاهرة ، أصبحت الإفخارستيا
هي مجرد صورة الخبز والخمر اللذين قد تم تقديسهما ، وأصبح التناول هو مجرد صورة الأكل
الظاهري الطبيعي من الخبز المقدس والشرب الطبيعي من الخمر المقدس. وأصبحت المعمودية
هي مجرد صورة التغطيس في المياه المقدسة . وأصبح الكهنوت هو صورة السلطان الإلهي المعطى
لآحاد الرجال . وما قد حث تحديدا لسر الزيجة
هو اختزال السر في مجرد تقديس وشرعنة علاقة الحب الزيجي لرجل ما بامرأة ما ، فضاع البعد
الكنسي للسر ولم يعد السر كشفا لتحقق وجود الكنيسة ، ذلك الذي قال عنه الرسول :
" هذا السر عظيم ، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة "( أفس 5 :
32 ). ولم يعد السر كشفا لاجتماع الجميع في المسيح ، ذلك الذي قال عنه الرب :
" ماجمعه الله لا يفرقه إنسان " ( مت 19 : 6 ) ، بل صارت القضية الأساسية
هي اجتماع رجل بامرأته لممارسة حق طبيعي لهما في هذا العالم ، وليس اجتماع المسيح بالكنيسة
لممارسة الحياة الأبدية كملحمة محبة وعشق من المسيح للكنيسة ، أولا ، ومن الكنيسة للمسيح
ثانيا . والآن قد بات ظاهرا أنه من المنطقي
– وفقا لتلك النظرة الخاطئة لسر الزيجة - أن ينظر إلى الطلاق بين رجل وامرأة طبيعيين
في هذا العالم – أي في صورة وعلامة وجودهم الظاهر – على أنه كسر وتحطيم للسر ، وكسر
وتحطيم وفض لما قد جمعه الله ولا يستطيع أن يفرقه إنسان . وقد فات على هؤلاء أن ما
قد جمعه الله هو " الكنيسة والمسيح "، الكنيسة التي لن تقوى عليها أبواب
الجحيم ، لأنها قد تزوجت المسيح زيجة أبدية غير قابلة للتطليق أو الفسخ أو البطلان
.
4- مسألة الطلاق ، وإشكالية الشريعة
في الموعظة على الجبل – حيث تكررت
العبارة المحورية التي تمثل مفصلا في تاريخ علاقة الإنسان بالله : " سمعتم أنه
قيل للقدماء … أما أنا فأقول لكم … " – ماهو المضمون الجديد الذي يقدمه الرب ؟
هل يقدم شريعة جديدة ، ذات حدود وأركان مغايرة ومخالفة للقديمة ؟ واقع الحال أن الرب
، في مطلع مقارنته بين جديده وبين الشريعة القديمة ، يدحض هذا الطرح قائلا :
" لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل
"( مت5: 17 ) .لكي ندرك مفهوم جديد المسيح لابد لنا أولا أن ندرك مفهوم الشريعة
القديمة . ولنا أولا أن نتساءل : ماذا يعني أنه " قيل للقدماء : لا تقتل ، ومن
قتل يكون مستوجب الحكم " ( مت5 :21
) ؟
وماذا يعني أنه " قيل للقدماء : لا تزن ." ؟ (مت5 : 27 ). وماذا يعني
أنه " قيل : من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق " ( مت5 :31 ) ؟. وماذا يعني أنه قيل للقدماء : " لا تحنث ، بل أوف للرب
أقسامك " ( مت5 : 33 ) ؟ وماذا يعني أنه قيل : عين بعين وسن بسن
" ( مت5 :38 ) ؟ وماذا يعني أنه قيل : " تحب قريبك وتبغض عدوك
" . ( مت5 : 43 ) ؟ الإجابة هي أن مايعنيه
كل ماقد قيل للقدماء هو أن جوهر الشريعة القديمة هو ذلك المستوى الأول لعلاقة الإنسان
بالله القائم من خلال منظومة من الحدود السلوكية التي تضبط ميول ورغبات وأهواء الإنسان
الطبيعي بما لا يحرم الإنسان الطبيعي من حقه الطبيعي ، وفي نفس الوقت بما لا يجور على
حق طبيعي للآخر ، الطبيعي . والآن ، ماذا
عن الجديد الذي يقدمه الرب ؟ ماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن كل من
يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه : رقا ، يكون مستوجب المجمع
، ومن قال : يا أحمق ، يكون مستوجب نار جهنم " ( مت5 : 22 ) ؟ وماذا
عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى
بها في قلبه " ( مت5 : 28 ) ؟ وماذا عن
قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني ،
ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني " ( مت5 : 32 ) ؟ . وماذا عن قوله : " وأما أنا
فأقول لكم : لا تحلفوا البتة ، … بل ليكن كلامكم : نعم نعم ، لا لا . وما زاد فهو من
الشرير "( مت5 : 34-37 ) ؟ . وماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : لا
تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا " ( مت5 : 39 )
؟ وماذا عن قوله :" وأما أنا فأقول لكم
: أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون
إليكم ويطردونكم ،.." ( مت 5 : 44 )؟ الإجابة هي أن الرب لا يقدم حدودا وضوابطا
جديدة للإنسان الطبيعي ، الحيواني ، بل يتجاوز تلك الطبيعة العتيقة إلى الخليقة الجديدة
، إلى طبيعة المحبة وعطاء الذات للآخر ، ككشف لعطائها ، بالمطلق ، لله . مايقدمه الرب
هو شريعة ذاته ، هو ناموس ذاته ، ناموس المسيح . المسيحية ليست شريعة أو ناموسا بل هي شخص المسيح الذي يحتوي الكنيسة في جسده
، وعندما يقول الرب بأنه لم يجئ لينقض بل ليكمل ، فهو يقصد أن فيه قد تكمل الناموس
والأنبياء والشريعة ، وفيه قد تحرر الإنسان من نرجسيته ومن تمحوره الشهوي حول ذاته
إلى شركة المحبة التي تجمع المسيح بالكنيسة. في عبارة الرب : " وأما أنا فأقول
لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه "( مت 5 : 28)
، نلاحظ عمومية النص دون أي تقييد أوتحفظ ، فالحديث منصب على " الشهوة "
بصفة عامة ، ولم يقل الرب ، مثلا : كل من ينظر إلى امرأة غير زوجته ( حلاله ) ! ومن
المنتظر – بطبيعة الحال – أن تثور ثائرة الكثيرين فيقولون بأن هذا التحفظ هو منطقي
ولا يحتاج إلى أن ينص عليه ، فالقرينة التي يقررها سياق النص هي الحديث عن وصية
" لا تزن "، الواردة في الوصايا العشر وبالتأكيد كان المقصود منها أن لا
يقيم الإنسان علاقة جنسية خارجا عن شركة الزوجية ، ولكن هذا مردود عليه فالزنى ليس
خطيئة تخص المتزوجين فقط .والشاهد أن شريعة المسيح لا تستهدف مجرد ضبط الشهوة في إطار
شرعي بل تستهدف امتلاء الشهوة لتبلغ كمالها في المسيح حيث الاستعلان النهائي لملء شهوة
الإنسان إذ حينئذ يصير لسان حاله :" لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ، ذاك
أفضل جدا "( في 1 : 23 ). الزواج المسيحي
لايستهدف مجرد إباحة ممارسة الشهوة بل يستهدف ذلك التراكم الخبراتي بواسطة الروح القدس
لاكتشاف العمق الحقيقي لسر الحب الزيجي ، أي اكتشاف المسيح والتموقع فيه في زيجة أبدية
تجمع ما بين الزوجين بنفس القدر الذي تجمعهما بجميع أعضاء الكنيسة . وبالتالي فإن استحقاق
سر الزيجة هو استحقاق لكل مايخص مفهوم النعمة ، استحقاق لكل مايخص امتلاء شخص المسيح
بعروسه ، أي كنيسته .
خلاصة
شريعة الزواج في المسيحية هي سر الزيجة
، هي سر المسيح ، هي سر تحقق وجود الكنيسة كجسد للمسيح ، هي سر شركة الزيجة الأبدية
بين الله والبشر في الكلمة المتجسد الرب يسوع المسيح . وهي ليست مجرد الشرعنة أو حتى
التقديس لصورة العلاقة الجنيسة بين رجل وامرأة ، بل هي امتلاء وتكميل لهذه الصورة بكشف
المسيح وتحققه ، وتصوره ، في الكنيسة ،كجوهر لرمزية وسرائرية هذه الصورة . وبالتالي
فإن تكريس هذه الصورة ككيان معزول ساكن ، ميت – بالاستماتة في عدم فض هذه الشركة مهما
وصلت إليه من انسداد ومأساوية – إنما يعني بكل بساطة ، إجهاض لمفهوم السر وتفريغه من
جوهره ، تفريغه من المسيح .
مسألة الطلاق وإشكالية الزواج الثاني
مسألة الطلاق وإشكالية الزواج الثاني
من خلال ما قد سبق طرحه نستطيع أن
نرصد أن القناعات الفكرية – المتناقضة مع الإنجيل – التي تمثل الخلفية التي أنتجت هذا
التشدد والتعنت نحو مسألة الطلاق والزواج الثاني ، يمكن بلورتها في النقاط الآتية
:
1- اختزال سر الزيجة في صورة معزولة لمجرد علاقة
زوجية بين رجل وامرأة معينين وبالتالي ضياع البعد الكنسي للسر ، ضياع مفهوم أن الزيجة
سر يتكمل في المسيح حينما تكتمل الكنيسة في الملكوت الآتي ، فيصير الزوجان جسدا واحدا
لأنهما في المسيح يصيران عضوين لذات الجسد الواحد ، الكنيسة .
2- تبني ذات النظرة العتيقة للشريعة ، نحو شريعة
المسيح وذلك من خلال القناعة بأن الإنجيل يقدم شريعة ، يقدم نصا مقدسا وحدودا سلوكية
معينة لا يجب تخطيها ، وقد تكرست هذه النظرة في التأويل الحرفي للنص ، ولكن ، وللعجب
، فلم يلتزم أصحاب هذا التوجه ، حتى ، بصدق التأويل الحرفي إذ قد تم :
- التأويل الفاسد للنص باستخراج لمعنى يخرج عن
السياق فعن العبارة الواردة في : ( مت 5 : 32 ) قد فهم أن السياق يخص مجال التشريع
للطلاق – وهذا غير حقيقي ، فالسياق يخص تأثيم الطلاق على خلفية أسرارية ، رمزية ، أفقها
سر الزيجة ، سر المسيح ، وهنا يتكافأ كل من الطلاق والزنى مع نقض رمزية الزيجة كعلاقة
بين المسيح والكنيسة – وعليه فقد فهم أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيه التطليق هي علة
الزنى . والأمر الأعجب هو أنه قد تم اعتماد العبارة التأويلية " لا طلاق إلا لعلة الزنى " كعبارة بديلة للنص الإنجيلي وأصبحت تكتب
هكذا : " لا طلاق إلا لعلة الزنى " ( مت 5 : 32 ) ، فأي خطأ مركب قد ارتكب هنا ؟!
- تحميل النص مالم يرد به والخروج بتفاصيل لم يقررها
صراحة ، فلم يرد بالنص أن هناك – في العلاقة الزوجية موضوع الطلاق – طرفا ظالما وطرفا
مظلوما ولم يرد أن هناك طرفا مخطئا وطرفا بريئا . ولم يرد مفهوم التصريح بالزواج للطرف
المظلوم ومنعه بالنسبة للطرف المخطئ . أيضا لم يرد معنى " بطلان الزواج
" في حالة الغش والتدليس .
3- اختزال الشريعة – التي تم تبنيها – في قضية الأحوال الشخصية وتحديدا مسألة
الطلاق ، فلم يرد بالإنجيل أي حدود أخرى يجب تطبيقها ، ولم يرد تشريع يخص " التبني
" مثلا ، ولم يرد تشريع يخص " الميراث " ، حتى أن الرب يسوع ، ذاته
، رفض أن يكون قاضيا في قضية للميراث بين أخ وأخيه قائلا لسائله – ولجميعنا من خلفه
: " يا إنسان ، من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما ؟ " ( لو12 : 14 ) . باختصار
فإن هذه الرؤية تتبنى أن الشريعة المسيحية هي " شريعة لا طلاق إلا لعلة الزنى
" هذا هو كل شيئ في ما يخص الشريعة المسيحية
!
4- إمكانية غلق باب الرحمة والتوبة أمام الإنسان الخاطئ
تقدم الكتبة والفريسيون ، حماة الشريعة
، إلى الرب يسوع ممسكين بامرأة قد ضبطت في زنا مضمرين أن يجربوه ، فهذه قضية شرعية
ثابتة بحكم نص شريعة موسى التي بمقتضاها يجب أن ترجم حتى الموت . وأما الرب فانحنى
إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض غير مبال بأسئلتهم المستمرة ،ثم انتصب وقال لهم
: " من كان منكم بل خطية فليرمها أولا بحجر! " ( يو8 : 7 ). ثم انحنى واستمر في الكتابة بينما ابتدأ الجميع في
الانصرف مبكتة ضمائرهم ، ليتواجد الرب ، في النهاية ، بمفرده مع المرأة الواقفة في
الوسط فيقول لها : " يا امرأة ، أين هم أولئك المشتكون عليك ؟ أما دانك أحد ؟
“ فقالت : لا أحد يا سيد ! " . فقال لها
يسوع : " ولا أنا أدينك . اذهبي ولا تخطئي
أيضا " (يو8: 10و11 ) . ومضمون وجوهر موقف الرب من هذه القضية الشرعية
هو أن الرحمة بالإنسان تأتي فوق الشريعة ، وأن الشريعة هي من أجل الإنسان وليس العكس
، وأيضا ، أن الديان الوحيد هو شخص الرب يسوع المسيح الذي هو جوهر الشريعة . ناموس المسيح ، الخليقة الجديدة الكائنة في
الكلمة المتجسد ، هو جوهر الناموس وأفقه ومبتغاه . فقط ، المسيح هو النموذج المرجعي
، الذي ، بالرجوع إليه ، يدان أو يبرر البشر ، وأما الكل فلا يملك الدينونة لأن
" الجميع زاغو وفسدوا معا . ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد "( رو3 :
12) ، ويستطيع الرب أن ينحني على الأرض ليكشف بإصبعه دينونة الجميع فلا يستطيع أحد
أن يرمها أولا بحجر . ثم ، لنا هنا أن نسأل
: أليس عدم الرحمة بالمطلق لعلة الزنى – في
حالة توبته – بعدم إزالة الأثر العقابي المترتب عل خطيئته ، بعدم تزويجه ثانية – يعد
تناقضا واضحا وصريحا مع الإنجيل الذي يقرر أنه لاخطية بدون مغفرة ، وبدون زوال أثرها
العقابي ، إلا خطية التجديف على الروح القدس ، تلك الخطية التي من المستحيل رصدها إلا
بخروج الإنسان من هذا العالم ، إذ أن مضمونها هو رفض الإنسان لشركة الروح القدس ، أبديا
، وبالتالي هلاكه ، أبديا ؟
إمكانية حرمان الإنسان من حق طبيعي على خلفية
السر الكنسي
في الأسرار يتكشف امتلاء أركان الوجود الطبيعي للإنسان فمثلا في المعمودية يمتلئ
ركن وجودنا أننا ندخل الحياة من باب الولادة ، وواقع الحال أننا نولد ولكننا بعد حين
نموت وفقا لطبيعتنا . ولكن في المسيح ، فقط ، يمتلئ مضمون " الولادة " كبوابة
للوجود الأبدي . بالمعمودية نولد الولادة الجديدة كأبناء لله الآب بالشركة في ابنه
في الروح القدس . وبالرغم من ذلك يظل الجنس البشري يدخل الوجود من باب الولادة البيولوجية
، ولم تنسخ المسيحية مفهوم الميلاد البيولوجي لحساب المعمودية بل ظل ميلادنا الطبيعي
رمزا يمتلئ في معمودية المسيح . وفي الإفخارستيا يمتلئ ركن وجودنا أننا نأكل لنحيا
، وواقع الحال أننا نأكل ونظل نأكل وفي النهاية نموت وفقا لطبيعتنا . ولكن في المسيح
فقط يمتلئ مضمون " الأكل " كشركة في الحياة ، فالمسيح هو المأكل الحق ودمه
هو المشرب الحق . بالإفخارستيا يشبع وجودنا بدسم الحياة الأبدية وتمتلئ شركتنا مع جميع
أعضاء الكنيسة الذين هم أعضاء كياننا الواحد المسيح . وبالرغم من ذلك يظل المسيحيون
يتناولون طعامهم الطبيعي ، فلم تنسخ المسيحية الطعام البائد لحساب الطعام الباقي ،
بل ظل طعامنا المادي رمزا يمتلئ في افخارستيا المسيح . والآن ، ماذا لو ظهرت لنا فتوى تدعي
بأنه طالما يتناول المسيحيون الطعام الباقي في الإفخارستيا فيجب أن يمتنعوا عن الطعام
البائد ؟! أليس هذا دربا من الجنون ؟ على نفس القياس نستطيع أن نتساءل : ماذا لو أفتى
أحدهم بأنه يجب منع الزواج الثاني ، كحق طبيعي ، للمطلق المخطئ ، لحساب صيانة سر الزيجة
؟ إن الرب حينما قال : " لم آت لأنقض بل لأكمل " كان يقصد أنه بتكميله لأركان
ودوافع وجودنا الطبيعي ، فيه ، هو لم يلغ ولم ينقض تلك الأركان طالما ظللنا في هذا
الوجود . سنظل نأكل إلى نهاية حياتنا إلى أن ننتقل إلى المسيح فنشبع إلى الأبد . وسيظل
رباط المحبة والعشق الطبيعي يربط الأغلب الأعم منا إلى أن ننتقل إلى المسيح فنرتبط
جميعا معا كجسد واحد في رباط زيجي إلى الأبد. وأما تحريم ما أحله الله وحرمان البشر من حقوقهم الطبيعية فهذا – تحديدا – هو
الذي يتناقض مع المسيح .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق