مشهد الصعود
العودة إلى الأصل اليوناني ، بخصوص مشهد الصعود ،
المذكور في سفر الأعمال، تأخذنا إلى مستوى من الدقة ، من المستحيل أن تنافسها فيها أي لغة أخرى . ولكي ندخل إلى الحديث ، نذكر النص:
" إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى
السماء سيأتي هكذا، بنفس الطريقة ( on tropon = in the same way ) التي رأيتموه بها ، منطلقا إلى السماء ". ( أع
1 : 11 ).
تعليق تحليلي
. تعبير،
" الذي ارتفع" ، ورد في الأصل اليوناني ، في صيغة " اسم المفعول
" من الزمن الماضي، المبني للمجهول للفعل " analambano " ، الذي يعني " مفهوم الأخذ
" ، ولايعني مجرد " الارتفاع المكاني ".
. حرف
الجر، الوارد في شبه الجملة ، "عنكم"، هو " af
"، والترجمة الأصح هي "منكم "( af emon
). . الحرف
" af
" ، لايعنى الانفصال، الذى يعنيه الحرف " apo " ، ولايعني حتى مجرد الانبثاق
، الذي يتضمن تواصلا ، مثل الحرف " ek "، ولكنه يعني "خروج الأيلولة ( إذا جازالتعبير) ؛ كخروج الإرادة، والفكرمن النفس،
كما في :
- " لايقدر الابن أن يعمل " من نفسه
" شيئا إلا ماينظر الآب يعمل " .( يو 5 : 19 ).
- "
ليرفع من بينكم " af emon
" ، كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف
مع كل خبث.( أفس 4 : 31).
. الحرف
" af " ، لايعني انفصال شيء عن شيء آخر، بل يعني خروجا لما يعلن الشيء
ويكشفه ، بينما تظل الوحدة الذاتية والاتصالية ، قائمة بعد الحدث. وعليه ، فان مشهد الصعود يرصد ، باكورة ثمر الإنسانية
. يرصد باكورة الصعيدة البشرية ، المرفوعة
من المدعوين( المأخوذ منكم) . ودائما مايستتبع الباكورة ، مجيء باقى الثمر( سيأتي هكذا،
كما رأيتموه ، منطلقا إلى السماء). هو قد أتى
أولا ، بتجسده ، فأصعد جسده الخاص . وسيأتي هكذا ، وبنفس الطريقة - وكاستحقاق لذات
تدبير تجسده - في كنيسته ، مصعدا إياها إلى السماء ، في كيانه الذي سبق فأصعد رأسه
ليلتحق باقي الجسم ( الكنيسة ) إلى ذات الأنافورا ، ذات الصعيدة ، ذات التقدمة ، ذات
الحدث النعموي المستمر الآن وإلى اكتمال إصعاد الجميع .
. الملحوظة الهامة ، بالرجوع إلى الأصل اليوناني ، هي ورود
كلمة " أبي " في صيغة معرفة ( ton patera mo
) ، بينما وردت كلمة " أبيكم " في صيغة التنكير ( patera emon
) ، ووردت لفظة " الله "، في صيغة التنكير في الكلمتين"إلهي وإلهكم"
.
. التعريف في يونانية العهد الجديد ، كما في
" السبعينية "، يعني " الشخص " ( الحالة المغلقة )، والتنكير يعني
" حركة النعمة " ( الحالة المفتوحة لحدث النعمة الآني) ، وهذا يمثل بعدا
إضافيا يمكن استخدامه كأداة تأويلية رائعة ، خاصة بلغة الكتاب المقدس . كلمة " أبي " من هذا المنظور ، تعني أن
المتحدث هو " الكلمة المتجسد " ، هو باكورة الصعيدة البشرية، والباكورة تستتبعها
باقي الصعيدة ، التي تحدث "الآن"، ، بالنعمة ، وهذا ماتكشفه كلمة "
أبيكم ". والمعنى العميق ، هو أن الكلمة بتجسده ، قد أصعد جسده الخاص ، وهو لم
يفعل ذلك فقط ، بل جعل جسده هذا ، معبرا ، فيه يصعد الجميع ( أصعد إلى…أبيكم ).
. الشق الأول ، لحديث الصعود ( إلى أبي وأبيكم )،
هو الصعود من منظور الابن المتجسد ، ذلك الذي
بتجسده قد أصعد جسده الخاص إلى أبيه الذاتي . لذلك قال : " أصعد إلى أبي
". وبقبوله لكنيسته في كيانه فهو يصعد الجميع ، فيه إلى الآب ، ولذلك قال :
" أبيكم "، ففي جسده ، جسد الابن
، الذي هو وحيد الآب قد تم تبني الجميع وتم
تجلي صعودهم إلى الآب ، الذي صار أبا لهم .
. الشق الثاني
، لحدث الصعود ( إلهي وإلهكم ) ، هو الصعود من منظور الخليقة الطبيعية ، من منظورنا
نحن .فلفظة " الله " - بخلاف الألفاظ المرتبطة بالنعمة، مثل " الرب
، المسيح،. . " - تتخذ موقفا حياديا ، تجاه" الآخر "- بالنسبة
لها - الذي هو العالم الطبيعي . وهكذا يكشف هذا الشق، أن الكلمة المتجسد هو بكر بين
أخوة كثيرين ، وقد اشترك معهم في اللحم والدم ، اشترك معهم في عالمهم الطبيعي- الذي
فيه "الله "،إلههم ، قد صار "إلهه " أيضا - حتى إذا ماشترك معهم
في الآلام - وفي ترك الله لهم ، كطبيعة فاسدة ، صارخا : " إلهي إلهي لماذا تركتني
" - كان ذلك كاشفا للمجد الذي نالوه بصعودهم فيه من هذا العالم الطبيعي إلى الله
إلههم بعدما صار أبا لهم . لا
تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ( يو 20 : 17)
أولا : بالعودة إلى الأصل اليوناني ، لنا عدة ملاحظات
لغوية :
1- لا تلمسينى
الفعل الذي يعطي معنى " التلامس البسيط "- كما في "جسوني وانظروا،
فإن الروح ليس له لحم وعظام ( لو 24 :39 )"، وكما في " لم تأتوا إلى جبل
ملموس . (عب 12 : 18 ) - ليس هو نفس الفعل المستخدم هنا.
. الفعل في " لاتلمسيني "، هو فعل
"apto"، وفي المواضع، التي استخدم فيها هذا الفعل في العهد الجديد ،
فإن مضمونا عجيبا ، للتلامس، قد أعطاه هذا الفعل ؛ فقد استخدم للتعبير عن " لمسة
الشفاء" في معجزات كثيرة، قد صنعها يسوع ، والأمر الأكثر عجبا، هو أن لنفس الفعل
استخدام آخر بمعنى "إضرام النار"
كما في( لو 8 :16 . ،11 : 33 . ، 15: 8. ،22 :55 ). اللمسة ، هنا ، هي " اللمسة الدراماتيكية
" ( إذا جاز التعبير) ؛ أي اللمسة التي تعطي إشارة البدء لحدث جلل ، كما في (
كل من ولد من الله لايخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه، والشرير لا يمسه .( 1يو
5 : 18 ). اللمسة في " لاتلمسيني" ، هي الشركة. وقد كانت المجدلية غير قادرة ، وغير
مؤهلة لأن تلمسه ،أي تشترك فيه في تلك اللحظة التاريخية تحديدا ، أي لحظة إعلان قيامة
جسده الخاص ، تلك اللحظة التي سوف تستبع بإظهاركيانه القائم صاعدا ، ذلك الكيان الذي
هو باكورة إصعاد الجميع حينما يقبلون الروح القدس الذي فيه يصعدون إلى الآب في الابن
المتجسد . ولأن الروح لم يكن قد أعطي بعد في تلك اللحظة ، وبالتالي لم تكن الكنيسة
قد تأسست تاريخيا ، كما حدث في ما بعد ، في يوم الخمسين ، فلذلك قال لها : لا تلمسيني
، أي لن تستطيعي أن تشتركي في الآن . وبالرغم من ذلك فقد حملها البشرى السارة لتوصيلها
إلى الكنيسة : " اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم : " إني أصعد .. "
2- لم أصعد
الفعل " أصعد " ، هنا هو نفس الفعل المستخدم
في باقي الخطاب الموجه للمجدلية " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم
" ، ولكن وجه الاختلاف في وضع الفعل في الموقعين ، هو أن الفعل في " لم أصعد
" ، هو صيغة المضارع التام ( التي تعني حدوث الفعل في الماضي وتمامه ، مع بقاء
واستمرارية أثره في الحاضر) ، أما الفعل في " أصعد إلى أبي " ، فهو صيغة
المضارع المبني للمعلوم ( التي تعني حدثا آنيا ؛ يتم الآن ).
ثانيا : التأويل
- " لم أصعد بعد " و" أصعد إلى أبي
وأبيكم " ، هما وجها حدث الصعود ، بمعناه الكامل ، كإصعاد للكنيسة في المسيح
.
في الوجه الأول ، تستعلن نقطة الانطلاق للحدث ؛ أي
نقطة ماقبل صعود الجميع في المسيح. وفي الوجه الثاني ، يستعلن الحدث الحاضر للصعود
، والذي انطلق من صعود الباكورة ، الرب يسوع التاريخي ( أصعد إلى أبي) ، ويتكمل الآن
بصعود باقي أفراد الكنيسة ، التي هي جسده ( وأبيكم).. صعود الكنيسة إلى الآب السماوي
هو نوال نعمة التبني بالشركة في الابن المتجسد الرب يسوع المسيح ، باكورة الصاعدين
.
صعود
" ابن الإنسان "
يكشف لنا إنجيل يوحنا، المفهوم الخفي للاسم العجيب
،" ابن الانسان " ، ذلك الاسم المتجذر في عمق الكتاب المقدس . ابن الإنسان ، ليس مجرد اسم يخص الرب يسوع التاريخي
، وحده ، بل هو الاسم الذي فيه يستعلن كمال النعمة؛ هو الاسم الذي يخص الكنيسة المستوعبة
في الكلمة المتجسد ؛ هو الاسم الذي يخص الشخص الكاثوليكي الممتلئ بجميع أعضاء الكنيسة
المنتمية لرأس واحد هو الرب يسوع. لذلك فإن "ابن الإنسان " هو اسم يخص كيانا
، يمتلئ ويتكمل الآن؛ بانضمام الأعضاء المبعثرين- في الزمان والمكان- إلى رأسهم وباكورتهم
،الرب يسوع.هذا ، مايكشفه إنجيل يوحنا ، على لسان يسوع في سياق حديثه إلى نثنائيل
: ( ترون السماء مفتوحة ، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. (يو 1 :
51 ).مانكتشفه هنا هو أننا بصدد استعلان حقيقة " ابن الانسان "، نفسه ؛ إذ
هو الكيان الذي يتحقق الآن ، وما " صعود ونزول ملائكة الله "،إلا كشف لحدث النعمة "الآني "،الذي
فيه يتحقق وجود الكنيسة ، الكائنة في ابن الإنسان( أليس جميعهم أرواحا خادمة مرسلة
للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص.( عب 1 : 14 ). ابن الإنسان ، هو سلم يعقوب ، الذي فيه يتم إصعاد
البشرية الجديدة، نحو السماء المفتوحة، نحو الآب.
لم يذكر مفهوم " الصعود" ، منسوبا إلى
" ابن الإنسان" - في إنجيل يوحنا، وفي العهد الجديد بصفة عامة - إلا في موضعين
فقط ، والعجيب أننا في كل من الموضعين نجد أنفسنا في سياق الحديث عن " عثرة
" حول "سر المسيح " ؛ ثم تأتي كلمات يسوع عن " ابن الإنسان
" لتكشف الغموض ،ولتتخطى العثرة ،ولتستعلن هذا الاسم العجيب ، الذي فيه يتم سر
الكنيسة. الموضع الأول: فيه يتكشف أن، صعود ابن الإنسان هوحدث تبني البشر .دهش نيقوديموس
من حديث يسوع عن الولادة الثانية ، الولادة من الروح ، وصاح قائلا:
" كيف يمكن أن يكون هذا ؟".( يو3 :
9). وكانت الإجابة الكاشفة هي أن الوجود الانساني الجديد في المسيح ، الذي فيه يولد
الجميع من فوق ، هوشخص جماعي ، فيه يصعد الجميع
إلى الآب الذي تبناهم :
( وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي
نزل من السماء، ابن الإنسان.( يو 3 : 13 ).
- الموضع الثاني : فيه يتكشف أن، صعود
ابن الإنسان هوحدث الشركة في الجسد الواحد. يعثر اليهود من كلمات يسوع عن ، أكل جسد
ابن الإنسان ، الخبز الحي النازل من السماء. حتى أن كثيرين من التلاميذ قد استصعبوا
هذا الكلام ( يو 6 :60) ، وكانت الإجابة الكاشفة هي أن ، "الأكل " من الخبز
الحي النازل من السماء، هو حدث الشركة في الشخص الجماعي "ابن الإنسان " ،
الذي فيه يصعد الجميع ؛ فالشركة في " النازل من السماء " هي " صعود
إلى السماء "، " أهذا يعثركم ؟ فإن
رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا!. ( يو 6: 62 ).
بين الصعود والمجيء
" سيأتى … منطلقا الى السماء
"( أع 1 :11 )
مفهوم صعود ابن الإنسان ، ومفهوم مجيء ابن الإنسان ، مفهومان مترادفان؛ فصعود
ابن الإنسان هو صعود البشر إلى الآب في شخص المسيح ، الذي فيه يتم تبني الجميع بفضل
اشتراكهم في الابن الذاتي . كان الكلمة بتجسده
قد أصعد جسده الخاص ، ولكن ليس هذا هو كل حدث الصعود ، بل منطلقه ، وباكورته ، ورأسه
المتبوع بصعود باقي أعضاء جسد ابن الإنسان . ومجيء ابن الإنسان هو تحقق الحضور الكياني
الشخصي ( presence )،
الذي يجمع الكل في جسد واحد ؛ أي تحقق وجود شخص المسيح الممتلئ بأعضاء كنيسته .
. مصطلح " مجئ الرب " (
Parousia )
،لايعني الحضور الجغرافي ( المكاني ) للرب ، بل يعني تحقق شخص الرب ؛ بمعنى استعلان
كمال النعمة ؛ أي استعلان كمال الربوبية التي فيها يستعلن انضمام الجميع إلى الشخص
الواحد ، شخص الرب يسوع المسيح . وبالتالي فإن انضمام آخر عضو إلى جسد الرب ، هو بمثابة
صوت البوق الذي به يعلن كمال مجيء الرب؛ أي الوصول إلى قياس قامة ملء المسيح.
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق