الأحد، 6 مايو 2012

مفهوم الصعود في النص الإنجيلي


       مشهد الصعود
 العودة إلى الأصل اليوناني ، بخصوص مشهد الصعود ، المذكور في سفر الأعمال، تأخذنا إلى مستوى من الدقة ، من المستحيل أن تنافسها فيها  أي لغة أخرى . ولكي ندخل إلى الحديث ، نذكر النص:
         " إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا، بنفس الطريقة ( on tropon = in the same way ) التي رأيتموه بها ، منطلقا إلى السماء ".   (  أع 1 : 11 ).
     تعليق تحليلي
   .  تعبير، " الذي ارتفع" ، ورد في الأصل اليوناني ، في صيغة " اسم المفعول " من الزمن  الماضي، المبني للمجهول  للفعل " analambano " ، الذي يعني " مفهوم الأخذ " ، ولايعني مجرد " الارتفاع المكاني ".
   .  حرف الجر، الوارد في شبه الجملة ، "عنكم"، هو " af "، والترجمة الأصح هي "منكم "( af emon ).   .  الحرف " af " ، لايعنى الانفصال، الذى يعنيه الحرف " apo " ، ولايعني حتى مجرد الانبثاق ، الذي يتضمن تواصلا ، مثل الحرف " ek "، ولكنه يعني "خروج الأيلولة  ( إذا جازالتعبير) ؛ كخروج الإرادة، والفكرمن النفس، كما في :
    - " لايقدر الابن أن يعمل " من نفسه " شيئا إلا ماينظر الآب يعمل " .( يو 5 : 19 ).
    - "  ليرفع من بينكم " af emon " ، كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث.( أفس 4 : 31).
   .  الحرف " af " ، لايعني انفصال شيء عن شيء آخر، بل يعني خروجا لما يعلن الشيء ويكشفه ، بينما تظل الوحدة الذاتية والاتصالية ، قائمة بعد الحدث.  وعليه ، فان مشهد الصعود يرصد ، باكورة ثمر الإنسانية . يرصد باكورة الصعيدة البشرية ،   المرفوعة من المدعوين( المأخوذ منكم) . ودائما مايستتبع الباكورة ، مجيء باقى الثمر( سيأتي هكذا، كما رأيتموه ، منطلقا إلى السماء).  هو قد أتى أولا ، بتجسده ، فأصعد جسده الخاص . وسيأتي هكذا ، وبنفس الطريقة - وكاستحقاق لذات تدبير تجسده - في كنيسته ، مصعدا إياها إلى السماء ، في كيانه الذي سبق فأصعد رأسه ليلتحق باقي الجسم ( الكنيسة ) إلى ذات الأنافورا ، ذات الصعيدة ، ذات التقدمة ، ذات الحدث النعموي المستمر الآن وإلى اكتمال إصعاد الجميع   .  
      إني أصعد إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ( يو 20: 17 )  
 .   الملحوظة  الهامة ، بالرجوع إلى الأصل اليوناني ، هي ورود كلمة " أبي " في صيغة معرفة ( ton patera mo ) ، بينما وردت كلمة " أبيكم " في صيغة التنكير ( patera emon ) ، ووردت لفظة " الله "، في صيغة التنكير في الكلمتين"إلهي وإلهكم" .
.  التعريف في يونانية العهد الجديد ، كما في " السبعينية "، يعني " الشخص " ( الحالة المغلقة )، والتنكير يعني " حركة النعمة " ( الحالة المفتوحة لحدث النعمة الآني) ، وهذا يمثل بعدا إضافيا يمكن استخدامه كأداة تأويلية رائعة ، خاصة بلغة الكتاب المقدس .  كلمة " أبي " من هذا المنظور ، تعني أن المتحدث هو " الكلمة المتجسد " ، هو باكورة الصعيدة البشرية، والباكورة تستتبعها باقي الصعيدة ، التي تحدث "الآن"، ، بالنعمة ، وهذا ماتكشفه كلمة " أبيكم ". والمعنى العميق ، هو أن الكلمة بتجسده ، قد أصعد جسده الخاص ، وهو لم يفعل ذلك فقط ، بل جعل جسده هذا ، معبرا ، فيه يصعد الجميع ( أصعد إلى…أبيكم ).
.  الشق الأول ، لحديث الصعود ( إلى أبي وأبيكم )، هو  الصعود من منظور الابن المتجسد ، ذلك الذي بتجسده قد أصعد جسده الخاص إلى أبيه الذاتي . لذلك قال : " أصعد إلى أبي ". وبقبوله لكنيسته في كيانه فهو يصعد الجميع ، فيه إلى الآب ، ولذلك قال : "  أبيكم "، ففي جسده ، جسد الابن ، الذي هو وحيد الآب  قد تم تبني الجميع وتم تجلي صعودهم إلى الآب ، الذي صار أبا لهم .
 .  الشق الثاني ، لحدث الصعود ( إلهي وإلهكم ) ، هو الصعود من منظور الخليقة الطبيعية ، من منظورنا نحن .فلفظة " الله " - بخلاف الألفاظ المرتبطة بالنعمة، مثل " الرب ، المسيح،. .  " -  تتخذ موقفا حياديا ، تجاه" الآخر "- بالنسبة لها - الذي هو العالم الطبيعي . وهكذا يكشف هذا الشق، أن الكلمة المتجسد هو بكر بين أخوة كثيرين ، وقد اشترك معهم في اللحم والدم ، اشترك معهم في عالمهم الطبيعي- الذي فيه "الله "،إلههم ، قد صار "إلهه " أيضا - حتى إذا ماشترك معهم في الآلام - وفي ترك الله لهم ، كطبيعة فاسدة ، صارخا : " إلهي إلهي لماذا تركتني " - كان ذلك كاشفا للمجد الذي نالوه بصعودهم فيه من هذا العالم الطبيعي إلى الله إلههم بعدما صار أبا لهم .               لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ( يو 20 : 17)
 أولا : بالعودة إلى الأصل اليوناني ، لنا عدة ملاحظات لغوية :
 1- لا تلمسينى 
  الفعل الذي يعطي معنى " التلامس البسيط "- كما في "جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام ( لو 24 :39 )"، وكما في " لم تأتوا إلى جبل ملموس . (عب 12 : 18 ) - ليس هو نفس الفعل المستخدم هنا.
.  الفعل في " لاتلمسيني "، هو فعل "apto"، وفي المواضع، التي استخدم فيها هذا الفعل في العهد الجديد ، فإن مضمونا عجيبا ، للتلامس، قد أعطاه هذا الفعل ؛ فقد استخدم للتعبير عن " لمسة الشفاء" في معجزات كثيرة، قد صنعها يسوع ، والأمر الأكثر عجبا، هو أن لنفس الفعل استخدام آخر  بمعنى "إضرام النار" كما في( لو 8 :16 . ،11 : 33 . ، 15: 8. ،22 :55 ).   اللمسة ، هنا ، هي " اللمسة الدراماتيكية " ( إذا جاز التعبير) ؛ أي اللمسة التي تعطي إشارة البدء لحدث جلل ، كما في ( كل من ولد من الله لايخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه، والشرير لا يمسه .( 1يو 5 : 18 ).  اللمسة في " لاتلمسيني"  ، هي الشركة. وقد كانت المجدلية غير قادرة ، وغير مؤهلة لأن تلمسه ،أي تشترك فيه في تلك اللحظة التاريخية تحديدا ، أي لحظة إعلان قيامة جسده الخاص ، تلك اللحظة التي سوف تستبع بإظهاركيانه القائم صاعدا ، ذلك الكيان الذي هو باكورة إصعاد الجميع حينما يقبلون الروح القدس الذي فيه يصعدون إلى الآب في الابن المتجسد . ولأن الروح لم يكن قد أعطي بعد في تلك اللحظة ، وبالتالي لم تكن الكنيسة قد تأسست تاريخيا ، كما حدث في ما بعد ، في يوم الخمسين ، فلذلك قال لها : لا تلمسيني ، أي لن تستطيعي أن تشتركي في الآن . وبالرغم من ذلك فقد حملها البشرى السارة لتوصيلها إلى الكنيسة : " اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم : " إني أصعد ..  "
  2- لم أصعد
   الفعل " أصعد " ، هنا هو نفس الفعل المستخدم في باقي الخطاب الموجه للمجدلية " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " ، ولكن وجه الاختلاف في وضع الفعل في الموقعين ، هو أن الفعل في " لم أصعد " ، هو صيغة المضارع التام ( التي تعني حدوث الفعل في الماضي وتمامه ، مع بقاء واستمرارية أثره في الحاضر) ، أما الفعل في " أصعد إلى أبي " ، فهو صيغة المضارع المبني للمعلوم ( التي تعني حدثا آنيا ؛ يتم الآن ).             
  ثانيا : التأويل
 - " لم أصعد بعد " و" أصعد إلى أبي وأبيكم " ، هما وجها حدث الصعود ، بمعناه الكامل ، كإصعاد للكنيسة في المسيح .
 في الوجه الأول ، تستعلن نقطة الانطلاق للحدث ؛ أي نقطة ماقبل صعود الجميع في المسيح. وفي الوجه الثاني ، يستعلن الحدث الحاضر للصعود ، والذي انطلق من صعود الباكورة ، الرب يسوع التاريخي ( أصعد إلى أبي) ، ويتكمل الآن بصعود باقي أفراد الكنيسة ، التي هي جسده ( وأبيكم).. صعود الكنيسة إلى الآب السماوي هو نوال نعمة التبني بالشركة في الابن المتجسد الرب يسوع المسيح ، باكورة الصاعدين .
       صعود " ابن الإنسان "
    يكشف لنا إنجيل يوحنا، المفهوم الخفي للاسم العجيب ،" ابن الانسان " ، ذلك الاسم المتجذر في عمق الكتاب المقدس .   ابن الإنسان ، ليس مجرد اسم يخص الرب يسوع التاريخي ، وحده ، بل هو الاسم الذي فيه يستعلن كمال النعمة؛ هو الاسم الذي يخص الكنيسة المستوعبة في الكلمة المتجسد ؛ هو الاسم الذي يخص الشخص الكاثوليكي الممتلئ بجميع أعضاء الكنيسة المنتمية لرأس واحد هو الرب يسوع. لذلك فإن "ابن الإنسان " هو اسم يخص كيانا ، يمتلئ ويتكمل الآن؛ بانضمام الأعضاء المبعثرين- في الزمان والمكان- إلى رأسهم وباكورتهم ،الرب يسوع.هذا ، مايكشفه إنجيل يوحنا ، على لسان يسوع في سياق حديثه إلى نثنائيل : ( ترون السماء مفتوحة ، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. (يو 1 : 51 ).مانكتشفه هنا هو أننا بصدد استعلان حقيقة " ابن الانسان "، نفسه ؛ إذ هو الكيان الذي يتحقق الآن ، وما " صعود ونزول ملائكة الله  "،إلا كشف لحدث النعمة "الآني "،الذي فيه يتحقق وجود الكنيسة ، الكائنة في ابن الإنسان( أليس جميعهم أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص.( عب 1 : 14 ).  ابن الإنسان ، هو سلم يعقوب ، الذي فيه يتم إصعاد البشرية الجديدة، نحو السماء المفتوحة، نحو الآب. 
 لم يذكر مفهوم " الصعود" ، منسوبا إلى " ابن الإنسان" - في إنجيل يوحنا، وفي العهد الجديد بصفة عامة - إلا في موضعين فقط ، والعجيب أننا في كل من الموضعين نجد أنفسنا في سياق الحديث عن " عثرة " حول "سر المسيح " ؛ ثم تأتي كلمات يسوع عن " ابن الإنسان " لتكشف الغموض ،ولتتخطى العثرة ،ولتستعلن هذا الاسم العجيب ، الذي فيه يتم سر الكنيسة. الموضع الأول: فيه يتكشف أن، صعود ابن الإنسان هوحدث تبني البشر .دهش  نيقوديموس  من حديث يسوع عن الولادة الثانية ، الولادة من الروح ، وصاح قائلا:             
 " كيف يمكن أن يكون هذا ؟".( يو3 : 9). وكانت الإجابة الكاشفة هي أن الوجود الانساني الجديد في المسيح ، الذي فيه يولد الجميع من فوق ، هوشخص جماعي ، فيه يصعد الجميع  إلى الآب الذي تبناهم :
( وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان.( يو 3 : 13 ).
- الموضع الثاني : فيه يتكشف أن، صعود ابن الإنسان هوحدث الشركة في الجسد الواحد. يعثر اليهود من كلمات يسوع عن ، أكل جسد ابن الإنسان ، الخبز الحي النازل من السماء. حتى أن كثيرين من التلاميذ قد استصعبوا هذا الكلام ( يو 6 :60) ، وكانت الإجابة الكاشفة هي أن ، "الأكل " من الخبز الحي النازل من السماء، هو حدث الشركة في الشخص الجماعي "ابن الإنسان " ، الذي فيه يصعد الجميع ؛ فالشركة في " النازل من السماء " هي " صعود إلى السماء "، "  أهذا يعثركم ؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا!. ( يو 6: 62 ).
    بين الصعود والمجيء
    "  سيأتى … منطلقا الى السماء "( أع 1 :11 )
  مفهوم صعود ابن الإنسان ، ومفهوم مجيء ابن الإنسان ، مفهومان مترادفان؛ فصعود ابن الإنسان هو صعود البشر إلى الآب في شخص المسيح ، الذي فيه يتم تبني الجميع بفضل اشتراكهم في الابن الذاتي .  كان الكلمة بتجسده قد أصعد جسده الخاص ، ولكن ليس هذا هو كل حدث الصعود ، بل منطلقه ، وباكورته ، ورأسه المتبوع بصعود باقي أعضاء جسد ابن الإنسان . ومجيء ابن الإنسان هو تحقق الحضور الكياني الشخصي ( presence )، الذي يجمع الكل في جسد واحد ؛ أي تحقق وجود شخص المسيح الممتلئ بأعضاء كنيسته .
. مصطلح " مجئ الرب " ( Parousia ) ،لايعني الحضور الجغرافي ( المكاني ) للرب ، بل يعني تحقق شخص الرب ؛ بمعنى استعلان كمال النعمة ؛ أي استعلان كمال الربوبية التي فيها يستعلن انضمام الجميع إلى الشخص الواحد ، شخص الرب يسوع المسيح . وبالتالي فإن انضمام آخر عضو إلى جسد الرب ، هو بمثابة صوت البوق الذي به يعلن كمال مجيء الرب؛ أي الوصول إلى قياس قامة ملء المسيح.
            مجدي داود

ليست هناك تعليقات: