ثالثا : الأسرارية حركة
( الحركة النعموية )
16- إذا كانت الحركة المطلقة هي طبيعة الوجود الإلهي
، وكانت الحركة النسبية هي طبيعة وجود الكون المادي فإن الحركة النعموية هي الحركة
التي تجسر الهوة التي بين الوجودين لتجمعهما في شركة أبدية واحدة . والنعمة في لاهوت
الآباء لاسيما أثناسيوس هي واحدة ، من الآب بالابن في الروح القدس . هكذا كانت نعمة
الخلق من العدم ، وهكذا وجد كوننا الطبيعي ، كصورة للثالوث القدوس . والنقطة الجوهرية عند أثناسيوس ، بخصوص النعمة ، هي أنها الكاشف لحضور
الكلمة . فظهور الكون وتطوره ومسيرته هو مجرد ظاهر ، لباطن هو حضور شخص الكلمة . بمعنى أنه فيما يتقبل شخص الابن كل ملئه من أبيه الذاتي
- في الحركة المطلقة - فإن الكون الطبيعي - المستعلن لحضور الكلمة ، يتقبل وجوده النسبي ، من الآب في الروح القدس . أما الحركة
النسبية المحققة لوجود الكون فهي صورة للحركة المطلقة التي لشخص الكلمة الحاضر في الكون
. بل لعل الفكر اللاهوتي يستطيع أن يجيب عن سؤال ، تعجز الفيزياء عن الاجابة عليه ،
وهو : كيف نفهم نشأة الكون من مفردة غير خاضعة لقوانين الفيزياء ( الانفجار الكبير
) ، مفردة تمثل المطلق الذي تتحطم عنده نسبية أينشتين ؟ . يستطيع اللاهوت أن يجيب بأن
هذه المفردة ما هي إلا نقطة اختراق شخص الكلمة للعدم ، بحضوره الشخصي في هذه النقطة
ومنذ ذلك الحدث يتطور الكون بحضور الكلمة الحاضر فيه .وما منظومة القوانين الطبيعية
التي تمثل الوعي الكوني المنطلق من تخوم الانفجار الكبير إلا ذلك المجال الذكي الكاشف لحضور حقيقي – وليس من باب البلاغة والمجاز - لشخص
الكلمة . بمعنى أنه باختراق المطلق للعدم ظهر
النسبي ، وباستمرار حضور المطلق في النسبي يستمر النسبي ، وما أن يتخلى المطلق عن النسبي
إلا ويتهاوى النسبي نحو العدم ثانية . أما بخصوص كمال النعمة وامتلائها ، فالأمر أكثر
عمقا من مجرد نعمة خلقة الكون الطبيعي المستعلنة لذلك الحضور الوقتي للكلمة ، فيه
. ففي المسيح صار الكلمة حاضرا إلى الأبد في الكون ، وصار الكون الجديد ، فيه ، استعلانا
لذلك الحضور الأبدي غير المنتهي . الخليقة الجديدة الكائنة في الكلمة المتجسد تتقبل
وجودها الأبدي من الآب بالابن في الروح القدس . هكذا امتلأت الخليقة كصورة أبدية للثالوث
الأقدس ، هكذا اكتملت واستعلنت النعمة .والنعمة
في كمالها هي صيرورة الكون - بحركته
النسبية - محمولا بالحركة المطلقة التي للثالوث
القدوس ، وفيما يتقبل شخص الابن كل ملئه الذاتي ، من الآب ، محققا الوجود الإلهي ،
فإن الذين قد صاروا شركاء فيه- من البشر -
يتقبلون بواسطته ، وجودهم الأبدي من الآب ،
فيرى فيهم الآب صورة ابنه . هكذا تتم حركة تبني الخليقة كصورة للحركة المطلقة التي
لبنوة الابن ، وكشركة أبدية فيه .
17- الكون الطبيعي بحركته النسبية وبصورته التي ندركها ، لم يوجده الخالق بصورة تعسفية
، قاذفا به من جوف العدم وتاركا إياه في حركة
مستقلة خارجا عن الحضور الإلهي ، بل إن الكون
كائن كصورة كاشفة للشركة في حضور الكلمة ، ذاته ، الذي هو الفاعل الأوحد في الكون والمهيمن
على كل حركة فيه والحامل إياه منذ لحظة خروجه من العدم إلى لحظة عودته ثانية إلى العدم
، بانهاء الكلمة حضوره هذا . وأما بخصوص كمال النعمة وامتلائها في المسيح ، فالأمر يبلغ قمة تجليه . فليست نعمة
الخلاص ، والحياة الأبدية - المعطاة للبشر - مجرد منحة مستقلة ؛ بأن أصبح البشر أحياء
إلى الأبد ، بل هي أنهم قد نالوا الحياة بفضل نعمة التبني كاستعلان لشركتهم الأبدية
في الابن المتجسد ، فليست نعمة الحياة الأبدية شيئا مغايرا للشركة في حياة الله
ذاته .
18- بتجسد الكلمة صار المطلق نسبيا
؛ ففي الرب يسوع المسيح - الكلمة المتجسد - حل الوجود المطلق - الذي
لله -
ساكنا أبديا في الوجود النسبي ، الذي للإنسان . الأمر الذي يعني - من زاوية
أخرى- أن الوجود الإنساني قد ارتحل من صورته النسبية الفاسدة بالطبيعة ليسكن إلى الأبد
في مظلة شركة الثالوث القدوس . فقد صار البشر – بسب عضويتهم في جسد الابن – أبناءا
للآب ، وأصبح الآب الذاتي ( المطلق ) أبا لأولئك النسبيين الذين استجلبوا ليشتركوا في حياة الله ذاته بالنعمة .
أصبح البشر في المسيح يتقبلون وجودا أبديا
من الآب كصورة لتقبل الابن الذاتي وجوده من الآب . وفيما قد صار البشر هكذا
فقد صاروا هيكلا أبديا للروح القدس الذي هو روح الآب وروح الابن بآن واحد . فمن الآب
يصدر وجودهم الجديد عديم الفساد وذلك باشتراكهم في جسد الابن في الروح القدس ، وهذه
هي "النعمة الواحدة التي من الآب بالابن في الروح القدس "( بحسب تعبير العظيم
أثناسيوس السكندري ) .
الحركة النعموية هي حركة تأسيس الوجود
الإنساني الجديد بانخلاع الوجود النسبي من
الصورة العتيقة وإعادة تجذيره في الكرمة الحقيقية
، شجرة الحياة المسيح الرب . هكذا يتجذر الوجود الإنساني في الحركة المطلقة التي لشركة
الثالوث القدوس ، فيتجذر في الابن بالعضوية
في جسده الخاص ، ويولد من الآب بنعمة التبني ، ويمسح بالروح القدس كشريك الطبيعة الإلهية
. وتتعدد توصيفات النعمة والحدث واحد وهو خلود الإنسان كشركة نعموية في خلود الله ذاته
بالعضوية في جسد ابنه في الروح القدس .
19- النعمة
،كآلية حركية ، هي حركة تجاوز صورة الوجود نحو الجوهر الذي تكشفه هذه الصورة
، الذي هو الوجود في المظلة الأبدية التي لشركة الثالوث القدوس. هذه هي البنية الرمزية الأسرارية التي لديناميكية
النعمة . إذن ، الحركة النعموية –كمسار- هي
الحركة الأسرارية التي يتم فيها تخطي الصورة
( العلامة ) ، نحو جوهر وملء النعمة ، نحو السر الخفي المستتر ، نحو حقيقة الرمز الكائنة
في العمق . والصورة هي المنطلق الحركي الذي تنطلق منه حركة الرمز ، بينما كمال النعمة وتجلي السر المخبوء هو مآل وهدف حركة الرمز .
20- في السر الكنسي نحن ننطلق من صورة وجودنا الميتة بغية ولوج شركة الثالوث القدوس ، حينما نحمل
بالحركة المطلقة التي من الآب بالابن في الروح القدس . تحملنا حركة رمزية صورتنا- في
الروح القدس - نحو عمق السر الذي هو المسيح .في
الإفخارستيا ، نحن ننطلق من صورة طعامنا البائد . الخبز المكسور هو صورة وجودنا
النسبي العتيق ، المهترئ ، التي ننطلق منها نحو غاية كونية عظمى فيها تمتلئ أسرارية ورمزية الكون بظهور الكون الجديد الكائن في المسيح
الرب ، المستوعب لكنيسته.
21- الرؤية البانورامية لحركة الكون من المنظور
اللاهوتي ، تقودنا إلى إدراك أن الكون الطبيعي
ببنيته الرمزية الأسرارية إنما يتحرك نحو شخص المسيح الكوني ، ثمرة كل شيء . المسيح هو الكون الجديد . هو السر
الكوني الممتلئ . هو غاية الحركة الإفخارستية الكونية ( إذا جاز التعبير ) المنطلقة
من الرب يسوع التاريخي مخترقة زمان الكون منذ انطلاقه وحتى أفوله . فالأسرارية كطبيعة
وبنية كونية وكطبيعة وبنية إنسانية هي الحركة النعموية التي تحكم حركة تطور وجودنا
النسبي - سواء على المستوى الماكرو ( الكون ) أو الميكرو( الإنسان )- حتى غايته . وأما
المنتج النهائي فهو ذلك الشخص الإفخارستي الذي
يجمع الكل في واحد ، المسيح الرب . وإذا كانت
الحركة النسبية قد تبنت مستوا من تطور الوعي الكوني ، قد أثمر الإنسان الطبيعي كقمة
لهذا المستوى ، فإن الحركة النعموية تتبنى مايمكن أن نطلق عليه التطور الأعظم للوعي
الكوني ، الذي في مساره تتطور قمة الوعي الكوني
( البشر ) لتثمر شخص المسيح ، الإنسان الجديد
، الممتلئ بالوجود الجديد للبشر . لذلك نقول
بأن مجيء الرب هو الحدث الكوني الرئيس . هو المجيء الإفخارستي سواء المخترق للزمان
والمكان في " ليتورجيا كونية " أو المجيء الإفخارستي في ليتورجيتنا التي
نخدمها في زماننا ومكاننا . في الليتورجيا الأولى يتراكم البشر - الذين صاروا إفخارستيين
– مجتمعين بعد تشتت وتشرزم في الزمان والمكان – يتراكموا في شخص المسيح بغية أن يملأوه
. وفي الليتورجيا الثانية تتراكم النعمة في
الفرد إلى أن يصير عضوا في المسيح . واقع الحال أن الليتورجيا واحدة ، وحتى النوع الثاني ( الخاص ) ماكان له أن يصير ليتورجية
حقيقية مالم يكن هذا كشفا لولوج الفرد ( والكنيسة ) القداس
الكوني المنطلق من لحظة التأسيس الإفخارستي التي دشنها الرب يسوع في جسده المنتصر الموت
.
حدث مجيء الرب ( مجيء ابن الإنسان
) – المخترق للزمان والمكان - هو الترجمة العملية المباشرة لمفهوم ومضمون الحركة النعموية
الإفخارستية ، التي اختزلها الكتاب في مشهد
البرق : " لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ
يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ هَكَذَا يَكُونُ أَيْضًا
مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ " (مت 27 : 24 ).
هكذا تبدو الحركة النعموية في لحظة
نهاية الكون كما لوكانت حدثا لحظيا يخترق تاريخ
الكون النسبي ، وفيه قد اجتلب المختارون ، من شتاتهم الزمكاني ، ليستوطنوا - إلى الأبد - شخصا كاثوليكيا واحدا هو ابن الإنسان .
22- وأخيرا ، ولأنه لاحركة بدون راصد ، فماذا عن
رصد الحركة النعموية ؟ وللإجابة نقول بأنه إذا كانت الحركة المطلقة التي تكرس وجود
الله ذاته لا ترصد من خارجها ولا يمكن أن ترصد إلا من داخلها - أي الرصد الذاتي ، وأيضا إذا كانت الحركة النسبية التي تكرس وجود
الإنسان الطبيعي لا ترصد من داخلها ولا يمكن أن ترصد إلا من خارجها - أي الرصد الآخري ( من قبل الآخر ) ، فإن الحركة
النعموية التي تكرس الوجود الإنساني الجديد تتمايز عنهما في مفهوم عجيب للرصد المزدوج
؛ فبتجذر الوجود الإنساني داخل شركة حركة المحبة التي بين شخوص الثالوث القدوس فإن ذلك النسبي الذي كان
مقصيا خارجا قد أصبح متموقعا داخل مجال الحركة
المطلقة وقد أصبح راصدا ( بالنعمة ) لهذه الحركة ، وهنا يتجلى الموقف العجيب الذي فيه
يتم رصد الحركة المطلقة من خارجها ( الذي كان بالطبيعة خارجها ) . أما عن الرصد الداخلي
للحركة النعموية فهو بصيرورة الراصد الخارجي للحركة النسبية داخليا ، حينما صار المطلق
نسبيا بتجسد الكلمة ، وحينئذ فقط صار من هو بالطبيعة خارج عن الوجود النسبي ( لأنه
المطلق ) ساكنا أبديا داخل ذلك الوجود .
23- يدلي أحد الثلاثة الذين يشهدون في السماء ، الرب
يسوع المسيح ، بشهادته في ( يوحنا 17 ). وسواء كانت شهادته صلاة إلى - أو حوارا مع
- الآب
، فإن النص الإنجيلي يمثل كشفا لاهوتيا وانفتاحا وإطلالة على المطلق من قبل
النسبي. فها البشر قد صاروا موجودين إلى الأبد داخل شركة الثالوث ، بل صاروا في وحدة
واحدة مع الواحد الكائن في شركة الثالوث ، هكذا صار الوجود الإنساني النسبي كائنا
- ومحمولا إلى الأبد- داخل الوجود المطلق كإعلان
أبدي لاكتمال حدث الحركة النعموية : " لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ،
بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ
فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ
" ( 9و10 ) .
يشهد الشاهد الأمين الرب يسوع المسيح أن البشر الساكنين
جسده كأعضاء - وبفضل الحركة النعموية - قد
صاروا يرصدون الحركة المطلقة بينما هم قادمون من الخارج ، بينما هم كانوا قبلا لايستطيعون
ذلك : - " وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ
الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " ( 3 ) .و
" أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ
مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ
أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ " ( 24) .
هذه هي شهادته بخصوص الرصد من الخارج الذي تتيحه الحركة النعموية بعد تجديد
الوجود الإنساني النسبي في المسيح .
وأيضا ، يشهد الشاهد الأمين الرب يسوع المسيح أن
البشر الساكنين جسده كأعضاء - وبفضل الحركة
النعموية - قد صاروا واحدا في الثالوث القدوس ، وبذلك صاروا مرصودين من قبل الثالوث
القدوس ( الحركة المطلقة ) ، فبحلول الكلمة
فيهم صار راصد حركتهم حالا أبديا في داخلهم
: - " احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ
أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ " ( 11 ) .و " ، لِيَكُونَ
الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا
هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، " (
21 ). و " وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ
الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.
أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، . " (
22و 23 ).
هذه هي شهادته بخصوص الرصد من الداخل الذي تتيحه
الحركة النعموية بعد تجديد الوجود الإنساني
النسبي في المسيح .
24- نظرا
للطبيعة المزدوجة للنعمة - وبالتالي الحركة
النعموية - سواء اعتبرناها إلهية إنسانية أو اعتبرناها إنسانية إلهية - فإن التناقض بين الطبيعتين قد تلاشى ؛ إذ ضمتهما
وحدة شخصية ، اتحاد أقنومي ( hypostatic union )
بين وجود مطلق للابن الذاتي ووجود نسبي للإنسان . وبالتالي فإن حالة من الحضور المتبادل بين الطبيعتين تحسم
جدلية الرصد الخارجي والداخلي وتجعل من مفهوم الرصد المزدوج - بل قل الرصدية المتبادلة - للحركة النعموية أمرا
منطقيا . هذا الطرح الخريستولوجي يشير إلى
الأصل والرأس في قضية النعمة الرب يسوع . ولكن فيما يخص الكنيسة ، باقي أعضاء جسد المسيح
، فإن قلنا بأن الرصدية المتبادلة – على خلفية الحضور المتبادل – بين أعضاء الكنيسة
وشخص المسيح الممتلئ ، أمر قائم ، فقولنا ليس
خاطئا .
مجدي داود