الجمعة، 4 نوفمبر 2016

الوجود حركة ( 3 )


ثالثا : الأسرارية حركة ( الحركة النعموية )
 16- إذا كانت الحركة المطلقة هي طبيعة الوجود الإلهي ، وكانت الحركة النسبية هي طبيعة وجود الكون المادي فإن الحركة النعموية هي الحركة التي تجسر الهوة التي بين الوجودين لتجمعهما في شركة أبدية واحدة . والنعمة في لاهوت الآباء لاسيما أثناسيوس هي واحدة ، من الآب بالابن في الروح القدس . هكذا كانت نعمة الخلق من العدم ، وهكذا وجد كوننا الطبيعي ، كصورة للثالوث القدوس . والنقطة الجوهرية  عند أثناسيوس ، بخصوص النعمة ، هي أنها الكاشف لحضور الكلمة . فظهور الكون وتطوره ومسيرته هو مجرد ظاهر ، لباطن هو حضور شخص الكلمة . بمعنى  أنه فيما يتقبل شخص الابن كل ملئه من أبيه الذاتي - في الحركة المطلقة - فإن الكون الطبيعي - المستعلن لحضور الكلمة ، يتقبل  وجوده النسبي ، من الآب في الروح القدس . أما الحركة النسبية المحققة لوجود الكون فهي صورة للحركة المطلقة التي لشخص الكلمة الحاضر في الكون . بل لعل الفكر اللاهوتي يستطيع أن يجيب عن سؤال ، تعجز الفيزياء عن الاجابة عليه ، وهو : كيف نفهم نشأة الكون من مفردة غير خاضعة لقوانين الفيزياء ( الانفجار الكبير ) ، مفردة تمثل المطلق الذي تتحطم عنده نسبية أينشتين ؟ . يستطيع اللاهوت أن يجيب بأن هذه المفردة ما هي إلا نقطة اختراق شخص الكلمة للعدم ، بحضوره الشخصي في هذه النقطة ومنذ ذلك الحدث يتطور الكون بحضور الكلمة الحاضر فيه .وما منظومة القوانين الطبيعية التي تمثل الوعي الكوني المنطلق من تخوم الانفجار الكبير إلا ذلك المجال الذكي الكاشف  لحضور حقيقي – وليس من باب البلاغة والمجاز - لشخص الكلمة  . بمعنى أنه باختراق المطلق للعدم ظهر النسبي ، وباستمرار حضور المطلق في النسبي يستمر النسبي ، وما أن يتخلى المطلق عن النسبي إلا ويتهاوى النسبي نحو العدم ثانية . أما بخصوص كمال النعمة وامتلائها ، فالأمر أكثر عمقا من مجرد نعمة خلقة الكون الطبيعي المستعلنة لذلك الحضور الوقتي للكلمة ، فيه . ففي المسيح صار الكلمة حاضرا إلى الأبد في الكون ، وصار الكون الجديد ، فيه ، استعلانا لذلك الحضور الأبدي غير المنتهي . الخليقة الجديدة الكائنة في الكلمة المتجسد تتقبل وجودها الأبدي من الآب بالابن في الروح القدس . هكذا امتلأت الخليقة كصورة أبدية للثالوث الأقدس ، هكذا اكتملت واستعلنت النعمة .والنعمة  في كمالها  هي صيرورة الكون - بحركته النسبية  - محمولا بالحركة المطلقة التي للثالوث القدوس ، وفيما يتقبل شخص الابن كل ملئه الذاتي ، من الآب ، محققا الوجود الإلهي ، فإن الذين قد صاروا شركاء  فيه- من البشر - يتقبلون بواسطته ، وجودهم الأبدي  من الآب ، فيرى فيهم الآب صورة ابنه . هكذا تتم حركة تبني الخليقة كصورة للحركة المطلقة التي لبنوة الابن ، وكشركة  أبدية فيه .

 17- الكون الطبيعي بحركته النسبية  وبصورته التي ندركها ، لم يوجده الخالق بصورة تعسفية ، قاذفا به من جوف العدم وتاركا  إياه في حركة مستقلة خارجا عن الحضور  الإلهي ، بل إن الكون كائن كصورة كاشفة للشركة في حضور الكلمة ، ذاته ، الذي هو الفاعل الأوحد في الكون والمهيمن على كل حركة فيه والحامل إياه منذ لحظة خروجه من العدم إلى لحظة عودته ثانية إلى العدم ، بانهاء الكلمة   حضوره هذا  . وأما بخصوص كمال النعمة وامتلائها  في المسيح ، فالأمر يبلغ قمة تجليه . فليست نعمة الخلاص ، والحياة الأبدية - المعطاة للبشر - مجرد منحة مستقلة ؛ بأن أصبح البشر أحياء إلى الأبد ، بل هي أنهم قد نالوا الحياة بفضل نعمة التبني كاستعلان لشركتهم الأبدية في الابن  المتجسد ، فليست نعمة  الحياة الأبدية شيئا مغايرا للشركة في حياة الله ذاته .
  18- بتجسد الكلمة صار المطلق نسبيا  ؛  ففي الرب يسوع المسيح  - الكلمة المتجسد - حل الوجود المطلق  -  الذي لله  -  ساكنا أبديا في الوجود النسبي ، الذي للإنسان . الأمر الذي يعني - من زاوية أخرى- أن الوجود الإنساني قد ارتحل من صورته النسبية الفاسدة بالطبيعة ليسكن إلى الأبد في مظلة شركة الثالوث القدوس . فقد صار البشر – بسب عضويتهم في جسد الابن – أبناءا للآب ، وأصبح الآب الذاتي ( المطلق ) أبا لأولئك النسبيين الذين  استجلبوا ليشتركوا في حياة الله ذاته بالنعمة . أصبح البشر في المسيح يتقبلون وجودا أبديا  من الآب كصورة لتقبل الابن الذاتي وجوده من الآب . وفيما قد صار البشر هكذا فقد صاروا هيكلا أبديا للروح القدس الذي هو روح الآب وروح الابن بآن واحد . فمن الآب يصدر وجودهم الجديد عديم الفساد وذلك باشتراكهم في جسد الابن في الروح القدس ، وهذه هي "النعمة الواحدة التي من الآب بالابن في الروح القدس "( بحسب تعبير العظيم أثناسيوس السكندري  ) .
  الحركة النعموية هي  حركة تأسيس الوجود الإنساني الجديد بانخلاع  الوجود النسبي من الصورة العتيقة وإعادة تجذيره  في الكرمة الحقيقية ، شجرة الحياة المسيح الرب . هكذا يتجذر الوجود الإنساني في الحركة المطلقة التي لشركة الثالوث القدوس  ، فيتجذر في الابن بالعضوية في جسده الخاص ، ويولد من الآب بنعمة التبني ، ويمسح بالروح القدس كشريك الطبيعة الإلهية . وتتعدد توصيفات النعمة والحدث واحد وهو خلود الإنسان كشركة نعموية في خلود الله ذاته بالعضوية في جسد ابنه في الروح القدس .
19-  النعمة  ،كآلية حركية ، هي حركة تجاوز صورة الوجود نحو الجوهر الذي تكشفه هذه الصورة ، الذي هو الوجود في المظلة الأبدية التي لشركة الثالوث  القدوس. هذه هي البنية الرمزية الأسرارية التي لديناميكية النعمة . إذن ،  الحركة النعموية –كمسار- هي الحركة الأسرارية  التي يتم فيها تخطي الصورة ( العلامة ) ، نحو جوهر وملء النعمة ، نحو السر الخفي المستتر ، نحو حقيقة الرمز الكائنة في العمق . والصورة هي المنطلق الحركي الذي تنطلق منه حركة الرمز ، بينما كمال النعمة  وتجلي السر المخبوء هو مآل وهدف حركة الرمز .
  20- في السر الكنسي نحن ننطلق من صورة وجودنا  الميتة بغية ولوج شركة الثالوث القدوس ، حينما نحمل بالحركة المطلقة التي من الآب بالابن في الروح القدس . تحملنا حركة رمزية صورتنا- في الروح القدس - نحو عمق السر الذي هو المسيح .في  الإفخارستيا ، نحن ننطلق من صورة طعامنا البائد . الخبز المكسور هو صورة وجودنا النسبي العتيق ، المهترئ ، التي ننطلق منها نحو غاية كونية عظمى فيها تمتلئ أسرارية  ورمزية الكون بظهور الكون الجديد الكائن في المسيح الرب ، المستوعب لكنيسته.
     21- الرؤية البانورامية لحركة الكون من المنظور اللاهوتي ، تقودنا إلى إدراك أن الكون الطبيعي  ببنيته الرمزية  الأسرارية  إنما يتحرك نحو شخص المسيح الكوني  ، ثمرة كل شيء . المسيح هو الكون الجديد . هو السر الكوني الممتلئ . هو غاية الحركة الإفخارستية الكونية ( إذا جاز التعبير ) المنطلقة من الرب يسوع التاريخي مخترقة زمان الكون منذ انطلاقه وحتى أفوله . فالأسرارية كطبيعة وبنية كونية وكطبيعة وبنية إنسانية هي الحركة النعموية التي تحكم حركة تطور وجودنا النسبي - سواء على المستوى الماكرو ( الكون ) أو الميكرو( الإنسان )- حتى غايته . وأما المنتج النهائي فهو ذلك الشخص الإفخارستي  الذي يجمع الكل في واحد ، المسيح الرب  . وإذا كانت الحركة النسبية قد تبنت مستوا من تطور الوعي الكوني ، قد أثمر الإنسان الطبيعي كقمة لهذا المستوى ، فإن الحركة النعموية تتبنى مايمكن أن نطلق عليه التطور الأعظم للوعي الكوني ، الذي في مساره تتطور  قمة الوعي الكوني ( البشر )   لتثمر شخص المسيح ، الإنسان الجديد ، الممتلئ بالوجود الجديد للبشر .   لذلك نقول بأن مجيء الرب هو الحدث الكوني الرئيس . هو المجيء الإفخارستي سواء المخترق للزمان والمكان في " ليتورجيا كونية " أو المجيء الإفخارستي في ليتورجيتنا التي نخدمها في زماننا ومكاننا . في الليتورجيا الأولى يتراكم البشر - الذين صاروا إفخارستيين – مجتمعين بعد تشتت وتشرزم في الزمان والمكان – يتراكموا في شخص المسيح بغية أن يملأوه . وفي الليتورجيا الثانية  تتراكم النعمة في الفرد إلى أن يصير عضوا في المسيح . واقع الحال أن الليتورجيا واحدة ، وحتى  النوع الثاني ( الخاص ) ماكان له أن يصير ليتورجية حقيقية مالم يكن هذا كشفا لولوج  الفرد ( والكنيسة  )  القداس الكوني المنطلق من لحظة التأسيس الإفخارستي التي دشنها الرب يسوع في جسده المنتصر الموت .
حدث مجيء الرب ( مجيء ابن الإنسان ) – المخترق للزمان والمكان - هو الترجمة العملية المباشرة لمفهوم ومضمون الحركة النعموية الإفخارستية ، التي اختزلها الكتاب في  مشهد البرق :  " لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ هَكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ " (مت 27 : 24 ).
هكذا تبدو الحركة النعموية في لحظة نهاية الكون كما لوكانت حدثا لحظيا  يخترق تاريخ الكون النسبي ، وفيه قد اجتلب المختارون ، من شتاتهم الزمكاني  ،  ليستوطنوا  - إلى الأبد - شخصا كاثوليكيا واحدا هو ابن الإنسان   .
 22- وأخيرا ، ولأنه لاحركة بدون راصد ، فماذا عن رصد الحركة النعموية ؟ وللإجابة نقول بأنه إذا كانت الحركة المطلقة التي تكرس وجود الله ذاته لا ترصد من خارجها ولا يمكن أن ترصد إلا من داخلها  - أي الرصد الذاتي  ، وأيضا إذا كانت الحركة النسبية التي تكرس وجود الإنسان الطبيعي لا ترصد من داخلها ولا يمكن أن ترصد إلا من خارجها -  أي الرصد الآخري ( من قبل الآخر ) ، فإن الحركة النعموية التي تكرس الوجود الإنساني الجديد تتمايز عنهما في مفهوم عجيب للرصد المزدوج ؛ فبتجذر الوجود الإنساني داخل شركة حركة المحبة التي  بين شخوص الثالوث القدوس فإن ذلك النسبي الذي كان مقصيا خارجا قد أصبح  متموقعا داخل مجال الحركة المطلقة وقد أصبح راصدا ( بالنعمة ) لهذه الحركة ، وهنا يتجلى الموقف العجيب الذي فيه يتم رصد الحركة المطلقة من خارجها ( الذي كان بالطبيعة خارجها ) . أما عن الرصد الداخلي للحركة النعموية فهو بصيرورة الراصد الخارجي للحركة النسبية داخليا ، حينما صار المطلق نسبيا بتجسد الكلمة ، وحينئذ فقط صار من هو بالطبيعة خارج عن الوجود النسبي ( لأنه المطلق ) ساكنا أبديا داخل ذلك الوجود .
23-  يدلي أحد الثلاثة الذين يشهدون في السماء ، الرب يسوع المسيح ، بشهادته في ( يوحنا 17 ). وسواء كانت شهادته صلاة إلى - أو حوارا مع -  الآب  ، فإن النص الإنجيلي يمثل كشفا لاهوتيا وانفتاحا وإطلالة على المطلق من قبل النسبي. فها البشر قد صاروا موجودين إلى الأبد داخل شركة الثالوث ، بل صاروا في وحدة واحدة مع الواحد الكائن في شركة الثالوث ، هكذا صار الوجود الإنساني النسبي كائنا - ومحمولا إلى الأبد- داخل الوجود المطلق  كإعلان أبدي لاكتمال حدث الحركة النعموية : " لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ.  وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ  "  ( 9و10 )  . 
 يشهد الشاهد الأمين الرب يسوع المسيح أن البشر الساكنين جسده كأعضاء  - وبفضل الحركة النعموية - قد صاروا يرصدون الحركة المطلقة بينما هم قادمون من الخارج ، بينما هم كانوا قبلا لايستطيعون ذلك : - " وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " ( 3 ) .و " أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ " (  24) .
هذه هي شهادته بخصوص الرصد  من الخارج الذي تتيحه الحركة النعموية بعد تجديد الوجود  الإنساني النسبي في المسيح .
 وأيضا ، يشهد الشاهد الأمين الرب يسوع المسيح أن البشر الساكنين جسده كأعضاء  - وبفضل الحركة النعموية - قد صاروا واحدا في الثالوث القدوس ، وبذلك صاروا مرصودين من قبل الثالوث القدوس ( الحركة المطلقة )  ، فبحلول الكلمة فيهم صار راصد حركتهم  حالا أبديا في داخلهم : -  " احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ " ( 11 ) .و " ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا،  " ( 21 ). و "   وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، . " ( 22و 23 ). 
 هذه هي شهادته بخصوص الرصد من الداخل الذي تتيحه الحركة النعموية بعد تجديد الوجود  الإنساني النسبي في المسيح .
 24-  نظرا للطبيعة المزدوجة للنعمة  - وبالتالي الحركة النعموية  -  سواء اعتبرناها إلهية إنسانية  أو اعتبرناها إنسانية إلهية  - فإن التناقض بين الطبيعتين قد تلاشى ؛ إذ ضمتهما وحدة شخصية ، اتحاد أقنومي ( hypostatic union   ) بين وجود مطلق للابن الذاتي ووجود نسبي للإنسان . وبالتالي  فإن حالة من الحضور المتبادل بين الطبيعتين تحسم جدلية الرصد الخارجي والداخلي وتجعل من مفهوم الرصد المزدوج  - بل قل الرصدية المتبادلة - للحركة النعموية أمرا منطقيا .  هذا الطرح الخريستولوجي يشير إلى الأصل والرأس في قضية النعمة الرب يسوع . ولكن فيما يخص الكنيسة ، باقي أعضاء جسد المسيح ، فإن قلنا بأن الرصدية المتبادلة – على خلفية الحضور المتبادل – بين أعضاء الكنيسة وشخص المسيح الممتلئ ، أمر قائم  ، فقولنا ليس خاطئا .  
مجدي داود

الخميس، 3 نوفمبر 2016

الوجود حركة ( 2 )


    ثانيا : وجود الله حركة ( الحركة المطلقة  )
  3- عن حق قد فعلها أبو النسبية أينشتين حينما تراجع عن فكرة كان يعتقد بها أولا وهي إمكانية وجود حركة مطلقة في كوننا الطبيعي ، وقد بلور نظريته في مايفيد بأن كل الحركة في الكون نسبية وكل الأجسام في حالة حركة ولا يمكن رصد حركة جسم من قبل جسم آخر ، فلا يوجد نقطة سكون في الكون كله  ، والحركة هي حركة بانتسابها إلى السكون .
 وأعتقد أن فرضية نقطة السكون المطلق هذه لاتخرج عن كونها أحد احتمالين  - من منظور الوجود النسبي - أولهما وجود ميتافيزيقي لازمكاني وثانيهما العدم . هذا ، ويقدم اللاهوت المسيحي الإجابة الشافية الصحيحة والوحيدة عن سؤال الحركة المطلقة من خلال عقيدة الثالوث القدوس . والوجود  الإلهي  - كما تكشفه عقيدة الثالوث  - هو وجود ديناميكي . وجود قائم على فعل آني ، سرمدي .فيصدر الوجود الالهي ، ذاتيا . أى من  الآب الذاتي ، فى حدث مطلق . فى حركة مطلقة ، هى وجود شخصي ، قائم فى شركة ، لا بداية لها إلا ذاتها ، ولا نهاية لها  إلا ذاتها.   من شخص الآب يصدر الوجود الإلهي ، وهو يصدر الآن وقد كان يصدر منذ الأزل وسيظل يصدر إلى الأبد . وبواسطة شخص الابن يتم قبول كل ملء الآب . يتم قبول كل الجوهر  الإلهي ، فالابن هو الذي دفع إليه كل  ماللآب . وشخص الروح القدس هو شخص الشركة ، شركة الحركة المطلقة بين  الآب والابن ، فهو روح  الآب  وروح الابن  بآن واحد .
 4- إذن  ، ما يجعل الشخص شخصا ، هو ديناميكيته  ؛ فشخص الآب هو الكيان الحر المريد ، الذى يستعلن إرادة الله وهويته فى أن يكون مصدرا لذاته ، فى حدث لا نهائي ، وفعل سرمدي - لا نستطيع  إدراكه ، لطبيعتنا الزمنية - وحركة مطلقة ، لا نستطيع إدراكها لطبيعتنا النسبية .وشخص الابن هو الكيان الحر المريد ، الذى يستعلن إرادة الله فى قبول وجود ذاته ، فى فعل لا نهائي وحركة مطلقة تنبع ، سرمديا ، من أبيه الذاتي .وشخص الروح القدس هو الكيان الحر المريد ، الذي يستعلن إرادة الله فى كونه طبيعة روحية متمايزة تنبثق ذاتيا ، أى من  الآب الذاتي ، لتستقر فى الابن ، فالروح هو شركة ، لأنه روح  الآب وروح الابن . هكذا ينبثق الروح فى حدث لا نهائي ، سرمدي . قد كان هكذا منذ الأزل ، وهو هكذا  الآن ، وسيظل هكذا الى الأبد . هكذا يتحقق الوجود  الإلهي  . الوجود  الإلهي ، القائم فى شركة الثالوث ، هو شركة حركة . الوجود الالهى حقيقة ، لأن الله يوجد ذاته ، دائما ، فى حركة مطلقة . لأنه شخص الآب . وهو حقيقة لأن الله يوجد من ذاته ، دائما ، فى حركة مطلقة . لأنه شخص الابن . وهو حقيقة لأن الله ليس مجرد فكرة بل طبيعة روحية فائقة ومتمايزة ، تفيض من الآب ، فى حركة مطلقة . لأنه شخص الروح القدس . الوجود  الإلهي ، حقيقة ، لأنه حركة لا نهائية للألوهة النابعة من  الآب ، المستقبلة بواسطة الابن ، المستعلنة فى الروح القدس ، وبحسب تعبير العظيم أثناسيوس : ألوهة واحدة من  الآب  بالابن فى الروح القدس .
  5- الأبوة ، المستعلنة  بالآب، هى حركة  إصدار الذات . هى فعل  إيجاد الذات . هى حدث البدء المطلق ، للألوهة.والبنوة ، المستعلنة بالابن ، هى حركة قبول كل ملء الذات . هى فعل قبول الذات . هى حدث الامتلاء المطلق ، للألوهة  والشركة ، المستعلنة بالروح القدس ، هى حركة فيض الذات من نبعها  الذاتي نحو مصبها  الذاتي . هي حدث الفيض المطلق للألوهة.
  6- علاقة المحبة بين شخوص الثالوث ، هى علاقة حركة . وما يكشفه لنا الثالوث هو أن المحبة هى حركة إعطاء الذات . شخص  الآب يعطى كل ملئه - بدون أن يعني ذلك أنه فقد شيئا -  إلى الابن ، فى حركة مطلقة ، لا بداية ، ولا نهاية - زمنية - لها . وشخص الابن يقبل عطية أبيه الذاتي ، كملء له - بدون أن يعني ذلك أنه كان فارغا - فى حركة مطلقة ، لا بداية ، ولا نهاية - زمنية - لها .
 وشخص الروح القدس هو شركة الحب القائمة بين عطاء  الآب وقبول الابن ، فى حركة مطلقة هي فيض لا بداية ، ولا نهاية - زمنية - له .
وليس من قبيل الرومانسية الصوفية أن يضع العهد الجديد تعريفا جامعا مانعا عجيبا للوجود الإلهي مثل " الله محبة " ؛ فالمحبة هنا هي الحركة المطلقة بين شخوص الثالوث ، تلك الحركة التي تكرس – سرمديا- الوجود الإلهي . وإذا كان مفهوم المحبة في  أرقى مستوى إنساني هو إعطاء الذات للآخر أو لحساب الآخر أو في سبيل الآخر، فإن حركة المحبة الثالوثية المطلقة تختلف كليا عن مفهومنا الإنساني اعتمادا على اختلاف مفهوم " الآخر " . فبينما قد يحمل العطاء للآخر الإنساني نهاية وضياعا للذات ، المهددة بوجود الآخر –  فبحسب سارتر " الآخر هو الجحيم " - فإن الثالوث القدوس يكشف عن مضمون مختلف للآخر وهو الآخر الذاتي .فكل شخص ( أقنوم ) يتضمن " الآخر " الذي له نفس " الذات " التي له ؛ فالشخص هوموأوسيوس للآخر .
 حركة عطاء المحبة بين شخوص الثالوث هي حركة  وجود الذات  لأنها حركة إعطاء الذات للآخر  بدون فقدان أو نقصان ، في مقابل أخذ الآخر لهذه الذات بدون  اغتصاب  أو زيادة ، لأن هذا الآخر مستوعب ومحتوى في الشخص المعطي لذاته ، وفيما يعطي فعطاؤه ليس إلى خارجه.
  7- علاقة الضمنية المتبادلة ( الاحتواء المتبادل  =  perichoresis   ) بين شخوص الثالوث ،  هي علاقة حركة . كيف يستوعب ويحتوى كل شخص ، من شخوص الثالوث ، كلا الشخصين الآخرين ، بينما كل من هذين الشخصين ، يستوعبه ويحتويه ، في ذات الحدث ؟ 
   سر الحركة المطلقة العجيب هو استيعاب المستوعب ( بفتح العين ) لمستوعبه ( بكسر العين ) واحتواء المحتوى ( بفتح الحاء ) لمحتويه ( بكسر الحاء ) وتضمن المتضمن ( بفتح الميم ) لمتضمنه ( بكسر الميم ) .
    8- علاقة السببية المتبادلة بين شخوص الثالوث ، هى علاقة حركة . ماذا يعنى أن كل شخص هو " هوموأووسيوس " مع كل من الشخصين  الآخرين ( أى ، له ذات الجوهر الذي لكل منهما ) ؟ .  إن ذلك يعني أن كل شخص هو سبب لوجود الشخصين الآخرين، المتضمنين فيه . فلو لم يكن الله أبا ، لما كان الله  ابنا ، ولا كان الله روحا قدسا . ولو لم يكن الله ابنا ، لما كان الله أبا ، ولا كان روحا قدسا . ولو لم يكن الله روحا قدسا ، لما كان الله أبا ، ولا كان ابنا . فأبوة  الآب تكشف - سببيا - بنوة مستورة ، مولودة منه ، وطبيعة روحية فائقة ، منبثقة منه . وبنوة الابن تكشف - سببيا - أبوة ، مستورة ، كمصدر له ، وطبيعة روحية فائقة ، مستقرة فيه . الطبيعة الروحية الفائقة للروح القدس ، تكشف - سببيا - أبوة مستورة ، ينبثق منها ، وبنوة مستورة ، يستقر فيها .
 ولكننا ينبغي أن نميز بين السببية المتبادلة – التي هي المضمون العملي للاحتواء المتبادل ( perichoresis  ) الذي بين شخوص شركة الثالوث القدوس  - وبين  نوع  آخر من السببية  . فإذا كانت السببية المتبادلة هي طبيعة شركة الأقانيم – إذ أن الثالوث بطبيعته هو  شركة سببية الوجود الإلهي- فإن هناك السببية الوظيفية التي تخص أقنوما معينا  وتحديدا أقنوم الآب . فالآب سبب وجود كل من الابن والروح بفضل طبيعة شخصه وهوية وظيفته الأقنومية التي تميزه عن الأقنومين الآخرين فشخص الآب هو الآب لأنه المصدر والينبوع والأصل .ولكن  لاتناقض بين نوعي السببية ولا تفوق لأي نوع على الآخر ؛ ففيما نعتقد عن حق بأن الآب مصدر للابن بالولادة وللروح  بالانبثاق – ولأنه لايوجد زمان ولا مكان في الحركة المطلقة  - فوجود الآب نفسه ، من وجود الابن ، لأنه لا آب بدون ابن . ووجود الآب نفسه ، من وجود الروح ، لأنه لا آب بدون الروح الذي هو روح الآب . وعليه نقول إذا كانت الهوية الوظيفية لأقنوم الآب تجعله مصدرا للابن والروح  فهذا لايتناقض مع كون أن الهوية السببية لطبيعة شركة الثالوث تجعل أيا من الابن والروح سببا لوجود الآب .

  9- ثنائية الحركة والراصد ، هى طبيعة الحركة النسبية ، التى تدركها خليقتنا . هى طبيعة القوانين التي تهيمن على وجودنا  الطبيعي ، في هذا الكون . والحركة ، كما نختبرها هى نسبية . الحركة - دائما - هى بالنسبة للراصد ، وليست حركة للراصد . نحن لا نستطيع أن ندرك حركة ما  إذا  كنا جزءا من هذه الحركة . لا بد أن يكون راصد الحركة مستقلا عن الحركة المرصودة . هذه هى حركة وجودنا ، الطبيعي، النسبية .أما فيما يخص الحركة التى في شركة الثالوث ، فلا توجد ثنائية الراصد والحركة . فالحركة المطلقة ليست حركة فى الزمان والمكان ، ليست حركة ، يمكن رصدها من خارجها ، بل هى حركة نحو الداخل ، حركة نحو العمق الإلهي،  الذي لا يمكن رصده أو فحصه الا بواسطة روح الله ، الذى يفحص كل شيء حتى أعماق الله .
 10- الحركة النسبية ، كما ندركها ، هى حركة "  الآخر " ، المغاير والمستقل ، عن الراصد . أما في ما يخص الحركة المطلقة ،  فإن ما يكشفه الثالوث ، هو مفهوم "  الآخرية الذاتية " ، فالكيان المستوعب ، بالحركة المطلقة ، ليس مغايرا ، ولا مستقلا ولا منفصلا ، عن راصد الحركة .فبينما يرصد شخص  الآب حركة الذات  الإلهية الصادرة منه ، فالكيان المرصود ليس مغايرا ولا مستقلا ولا منفصلا ، عنه ، كراصد ، بل هو كل ملئه وكل جوهره . هذه  هي الآخرية الذاتية ، كما يكشفها شخص  الآب . وبينما يرصد شخص الابن ، حركة الذات  الإلهية التى يستقبلها ، فالكيان المرصود ، ليس مغايرا ، ولا مستقلا ، ولا منفصلا ، عنه ، كراصد ، بل هو كل ملئه وكل جوهره ، هذه  هي  الآخرية الذاتية ، كما يكشفها شخص الابن .وبينما يرصد شخص الروح القدس ، حركة الذات  الإلهية ، كشركة بين  الآب والابن ، فالكيان المرصود ليس مغايرا ، ولا مستقلا ولا منفصلا ، عنه ، كراصد ، بل هو كل ملئه وكل جوهره . هذه هي الآخرية الذاتية ، كما يكشفها شخص الروح القدس . إذن ، الشخص ( الأقنوم ) هو راصد الحركة المطلقة ، أما الكيان المستوعب بالحركة المطلقة فهو الجوهر ( الذات ) ، الذى هو - في ذات الحدث -كل ملء الشخص ( أي ،كل ملء راصده ) .    
 11- رصد الحركة هو حالة الوعي بالحركة ، وما نختبره بخصوص حركتنا النسبية  هو أمران : الأول هو أن حالة الوعي بالحركة هي حالة مستقلة عن الكيان  المستوعب بالحركة . والثانى هو أن حالة الوعي بالحركة هي حالة سلبية ، محايدة ، بالنسبة للكيان المستوعب بالحركة . فهى مجرد إدراك لحدوث الحركة ، كأمر خارج عن الكيان الواعي بالحركة . أما  بخصوص الحركة المطلقة ، فالأمر جد مختلف ، فبالنسبة للأمر الأول ، ليس الوعي  بالحركة المطلقة  مستقلا و لا منعزلا عن الكيان المستوعب بالحركة المطلقة . وهذا أمر أشرنا اليه فى النقطة السابقة . أما بخصوص الأمر الثاني ،  فإن الوعي بالحركة المطلقة ليس محايدا ولا سلبيا بالنسبة لموضوع الحركة المطلقة ، فالوعي بالحركة المطلقة هو المنشئ والمكرس  لها ، وليس مجرد راصد سلبي لها . فشخص الآب هو الشخص  الذي يعي إصدار الذات الإلهية . وشخص الابن هو الشخص  الذي يعي قبول الذات  الإلهية. وشخص الروح القدس هو الشخص الذي يعي الذات الإلهية ،كشركة بين  الآب والابن . بمعنى أن الثالوث  القدوس يكشف حالة من الاستقطاب الثالوثي للوعي  الإلهي (  إذا جاز التعبير ) ، والشخص ( الأقنوم ) هو الكيان الواعي الذي يستقطب الذات كاملة . وفيما يستقطب شخص ، الوعي الإلهي - من منظور هوية وعيه الخاصة - فهو يستر ويتضمن  في داخله - استقطاب كلا من الشخصين  الآخرين ، للوعي الإلهي  ، كل  من منظور هويه وعيه الخاصة .
 12-  إذن ، الحركة المطلقة هي حركة الوعي الإلهي.  فالأبوة هي حركة وعي البدء اللانهائي للذات  الإلهية . والبنوة هي حركة وعي الامتلاء اللانهائي للذات  الإلهية . وشركة الروح القدس هي حركة وعي الفيض اللانهائي للذات  الإلهية .
   الله هو الكيان الحي الذي يعي حركة بدئه الذاتي . هذا هو ما يستعلنه شخص   الآب. الله هو الكيان الحي الذي يعي حركة امتلائه الذاتي . هذا هو ما يستعلنه شخص الابن . الله هو الكيان الحي الذي يعي حركة فيضه الذاتي ، كشركة بين  الآب والابن . هذا هو ما يستعلنه شخص الروح القدس .
 13- لذلك ، فبينما يعطي  الآب كل ملئه  إلى ابنه الذاتي ، فحركة العطاء ، هذه ، ليست موجهة  إلى الخارج ، بل  إلى شخص الابن ، المستوعب ( بفتح العين ) داخل  الآب ، والمستوعب ( بكسر العين )  للآب،  بآن واحد . هى حركة موجهة  إلى الداخل ،  إلى العمق  الإلهي . وبينما يقبل الابن عطية أبيه الذاتي ، فحركة القبول ، هذه ، ليست موجهة  إلى الخارج ، بل  إلى شخص الآب ، المستوعب ( بفتح العين ) داخل الابن ، والمستوعب ( بكسر العين ) للآب ،  بآن واحد .  هي حركة موجهة  إلى الداخل ،  إلى العمق الالهي. وحينما يستعلن الروح القدس الوجود  الإلهي ، كشركة بين عطية الآب وقبول الابن ، فحركة هذا الفيض ، المنبثق من الآب ، ليست موجهة إلى الخارج ، بل إلى طرفى الشركة ، المستوعبين ( بفتح العين ) داخل الروح القدس ، أي الآب والابن ، والمستوعبين ( بكسر العين ) - كل منهما - له ،  بآن واحد . هى حركة موجهة  إلى الداخل ،  إلى العمق  الإلهي . خروج الكل من الكل - بالنسبة للابن بالولادة ، وللروح القدس بالانبثاق - بدون فقد من  الآب أو إضافة  للابن أو للروح  -  هو الحركة المطلقة ، التى يتحقق بها الوجود  الإلهي .
 14- الحركة المطلقة هي حركة تجاوز الذات ( ecstasy)  أو (ekstasis  ) والأقنوم ( الشخص ) هو الكيان الذي يتجاوز ذاته ، بذاته ، نحو ذاته . ففيما يتجاوز شخص الآب  الذات الإلهية، كمصدر وكمنبع لها ، فهو يصنع ذلك  دائما - وبصفة مطلقة - بينما كل جوهره وكل ملئه  هو نفس الذات التي يتجاوزها . وفيما يتجاوز شخص الابن  الذات الإلهية كمستقبل لها ، فهو يصنع ذلك  دائما - وبصفة مطلقة - بينما كل جوهره  وكل ملئه ، هو نفس الذات التي يتجاوزها. وفيما يتجاوز شخص الروح القدس  الذات الإلهية، كشركة  بين الآب والابن ، فهو يصنع ذلك ، دائما - وبصفة مطلقة - بينما كل جوهره  وكل ملئه ، هو نفس الذات التي يتجاوزها . مسألة تجاوز الذات لايمكن فهمها بدون فهم طبيعة العلاقة بين الشخص ( الأقنوم ) والجوهر ( الذات ) . ومنطلقنا للفهم هو  الصيغة الآبائية  ، الكلاسيكية : "  جوهر واحد  - ثلاثة اقانيم "   mia ousia treis hypostaseis  ". وبالتأكيد لاتصب العبارة في معنى الإحصاء العددي لما هو مختلف بل على العكس فإن المضمون العميق هو " جوهر واحد لثلاثة أقانيم "، أو " جوهر واحد في ثلاثة أقانيم " ـ فالجوهر هو جوهر كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة . وكل أقنوم له ذات الجوهر الذي لكل أقنوم من الأقنومين الآخرين المتضمنين فيه . وعليه فإن جوهر الآب هو جوهر الابن هو جوهر الروح القدس . الجوهر لا يوجد إلا مؤقنما ( مشخصنا ) ، والأقنوم لا يوجد إلا مشتركا مع الأقنومين الآخرين المتضمنين داخله . فالجوهر بدون الأقنوم طبيعة عارية لاوجود لها، والأقنوم بدون الجوهر كيان فارغ لاوجود له .  و الشخص يسبق الجوهر ، بمعنى أن الله وجود شخصي وليس مجرد طبيعة إلهية حية.وأقنوميته تسبق جوهريته . والأقنمة هي حركة تجاوز الذات من قبل الأقنوم  . وباختصار شديد نستطيع أن نقول بأن الحركة المطلقة هي حدث وفعل الأقنمة السرمدية للجوهر الإلهي .
 15- الحركة  كما ندركها ، بطبيعتنا الزمكانية ، هي إزاحة للزمان وللمكان . فمسافة معينة إنما  يتم قطعها  فى زمن معين ، أي بسرعة معينة . هذه هي الحركة النسبية ، حركة وجودنا الطبيعى . أما الحركة المطلقة فهي ليست بأي حال من الأحوال إزاحة زمكانية بل هي إزاحة سرمدية للعدم يضطلع بها الأقنوم لحساب وجود الذات . الحركة المطلقة هى حركة انطلاق الوجود الإلهي بإرادة وبمبادرة ذاتية . هذا ما يستعلنه شخص  الآب . وهي حركة قبول الوجود الإلهي بإرادة وبمبادرة ذاتية . هذا ما يستعلنه شخص الابن . وهي حركة فيض الوجود الإلهي، الصادر ذاتيا، والمستقر ذاتيا . هذا ما يستعلنه شخص الروح القدس الذي هو روح الآب وروح الابن بآن واحد .
مجدي داود

الوجود حركة ( 1 )


مقدمة
 الحركة ، وما أدراك مالحركة !
إنني أتعجب أشد التعجب من أن نفرا من الفلاسفة أو من المفكرين لم يلتفت  - وكان من المفترض له أن يلتفت  - إلى أهمية مفهوم الحركة كبنية لكل شيء ، ونستطيع أن ندعي بأن مفهوم الحركة هو الشفرة السرية التي تفتح  بها خزائن المعرفة الإنسانية .  والحركة كما نختبرها في عالمنا المادي ليست هي جل مانقصد بمفهوم الحركة ، وأن كانت الحركة في عالمنا مجرد نمط من أنماط مانقصد من مفهوم أوسع  للحركة . والحركة كما نقصدها لا تختزل في المادي بل تمتد إلى الميتافيزيقي وأيضا إلى مابينهما أي الديني والصوفي  . وبعد، فهذه مقالة فلسفية لاهوتية أو لاهوتية فلسفية ، وليس هناك مايؤرقنا من دمج الفلسفي بالديني شريطة أن نعي جيدا الحدود الفاصلة بين الأنساق المعرفية المختلفة . ولتفسير العبارة الاخيرة نقول بأن المعرفة الإنسانية تبدأ بنسق – هو الحد الأدنى المعرفي – هو العلم الطبيعي التراكمي بقوانينه واكتشفاته وسبره  لأغوار كوننا المادي ، ثم تأتي الفلسفة لتشتبك مع أحدث معطيات العلم الطبيعي – والتي تشكل رؤية للكون لايمكن  تجاوزها – تشتبك كعباءة أكثر رحابة ومجالا للرؤية فتتجلى أمام أبصارنا المعرفية  صورة أكثر وضوحا للكون . ثم يأتي اللاهوت ليكون في مقدرته – إذا اشتبك جيدا مع المنتج الفلسفي – أن يقدم العباءة المعرفية الأرحب التي تعلو بالسقف المعرفي الإنساني إلى أقصى مايستطيع الإنسان أن  يعرف . أما عن عبارة " الوجود حركة " فهي تأتي  تيمنا بعبارة متشابهة  معها في المبنى والمعنى وهي عبارة " الوجود شركة " ، والعبارة عنوان لكتيب صغير للميتروبوليت يوحنا زيزيولاس قرأته قراءة الدارس المدقق منذ نعومة أظفاري وكان له أعظم الأثر في تكوين ذهنيتي  اللاهوتية  بخصوص الثالوث القدوس ، ولكن تمردا محمودا من قبل تلميذ نحو أستاذه العظيم جعلني أشتبك مع طرح " الوجود شركة " بالحس النقدي البناء الذي أثمر بعد عقود  طرحا أكثر اتساعا ورؤية أكثر شمولا هو طرح " الوجود حركة " ، والسبب ببساطة هو أن الشركة أساسا هي شركة حركة ، فالحركة هي السر وراء كل ماهو كائن أو بمعنى آخر الحركة سر الكينونة .
 هذا طرح ربما يؤسس لما يمكن أن نطلق عليه  لاهوت الحركة أو  فلسفة الحركة  أو حتى   لاهوت وفلسفة الحركة  .
 أولا : وجود الكون حركة ( الحركة النسبية  )
  1- ماندركه عن الحركة - في وجودنا هذا ، في كوننا هذا - هو أن الحركة لا يمكن أن تدرك أو ترصد إلا من السكون ، فلا حركة  إلا من السكون ولا رصد للحركة إلا من  راصد ساكن بالنسبة لهذه الحركة . لذلك دعيت بالحركة النسبية ، تلك الحركة التي لايمكن رصدها إلا من خارجها  .
 والحركة ( النسبية ) هى البنية الأساسية للكون . الحركة هى المضمون النهائي المستتر وراء كل ما هو منظور في الكون . فمن المنظور الكلي ، الواسع ، للكون  ( macro ) وعلى مستوى نشأة الكون وتطوره - فقد نشأ الكون من نقطة غاية في الدقة - وفي الكثاقة وفي درجة الحرارة وفى الحركة وفي الجاذبية - أطلق عليها الفيزيائيون : مفردة الانفجار الكبير ( big bang singularity ) ، وبدءا من هذه المفردة ، انطلق الكون متوسعا ، على مدى بلايين السنين ، الى أن أصبح على وضعه الحالي . هذا ، وسيظل الكون في حركة توسعه وتضخمه ، كبالون يستمر في انتفاخه ، الى أن يصل الى النقطة الحرجة ، التي ينفجر فيها ثانية ، في ما يعرف بالانسحاق الكبير (big crunch ) ، فيعود الكون الى العدم ، ثانية .
هكذا فهم العلماء ، وأدركوا قصة وجود الكون الطبيعي ، الذي ، نحن ، جزء منه . وفي مسار الحركة الانتفاخية للكون ظهرت كل المظاهر التطورية فيه ، ظهرت المجرات ، والمجموعات النجمية ، ظهرت شمسنا ، وظهرت أرضنا وأخيرا ظهر الانسان .
الكون كله منظومة مركبة من الحركة النسبية ، كل الأجسام في حالة حركة ، من الذرة إلى المجرة ، حتى حارتنا الكونية الصغيرة التي نسكنها - أقصد المجموعة الشمسية - هي منظومة حركية ؛ إذ أننا نقطن كوكبا  يدور حول محوره بسرعة هائلة مرة كل يوم  بينما يدور حول الشمس دورة كاملة  كل سنة شمسية .  إذن ، نحن أمام سيمفونية كونية ، يتم عزفها على مدى بلايين السنين ، بينما الحركة الأخيرة من هذه المعزوفة الرائعة - والتي هي قمة العبقرية الفنية فيها - هي ظهور الانسان . الكون ، على المستوى " الماكرو " هو حركة هائلة ظهرت في سكون العدم ومع ظهور هذه الحركة ظهر الزمان والمكان ، ظهر الكون كما نختبره .
وأيضا على المستوى الدقيق ( micro ) ، تبدو الحركة هي اللبنة الأساسية لطبيعة الكون . تخبرنا الذرة ( atom ) بذلك ، فالذرة - التي هي الوحدة البنائية للمادة - ما هي الا ثمرة للحركة التي تصنعها السحابة الألكترونية حول النواة  ، تلك الحركة التي تحقق الفراغ الذري ( بين النواة والسحابة الالكترونية ) ، فندرك المادة وفقا لما نختبره عنها . وأما تخيل أن تقل سرعة الإلكترونات أو أن تتوقف حركتها فهو فرض مؤداه انجذاب الإلكترونات السالبة نحو النواة الموجبة  فيختفي الفراغ الذري وتنهار المادة . وحتى على المستوى ما تحت الذري ( subatomic ) فان الحركة هي سيدة الموقف ، ففي نظرية  الأوتار الفائقة  ( super string theory ) ، يتكشف أن المكونات الذرية الدقيقة ، مثل الالكترونات والبروتونات والنيوترونات ، وغيرها ، ما هي الا أوتار دقيقة من الطاقة ، في حالة من التذبذب والحركة ، ووفقا لطبيعة وشكل هذه الحركة وشكل الوتر ، تبدو الثمرة النهائية ، ما اذا كانت الكترونا أو بروتونا أو مكون ذري آخر . تطورت هذه النظرية ، واتخذت صورا وأشكالا عدة ، ليعي الانسان ، في النهاية أن التصور النهائي للكون - أو صياغة نظرية فيزيائية لكل شيء -  (  theory of everything )  يقودنا الى إدراك أن الكون سيمفونية رائعة تعزف عل أوتار فائقة الدقة ، هي البنية الحركية للكون . هذه هي النظرية الموحدة التي اجتمعت فيها نسبية أينشتين - التي تتعاطى مع المستوى الماكرو - مع ميكانيكا الكم ، التي تتعاطى مع المستوى الميكرو .
والأمر المدهش ، حقا ، هو اتفاق الفلسفة مع الفيزياء النظرية الحديثة ، مع لاهوت الآباء ، لاسيما أثناسيوس ، في أن الكون هو سيمفونية .
أما قمة نضج الرؤية الفيزيائية للكون - والتي تتلامس بحق مع الفلسفة ومع اللاهوت - فهي النظر  إلى الكون على أنه مجال ومحيط من الوعي الموحد   unified field of consciousness ) ) كل منظومة القوانين الطبيعية ، المحركة للكون ،  كل قوانين الفيزياء إنما تصب في محيط الوعي الكوني الموحد . ليس هذا فقط بل أن فيزيائيا ملهما مثل الدكتور جون هاجلين (john hagelin  )  قد أدخل الوعي البشري طرفا أساسيا وجعله يصب في المجال الموحد عن طريق التأمل الفائق (   transcendental  meditation )  .
تتعدد اجتهادات وإبداعات الفيزيائيين للإجابة على سؤال الكون ، فتتضارب المعادلات الرياضية والنماذج فتصبح الإجابات أمهات شرعيات لأسئلة أكثر،  ليبدو الأمر كما لو كانت الإجابة الشافية أفقا بعيد المنال . يتساءل فريق عن ما إذا  كنا نعيش في كون من ضمن منظومة أكوان كثيرة ( multiverse  ) . هل كان الانفجار الكبير الذي تطور منه كوننا هو الانفجار الوحيد أم أن هناك عددا ضخما – وربما لانهائيا من حدث الانفجار الكبير ( multi big bang theory ) ، وعليه فهل كان انفجارنا الحلقة الأخيرة في سلسلة الانفجارات أم أن  ثمة انفجارات تحدث هناك بعيدا ؟. هل يوجد مايمكن أن نطلق عليه عوالم متوازية ( parallel  universes  ) ؟. وبفرضية وجودها ،كيف يمكن رصد تلك الأكوان الأخرى  ؟ أليس هذا يبدو مستحيلا  ؟
غير أن أمرا لايمكن  التشكيك فيه من قريب أو بعيد -كشفرة لحل لغز الوجود النسبي ( الكون ) – هو حقيقة أن الحركة هي البنية التحتية والخلفية لوجود الكون ، هذا فضلا عن مايمكن رصده من حركة ظاهرة في الكون ، من قبل الإنسان . واقع الحال هو أن الهاجس الوحيد والنهائي الذي يحرك الفيزياني في إجاباته عن اسئلة الكون – سواء عن وعي أو عن غير وعي - هو الحركة التي في الخلفية ، تفرض ذاتها عليه ، تفاجئه في النموذج ، تطل عليه من المعادلة الرياضية . إنه إذن حصار مفهوم الحركة للذهنية الفيزيائية ، حصار لافكاك منه . ونحن هنا لانخص  - فقط - فيزيائيي نهاية القرن العشرين  وأوائل الحادي والعشرين ، بل إذا عدنا إلى فجر الاجتهاد الفيزيائي ، في مرحلة ماقبل سقراط عند اليونانيين  ، لوجدنا  نظرية ذرية للفيلسوف" ديموقريطوس   460  -360 ق.م" ( يقول فيها :  "  إن الذرات في الأساس جسيمات صغيرة ليست لها نوعية معينة، أما الفراغ، فهو المكان الذي تتحرّك فيه منذ الأزل، وهي في حركتها إما أن تتشابك بشكل ما أو تتصادم بحيث يدفع بعضها بعضاً ثم تتلاشى من جديد " .
إذن ، الحركة النسبية هي الحد الأدنى الوجودي (  ontological  ) الضروري لوجود الكون النسبي . الحركة هي عتبة الوجود ( إذا جاز التعبير).  
2- هذا ، وفضلا عن الحركة على المستوى البنيوي للمادة ( micro  ) فإن الحركة  على المستوى الكوني الضخم ( macro  ) ليست دربا من الحركة الساذجة العشوائية التائهة في الفراغ حسبما يتيسر ، فنحن بصدد حركة رشيدة ذكية غائية . الحركة النسبية  هي حركة تطور الوعي الكوني في مسار حتمي ينتهي بالوجود الإنساني . هذه هي العبارة المفتاحية التي تكشف عن رؤيتي لقصة  وجود الكون ، تلك الرؤية التي تتقاطع مع  ثلاثة مفاهيم أساسية : اولها  المبدأ  الأنثروبي( الإنساني ) القوي  ) strong anthropic principle  ) ، الذي أدخله إلى طاولة الجدل الفلسفي براندون كارتر ( Brandon carter ) بحلول 1973م  . وثانيها فلسفة وفيزياء الوعي  ( consciousness ) ، وثالثها مفهوم متسع  مستلهم من نظرية التطور .
   تكشف معادلة  أينشتين ( E=mc² ) - وهي المعادلة الأشهر في القرن العشرين – أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة وكأن المادة هي الطاقة المجسدة ، والطاقة هي المادة المحررة . الطاقة هناك في خلفية وأعماق المادة تقوم بتفعيل القوانين الفيزيائية ،  وهذه البنية التحتية القانونية الذكية الديناميكية للمادة هي مانطلق عليه مصطلح " الوعي " . وقد ولد الوعي الكوني بعد ثلاث دقائق فقط من انطلاق الانفجار الكبير بعد أن تغيرت ظروف المفردة ( singularity ) التي كانت بمثابة المقبرة لكل قوانين الفيزياء ، وحينئذ فقط ظهرت منظومة القوانين الفيزيائية كاملة ، ظهرت مفعلة  في كم هائل من الطاقة ، وظهرت المادة ممثلة في عنصري " الهيليوم والهيدروجين " . القوانين الفيزيائية والثوابت الكونية الأساسية التي ظهرت آنذاك هي ذاتها القائمة في كل مكان في الكون منذ تلك اللحظة وحتى الآن ، أي بعد حوالي أربعة عشر بليونا من السنين  ، وهي ذاتها التي تحكم كوكبنا المدلل في هذا الكون . ظل الوعي الكوني يتعقد ويتراكب إلى أن ظهرت المجرات  . الملايين من المجرات  -وربما المليارت  -  كان من ضمنها مجرتنا ، التي تتضمن الملايين  - وربما المليارات – من النجوم والمجموعات النجمية ، التي من ضمنها مجموعتا الشمسية ، التي من ضمنها الأرض ، المهيأة لظهور الحياة البيولوجية . ظهور الأرض بكل خصائصها المواتية لظهور الحياة هو الحلقة ماقبل الأخيرة من مسلسل تطور الوعي الكوني ويأتي تطور الحياة على  الأرض - الذي ترصده نظرية داروين للتطور ( evolution theory  ) –  ليمثل الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل ، بينما يمثل حدث ظهور الإنسان  - ووجوده على وجه الأرض-  المشهد الأخير والرئيس ( master scene  ) في هذه الحلقة بل وفي المسلسل كله ، فالإنسان هو قمة الوعي الكوني . هذا هو المسار الحتمي  للوعي الكوني المؤنسن (   Humanized Cosmic Conciousness) . وعلى الفيزيائيين والفلاسفة ان يختاروا بين أمرين أولهما أنسنة مسار الوعي الكوني،    وثانيهما هو خيار متاهة النظريات والنماذج والمعادلات والاحتمالات ، اللانهائية ، من دون الحصول على الإجابة الشافية على سؤال الكون ." الله لايلعب النرد "، عبارة شهيرة لأينشتين كانت بمثابة صرخة اعتراض في وجه فوضى الاحتمالية التي بشرت بها ميكانيكا الكم (  quantum mechanics  )  . ورسالة أينشتين – الذي أمضى أكثر من نصف عمره في البحث عن نظرية لكل شيء ، وقضي دون تحقيق ذلك – هي أن نظرية موحدة بخصوص الكون من الممكن أن لا تتناقض مع مفهوم السببية ( causality  ) ، ولاتتماهى مع متاهة الاحتمالية (  probability  ).  
 مجدي داود