مقدمة
الحركة ، وما أدراك مالحركة !
إنني أتعجب أشد التعجب من أن نفرا
من الفلاسفة أو من المفكرين لم يلتفت - وكان
من المفترض له أن يلتفت - إلى أهمية مفهوم
الحركة كبنية لكل شيء ، ونستطيع أن ندعي بأن مفهوم الحركة هو الشفرة السرية التي تفتح بها خزائن المعرفة الإنسانية . والحركة كما نختبرها في عالمنا المادي ليست هي جل
مانقصد بمفهوم الحركة ، وأن كانت الحركة في عالمنا مجرد نمط من أنماط مانقصد من مفهوم
أوسع للحركة . والحركة كما نقصدها لا تختزل
في المادي بل تمتد إلى الميتافيزيقي وأيضا إلى مابينهما أي الديني والصوفي . وبعد، فهذه مقالة فلسفية لاهوتية أو لاهوتية فلسفية
، وليس هناك مايؤرقنا من دمج الفلسفي بالديني شريطة أن نعي جيدا الحدود الفاصلة بين
الأنساق المعرفية المختلفة . ولتفسير العبارة الاخيرة نقول بأن المعرفة الإنسانية تبدأ
بنسق – هو الحد الأدنى المعرفي – هو العلم الطبيعي التراكمي بقوانينه واكتشفاته وسبره لأغوار كوننا المادي ، ثم تأتي الفلسفة لتشتبك مع
أحدث معطيات العلم الطبيعي – والتي تشكل رؤية للكون لايمكن تجاوزها – تشتبك كعباءة أكثر رحابة ومجالا للرؤية
فتتجلى أمام أبصارنا المعرفية صورة أكثر وضوحا
للكون . ثم يأتي اللاهوت ليكون في مقدرته – إذا اشتبك جيدا مع المنتج الفلسفي – أن
يقدم العباءة المعرفية الأرحب التي تعلو بالسقف المعرفي الإنساني إلى أقصى مايستطيع
الإنسان أن يعرف . أما عن عبارة " الوجود
حركة " فهي تأتي تيمنا بعبارة متشابهة معها في المبنى والمعنى وهي عبارة " الوجود
شركة " ، والعبارة عنوان لكتيب صغير للميتروبوليت يوحنا زيزيولاس قرأته قراءة
الدارس المدقق منذ نعومة أظفاري وكان له أعظم الأثر في تكوين ذهنيتي اللاهوتية
بخصوص الثالوث القدوس ، ولكن تمردا محمودا من قبل تلميذ نحو أستاذه العظيم جعلني
أشتبك مع طرح " الوجود شركة " بالحس النقدي البناء الذي أثمر بعد عقود طرحا أكثر اتساعا ورؤية أكثر شمولا هو طرح
" الوجود حركة " ، والسبب ببساطة هو أن الشركة أساسا هي شركة حركة ، فالحركة
هي السر وراء كل ماهو كائن أو بمعنى آخر الحركة سر الكينونة .
هذا طرح ربما يؤسس لما يمكن أن نطلق عليه لاهوت الحركة أو فلسفة الحركة
أو حتى لاهوت وفلسفة الحركة .
أولا : وجود الكون حركة ( الحركة النسبية )
1- ماندركه عن الحركة - في وجودنا هذا ، في كوننا هذا - هو أن الحركة لا يمكن
أن تدرك أو ترصد إلا من السكون ، فلا حركة
إلا من السكون ولا رصد للحركة إلا من
راصد ساكن بالنسبة لهذه الحركة . لذلك دعيت بالحركة النسبية ، تلك الحركة التي
لايمكن رصدها إلا من خارجها .
والحركة ( النسبية ) هى البنية الأساسية للكون .
الحركة هى المضمون النهائي المستتر وراء كل ما هو منظور في الكون . فمن المنظور الكلي
، الواسع ، للكون ( macro ) وعلى مستوى نشأة الكون وتطوره
- فقد نشأ الكون من نقطة غاية في الدقة - وفي الكثاقة وفي درجة الحرارة وفى الحركة
وفي الجاذبية - أطلق عليها الفيزيائيون : مفردة الانفجار الكبير ( big bang singularity )
، وبدءا من هذه المفردة ، انطلق الكون متوسعا ، على مدى بلايين السنين ، الى أن أصبح
على وضعه الحالي . هذا ، وسيظل الكون في حركة توسعه وتضخمه ، كبالون يستمر في انتفاخه
، الى أن يصل الى النقطة الحرجة ، التي ينفجر فيها ثانية ، في ما يعرف بالانسحاق الكبير
(big crunch ) ، فيعود الكون الى العدم ، ثانية .
هكذا فهم العلماء ، وأدركوا قصة وجود
الكون الطبيعي ، الذي ، نحن ، جزء منه . وفي مسار الحركة الانتفاخية للكون ظهرت كل
المظاهر التطورية فيه ، ظهرت المجرات ، والمجموعات النجمية ، ظهرت شمسنا ، وظهرت أرضنا
وأخيرا ظهر الانسان .
الكون كله منظومة مركبة من الحركة
النسبية ، كل الأجسام في حالة حركة ، من الذرة إلى المجرة ، حتى حارتنا الكونية الصغيرة
التي نسكنها - أقصد المجموعة الشمسية - هي منظومة حركية ؛ إذ أننا نقطن كوكبا يدور حول محوره بسرعة هائلة مرة كل يوم بينما يدور حول الشمس دورة كاملة كل سنة شمسية . إذن ، نحن أمام سيمفونية كونية ، يتم عزفها على مدى
بلايين السنين ، بينما الحركة الأخيرة من هذه المعزوفة الرائعة - والتي هي قمة العبقرية
الفنية فيها - هي ظهور الانسان . الكون ، على المستوى " الماكرو " هو حركة
هائلة ظهرت في سكون العدم ومع ظهور هذه الحركة ظهر الزمان والمكان ، ظهر الكون كما
نختبره .
وأيضا على المستوى الدقيق ( micro
) ، تبدو الحركة هي اللبنة الأساسية لطبيعة الكون . تخبرنا الذرة ( atom ) بذلك ، فالذرة - التي هي الوحدة
البنائية للمادة - ما هي الا ثمرة للحركة التي تصنعها السحابة الألكترونية حول النواة ، تلك الحركة التي تحقق الفراغ الذري ( بين النواة
والسحابة الالكترونية ) ، فندرك المادة وفقا لما نختبره عنها . وأما تخيل أن تقل سرعة
الإلكترونات أو أن تتوقف حركتها فهو فرض مؤداه انجذاب الإلكترونات السالبة نحو النواة
الموجبة فيختفي الفراغ الذري وتنهار المادة
. وحتى على المستوى ما تحت الذري ( subatomic ) فان الحركة هي سيدة الموقف ، ففي
نظرية الأوتار الفائقة ( super string theory ) ، يتكشف أن المكونات الذرية الدقيقة
، مثل الالكترونات والبروتونات والنيوترونات ، وغيرها ، ما هي الا أوتار دقيقة من الطاقة
، في حالة من التذبذب والحركة ، ووفقا لطبيعة وشكل هذه الحركة وشكل الوتر ، تبدو الثمرة
النهائية ، ما اذا كانت الكترونا أو بروتونا أو مكون ذري آخر . تطورت هذه النظرية ،
واتخذت صورا وأشكالا عدة ، ليعي الانسان ، في النهاية أن التصور النهائي للكون - أو
صياغة نظرية فيزيائية لكل شيء - ( theory of everything
) يقودنا الى إدراك أن الكون سيمفونية رائعة
تعزف عل أوتار فائقة الدقة ، هي البنية الحركية للكون . هذه هي النظرية الموحدة التي
اجتمعت فيها نسبية أينشتين - التي تتعاطى مع المستوى الماكرو - مع ميكانيكا الكم ،
التي تتعاطى مع المستوى الميكرو .
والأمر المدهش ، حقا ، هو اتفاق الفلسفة
مع الفيزياء النظرية الحديثة ، مع لاهوت الآباء ، لاسيما أثناسيوس ، في أن الكون هو
سيمفونية .
أما قمة نضج الرؤية الفيزيائية للكون
- والتي تتلامس بحق مع الفلسفة ومع اللاهوت - فهي النظر إلى الكون على أنه مجال ومحيط من الوعي الموحد unified field of consciousness ) ) كل منظومة القوانين الطبيعية ، المحركة للكون ، كل قوانين الفيزياء إنما تصب في محيط الوعي الكوني
الموحد . ليس هذا فقط بل أن فيزيائيا ملهما مثل الدكتور جون هاجلين (john hagelin ) قد أدخل
الوعي البشري طرفا أساسيا وجعله يصب في المجال الموحد عن طريق التأمل الفائق
( transcendental meditation
) .
تتعدد اجتهادات وإبداعات الفيزيائيين
للإجابة على سؤال الكون ، فتتضارب المعادلات الرياضية والنماذج فتصبح الإجابات أمهات
شرعيات لأسئلة أكثر، ليبدو الأمر كما لو كانت
الإجابة الشافية أفقا بعيد المنال . يتساءل فريق عن ما إذا كنا نعيش في كون من ضمن منظومة أكوان كثيرة ( multiverse ) . هل كان الانفجار الكبير الذي تطور منه كوننا
هو الانفجار الوحيد أم أن هناك عددا ضخما – وربما لانهائيا من حدث الانفجار الكبير
( multi big bang theory ) ، وعليه فهل كان انفجارنا الحلقة الأخيرة في سلسلة الانفجارات أم
أن ثمة انفجارات تحدث هناك بعيدا ؟. هل يوجد
مايمكن أن نطلق عليه عوالم متوازية ( parallel
universes ) ؟.
وبفرضية وجودها ،كيف يمكن رصد تلك الأكوان الأخرى
؟ أليس هذا يبدو مستحيلا ؟
غير أن أمرا لايمكن التشكيك فيه من قريب أو بعيد -كشفرة لحل لغز الوجود
النسبي ( الكون ) – هو حقيقة أن الحركة هي البنية التحتية والخلفية لوجود الكون ، هذا
فضلا عن مايمكن رصده من حركة ظاهرة في الكون ، من قبل الإنسان . واقع الحال هو أن الهاجس
الوحيد والنهائي الذي يحرك الفيزياني في إجاباته عن اسئلة الكون – سواء عن وعي أو عن
غير وعي - هو الحركة التي في الخلفية ، تفرض ذاتها عليه ، تفاجئه في النموذج ، تطل
عليه من المعادلة الرياضية . إنه إذن حصار مفهوم الحركة للذهنية الفيزيائية ، حصار
لافكاك منه . ونحن هنا لانخص - فقط - فيزيائيي
نهاية القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين
، بل إذا عدنا إلى فجر الاجتهاد الفيزيائي ، في مرحلة ماقبل سقراط عند اليونانيين ، لوجدنا
نظرية ذرية للفيلسوف" ديموقريطوس
460 -360 ق.م" ( يقول فيها
: "
إن الذرات في الأساس جسيمات صغيرة ليست لها نوعية معينة، أما الفراغ، فهو المكان
الذي تتحرّك فيه منذ الأزل، وهي في حركتها إما أن تتشابك بشكل ما أو تتصادم بحيث يدفع
بعضها بعضاً ثم تتلاشى من جديد " .
إذن ، الحركة النسبية هي الحد الأدنى
الوجودي ( ontological ) الضروري لوجود الكون النسبي . الحركة هي عتبة
الوجود ( إذا جاز التعبير).
2- هذا ، وفضلا عن الحركة على المستوى
البنيوي للمادة ( micro ) فإن
الحركة على المستوى الكوني الضخم ( macro ) ليست دربا من الحركة الساذجة العشوائية التائهة
في الفراغ حسبما يتيسر ، فنحن بصدد حركة رشيدة ذكية غائية . الحركة النسبية هي حركة تطور الوعي الكوني في مسار حتمي ينتهي بالوجود
الإنساني . هذه هي العبارة المفتاحية التي تكشف عن رؤيتي لقصة وجود الكون ، تلك الرؤية التي تتقاطع مع ثلاثة مفاهيم أساسية : اولها المبدأ
الأنثروبي( الإنساني ) القوي ) strong anthropic principle ) ، الذي أدخله إلى طاولة
الجدل الفلسفي براندون كارتر ( Brandon carter
) بحلول 1973م . وثانيها فلسفة وفيزياء الوعي ( consciousness
) ، وثالثها مفهوم متسع مستلهم من نظرية التطور
.
تكشف معادلة
أينشتين ( E=mc²
) - وهي المعادلة الأشهر في القرن العشرين
– أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة وكأن المادة هي الطاقة المجسدة ، والطاقة هي
المادة المحررة . الطاقة هناك في خلفية وأعماق المادة تقوم بتفعيل القوانين الفيزيائية
، وهذه البنية التحتية القانونية الذكية الديناميكية
للمادة هي مانطلق عليه مصطلح " الوعي " . وقد ولد الوعي الكوني بعد ثلاث
دقائق فقط من انطلاق الانفجار الكبير بعد أن تغيرت ظروف المفردة ( singularity ) التي كانت بمثابة المقبرة لكل قوانين
الفيزياء ، وحينئذ فقط ظهرت منظومة القوانين الفيزيائية كاملة ، ظهرت مفعلة في كم هائل من الطاقة ، وظهرت المادة ممثلة في عنصري
" الهيليوم والهيدروجين " . القوانين الفيزيائية والثوابت الكونية الأساسية
التي ظهرت آنذاك هي ذاتها القائمة في كل مكان في الكون منذ تلك اللحظة وحتى الآن ،
أي بعد حوالي أربعة عشر بليونا من السنين ،
وهي ذاتها التي تحكم كوكبنا المدلل في هذا الكون . ظل الوعي الكوني يتعقد ويتراكب إلى
أن ظهرت المجرات . الملايين من المجرات -وربما المليارت - كان من
ضمنها مجرتنا ، التي تتضمن الملايين - وربما
المليارات – من النجوم والمجموعات النجمية ، التي من ضمنها مجموعتا الشمسية ، التي
من ضمنها الأرض ، المهيأة لظهور الحياة البيولوجية . ظهور الأرض بكل خصائصها المواتية
لظهور الحياة هو الحلقة ماقبل الأخيرة من مسلسل تطور الوعي الكوني ويأتي تطور الحياة
على الأرض - الذي ترصده نظرية داروين للتطور
( evolution theory ) – ليمثل الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل ، بينما يمثل
حدث ظهور الإنسان - ووجوده على وجه الأرض- المشهد الأخير والرئيس ( master scene ) في هذه الحلقة بل وفي المسلسل كله ، فالإنسان
هو قمة الوعي الكوني . هذا هو المسار الحتمي
للوعي الكوني المؤنسن ( Humanized Cosmic Conciousness) . وعلى الفيزيائيين والفلاسفة ان يختاروا بين أمرين أولهما أنسنة
مسار الوعي الكوني، وثانيهما هو خيار متاهة
النظريات والنماذج والمعادلات والاحتمالات ، اللانهائية ، من دون الحصول على الإجابة
الشافية على سؤال الكون ." الله لايلعب النرد "، عبارة شهيرة لأينشتين كانت
بمثابة صرخة اعتراض في وجه فوضى الاحتمالية التي بشرت بها ميكانيكا الكم ( quantum mechanics ) . ورسالة
أينشتين – الذي أمضى أكثر من نصف عمره في البحث عن نظرية لكل شيء ، وقضي دون تحقيق
ذلك – هي أن نظرية موحدة بخصوص الكون من الممكن أن لا تتناقض مع مفهوم السببية ( causality ) ، ولاتتماهى مع متاهة الاحتمالية ( probability ).
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق