السبت، 25 مايو 2013

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 4 )


                        
                     
                       ثالثا :  موت المسيح وقيامته
   لقد كان مشهد الصلبوت المأساوي مشهدا كاشفا لعمق أعماق التدبير؛ إذ قد تكشف بجلاء شديد أن الكلمة بتجسده قد أظهر إنسانيته الخاصة إنسانية جديدة خالدة عديمة الألم والموت . ينتهي المشهد الجلل بالصرخة المدوية للمعلق على الخشبة " إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟". تفارق نفسه جسده فيموت موتنا . يوضع جسده الظاهر في القبر . ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد المأساوي ، فالأمر كله تحت سيطرة التدبير،  إذ يتجلى أن صورته الإنسانية الباطنية غير قابلة للموت ، بل ومتحدية له ، ليس على مستواه الشخصي بل على مستوى الجميع ، فينزل الكلمة إلى الجحيم  محتجبا في هذه الصورة ، فيكرز للأروح الحبيسة ويحلها من أسرها مؤسسا القيامة . وهنا يتكشف وجه آخر لما يستعلنه المشهد ، إذ قد حدث تغير جذري دراماتيكي بالنسبة لنا ، فقد حدث تحول من مشهد صليب العار إلى حقيقة وواقع الصليب المحيي  ،إذ تكرس طريق خلاص الذين يؤمنون بالمسيح وذلك حينما يقبلون أن يشتركوا في صليب وموت المسيح بفعل مماتية الروح القدس فيقومون من موتهم لينضموا إلى بكرهم وبذلك يكونون قد استقبلوا  ثمر التجسد في أجسادهم ، ويكونون قد قبلوا استحقاق ما صنعه الكلمة لجسده الخاص – عندما صار جسدا خاصا به – في أجسادهم ، وتصبح إنسانية يسوع المنتصرة رأسا لوجودهم الإنساني الجديد ، أي الكنيسة .
   78- " إنه لم يذهب إلى الجحيم بجسده بل ذهب إلى الجحيم لكي يبشر النفوس التي كانت في سلاسل العبودية، وذهب وبشر بصورة إنسانيته التي لم تخضع لسلطان الموت ، بل غلبت الموت ودحرته ، وهكذا كان حاضرا مع الموتى لكي يصور أساس القيامة ويحطم السلاسل التي كانت تربط النفوس الأسيرة في الجحيم . وهكذا أعلن أنه خالق الإنسان ومصوره، والذي حكم على الإنسان بالموت، جاء وبحضوره في الصورة الإنسانية ، وبإرادته وحده حرر الإنسان من حكم الموت ، لأن الموت لم يستطع أن يقوى على نفس المسيح الإنسانية التي اتحدت باللوغوس، بل عجز الموت عن أن يستعبدها، ولا استطاع الفساد أن يذلها أو يأسرها، ومع أن الموت فصل النفس عن الجسد، إلا أن الفساد لم يتجاسر على أن يقترب من أيهما لأن كل الذي حدث ، إنما كان تحت السيطرة الإلهية وعنايتها ". ( تجسد ربنا يسوع المسيح : 14 )

" صورة أو "  morphi " تعني الصفات والمميزات والخصائص التي تكون الكائن ولذلك قيل أن المسيح كان في صورة الله أي له ذات صفات وخصائص الله، وبالاتحاد بين اللاهوت والناسوت صارت الصورة الإنسانية في المسيح غير قابلة للموت وهو ما جعل بشارة المسيح في الجحيم أساسية لكي ينزل إلى مجال الموت بنفسه الإنسانية وهناك يصور أو يخلق القيامة ويطلق سراح الاسرى من البشر ". (     تعليق د/ جورج حبيب  على النص ، هامش ص35  )
    79- " إن الجحيم لم يكن يستطيع أن يحتمل ظهور اللاهوت غير محجوب في النفس الإنسانية "( تجسد ربنا يسوع المسيح : 17 )
   80- " وهكذا " بنفس " الآلة، انحلت قبضة الموت، والقيامة من الجحيم تمت، والأرواح الأسيرة سمعت البشارة المفرحة، "وبجسد" المسيح أبطل الفساد وسطع عدم الفساد من القبر. وهكذا لم ينفصل الإنسان عن الله ولا تخلى الله عن الإنسان ، ولا بالموت وانفصال الروح كان اللاهوت قد فارق الجسد وإنما فارقت النفس الجسد وبذلك تم موتنا نحن .( ظهور المسيح المحيي : 15)
        ملحوظة : استخدم المعرب  مفردات " اللاهوت " و" الناسوت " بدلا من " الله "و "الإنسان " ، ثم عاد واستدرك في الهامش موضحا أن الأصل الوارد في النص اليوناني هو " الله والإنسان ". والأمر في الصيغة الأصلية ذو دلالة مهمة ، فما يتحدث عنه أثناسيوس هو إنسانية يسوع الكاملة بظاهرها وباطنها وإن كان الجسد قد " ترك" من اللاهوت ووضع في القبر فهذا لايعني أن كيان يسوع الإنساني قد خضع للموت أو هزم منه ، فحياته الإنسانية ( الصورة الإنسانية ) التي تعبر عن كل إنسانيته لم تهزم بل على العكس قد نزلت إلى الجحيم لتبشر المسبيين بالعتق من عبودية الموت وتؤسس لهم القيامة ليلحقوا ببكرهم الرب يسوع نفسه .
   81- " هذا الجسد هو الذي وُضِعَ في قبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك " ليكرز للأرواح التى في السجن " كما يقول بطرس  ". ( الرسالة إلى أبكتيتوس: 5 )
   82- " وهكذا حيث ساد الفساد على جسد الإنسان ، قدم يسوع جسده، وعندما ربطت النفس الإنسانية بقوة الموت، قدم يسوع نفسه، فاستطاع الذي لا يمكن أن يربطه الموت أن يكون حاضرا كإنسان وأن يفك رباطات الموت كإله . وحيث زرع الفساد ، ينمو عدم الفساد، وحيث ملك الموت على الصورة الإنسانية أي النفس،يحضر عديم الموت والذي يعطي الخلود وبذلك يجعلنا شركاء في عدم فساده وعدم موته بالرجاء في القيامة من الموت، وهكذا تم الخلاص عندما " لبس الفساد عدم الفساد والمائت عدم الموت". " وكما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم ، وبالخطية الموت، هكذا بإنسان واحد يسوع المسيح تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية"( تجسد ربنا يسوع المسيح : 17 )
   يمثل مشهد الصليب ، المعقوب بالقيامة ، أفضل مثال لخاصية أخرى تضطلع بها علامات وإعلانات التدبير المختلفة ،وهي دلالة المشهد كلغة منطقية يخاطب بها العقل البشري ، حتى مايتم ضخ الحد الأدنى المعرفي بخصوص التدبير . لذلك نجد القديس أثناسيوس حينما يحاجج بخصوص موت الرب وقيامته فهو يستخدم  الألفاظ التي تتعامل مع منطقية العقل البشري مثل : الواضح والمعلن والدليل والبرهان والشك والظن وما هو لائق وما هو غير لائق وما هو معقول ..الخ
إذن أي مشهد من مشاهد التدبير يحمل رسالة ولغة خطاب معينة تتوافق مع العقل البشري وبالتالي توصل الحقيقة الإيمانية اللاهوتية في صيغة منطقية إنسانية تتوافق مع الحد الأدنى للإدراك البشري . هذا فضلا عن إظهار التطابق بين تفاصيل المشهد وبين النبوات القديمة . وفي حالة الصليب والقيامة نجد أن القديس أثناسيوس يتجاوز مجرد انحصار توجه الخطاب التدبيري ( إذا جاز التعبير) إلى المؤمنين بل يجده خطابا صالحا للكرازة ، أي الخطاب الذي يوجه لغير المؤمنين :
   83- "... أما التدبير فهو واضح ومعلن في الصليب لأن جسده ظهر أنه جسد حقيقي بواسطة سكب دمه، وعندما صرخ بصوت عال ، أعلن عن نفسه الإنسانية التي أسلمها دون ان تنفصل عن اللاهوت ، وإنما بخروج نفسه مات الجسد، أما اللاهوت فلم يفترق من الجسد في القبر ولا من نفسه في الجحيم ، وهذا هو معنى الكلمات التي نطق بها فم النبي " لن تترك نفسي في الهاوية ولن تدع قدوسك يرى فسادا ". ( ظهور المسيح المحيي: 14 )
   84-" ولو أنه وَضَعَ جسده (للموت) فى مكان خاص وعلى فراش كما يموت البشر عادة، لكان الناس قد ظنوا أنه ذاق ذلك (الموت) بسبب ضعف طبيعته، ولظنوا أيضًا أنه لم يكن فيه ما يميّزه عن سائر البشر". ( تجسد الكلمة  21: 5 )
   85- " ولماذا إذن لم يمنع حدوث الموت كما منع المرض من أن يسيطر (على الجسد)؟ ذلك لأنه لأجل هذا (الموت) اتخذ الجسد، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تتعطل القيامة أيضاً. ولم يكن لائقًا أيضًا أن يسبق المرض موته لئلا يُظن أن ذاك الذى كان في الجسد كان ضعيفًا ". (  تجسد الكلمة 21: 7 )
   86- " ومرة أخرى نقول لو أن جسده كان قد مات نتيجة تعرضه للمرض وانفصل عنه الكلمة أمام نظر الجميع لكان غير لائق بمن شفى أمراض آخرين أن يترك أداته الخاصة (جسده) يموت بسبب المرض. فكيف يُصدّق المرء أنه كان يشفى أمراض الآخرين إن كان هيكله الخاص قد تعرّض للمرض ؟ "( تجسد الكلمة 22: 5 )
   87- " وحتى ولو لم يكن به أي مرض أو وجع، وافترضنا أنه هو نفسه قام بإخفاء جسده "فى زاوية" أو فى صحراء أو منزل، أو أي مكان آخر، ثم بعد ذلك ظهر فجأة قائلاً أنه قام من بين الأموات، وتراءى للجميع أنه يتكلّم بكلام هذيان ولَمَا صدقوا ما قاله عن القيامة، لأنه لم يكن هناك أي شاهد على موته.  فالموت لابد أن يسبق القيامة، لأنه لا يمكن أن تكون هناك قيامة ما لم يسبقها موت ". (تجسد الكلمة 23: 1 )
   88-  " ولماذا يجعل موته سرًا إن كان، بعد ما قام، أعلن قيامته جهارًا؟ .. فلماذا لا يُظهِر أمام الجميع عدم فساد جسده الذى كان قابلاً للموت، لكى يؤمن الجميع أنه هو "الحياة" ؟ " ( تجسد الكلمة 23: 2 )
   89- " وكيف يكون لتلاميذه الجسارة على أن يتكلّموا عن القيامة إن كانوا لا يستطيعون أن يقولوا إنه مات أولاً؟ أو كيف يمكن أن يُصدِّق أحد قولهم إن الموت حدث أولاً ثم بعد ذلك القيامة لو لم يكن هناك شهود على موته من بين الذين يكلّمونهم؟ " ( تجسد الكلمة 23 : 3 )
   90- " وكيف كان يمكن تقديم البرهان على إبطال الموت والانتصار عليه لو لم يكن قد واجه الموت أمام أعين الجميع وأظهر أنه ميت، وأنه سيتلاشى كلية في المستقبل، وذلك بواسطة عدم فساد جسده ؟ "( تجسد الكلمة 23: 5 )
    91- " إذًا فقد كان الموت من أجلنا على الصليب لائقًا وملائمًا. وقد اتضح أن سببه كان معقولاً من جميع الوجوه، ومن الحق أن يقال إنه لم تكن هناك طريقة أخرى يتحقق بها خلاص الجميع سوى الصليب. لأنه حتى على الصليب فإنه لم يجعل نفسه مختفيًا بل بالحرى فإنه جعل الطبيعة تشهد لحضور خالقها، وبعد ذلك لم يَدَع هيكل جسده يظل وقتًا طويلا ميتًا، إلاّ بالقدر الذى أظهر فيه أن الجسد مات باحتكاك الموت به، ثم أقامه حالا فى اليوم الثالث، حاملا عدم الفساد وعدم التألم اللذين حصلا لجسده، كعلامة للظفر والانتصار على الموت. " ( تجسد الكلمة 26: 1 )
   92- " ولقد كان يستطيع أن يقيم جسده بعد الموت مباشرة، ويظهره حيًا، ولكن المخلّص بحِكمَة وبُعد نظر لم يفعل ذلك لأنه لو كان قد أظهر القيامة فى الحال لكان من المحتمل أن يقول أحدهم إنه لم يَمُتْ بالمرة أو إن الموت لم يلمسه بشكل كامل ". ( تجسد الكلمة 26: 2 )
   93- " وربما لو حدثت القيامة فى اليوم التالي للموت مباشرة لما ظهر مجد عدم فساد جسده. ( تجسد الكلمة 26: 3 )
   94- " ولكن لو أنه أقام الجسد بعد أن بقى فترة طويلة، وبعد أن فسد تمامًا، فقد يُشَك فيه كأنه قد استبدل جسده بجسد آخر... لهذا السبب فإن الرب لم ينتظر أكثر من ثلاثة أيام " . ( تجسد الكلمة 26: 5 )
  95- ولكن بينما أقواله لا تزال تَرِنْ فى آذانهم، وعيونهم لا تزال في حالة توقع وعقولهم معلّقة حائرة، وإذ الذين قتلوه لا يزالون أحياءً على الأرض وفى المكان نفسه، ويمكن أن يشهدوا بموت جسد الرب؛ فإن ابن الله نفسه ـ بعد فترة ثلاثة أيام ـ أظهر جسده الذى قد مات غير مائت وعديم الفساد. وقد اتضح للجميع أن الجسد قد مات ليس بسبب أي ضعف فى طبيعة الكلمة الذى اتحد بالجسد، بل لكى يُباد الموت فيه (في الجسد) بقوة المخلّص.( تجسد الكلمة 26: 6 )
   96- "... وإن كان المسيح قد أمات الموت فماذا كان ممكنًا أن يحدث  إلاّ أن يقيم جسده ويظهره كعلامة للنصرة على الموت؟ أو كيف كان ممكنًا إظهار ما لم يكن جسد الرب قد قام؟   (تجسد الكلمة 30: 2 )
    97- " الكتب المقدسة أيضًا لم تصمت عن ذكر موته، بل على العكس أشارت إليه بوضوح تام. ولكي لا يتشكك أحد بسبب نقص المعرفة للأحداث الفعلية، فإنها لم تخش أن تتحدث عن سبب موته... كما تحدثت الكتب عن مؤامرات اليهود ضده وما لاقاه من إهانات منهم ". (تجسد الكلمة 34: 1 )
   98- " لأن موسى هو أول من تنبأ عنه بصوت عالٍ قائلاً: "وترون حياتكم معلقة أمام أعينكم ولا تؤمنون" ومن بعده شهد الأنبياء قائلين: "وأنا كحمل برئ يساق إلي الذبح ولم أعلم أنهم تآمروا عليّ قائلين تعالوا لنلقى على خبزه شجرة ونقطعه من أرض الأحياء" . ( تجسد الكلمة 35 : 2 )
   99- " وأيضًا " ثقبوا يدي ورجلي، وأحصوا كل عظامي، اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا القرعة" .( تجسد الكلمة 35 : 3 )
   100- " فالموت الذي يُرفع فيه الإنسان إلى فوق في الهواء ويُعلّق على خشبة لا يمكن إلاّ أن يكون موت الصليب. وأيضًا اليدان والرجلان لا تثقبان في أى موت سوى موت الصليب".( تجسد الكلمة 35 : 4 )
                            خلاصة 
     كيف ندرك المدلول اللاهوتي لإعلانات ( مشاهد ) التدبير المختلفة ، من ميلاد الرب في مزود للبقر و نموه في القامة ومسحته في مياه الأردن وصلبه وقيامته وصعوده ؟ اعتقد أنه قد بات واضحا من خلال النصوص السابقة أننا  نستطيع أن نرصد إشارات واضحة عند أثناسيوس بخصوص   المدلول العميق لمشهد تدبيري ما ، من خلال النقاط الحاكمة الآتية :
  أولا: التجسد هو النقطة الحاكمة الأم؛ فمحورية التجسد أمر أساسي حاكم في أمر تدبير خلاصنا . ولا يوجد أي ثمر يرتجى أو نعمة تبتغى ، خارجا عن ما قد حدث لجسد الكلمة الخاص الصائر رأسا ومنبعا للنعمة .
  ثانيا : الإعلان التدبيري كاشف لواقع يسوع ، منشئ لواقع الكنيسة : 
    مشهد الولادة
     يكشف أن يسوع الإنسان مولود كرب للحياة الأبدية قبل أن يولد في المذود، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في حياة الكلمة بفضل الوحدة الأقنومية معه، وهذه هي شهادة أليصابات تؤكد هذ الأمر، إذ قد شهدت بأن العذراء- التي ماتزال حبلى ، في ذلك المشهد - هي أم الرب (  لو1: 43). وبالتأكيد لم تكن أليصابات تشيير إلى ربوبية الكلمة ، في لاهوته العاري ، بل إلى الكلمة المتجسد الذي بالفعل كان قد ظهر متجسدا مع ظهور الجنين في رحم العذراء ، فالكلمة لم يصر ربا،  في ذلك الحدث، إلا بظهوره متجسدا. أيضا لايمكن أن يطلق على العذراء أنها أم الرب إلا حينما صار الكلمة جسدا، وهو بالفعل قد حل بيننا ( فينا ) بمجرد ظهوره جنينا في رحم أمنا المطوبة . هذا بالإضافة إلى أن مشهد ولادته   يكرس بدايتنا نحن للحياة الجديدة وولادتنا من فوق وتبنينا للآب السماوي بالشركة في ابنه المتجسد في الروح القدس. ولذلك نحن نستدعي كل عام مشهد ولادته كمناسبة للاحتفال والفرح بولادتنا الجديدة التي كشفها ميلاد الكلمة المتجسد في تاريخنا .
   مشهد المسحة في الأردن
    يكشف أن يسوع الإنسان ممسوح بالروح قبل أن يدلف إلى مياه الأردن ، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في وحدة أقنومية مع من يهب روح المسحة . وإذا كان الإنسان يسوع واحدا مع الابن فهو في ذات الحدث واحد مع الآب ومع الروح ، لأن الشخص ( من شخوص الثالوث ) لايحضر منفردا بل في شركة مع الشخصين الآخرين ، وبينما الإنسان يسوع كائن في وحدة أقنومية مع الابن ، فهذا يعني أنه في وحدة مع من هو في ضمنية متبادلة مع الآب والروح .
 أيضا معمودية الأردن - وظهور الروح مثل حمامة ، وسماع صوت الآب " هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " - تكرس مسحتنا نحن ككنيسة ، وصيرورتنا موضوعا لمسرة الآب باجتماعنا كأعضاء في جسد ابنه . فلم يكن الآب - في الأردن - مخاطبا للابن - في لاهوته العاري ( naked )- بل كان مخاطبا الابن الظاهر في كنيسته المكتملة ، لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد معمودية الرب كمناسبة للاحتفال والفرح بمسحتنا فيه.
   مشهد الصليب
   يكشف أن يسوع الإنسان مصلوب قبل أن يعلق على الخشبة، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي سمرت فيه كل أهواء البشرية وميولها الردية وإرادتها الضعيفة المنحرفة ، بفضل الكلمة الكائن معه ، في وحدة أقنومية لا تسمح  بأي عزلة أو خطية أو شر .
هذا بالإضافة إلى أن مشهد الصلبوت المهيب يكرس لنا طريقا للخلاص بالشركة في آلام وموت الرب المحيي الذي نجتازه معه من خلال مماتية الروح القدس ، فنصلب الجسد مع الأهواء والشهوات   ، نصلب العتيق ، فيموت معه ،على حساب خلقة الجديد . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد آلامه وموته للاحتفال بصليبه المحيي الذي كشفه لنا في ذلك الزمان ، كطريق لفصحنا نحو الحياة وعدم الموت .
   مشهد القيامة
    يكشف أن يسوع الإنسان منتصر على الموت قبل أن يعلن ذلك في اليوم الثالث لموته ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الشريك في حياة الكلمة ، بفضل الوحدة الأقنومية التي تجمعهما  في شخص واحد .
هذا بالإضافة إلى أن مشهد القيامة يكرس ويدشن قيامتنا فيه وبه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد قيامته المظفرة للاحتفال بقيامتنا معه  بتدبير ظهور  باكورة قيامتنا وخلودنا ، الرب القائم ذاته .
   مشهد الصعود
   يكشف أن يسوع الإنسان صاعد إلى السماء قبل أن يرتفع وسط دهشة تلاميذه الشاخصين إليه ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي كان ظهوره كاشفا لنزول الكلمة إلى عالمنا ، ونزول الكلمة إلى الإنسان يعني صعود الإنسان في الكلمة إلى الآب .
 إذن بالإضافة إلى أن مشهد الصعود يكرس بدء زمن صعودنا فيه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد صعوده لنحتفل بتكريس صعودنا فيه إلى الآب ، فهاهي بشارة المجدلية إلى التلاميذ ، والتي حملت إياها من قبل الرب القائم  " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"( يو20: 17 )، فهو يصعد مرتين ، مرة حينما صعد منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بينه وبين الكلمة ( إلى أبي ، إلى إلهي )، ومرة ثانية حينما يصعد كنيسته فيه إلى الآب ( إلى أبيكم ، إلى إلهكم ).  هكذا يكشف هذا المشهد  صعود إنسانيته بفضل التجسد ، ويدشن صعودنا بفضل إنضمامنا إليه.
  ثالثا : الإعلان التدبيري يشير إلى الحدث كاملا ، ولا مجال للرؤية التكاملية بين المشاهد المختلفة ؛ فلم نرصد أن أثناسيوس قال بتكامل مضامين المشاهد المختلفة ، مثل تكامل مضمون الصليب  مع مضمون مسحة الأردن ، مثلا ،  بل أن كل مشهد يكشف  مضمون تدبير التجسد كاملا . فالمسحة كشفت صيرورة الكلمة مسيحا حينما صار جسدا ، ولم يكن من الممكن أن يلقب بالمسيح مالم يكن قد ارتدى جسدنا . والصليب كشف عن الصورة الإنسانية عديمة الفساد التي صارت فيه منذ اول لحظة للتجسد . فلا يحتاج يسوع أن نحسب له رصيدا ما  قد حصل عليه بالمسحة ، ثم يضاف إليه ما قد حصل عليه بالصليب ، ثم القيامة والصعود إلى أن يبلغ ما ينبغي أن يبلغه . هذا وهم لا ينبغي أن ننزلق إليه ، والقديس أثناسيوس لا يعرف ترقيا حصل عليه يسوع ، الكلمة المتجسد ، غير نمو قامته بيولوجيا ، ونمو وعي معاصريه به كإله . ولقد كان من الضروري لأثناسيوس بحسب أسلوبه في الكتابة – في سياق دحضه لقول الهراطقة بأن الكلمة قد ارتقى كأجر فضيلة – أن يقرر صراحة بأن الذي ارتقى – بطريقة تدريجية تراكمية - هو جسد الكلمة الخاص ، وعليه تكون إنسانيته -وفقا لهذا الطرح -  قد ارتقت وتجددت صائرة عديمة الموت. ولكنه لم يقل بذلك ولم يشر من قريب أو بعيد إلى ذلك ، بل على العكس فقد قرر القديس أثناسيوس أن الترقي هو التحرر من الخطية ، إذن فكيف يستقيم هذا الأمر بخصوص من هو بلا خطية منذ بداية ظهوره بيننا ؟ الأمر الصحيح إذن هو أن الترقي والتطور الذي أحدثه الكلمة في جسده الخاص هو حدث نوعي ( كيفي ) وليس فعلا تراكميا ، وهو قد حدث بالفعل لجسد الكلمة الخاص ، منذ أن صار جسدا خاصا بالكلمة .خلاصة الخلاصة: كل مشهد من مشاهد التدبير-  بمفرده -  هو مجرد لغة تخاطب البشر بقدر إدراك عقولهم، لتكشف عن الواقع النعموي الكامل الكائن في جسد يسوع ( كثمرة للتجسد ) منذ أول لحظة للتجسد، وتكشف عن ماسيكون كامتداد لهذه الثمرة ، من نبع النعمة ورأسها الرب يسوع إلى باقي أعضاء جسده أي الكنيسة.   
                    المصادر المرجعية
  -    تجسد الكلمة – ترجمة د/ جوزيف موريس فلتس
  -   المقالات ضد الآريوسيين - مؤسسة  القديس أنطونيوس  - مركز دراسات الآباء
 -   تجسد ربنا يسوع المسيح – مؤسسة  القديس أنطونيوس- تعريب د / جورج حبيب يناير  
 -   ظهور المسيح المحيي- مؤسسة القديس أنطونيوس-  - تعريب د/ جورج حبيب
 -   الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي - مؤسسة  القديس أنطونيوس - مركز دراسات الآباء
 -  رسالة أبينا القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس المعترف ضد الآريوسيين ( موقع الموجة القبطية )
 -  رسالة أبينا القديس أثناسيوس الرسولى إلى أبكتيتوس ضد الهراطقة ( موقع الموجة القبطية )
مجدي داود

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 3 )


                          مشاهد ( إعلانات) تدبير التجسد
                              أولا :   الترقي ( النمو )
  في إطار دفاع القديس أثناسيوس عن الإيمان المستقيم ضد الهراطقة القائلين بعدم أزلية الابن ، يقوم بالتفنيد المستميت لانحرافاتهم بخصوص تأويل وشرح بعض الآيات التي تحمل معنى النمو والتقدم والترقي، والتي يدعون بخصوصها أنها تشير إلى ترقي الكلمة إلى وضع لم يكنه قبل التجسد . ويحاجج أثناسيوس موضحا بأن المقصود من الترقي الذي تقصده الآيات هو ما حدث لجسد الكلمة الخاص حينما صار جسدا خاصا بالكلمة ، صائرا باكورة لترقية الجميع ، من الموت إلى الحياة ، ومن العار إلى المجد، ومن الطبيعة الحيوانية إلى الطبيعة الروحانية . باختصار،  نحن الذين ارتقينا وارتفعنا .والملحوظة شديدة الأهمية ، هنا ، هي أن القديس أثناسيوس- في سياق دحضه لهرطقة ترقي الكلمة – لم يشر بأي حال من الأحوال إلى أن الأمر يخص أي تقدم أو نمو تراكمي للإنسان يسوع في الروحانية والشركة في الطبيعة الإلهية أي التأله. وقد كانت الفرصة مواتية بل كان الأمر شديد الورود بل واجب الحديث فيه ، كأن يقول مثلا :" الكلمة لا ينمو ولا يرتقي لأنه لا يحتاج إلى ذلك بل إن إنسانه الداخلي ، جسده الخاص هو الذي ظل ينمو في النعمة وفي الروحانية وفي التأله ، يوما بعد يوم إلى أن وصل إلى المجد الذي أراده له الكلمة فظهر إنسانا جديدا منتصرا على الموت  ، بالقيامة ". ولكن أثناسيوس لم يقلها بل على  العكس فإننا لا نفهم من النصوص  إلا أنه لا يوجد في الكلمة المتجسد ما قد رفع ( بتشديد الفاء ) كمكافأة ولكن من قد رفع هو نحن  .إذن الترقي الحادث هو تغير نوعي ( كيفي ) قد حدث للإنسان ، بتغيير واقعه الوجودي من النقيض إلى النقيض حينما اتحد بالكلمة في شخص الرب يسوع المسيح :
    59- " ... فإن كان هو هكذا، كما يقول هؤلاء، فيتضح أنه لم يكن له اسم "ابن" منذ البدء، ان كان قد حصل على هذا الاسم كمكافأة على أعماله وتقدمه، أى أنه حصل على هذه المكافأة ليس بسبب تقدم آخر، بل بسبب ما أظهره عندما صار انساناً، وأتخذ صورة عبد، لأنه عندئذ، حينما صار "مطيعاً حتى الموت" فإنه كما يقول النص "مجده مجداً عالياً. وحصل على الاسم كنعمة. "لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة".
فماذا إذن كان قبل هذا ، إن كان الآن يرتفع، وقد بدأ الآن أن يعبد، والآن دعى أبناً عندما صار انسانا؟ لأنه   يبدو أن الجسد لم يترق (بفتح القاف) قط، بل بالأحرى أنه هو الذى ترقى بواسطة الجسد. فإن كان قد مجد مجداً عالياً وسمى ابناً عندما صار انساناً – وذلك بحسب سوء نيتهم – فماذا كان إذن قبل هذا؟ – فهناك حاجة ملحة أن نسألهم مرة أخرى – وذلك لكى تتضح النتيجة التى يصل إليها كفرهم، لأنه أن كان الرب هو الله وهو الابن وهو الكلمة. ولكنه لم يكن هكذا قبل ان يصير إنساناً، عندئذ كما قلنا – أما أنه كان شيئاً آخر غير هذه (الصفات). ثم اشترك فيها بعد ذلك بسبب فضيلته. وإلا فأنهم مضطرون أن يقولوا البديل – (الأمر الآخر) الذى سيرتد على روؤسهم وهو أنه لم يكن موجوداً قبل هذا، ولكنه كان إنساناً بالتمام حسب الطبيعة وليس أكثر. ولكن هذا الفكر ليس من الكنيسة. ولكنه فكر الساموساطى واليهود المعاصرين......لذلك فإن كان للأبن ذلك المجد حتى قبل خلقه العالم، وكان هو رب المجد وهو العلى، ونزل من السماء وهو معبود على الدوام، فينتج من ذلك أنه لم يترق بنزوله، بل بالأحرى هو نفسه الذى رقى الأشياء التى يعوزها الترقى. وإن كان قد نزل من أجل ترقيتها، لذلك فإنه لم يحصل على اسم ابن .. كمكافأة، بل بالأحرى فإنه هو نفسه جعلنا أبناء للآب وأله (بتشديد اللام) الناس بكونه صار انساناً ".( الأولى ضد الآريوسيين1: 38 )
    60- "... لذلك، فهو لم يكن إنساناً ثم صار فيما بعد إلهاً، بل كان إلهاً وفيما بعد صار إنساناً بالأحرى كى يؤلهنا. لأنه إن كان عندما صار إنساناً قد سمى عندئذ ابناً وإلهاً. وإن كان الله قد دعا الشعوب قديما. أبناء. وذلك قبل أن يصير هو إنساناً. وجعل الله موسى إلهاً لفرعون. والكتاب المقدس يقول فى مواضع كثيرة "الله قائم فى مجمع الآلهة" (مز1:82). فمن الواضح إذن أنه قد دعى ابناً وإلهاً بعدهم. فكيف إذن خلقت كل الأشياء عن طريقه، وكيف أنه هو موجود قبل كل الأشياء؟ أو كيف يكون هو "بكر كل خليقة" (كو15:1)، ما دام هناك آخرون قبله يطلق عليهم أبناء وآلهة؟ ".( الأولى ضد الآريوسيين : 39 )
   61- "...إذن فهذا ليس بلغز بل هو سر إلهى. " فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله"   وهو لأجلنا فيما بعد "الكلمة صار جسداً"، وعبارة "رفعه" (مجده مجداً عالياً) التى نتحدث عنها الآن، لا تعني أن جوهر الكلمة قد أرتفع. لأنه كان دائماً وهو لا يزال كائن فى الله. ولكنه يعنى ارتفاع   بشريته. إذن فهذه الأقوال لم تكن تقال من قبل إلا عندما صار الكلمة جسداً. لكى يصير واضحاً أن "أذل نفسه"."وتمجد مجداً عالياً" إنما تشير إلى إنسانيته، لأنه حيثما تكون هناك حالة الإذلال تكون هناك الرفعة أيضاً. إن كان بسبب اتخاذه للجسد قد كتب الاذلال عنه. فمن الواضح أن التمجيد (أو الرفعة) تقال عنه بسبب الجسد، لأن الانسان كان فى مسيس الحاجة إلى هذا  بسبب وضاعة الجسد. وبسبب الموت. وبما أن الكلمة وهو صورة الآب، وهو غير مائت، قد أتخذ صورة عبد، وكإنسان عانى الموت بجسده من أجلنا. لكى بذلك يبذل نفسه للآب بالموت من أجلنا لأجل هذا السبب يقال عنه إنه كإنسان مجد (ضمه على الميم) أيضاً نيابة عنا ومن أجلنا، لكى كما بموته قد متنا جميعاً فى المسيح، وعلى نفس المنوال أيضاً. فإننا فى المسيح نفسه أيضاً قد مجدنا مجداً عالياً. مقامين من بين الأموات وصاعدين إلى السموات "حيث دخل يسوع كسابق لاجلنا" (عب20:6)، ... فتبعاً لذلك تكون هذه الرفعة الحالية قد كتبت أيضاً من أجلنا نحن  ... وهكذا بنفس المعنى ينبغى أن نفهم ما يقال الآن أنه " تمجد". ليس لكى يمجد هو نفسه (أى اللوغوس) – إذ أنه هو الأعلى – بل لكي هو ذاته "يصير برا" من أجلنا، .....  فإن كان الابن هو البر، إذن فهو لم يرتفع بذاته كما لو كان فى حاجة إلى الرفعة، بل نحن الذين أرتفعنا (تمجدنا) بسبب البر الذى هو (المسيح) ذاته ".( الأولى ضد الآريوسيين : 41 )
   62- " وهكذا أيضاً فإن عبارة " أعطاه اسماً " لم تكتب لأجل اللوغوس ذاته – فإنه حتى قبل أن يصير إنساناً فقد كان معبوداً أيضاً من الملائكة ومن كل الخليقة. بحسب ذاتيته الأبوية، بل كتبت هذه العبارة عنه بسببنا ولأجلنا. لأنه كما مات المسيح ثم رفع (شدة على الفاء) كإنسان، فبالمثل قيل عنه أنه أخذ كإنسان ما كان له دائماً كإله. وذلك لكى تصل إلينا عطية مثل هذه النعمة، فإن اللوغوس لم يحط قدره بإتخاذه جسداً حتى يسعى للحصول على نعمة أيضاً، بل بالأحرى فإن الجسد الذى لبسه قد تأله، بل وأكثر من ذلك، فقد أنعم بهذه النعمة على جنس البشر، بدرجة أكثر ".( الأولى ضد الآريوسيين: 42 )
    63- "... كما قلنا، أنه ليس اللوغوس بسبب كونه لوغوس هو الذى حصل على مثل هذه النعمة، بل نحن. لأنه بسبب علاقتنا بجسده فقد صرنا نحن أيضاً هيكل الله – وتبعاً لذلك قد جعلنا أبناء الله...  بالأحرى نحن الذين نلنا منه الارتقاء. لأنه هو "النور الذى ينير كل انسان يأتى إلى العالم" (يو9:1). إن الاريوسيين يركزون بلا جدوى على أداة الربط: "لذلك" لأن بولس قال "لذلك مجده الله مجداً عالياً" (فى8:2). فهو بهذا القول لم يكن يعنى مكافأة لفضيلة ولا ارتقاء نتيجة تقدم أخلى، ولكنه يقصد السبب فى العلو والتمجيد والارتفاع الذى صار فينا. وما هو هذا السبب إلا أن يكون الذى كان فى صورة الله وهو ابن لاب نبيل، وأذل نفسه وصار بدلاً منا ومن أجلنا؟ فلو لم يكن الرب قد صار أنساناً، لما كان فى وسعنا أن نفتدى (نتحرر) من الخطيئة وأن نقوم من بين الأموات، بل لبقينا أمواتاً تحت الأرض. ولما كنا لنرفع (لنمجد) إلى السماء، بل لرقدنا فى الجحيم. إذن، فمن أجلنا، ولمصلحتنا، كتبت هذه الكلمات" مجده مجداً عالياً"، "وأعطاه اسما".( الأولى ضد الآريوسيين: 43 )
   64- " ... أي أن النص لا يعنى تمجيد اللوغوس ذاته بإعتباره لوغوس ..،  ولكن النص يشير إلى قيامته من بين الأموات بسبب تأنسه. فقوله "أذل نفسه حتى الموت" ثم أضاف "لذلك مجده مجداً عالياً" راغباً أن يبين أنه كإنسان كان يقال عنه أنه قد مات، ولكن لكونه الحياة رفع بالقيامة "فإن الذى نزل هو نفسه أيضاً الذى قام" (أف10:4). لأنه نزل بالجسد، إلا أنه قام لأنه هو نفسه كان إلهاً فى الجسد. وهذا أيضا هو السبب الذى من أجله قد مهد السبيل الى هذا المعنى بإستخدام أداة الربط "لذلك"، والذى لا يعنى أجر فضيلة ولا ترقى، ولكنه يكشف السبب الذى بواسطته قد صارت القيامة. ولهذا السبب نفسه مات سائر البشر منذ آدم وحتى الآن، وظلوا أمواتاً، أما هذا وحده فهو الذى قام من بين الأموات كاملاً متكاملاً. وهذا هو السبب الذى من أجله سبق الرسول نفسه وقال: أنه بالرغم من كونه إلهاً فقد صار إنساناً.  ( الأولى ضد الآريوسيين : 44 )
   65- "...  إذن فالجسد الذى أقيم من بين الأموات هو الذى رفع الى السموات. وحيث أن الجسد كان يخصه ولا يوجد للجسد كيان إلا باللوغوس نفسه، لذى فمن الطبيعى أنه بتمجيد وترفيع الجسد يقال أيضاً أنه كإنسان قد أرتفع بسبب الجسد....وكإبن الإنسان فيقال أنه بحسب بشريته ينال ما يخصه من ذاته، بسبب أن جسده ليس سوى جسده الخاص به الذى هو بطبيعته أن يتقبل النعمة كما قد قيل.وبحسب هذه الرفعة إذن، أخذ الإنسان فى داخله. وكانت هذه الرفعة من أجل تأليه الانسان أما اللوغوس فله خاصية (التاليه) هذه بحسب الألوهية والكمال الأبوي الخاصين به ".( الأولى ضد الآريوسيين : 45 )
      66- " فأي تقدم هو إذن بالنسبة لغير المائت عندما يتخذ ما هو مائت؟ وأى أرتقاء هو للأزلى عندما يلبس ما هو وقتى وأى أجر يمكن أن يكون بالنسبة لله والملك الأبدى الذى هو فى حضن الآب؟ ألا تدركون أن هذا قد صار وكتب بسببنا ومن أجلنا، لأنه إذ قد صار الرب إنساناً، لكى يصوغنا نحن المائتين والوقتيين ويجعلنا غير مائتين.....  لأنه بنزول ربنا يسوع المسيح وأقامته بيننا، فإننا بالحقيقة قد أرتقينا لأننا تحررنا من الخطيئة ،  ..." .( الأولى ضد الآريوسيين : 48 )
.  إذن ، الترقي هو التحرر من الخطية  .
    67- " الكلمة صار جسدًا ، ليس لأجل إضافة (شئ ما) إلى اللاهوت، بل من أجل أن ينال الجسد قيامة. ولم يأتى الكلمة من مريم لكى يرتقى هو، بل لكى يفدى الجنس البشرى. فكيف إذن يفكرون أن الجسد وهو الذي افتداه الكلمة وأحياه، يقوم بإضافة شئ ما من ناحية اللاهوت إلى الكلمة الذي أحياه ؟ ""بل بالعكس فإن الجسد البشرى ذاته هو الذي حدثت له زيادة كبيرة ، بسبب شركة الكلمة معه واتحاده به ، لأنه (الجسد) صار غير مائت بعد أن كان مائتًا ، ورغم أن الجسد كان حيوانيًا (نفسانيًا) فقد صار روحانيًا ، ورغم أنه من تراب الأرض فقد اجتاز الأبواب السماوية "".( الرسالة إلى أبكتيتوس :9 )
  لاحظ
1- الذي ترقى وحدثت له زيادة هو الجسد.
 2- ترقي الجسد هو تحوله من الحيوانية إلى الروحانية ، ومن الموت إلى الحياة، أي القيامة ، التي هي الإضافة التي نالها الجسد وليس اللوغوس. 
 3 – حدث الترقي حينما صار الجسد جسدا للكلمة ، أي التجسد .
   أما الآية الأكثر التباسا في هذا السياق فهي ما كتبه القديس لوقا الإنجيلي " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة ، عند الله والناس "( لو2: 52 )، وهنا يؤكد أثناسيوس أن ارتباط نمو يسوع الطبيعي في القامة كإنسان ، بتقدمه في الحكمة والنعمة إنما يشير إلى ازدياد ظهور وانكشاف اللاهوت فيه أمام الناس المحيطين به والمعاصرين له ، أي أنه كان يزداد نموا وتقدما " كإله " في أعين الناس ( إذا جاز التعبير )، أي أن التقدم في الحكمة كان ترقيا وتقدما لوعي الناس به كإله  ولم يكن ترقيا أوتقدما أو تطورا  باطنيا خاصا به :
   68- " إذن فالتقدم هو للجسد ، لهذا ففي تقدمه كان يزداد أيضا ظهور اللاهوت فيه لأولئك الذين رأوه ، وكلما كان اللاهوت ينكشف أكثر فأكثر كلما ازدادت نعمته كإنسان أمام كل الناس فهو كطفل حمل إلى الهيكل، وحينما صار صبيا بقى هناك في الهيكل وكان يسأل الكهنة نحو الناموس. وكان جسده ينمو شيئا فشيئا والكلمة كان يظهر نفسه فيه ، لذا اعترف به بطرس أولا وبعد ذلك الجميع أيضا: "بالحقيقة هذا هو ابن الله".( الثالثة ضد الآريوسيين: 52)
    69- " فماذا يكون هذا التقدم المتحدث عنه سوى- كما قلت سابقا- التأليه والنعمة المعطاة للبشر من الحكمة وإبطال الخطية والفساد منهم بحسب مشابهتهم لجسد الكلمة وقرابتهم له؟ لأنه هكذا بازدياد الجسد في  القامة كان يزداد فيه ظهور اللاهوت أيضا ويظهر للكل أن الجسد هو هيكل الله. وأن الله كان في الجسد ... ليست الحكمة كحكمة هي التي تقدمت في ذاتها، ولكن الناسوت هو الذي تقدم في الحكمة، بأن يرتفع شيئا فشيئا فوق الطبيعة البشرية وبأن يتأله ويصير ظاهرا للجميع كأداة الحكمة لأجل عمل اللاهوت وإشراقه . لذلك فالبشير لم يقل:" إن الكلمة تقدم "، لكن" يسوع" وهو الاسم الذي دعي به الرب عندما صار إنسانا حتى يكون التقدم هو للطبيعة البشرية ". (الثالثة ضد الآريوسيين : 53 )
.  لاحظ : مدلول تدبير نمو يسوع في القامة والظهور التدريجي لألوهيته أمام الناس ، كإشارة إلى بدء زمن تكريس تأله البشر بالشركة في جسد الكلمة المتجسد .
   ولعل ماوراء قناعة القديس أثناسيوس بعدم احتياج الإنسان يسوع إلي أي نمو باطني ، هو إدراكه لأن إنسانية يسوع هي جسد الكلمة الخاص ، أي الإنسان الظاهر في الكلمة منذ الحبل به :
    70- ". . لقد تم اتحاد الناسوت بلاهوت الله الكلمة في أحشاء القديسة مريم ، عندما نزل الكلمة من السماء، أي أن الناسوت لم يكن له وجود قبل نزول الكلمة وتجسده ، بل لم يكن للناسوت أي وجود حتى قبل وجود مريم والدة الإله التي ولدت من آدم " ( تجسد ربنا يسوع المسيح:4)      
     تعليق مهم على نصوص الترقي عند أثناسيوس
 لدينا ركيزتان أساسيتان لإدراك مفهوم الترقي والتقدم - الحادث في جسد الكلمة المتجسد – عند العظيم أثناسيوس: الركيزة الأولى هي أن التقدم ( الترقي، التعلية ) - سواء على مستوى النمو البيولوجي، الجسدي ( القامة )، أو على مستوى النعمة، الروحي – أيا كان مسماها: الحكمة ، التمجيد، القيامة من الموت وعدم الفساد، التأله - هو تقدم تراكمي ظاهر، مرصود ومتتبع ( بضم الميم وفتح الباء ) من معاصري الرب يسوع التاريخي. والركيزة الثانية – التي هي في غاية الأهمية -هي أن حدوث هذا النمو التراكمي الظاهر – بكل أشكاله – يتماهى- زمنيا - مع حدوث نمو وتراكم، وزيادة انكشاف ظهور الله الكلمة، ظهور اللاهوت، في جسد الرب أمام الناس، أي تراكم وعي معاصريه به، كإله. وهذا يقودنا إلى السؤال عن ماهية نشأة التقدم ( الترقي )، فنسأل بوضوح: هل تتزامن نشأة مضمون وجوهر النعمة التي يرتقي بها الجسد – المرصودة من الناس – مع لحظة رصدها من قبل الناس؟ والسؤال بكلمات أخرى: هل، النعمة – الجديدة - الظاهرة في جسد يسوع – في لحظة ما -لم تكن موجودة قبل لحظة رصدها ورؤيتها من الناس المعاصرين له ؟ ولكن إذا عدنا إلى ركيزة التماهي بين حدوث النعمة وحدوث ظهور اللاهوت ، نستطيع  أن نجد مدخلا لحل الأحجية عند أثناسيوس، وهذا يقودنا أيضا إلى السؤال الكاشف: ماذا كان يعني أثناسيوس بمفهوم زيادة ظهور وانكشاف اللاهوت في جسد يسوع أمام الناس؟ هل من الممكن أن نتجاسر فنظن أن مقصد أثناسيوس هو أن اللاهوت كان يحل تدريجيا في الناسوت متزامنا مع ظهوره للناس؟ بالتأكيد لا يمكن أن يكون مقصد أثناسيوس شيئا من قبيل هذا المعنى، لسبب بسيط هو أن مضمون هذا الكلام ليس إلا الهرطقة بعينها؛ فالكلمة – بكل ملء لاهوته - حال في جسده الخاص منذ أول لحظة للحبل في بطن العذراء، هذا هو الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوته، أما عن ظهور الكلمة - التراكمي، المتدرج، المتزايد - في الجسد أمام الناس، فهذا أمر آخر مختلف،  أمر يخص التدبير بمشاهده المختلفة. إذن لماذا نفترض - كما يفترض بعض أساتذة اللاهوت والآبائيات، ومنهم أستاذي الدكتور جورج حبيب بباوي - أن الظهور التراكمي للنعمة في جسد يسوع - أمام الناس - وعلى الأخص نعمة القيامة والتأله وعدم الفساد يعني نشأة النعمة في كيان يسوع لحظة رصدها بواسطة الناس؟ أليس – كما قلنا – أن ظهور النعمة المتدرج – في جسد يسوع هو الوجه الآخر لظهور اللاهوت، المتدرج، فيه؟ أليس الاتحاد الأقنومي بين اللاهوت والإنسان، الذي يعني من أول لحظة أن الجسد هو جسد الكلمة الخاص، فإنه يضمن وجود الإنسان الداخلي - الجديد ، عديم الموت ، المتأله، القائم والمنتصر على الموت – من أول لحظة للحبل به في أحشاء مريم، حتى وإن كان العتيق الظاهر - من أجل التدبير - يظهر ( بضم الياء وكسر الهاء ) للناس حضورا متدرجا للنعمة، التي هي بالفعل كائنة بكمالها كاستحقاق – هو الحد الأدنى – لما ينبغي أن يحدثه الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وإنسانية الإنسان منذ أول لحظة للاتحاد ؟
إذن لابد من توفر مستوى أعلى من العمق في التعاطي مع نصوص الآباء، لاسيما أثناسيوس، ذلك المستوى الذي يجعلنا لا نقف على مجرد ظاهر النص بل ينبغي لنا بذل الجهد لاستنباط واستنتاج أقصى مايمكن استنتاجه من مفاهيم خفية غائرة في ذهن الكاتب، الذي لم يجد من وجهة نظره احتياجا لذكره، في هذا السياق. خير مثال لنا في هذا الصدد هو حديث أثناسيوس عن الترقي الظاهر، الحادث في كيان الرب، وبالتأكيد كان أثناسيوس يتحدث عن ترقي الجسد وليس ترقي اللوغوس، ولكن الجهد الواجب بذله – الذي قصدته – جعلني أخرج من سياق صراع أثناسيوس مع الهراطقة - دفعا  لادعائهم بترقي اللوغوس – إلى جزئية أخرى في خلفية  النص وهي حقيقة  الكيان المستهدف بالترقي، أي عتيق يسوع الظاهر للناس بكل مايحدث فيه من تقدم وترقي، وهنا نجد أنفسنا أمام أحد خيارين: إما أن نتقبل أن الكيان الإنساني الجديد ليسوع- الممجد والمنتصر على الموت – موجود من أول لحظة للتجسد كدليل دامغ وحيد على الاتحاد الأقنومي بين اللوغوس والإنسان، بالرغم من أن النعمة تظهر تدريجيا للناس، في العتيق الظاهر - علينا أن نتقبل هذا مثلما أننا قد تقبلنا أن ملء لاهوت اللوغوس كائن وحال في ناسوته من أول لحظة للتجسد - بالرغم من ظهوره المتدرج للناس في عتيق يسوع. إما أن نتقبل هذا الخيار أو نتهاوى إلى خيار الهرطقة  لنجد أنفسنا قد تقبلنا أن لاهوت الكلمة قد حل تدريجيا في ناسوته، على اعتبار أن ناسوت الرب قد ظل عتيقا إلى أن تجدد وتمجد فقط في لحظة القيامة، بعد انتهاء تراجيديا الصلبوت المهيب.
أن نتخيل أن إنسانية يسوع قد ظلت عتيقة - خاضعة ومهددة بالموت إلى أن افتقدت بالقيامة بعد مشهد الصليب، فكان هذا قمة التمجيد والترفيع والترقية للجسد- فهذا أمر يجعل من الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وناسوته حدثا تراكميا متناميا ، الأمر الذي يمثل أدق تعريف للنسطورية.


                  ثانيا : المسحة ( مسحة الرب في الأردن )
   أيضا في إطار تفنيده لانحراف الهراطقة في تفسير آيات المسحة بخصوص الكلمة المتجسد ، يؤكد القديس أثناسيوس الرسولي أن الكلمة هو الذي يمسح بالروح ، وهو الذي مسح جسده حينما لبسه صائرا إنسانا . والنقطة الحاكمة في هذا السياق هي أنه عندما نزل الرب إلى الأردن واعتمد ومسح ، فلم يكن من دلالة لهذا المشهد سوى أننا نحن الذين مسحنا. ومن ذلك الحين فإننا نتقبل الروح ليختمنا مصورا فينا المسيح ذاته .  ولم نرصد للقديس أثناسيوس أي عبارة أو إشارة تفيد بأن يسوع قد بدأ يمسح – على أساس أنه لم يكن ممسوحا من قبل – منذ أن نزل إلى الأردن ، فهو يسوع " المسيح " ، أي الممسوح ،  موضوع بشارة الملاك للرعاة " فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب "( لو2: 10و 11 ). إذن الرب منذ ظهوره هو ممسوح ولا يحتاج إلى مسحة بل هو الذي يهب المسحة لمن يحتاجها ، أي نحن . وهو حينما نزل إلى المياه فقد أسس لنا مسحتنا التي تجعلنا أعضاءا فيه بواسطة الروح الذي يرسله من الآب :
   71- "... ولذلك فهو هنا "يمسح" (بضم الياء) لا لكي يصير إلهاً، لأنه كان إلهاً حتى قبل أن يمسح، ولا لكي يصير ملكاً، لأنه قد كان هو الملك على الدوام، إذ أنه صورة الله كما يقول الوحى . بل أن هذا أيضاً  قد كتب من أجلنا... لكنه كإنسان يقال عنه أنه يمسح (بضم الياء) بالروح وذلك حتى يبنى فينا نحن البشر سكنى الروح وألفته تماماً مثلما وهبنا الرفعة والقيامة. وهذا ما عناه هو نفسه عندما أكد الرب عن نفسه فى الإنجيل بحسب يوحنا " أنا قد أرسلتهم إلى العالم ولأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم أيضاً مقدسين فى الحق" . وقد أوضح بقوله هذا أنه ليس هو المقدس (بتشديد وفتح الدال) بل المقدس ( بتشديد وكسر الدال). لأنه لم يقدس من آخر بل هو يقدس ذاته. حتى نتقدس نحن فى الحق. وهذا الذى يقدس ذاته إنما هو رب التقديس. كيف إذن حدث هذا؟ وماذا يريد أن يقول بهذا سوى أنه: "كونى أنا كلمة الآب، فأنا نفسى أعطى ذاتى الروح. أنا الصائر إنساناً. وأنا الحق. لأن " كلمتك أنت هى الحق" ."  .( الأولى ضد الآريوسيين : 46 )
   72 – " إذن فإن كان يقدس ذاته من أجلنا. وهو يفعل هذا لأنه قد صار إنساناً، فمن الواضح جداً أن نزول الروح عليه فى الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن ، بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقية اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكى نشترك فى مسحته، ولكى يقال عنا " ألستم تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم "، فحينما أغتسل الرب فى الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواستطه. وحينما أقتبل الروح، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته. ولهذا السيد، فهو ليس كهارون. أو داود أو الباقين – قد مسح بالزيت هكذا – بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه – أى "بزيت الإبتهاج" – التى فسر أنه يعنى الروح – قائلاً بالنبى "روح الرب على لأنه مسحنى ". كما قال الرسول أيضاً " كيف مسحه الله بالروح القدس"  . متى قيلت عنه هذه الأشياء – إلا عندما صار فى الجسد وأعتمد فى الأردن. "ونزل عليه الروح"؟.وحقاً يقول الرب لتلاميذه أن "الروح سيأخذ مما لى" .  و" أنا أرسله". و " اقبلوا الروح القدس"  . إلا أنه فى الواقع هذا الذى يعطى للآخرين ككلمة وبهاء الآب، يقال الآن أنه يتقدس وهذا من حيث أنه قد صار إنساناً، والذى يتقدس هو جسده ذاته.
 إذن فمن ذلك قد بدأنا نحن الحصول على المسحة والختم ، مثلما يقول يوحنا "أنتم لكم مسحة من القدوس"   والرسول يقول "أنتم ختمتم بروح الموعد القدوس" . ومن ثم فإن هذه الأقوال هى بسببنا ومن أجلنا. فأى تقدم فى الارتقاء، وأى أجر فضيلة أو عموماً أى أجر عمل للرب ، يتضح من هذا ؟. ....... إذن، فلا يكون اللوغوس بإعتباره اللوغوس والحكمة هو الذى يمسح من الروح، الذى يعطيه هو ذاته، بل الجسد الذى قد أتخذه ، هو الذى يمسح فيه ومنه، وذلك لكى يصير التقديس الصائر إلى الرب كإنسان، يصير   إلى جميع البشر به. لأن يقول: "إن الروح لا يتكلم من نفسه" . بل اللوغوس هو الذى يعطى هذا (الروح) للمستحقين ". ( الأولى ضد الآريوسيين : 47 )
.  إذن ،  مسحته في الأردن منشئة لمسحتنا ، وكاشفة لمسحته .
   73- " أما عندما صار إنساناً فقد قال "سأرسل لكم المعزى روح الحق" ، وبالفعل أرسله، لأن كلمة الله منزه عن الكذب. إذن فإن "يسوع المسيح هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد"، وحيث أنه يظل غير متغير وهو ذاته العاطي والآخذ: فهو يعطى ككلمة الله، ويأخذ كإنسان. وتبعاً لذلك فليس اللوغوس – بإعتباره بالحقيقة لوغوس – هو الذى أرتقى، إذ كانت له دائماً. وله على الدوام – كل الأشياء. أما البشر – الذين يأخذون البداية منه وبسببه  – فهؤلاء هم الذين يرتقون. لأنه حينما يقال بحسب الوجهة البشرية أنه الآن يمسح- نكون نحن، الذين نمسح فى شخصه. حيث أنه حينما أعتمد، نكون نحن الذين نعتمد فى شخصه ". ( الأولى ضد الآريوسيين  : 48 )
   74- "... تعبير "من أجل هذا " هنا أيضاً، لا يعنى أجر فضيلة أو سلوكاً خاصاً باللوغوس، بل يعنى السبب الذى من أجله نزل إلينا، ويعنى السبب فى مسحة الروح التى مسح بها من أجلنا...وهذا هو سبب المسحة التى صارت له، وسبب "الحضور المتجسد للوغوس". وهذا السبب هو الذى تنبأ به مرنم المزامير مسبحاً بألوهيته وملكوته الأبوى، عندما هتف قائلاً "عرشك يا الله إلى دهر الدهور، صولجان استقامه هو صولجان ملكك"  ، ثم يعلن نزوله إلينا بقوله: " من أجل ذلك، مسحك الله، إلهك، بزيت الابتهاج أكثر من شركائك" .( الأولى ضد الآريوسيين : 49 )
   75- "... وبنفس الطريقة، حيث أنه هو ذاته واهب الروح، فإنه لا يتوقف عن القول: "روح الرب على لأنه مسحنى"، وذلك بسبب أنه قد صار جسداً  ، كما قال يوحنا، لكى يتضح أنه فى هذين الأمرين، أننا نحن الذين نكون محتاجين لنعمة الروح لكى نتمجد، ... هكذا يرينا داود أيضاً أنه ليست هناك طريقة أخرى، لكى نشارك الروح، ونتقدس لو لم يقل اللوغوس ذاته، واهب الروح. بأنه هو ذاته، مسح بالروح من أجلنا، ولهذا السبب طبعاً أخذنا الروح، إذ أنه هو الذى قيل فيه أنه قد مسح بالجسد. حيث أن جسده الخاص هو الذى تقدس أولاً. وإذ قيل عنه كإنسان. أن جسده قد أتخذ هذا ، فلأجل هذا، فنحن نمتلك نتيجة لذلك، نعمة الروح، آخذين أياها "من ملئه "  .( الأولى ضد الآريوسيين : 50 )
.  إذن ، تجسد الكلمة  هو  مسحته .
   76- " ولنفس السبب أيضا مسح بالروح القدس، ليس لأن اللاهوت قد مسح " بضم الميم " أو أنه يحتاج إلى المسحة ، ولكن أيضا لا يمكن أن تتم المسحة بدون اللاهوت ، فهو كإله مسح جسده. وجسده هو الذي تقبل المسحة. فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نصف الكلمة بالمسيح بدون الجسد البشري ".(ظهور المسيح المحيي : 3 )
    77- " والروح يدعى مسحة وهو الختم ... والمخلوقات تختم وتمسح بواسطته وتتعلم منه كل شيء. ... والمسحة لا يمكن أن يكون من بين الأشياء التي تمسح، ولكنه يخص الكلمة الذي يمسح والذي يختم، لأن المسحة لها أريج ورائحة من يمسح. وأولئك الذين يمسحون يقولون حينما ينالونها:" نحن رائحة المسيح الزكية"  . والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يختمون يشتركون في الختم ويتشكلون حسبه، كما يقول الرسول:" يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضا إلى أن يتصور المسيح فيكم ". وهكذا إذ نختم فمن الطبيعي أن نصير " شركاء الطبيعة الإلهية" كما يقول بطرس .( الرسالة الأولى إلى سرابيون عن الروح القدس : 23 )
 تعليق مهم على نصوص المسحة عند أثناسيوس
نستطيع أن نلمح خطين متقاطعين بخصوص مسحة الرب ( معموديته ) عند أثناسيوس، الأول هو مشهد مسحة الرب في الأردن، والثاني هو حقيقة مسحة جسد الرب بفضل كونه جسد الكلمة الخاص. بخصوص مشهد مسحة الأردن يقرر – ويكرر – أثناسيوس أن هذه المسحة هي مسحتنا نحن؛ فإن كان قد اعتمد واصطبغ ومسح وتقدس، في الأردن فواقع الحال هو أننا نحن الذين اعتمدنا واصطبغنا ومسحنا وتقدسنا، لسبب بسيط هو أنه هو الصبغة التي يصطبغ بها، والختم الذي يختم به؛ فهو المسيح ، مصدر ومنبع المسحة، الذي يمسح فيه الجميع. وأما الخط الثاني فيتقاطع مع مانتهينا إليه ، أي المسيح؛ فهو – وفقا لأثناسيوس – لم يدع مسيحا إلا بفضل كون اللوغوس قد مسح جسده الخاص حينما اتخذه جسدا خاصا، أي منذ أول لحظة للاتحاد الأقنومي بين اللاهوت والجسد؛ أي أن حدث  تجسد اللوغوس هو ذاته حدث مسحة اللوغوس للجسد. إذن عندما يصر أثناسيوس على أن مشهد الأردن يخصنا، في المقام الأول، فهو محق كل الحق؛ فلم تكن إنسانية يسوع الجديدة- فضلا عن اللوغوس، بالتأكيد – في احتياج للمسحة؛ فوليد بيت لحم هو المسيح الرب، وفقا لبشارة الملاك للرعاة ( لو2: 11 )؛ أي أن جسده الخاص ممسوح، بل ومصدر للمسحة منذ دخول اللوغوس إلى عالمنا متأنسا. وعليه فإن مسحة جسد الكلمة الخاص الرب يسوع لم تنشأ في الأردن – لأنه لو ظل منتظرا للحظة نزوله مياه الأردن لتتم مسحته الشخصية، ماكان ليعتبر جديرا بأن يكون جسد الكلمة الخاص - وإنما ما قد نشأ، وتم تدشينه، في هذا المشهد التدبيري هو مسحتنا نحن.       
  يتبع
مجدي داود

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 2 )

    ثالثا : تحرير تدبير التجسد من أسر التاريخ ( امتداده في الكنيسة )
   حدث التجسد ليس حدثا تاريخيا ، والكلمة المتجسد ليس مجرد شخص قد ظهر في التاريخ ، وما حدث بالضبط هو حدث دراماتيكي قد انطلق من تجسد الرب ، وهو نصرة الجميع على الموت بانضمامهم للباكورة جسد الرب المنتصر ، آدم الثاني الرب الذي من السماء. لم يتجسد الكلمة لمجرد أن يظهر في تاريخ البشر كفرد ينتمي لجنسهم ، لم يصنع هذا من أجل ذاته فهو لا يحتاج أن يصنع شيئا لأجل ذاته ، بل أتم العمل وأكمل التدبير من أجل أن ينقل كل ما عمله وكل ما أتمه إلى كنيسته الصائرة جسدا له ، بينما هو صائر رأسا لها ليكون الجميع واحدا فيه . لم يتجسد الكلمة ليصير مجرد رأس مقطوع ، بل بمجرد ظهوره في البشر قد بدأ يتصور باقي الجسد ، بامتداد استحقاق فعل التجسد ، وبظهور ثماره ، في الكنيسة .
 إذن حينما نتكلم بخصوص تدبير التجسد فنحن نرصد حدثا آنيا ممتدا يستهدف تكريس وجود الكنيسة الخالدة بكل أعضائها والتي يتحقق وجود أعضائها من خلال إيمانهم الحي بالكلمة المتجسد الذي قد نال جسده النصرة على الموت والخلود ، إذ هو جسد الكلمة الخاص ،وحينما يقبل المسيحيون الشركة العضوية في هذا الجسد فهم يحصلون على ذات النصرة فيتكرس وجودهم ككنيسة  :
   21- " ولهذا اتخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت ... ومن ذلك الحين فصاعدًا يُمنع الفساد من أن يسرى في جميع البشر بنعمة القيامة من الأموات... وببذله لهذا الجسد كتقدمة مناسبة، فإنه رفع الموت فورًا عن جميع نظرائه البشر ".( تجسد الكلمة 9 : 1 )
   22- " وهكذا باتخاذه جسدًا مماثلاً لجسد جميع البشر وباتحاده بهم، فإن ابن الله عديم الفساد ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأموات. ولم يعد الفساد الفعلى بالموت له أى سلطان على البشر بسبب الكلمة الذي جاء وسكن بينهم بواسطة جسده ". ( تجسد الكلمة 9 : 2 )
   23- " والآن إذ قد مات مخلّص الجميع نيابة عنا فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت (بحكم) الموت الذى كان سابقًا حسب وعيد الناموس لأن هذا الحكم قد أُبطل؛ وبما أن الفساد قد بَطُل وأُبيدَ بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحل فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل " . ( تجسد الكلمة 21 : 1 )
   24- " فقديما، قبل المجىء الإلهي للمخلّص، كان الموت مرعبًا حتى بالنسبة للقديسين، وكان الجميع ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أما الآن، بعد أن أقام المخلّص جسده، لم يَعُد الموت مخيفًا لأن جميع الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شئ، بل بالحرى يُفضّلون أن يموتوا على أن ينكروا إيمانهم بالمسيح، لأنهم يعرفون بكل يقين أنهم حينما يموتون فهم لا يفنون بل بالحرى يحيون عن طريق القيامة ويصيرون عديمي فساد .(  تجسد الكلمة 27: 2 )
   25- "... وبقوله "وأنت أيها الآب فى" فهو يعنى "لأنى أنا كلمتك، وحيث أنك أنت فى، بسبب كونى كلمتك، وأنا فيهم بسبب الجسد، ومنك يتحقق خلاص البشر فىّ ....  ولأنهم قد صاروا واحداً فى هذا الجسد، فإنهم كما لو كانوا محمولين فىّ، يصيرون جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً (أفسس 4:4) ولكى ينمو الجميع إلى إنسان كامل (أفسس 13:4) لأننا جميعاً، بأشتراكنا فيه، نصير جسداً واحداً، لأننا نحصل على الرب الواحد فى أنفسنا.  ( الثالثة ضد الآريوسيين 22 )
   26- " ... إذن فلفظ "خَلَقَ" لا يشير إلى جوهره – كما قلنا مراراً – بل إلى تكوينه الجسدى. ولأن الأعمال صارت ناقصة ومشوهة بسبب التعدى، لذا يقال عنه أنه "خُلِقَ" من جهة الجسد، لكى بعد أن يكمل هذه الأعمال ويتمم صنعها يحضر الكنيسة إلى الآب كما قال الرسول " لا دنس فيها ولا غضن أو شئ من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب" ".( الثانية ضد الآريوسيين : 67 )
   27- "... ، ولكن بصيرورته إنساناً فقد صار له مماثلون وهم الذين إرتدى جسدهم المماثل لجسده. وتبعاً لذلك فإنه "تأسس" بحسب بشريته لكى يمكننا نحن أيضاً أن نُنبنى فوقه كحجارة كريمة ونصير هكيلاً للروح القدس الساكن فينا. وكما أنه هو أساس حقاً، فنكون نحن الحجارة التى تبنى عليه وأيضاً يكون هو الكرمة ونصير نحن أغصانه ليس بحسب جوهر اللاهوت – لأن هذا مستحيل حقاً – بل بحسب بشريته، لأن الأغصان يلزم أن تكون مشابهة للكرمة، حيث أننا نحن مشابهون له بحسب الجسد ".( الثانية ضد الآريوسيين : 74 )
     والأكثر من ذلك هو أن مفهوم المجيء ( الظهور ) الثاني للرب ، عند أثناسيوس هو مناسبة تقديم ثمر تدبير التجسد للكنيسة ، أي القيامة وعدم الفساد . وبالرغم من استدعاء قديسنا لنفس صيغة المشهد الكلاسيكي الإنجيلي لمجيء ابن الإنسان على السحاب ، إلا أن استدعاءه لما قاله الرب – تحديدا - أثناء محاكمته أمام رئيس الكهنة " من الآن " ، وعدم استخدامه لاقتباسات إنجيليه أخرى تتحدث عن مجيء ابن الإنسان في سياق يبدو فيه الأمر كحدث مستقبلي يحدث في نهاية العالم ، لهو أمر ذو دلالة من نحو قناعة القديس أثناسيوس من نحو المجيء الثاني كامتداد عضوي لحدث تجسده ، فهاهو الرب في مشهد نهاية أحداث التدبير على الأرض ، يبث ثمار العمل الذي عمله في ما تبقى من زمن العالم ، وهذا الثمر يبدأ جصاده " من الآن " . هكذا يحرر الرب اللحظة من تاريخيتها ليجعلها لحظة آنية مستمرة هي لحظة حصاد ثمر تدبيره الخلاصي الذي صنعه لأجلنا :
   28- وستتعلّم أيضًا من الكتب عن ظهوره الثانى المجيد، الإلهى والحقيقى. حيث لا يظهر بعد في فقر بل في مجد، ولا يظهر بعد متخفيًا متواضعًا بل في عظمته. وهو سيأتى لا ليتألم ثانية بل ليقدم للجميع ثمر صليبه، أى القيامة وعدم الفساد . ( تجسد الكلمة 56 : 3 )
   29- " لأنه هكذا يقول الرب نفسه أيضًا " من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء في مجد الآب ". ( مت26 : 64 ).(   تجسد الكلمة 56 : 4 ) 
   30- " ولهذا السبب عينه نجد أيضًا كلمة للمخلّص تهيئنا لذلك اليوم إذ يقول " كونوا مستعدين واسهروا لأنه يأتى في ساعة لا تعلمونها " لأنه بحسب قول الرسول بولس " لأنه لابد أننا جميعًا نُظهر أمام كرسى المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا ". (   تجسد الكلمة 56 : 5 )
                    رابعا: أزلية خطة تدبير التجسد
      تدبير التجسد لم يكن أمرا اضطراريا فرض على الله في سياق إدارته لأزمة الإنسان الوجودية ، فالله لا يخضع لأي ضرورة ، بل العكس ، حينما تجسد الله الكلمة صائرا إنسانا فإنه قد حرر البشر من حكم الضرورة . وإذا كان القديس أثناسيوس – حينما ينظر للتدبير – يكتب ما يوحي بمثل هذه الانطباعات ، فهو هنا يبرئ ساحته من مثل هذا الأمر بتبنيه للطرح الإنجيلي القائل بأزلية خطة التدبير .
 إذن لم يكن الأمر مجرد رد فعل لأزمة ولكنه تدبير محفوظ في المسيح من قبل حدث الخلق ذاته . ونستطيع أن نستنتج أن أمر التدبير هو عملية خلق الإنسان في الصورة التي أراد الله للإنسان أن يكون إياها ، أي الشريك في الطبيعة الإلهية والذي يتم تبنيه من قبل الآب بالشركة في ابنه في الروح القدس ، وهي العملية التي وهب للإنسان أن يشترك بوعيه فيها مخالفا في ذلك سائر المخلوقات التي لا يتسنى لها إدراك مسار أمر خلقتها  :
    31- "... إلا أن هذه النعمة كانت قد أعدت قبل أن يخلقنا بل حتى من قبل أن يخلق العالم. والسبب فى هذا صالح ومذهل. ..إن بولس الرسول المغبوط يعلّم بهذا – كتفسير للنص الذى جاء فى الأمثال: "قبل الدهر" و"قبل أن تكون الأرض"، وذلك عندما كتب إلى تيموثاوس قائلاً: " اشترك فى احتمال المشقات لأجل الإنجيل بحسب قوة الله الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التى أعطيت لنا فى المسيح قبل الأزمة الأزلية، وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة " . بل وقال إلى أهل أفسس " مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح يسوع. كما إختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدامه فى المحبة قديسين وبلا لوم. إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه " .(  الثانية ضد الآريوسيين : 75 )
    32- "  ... وعموما، كيف سبق فعيننا للتبنى قبل أن يخلق البشر إن لم يكن الإبن نفسه قد "تأسس قبل الدهر" أخذاً على عاتقه تدبير خلاصنا؟ أو كيف يضيف الرسول قائلاً: "نلنا نصيباً معينين سابقاً"  لو لم يكن الرب نفسه قد تأسس قبل الدهر"، حتى يكون له قصد من أجلنا أن يأخذ على عاتقه نصيب الدينونة الكامل من أجلنا عن طريق الجسد وبهذا نكون نحن مُتبنُون فيه؟ وكيف حصلنا على النعمة "قبل الأزمنة الأزلية" بينما لم نكن قد خُلقنا بعد، بل خلقنا فى الزمن، لو أن النعمة التى وصلت إلينا لم تكن مودعة فى المسيح ؟ لهذا ففى الدينونة عندما ينال كل واحد بحسب عمله، يقول: "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم " ... لأنه هكذا سيكون لنا ليس حياة مؤقتة بل نبقى أحياء فى المسيح بعد هذه الأشياء، إذ أن حياتنا كانت قد تأسست وأعدت بالمسيح يسوع قبل هذه الأشياء.( الثانية ضد الآريوسيين : 76 )
   33- " ولم يكن من اللائق إذن أن نؤسس حياتنا بأى طريقة أخرى سوى أن تؤسس فى الرب الذى هو كائن منذ الأزل، والذى به قد خُلقت العالمين،  ...، لذا فقد خطط هذا. وذلك مثلما لو كان مهندسا حكيما يريد أن يبنى منزلاً فإنه يخطط فى نفس الوقت كيفيه تجديده مرة أخرى لو تدمر يوماً ما بعد أن يتم بناؤه، ... وبنفس الطريقة فإن تجديد خلاصنا قد تأسس فى المسيح قبلنا، لكى يمكن إعادة خلقنا من جديد فيه، فالإرادة والتخطيط قد أعدا منذ الأزل، أما العمل فقد تحقق عندما استدعت الحاجة وجاء المخلص إلى العالم. لأن الرب نفسه سيكون فى السماء من أجلنا أجمعين وسيأخذنا معه إلى الحياة الأبدية.( الثانية ضد الآريوسيين : 77 )
                         ماهية ( طبيعة ) تدبير التجسد
                          أولا :  الإعلان المزدوج عن المخلص
   ماهذا العجب الذي لأمر تدبير التجسد ! يتأنس الله فيتأله  الإنسان . أمران متناقضان ولكنهما يحدثان في تواز وتزامن . يظهر الكلمة مجد لاهوته في جسده الخاص ، فيقوم الإنسان يسوع بشفاء المرضى وإقامة الموتى وأشياء أخر كثيرة من الآيات التي عجز يوحنا الإنجيلي عن حصرها ، ويتعرض يسوع لمظاهر الضعف والنقص  البشري من ولادة ونمو وجوع وعطش وألم وموت ، فيقبل الكلمة أن تنسب إليه كل هذه المظاهر . وهو حينما أظهر مجد لاهوته في جسده فقد أعلن عن تأليهه له ، وحينما قبل أن يحمل كل النقائص والضعفات بل والعار البشري فقد أعلن عن شفاء البشر وتحررهم من كل هذا.
في تبادلية عجيبة يعطي مجد التأله والخلود مظهرا إياه في جسده ، وفي ذات الجسد يقبل الضعف والألم والموت ليعلن الشفاء والتحرر . تبادلية عجيبة بين الإيجابي والسلبي الذين هما وجهان للتدبير ، وجه المجد ووجه التحرر من العار :
   34- " وهكذا تمّ فعلان متناقضان فى نفس الوقت: الأول هو: أن موت الجميع قد تمّ فى جسد الرب ( على الصليب ) والثانى: هو أن الموت والفساد قد أبيدا من الجسد بفضل اتحاد الكلمة به. فلقد كان الموت حتميًا، وكان لابد أن يتم الموت نيابة عن الجميع لكى يوفى الدين المستحق على الجميع. ( تجسد الكلمة20 : 5)
   35- " أما من لا يؤمن بقيامة جسد الرب فهذا سيبدو أنه يجهل قوة كلمة الله وحكمته. لأنه إن كان ـ كما بيّنا سابقًا ـ قد اتخذ لنفسه جسدًا وهيأه بطريقة لائقة ليكون جسده الخاص، فما الذي كان سيصنعه الرب بهذا الجسد؟ أو ماذا كان يمكن أن تكون نهاية هذا الجسد بعد أن حلّ فيه الكلمة؟ لأنه كان لابد أن يموت إذ هو جسد قابل للموت، وأن يُقدَّم للموت نيابة عن الجميع. ولأجل هذه الغاية أعده المخلّص لنفسه. لكن كان من المستحيل أن يبقى هذا الجسد ميتًا بعد أن جُعِلَ هيكلاً للحياة. ولهذا إذ قد مات كجسد مائت فإنه عاد إلى الحياة بسبب "الحياة" التي فيه. والأعمال التى عُملت بالجسد هى علامة لقيامته. ( تجسد الكلمة 31: 4 )
   36- " لأن كلمة الله صار إنسانًا لكى يؤلهنا نحن، وأظهر نفسـه في جسد لكى نحصل على معرفة الآب غير المنظور، واحتمل إهانة البشر لكى نرث نحن عدم الموت. لأنه بينما لم يَمسّه هو نفسه أى أذى، لأنه غير قابل للألم أو الفساد، إذ هو الكلمة ذاته وهو الله، فإنه بعدم قابليته للتألم حَفِظَ وخلّص البشر الذين يتألمون والذين لأجلهم احتمل كل هذا. ( تجسد الكلمة 54: 3 )
   37- ..." لأنه وإن كان الكلمة وهو الكائن فى صورة الله، إتخذ صورة عبد، إلا أن إتخاذه للجسد لم يجعل الكلمة وهو رب بالطبيعة أن يكون عبداً، بل بالأحرى فإن الكلمة بهذا الحدث قد حرر كل البشرية. إن الكلمة نفسه وهو بالطبيعة الرب قد جُعل إنساناً، ومن خلال صورة العبد صار رب الجميع ومسيحاً، أى لكى يقدس الجميع بالروح ".( الثانية ضد اللآريوسيين : 14 )
   38- " والآن فإن هدف الكتاب المقدس وميزاته الخاصة كما قلنا مرارا هو أنه يحوي إعلانا مزدوجا عن المخلص : أي أنه كان دائما إلها وأنه هو الابن  إذ هو كلمة الآب وشعاعه وحكمته ، ثم بعد ذلك اتخذ من أجلنا جسدا من العذراء مريم والدة الإله ، وصار إنسانا... فأولا ، يقول يوحنا" في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله ، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء " مما كان "( يو1: 1- 3 ). وبعد ذلك يقول" والكلمة صار جسدا ، وحل بيننا ، ، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب"( يو1: 14 ). ثم يكتب بولس" الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون مساويا لله، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب "( الثالثة ضد الآريوسيين : 29 )
      39- "... وبناء على هذا فقد قيل عن خواص الجسد إنها خاصة به حيث أنه كان فى الجسد، وذلك مثل أن يجوع، وأن يعطش، وأن يتألم، وأن يتعب، وما شابهها من الأمور المختصة بالجسد، ....وحسناً قال النبى "حملها" (أش4:53، مت17:8) ولم يقل أنه "شفى ضعفاتنا" لئلا إذ تكون هذه الضعفات خارج جسده هو" وهو يشفيها فقط – كما كان يفعل دائماً فإنه يترك البشر خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، إحتمل هو نفسه خطايانا، لكى يتضح أنه قد صار إنساناً لأجلنا، وأن الجسد الذى حمل الضعفات، هو جسده الخاص، وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبداً "بحملة خطايانا فى جسده على الخشبه" كما قال بطرس ، فإننا نحن البشر قد أفتدينا من أوجاعنا وأمتلأنا ببر الكلمة ".( الثالثة ضد الآريوسيين : 31 )
   40- "... لهذا السبب إذا كان ضرورياً وملائماًُ أن لا تنسب مثل هذه الآلام لآخر، بل للرب، حتى تكون النعمة أيضاً منه ولا نصير نحن عابدين لآخر ولا إنساناً عادياً، بل ندعو الإبن الطبيعى والحقيقى لله، الذى صار إنساناً وهو فى نفس الوقت الرب والإله والمخلص ".( الثالثة ضد الآريوسيين : 32 )
   41-  " لأنه لو كانت أعمال إلوهية الكلمة لم تحدث بالجسد، لما كان الإنسان قد تأله، وأيضاً لو أن الضعفات الخاصة بالجسد لم تنسب للكلمة، لما كان الإنسان قد تحرر منها تماماً، وحتى لو أنها كانت قد توقفت لفترة قليلة كما قلت سابقاً، لظلت الخطية وظل الفساد باقيان فى الإنسان، كما كان الحال مع الجنس البشرى قبله   ... لذلك فإنه بطريقة مماثلة قد نقل إلى نفسه أوجاع الجسد الأخرى لكى يكون لنا شركة في الحياة الأبدية – ليس كبشر فيما بعد بل أيضاً لأننا قد صرنا خاصين بالكلمة ...لأننا لم نعد نموت بحسب بدايتنا الأولى فى آدم، بل بسبب أن بدايتنا وكل ضعفات الجسد قد إنتقلت إلى الكلمة، فنحن نقوم من الأرض، إذ أن لعنة الخطية قد أُبطلت بسبب ذاك الذى هو كائن فينا، والذى قد صار لعنة لأجلنا. وكما أننا نحن جميعاُ من الأرض وفى آدم نموت هكذا نحن إذ نولد من فوق من الماء والروح فإننا فى المسيح نحيا جميعاً. فلا يعود الجسد فيما بعد أرضياً بل يصير إلهياً كالكلمة، وذلك بسبب كلمة الله الذى لأجلنا صار جسداً.  ( الثالثة ضد الآريوسيين : 33 )
   42- " ولكى ما نصل إلى معرفة أكثر دقة بخصوص عدم قابلية طبيعة الكلمة للتألم وبخصوص الضعفات التى نُسبت له بسبب الجسد، جيد لنا أن نستمع إلى الطوباوى بطرس لأنه شاهد موثوق فيه عن المخلص. فهو يكتب فى رسالته هكذا " فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد"  ، لذلك أيضاً فحينما يقال عنه، أنه يجوع، وأنه يعطش، وأنه يتعب، وأنه لا يعرف، وأنه ينام، وأنه يبكى، وأنه يسأل، وأنه يهرب، وأنه يولد، وأنه يتجنب الكأس،  ... وعندما يُقال إنه لم يعرف وإنه لُطم، وأنه تعب...، وأيضاً عندما يُقال أنه صعد وأنه قد ولد وكان ينمو ...وكذلك عندما يقال إنه خاف وأختبئ ،...  وكذلك عندما يقال إنه ضُرب وإنه أخذ، فإن كل هذه كانت بالجسد لأجلنا. وعلى وجه العموم فكل مثل هذه الأمور هى بالجسد لأجلنا. ولهذا السبب قال الرسول نفسه إن المسيح عندما تألم، لم يتألم بلاهوته بل "لأجلنا بالجسد". لكى لا تعتبر هذه الآلام خاصة بطبيعة الكلمة ذاتها، بل هى خاصة بطبيعة الجسد ذاتها، لذلك لا ينبغى أن يعثر أحد بسبب الأمور الإنسانية، بل بالحرى فليعرف، أن الكلمة نفسه بالطبيعة هو غير قابل للتألم، ومع ذلك فبسبب الجسد الذى لبسه تقال عنه هذه الأمور...، فبينما هو نفسه غير قابل للتألم بالطبيعة ، ويظل كما هو دون أن تؤذيه هذه الآلام، بل بالحري إذ هو يوقفها ويلاشيها، فإن آلام البشر تتغير وتتلاشى في ذلك الذي هو غير متألم، وحينئذ يصير البشر أنفسهم غير متألمين وأحرارا من هذه الأوجاع إلى الأبد  ... لأنه كما أن الرب بلبسه الجسد قد صار إنسانا، هكذا نحن البشر فإننا نتأله بالكلمة باتحادنا به بواسطة جسده، ولهذا فنحن نرث الحياة الأبدية ". ( الثالثة ضد الآريوسيين: 34 )
   43- " ولأن ذلك الذى يُقال عنه إنه صالح وجميل يعتبر لديهم قبيحًا ورديئًا ، أقول بالتأكيد إنه حسن أنه أخذ فى اعتباره عندما قال " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا الملائكة ولا الابن " ( مر32:13 ) لأن أولئك الذين يفكرون فى القول " ولا الابن " ، يعنون به أن الابن مخلوق . وحاشا أن يكون هكذا . لأنه عندما يقول " خلقنى " فإنه يتكلم بشريًا ، وعندما يقول " ولا الابن " فإنه يتكلم عن المعرفة البشرية . ... فإنه إذ قد صار إنسانًا فقد أظهر جهل البشر فى نفسه، أولاً لكى يُظهر أن له جسدًا بشريًا حقًا، وثانيًا ، لكى ـ عندما يكون له فى جسده جهل البشر ، يقدم للآب جنسًا بشريًا مُفتدى من بين الجميع ، وطاهرًا وكاملاً ومقدسًا ".( الرسالة إلى سرابيون ضد القائلين بخلقة الابن : 9 )
   44- " لأن تلك الأشياء التى كان يتألم منها ، جسد الكلمة ، البشرى ، كان الكلمة الذي سكن في الجسد ينسبها لنفسه ، لكى نستطيع نحن أن نشترك في لاهوت الكلمة . ومن الغريب ، أن الكلمة نفسه كان متألمًا وغير متألم ، فمن ناحية ، كان يتألم لأن جسده هو الذي كان يتألم وكان هو المتألم فيه، ومن الناحية الأخرى ، لم يكن الكلمة يتألم ، لأن الكلمة ـ إذ هو إله بالطبيعة ـ فهو لا يقبل التألم. وكان الكلمة غير الجسدى موجودًا في الجسد الذي يتألم، وكان الجسد يحوى فيه الكلمة غير المتألم الذي كان يبيد العلل التى قبلها في جسده. وكان يصنع هذا ، وهكذا كان يصير ، كى ، بعد أن يأخذ ما لنا ويقدمه كذبيحة ، ... وهكذا يلبسنا ما له ، وهذا ما يجعل الرسول يقول : " لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت " .( الرسالة إلى أبكتيتوس ضد الهراطقة : 6 )
   45- "... لأن الابن إذ هو الله ورب المجد، كان في الجسد الذي سُمِرَ وأُهين بخزى، أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه دم وماء. ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءًا من اللاهوت ... ولكن الجسد نفسه ، وهو من طبيعة مائتة ، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذي فيه، وتوقف فساده   الطبيعى، وإذ قد لبس الكلمة الذي هو فوق الإنسان هذا الجسد ، فقد صار غير فاسد ( الرسالة إلى أبكتيتوس : 10 )
   46- " ولكن هذه ( الانفعالات) لم تكن من طبيعة الكلمة، حسب كونه الكلمة، بل هي في الجسد الذي تأثر بها هكذا والذي كان الكلمة فيه،...لأنه لم يقل كل هذا قبل الجسد ولكن حينما "صار الكلمة جسدا " وصار إنسانا ، حينئذ كتب عنه أنه قال هذا، أي إنسانيا . فالذي كتب عنه هذا ، هو الذي أقام لعازر من الأموات، وحول الماء خمرا، ووهب النظر للمولود أعمى، وقال : أنا والآب واحد"( يو10: 3 )،... لأنه قد أعطي لهم أن يروا كيف أن الذي يعمل هذه الأعمال هو نفسه الذي أظهر جسده متألما بسماحه له بالبكاء والجوع، وأن يظهر الخواص الأخرى للجسد .(  الثالثة ضد الآريوسيين : 55 )
   47- " ...لأنه هوذا حينما قال" لماذا تركتني ؟ " أظهر الآب أنه كان دائما فيه وحتى في تلك اللحظة لأن الأرض إذ تعرف ربها الذي تكلم ارتعدت في الحال، وانشق حجاب الهيكل، واحتجبت الشمس وتشققت الصخور وتفتحت القبور- كما قلت سابقا- وقام الأموات الذين كانوا فيها، والمدهش أيضا أن أولئك الذين كانوا حاضرين عندئذ وكانوا ينكرونه قبلا، بعد أن رأوا هذه الآيات اعترفوا قائلين" حقا كان هذا ابن الله (  الثالثة ضد الآريوسيين : 56 )
   48- " لأنه كما أباد الموت بالموت، وبوسائل بشرية أبطل كل ما للإنسان ( من ضعفات ) هكذا أيضا بهذا الذي يدعى خوفا، نزع خوفنا" وأعطى الناس أن لا يعودوا يخافون الموت فيما بعد . فكلمته وفعله يحدثان معا، لأن الأقوال" أعبر عني الكأس" و" لماذا تركتني؟" هي إنسانية وهو قد جعل الشمس تحتجب، والموتى يقومون، إلهيا . وأيضا إنسانيا قال" الآن نفسي قد اضطربت"(يو12: 27 ).وإلهيا قال" لي سلطان أن أضع نفسي، ولي سلطان أن آخذها أيضا"(يو10: 18 ).فكونه يضطرب فهذا أمر خاص بالجسد، وأن يكون له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها أيضا حينما يريد، فهذا أمر ليس خاصا بطبيعة البشر، بل بقوة الكلمة. لأن الإنسان لا يموت بسلطانه الخاص بل باضطرار الطبيعة ورغم إرادته ، أما الرب، فلأنه هو نفسه غير مائت، ولكن لأنه أخذ جسدا مائتا، فله السلطان كإله ، أن يفصل النفس عن الجسد، وأن يعيدها أيضا، حينما يريد. وداود يرتل عن هذا قائلا " لن تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدوسك يرى فسادا "( مز15: 10 س).  لذلك كان يجب أن الجسد الذي كان قابلا للفساد، لا يبقى فيما بعد مائتا حسب طبيعته الخاصة، بل بسبب الكلمة الذي لبسه يبقى غير قابل للفساد. لأنه كما صار هو في جسدنا، وشابه مالنا ، هكذا نحن، إذ نقبله  فإننا ننال عدم الموت الذي هو منه .( الثالثة ضد الآريوسيين : 57 )
   49- " فقد أراد ان يكون له جسد طبيعي يتحد بلاهوته. وهكذا أيضا تم الموت، ومات الجسد موتا طبيعيا في الوقت الذي كان الكلمة فيه ويمسكه بإرادته لكي يقدم جسده بسلطانه الذاتي( يو10: 18) . فتألم طبيعيا ومات طبيعيا عوضا عنا، ولكنه قام لأجلنا إلهيا . وهكذا كل ما عمله منذ البشارة إلى الموت، إنما كان يهدف إلى هدف واحد وهو أن يخلصنا ويعيدنا إليه ".( تجسد ربنا يسوع المسيح: 6 )

   50- " إنه لم يحتقر الوجود الإنساني ولم يهمله ، فأخذ خيالا إنسانيا بدلا من الجسد الإنساني ، وإنما هو بذاته الإله ولد كإنسان ، لكي يصبح الله والإنسان واحدا، كاملا في كل شيء، فولد ميلادا حقيقيا وطبيعيا ".( تجسد ربنا يسوع المسيح : 7 )
   51- "... هو بذاته الكلمة الله الذي أعلن لنا خلوده وعدم فساده وعدم تغيره . وهو بذاته الإنسان لأنه سمر على الصليب بالمسامير وسال دمه ودفن جسده في القبر ونزل إلى الجحيم، وقام من الأموات. وهكذا قام المسيح من الأموات ولكن كإله هو الذي يقيم الأموات. ( ظهور المسيح المحيي : 18 )
   52- "... لأنه إن كان الجسد نفسه، في حد ذاته هو جزء من عالم المخلوقات ، إلاّ أنه صار جسد الله . فنحن من ناحية ، لا نفصل الجسد عن الكلمة ، ونعبد مثل هذا الجسد في حد ذاته ، ومن ناحية أخرى ، عندما نريد أن نعبد الكلمة ، فإننا لا نفصل الكلمة عن الجسد ، ولكننا ـ كما سبق أن قلنا ـ إذ نعرف أن "الكلمة صار جسدًا " فإننا نعرفه كإله أيضًا ، بعد أن صار في الجسد " ( الرسالة إلى أدلفيوس : 3 )
                ثانيا:  السر العجيب وراء تعبير " بلا خطية "
   بتجسد الكلمة صار إنسانا من بني جلدتنا وأظهر كل مظاهر ضعفنا ونقصنا الذي بلغ ذروته بالآلام والموت ، ولكن أمرا واحدا لم يشبهنا فيه وهو الخطية . والأمر ليس تعسفيا أو مجرد صبغة رومانسية لما ينبغي أن يكون عليه حال المخلص الموعود به . فالخطية هي حالة تنجم من الصراع الداخلي لإنساننا العتيق ، الأمر الذي يكشف فجوة وجفوة وعزلة بين الإنسان والله . الخطية بتعبير آخر هي حالة انعدام الشركة في الطبيعة الإلهية . وإذا كان الرسول يوحنا يكتب " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله"( 1يو3: 9 ) ، فماذا عن الابن الوحيد المتجسد  ؟ هل يستطيع أن يخطئ ؟ بالتأكيد هو لا يستطيع ان يخطئ ، ليس لأنه قد خضع لضرورة ما ، بل لأنه لا يستطيع أن يتناقض مع نفسه ويتخلى عن عمله ويفسد التدبير حتى ما يعيد الإنسان إلى عزلته ،أي الخطية .
وماذا عن جسد الكلمة الخاص ، أول باكورة بشرية ظاهرة في الله ؟ إذا كان الإنسان يسوع هو الإنسان الذي يحل فيه ملء اللاهوت ، فهل توجد أي عزلة أو فجوة بين ألوهيته وإنسانيته ؟ إذا كان يسوع شخصا تثمره وحدة أقنومية بين الإنسان والكلمة فهل يوجد أي جدوى بخصوص سؤال الخطية ؟
بتجسد الكلمة تجدد الإنسان وظهر يسوع باكورة للإنسان الجديد ، وهذا ما قد تكشف في منازلة الشيطان له . فقد جاء العدو رئيس العالم ، والذي عنده كل مفاتيح ودوافع الزرع القديم ، جاء ليبحث وليطمئن على ما كان يظنه أحد رعايا مملكته ، فإذ به يجد أن كل شيء قد صار جديدا ، وقد اختفت سطوة العتيق البالي ، فذهب ذليلا مهزوما .
خلاصة  الأمر عند أثناسيوس هو أن الإنسان يسوع هو إنسان بلا خطية ولا يقدر أن يخطئ لأنه الإنسان الجديد " الروحاني ، آدم الثاني الرب الذي من السماء "( 1كو15 : 45 – 48 ) الذي بخميرة جدته تجدد الجميع :
   53- "... وكما قلنا مراراً وتكراراً فإن الكلمة بلبسه للجسد بدأ يبطل منه كلية كل لدغة من لدغات الحية، ويقطع منه أى شئ ينبع من حركات الجسد، ويبطل معها أيضاً الموت الذى يتبع الخطية كما قال الرب نفسه : "رئيس هذا العالم يأتى وليس له فىَّ شئ" . وحيث أن أعمال إبليس قد نُقِضت من الجسد فقد تحررنا جميعاً بسبب علاقتنا بجسده، وصرنا متحدين مع الكلمة "ولأننا متحدون مع الله فلن نمكث كثيراً بعد على الأرض، بل كما قال هو نفسه: "حيث يكون هو هناك نكون نحن أيضاً ". ( الثانية ضد الآريوسيين: 69 )
    54- "... لأن الله لم يخلق الإنسان خاطئا بل خلقه في عدم خطية ولكن غواية الشيطان جعلته يعصى وصية الله فأخطأ للموت . ولذلك أخذ كلمة الله هذه الطبيعة وجددها وجعلها في حالة لا تقبل الغواية ولا تخطئ ، وهذا ما جعل  الرب يقول " رئيس هذا العالم آت وليس له في شيء "( يو14: 30 ). إن رئيس العالم لم يجد شيئا يخصه في المسيح لأن المسيح لم يتخل عن عمل يديه ولم يتركه لرئيس العالم، ولذلك السبب أيضا عجز رئيس العالم عن أن يجد فيه شيئا. وهكذا أظهر المسيح التجديد وأسس الكمال وحقق خلاص الإنسان كله ، أي النفس العاقلة والجسد لكي تكمل القيامة ".( تجسد ربنا يسوع المسيح : 15 )
   55- " أما عن الصراع الكامن في طبيعتنا فهو ما اخترعناه نحن من شرور نبتت من غواية الشيطان الذي علمنا كيف نعصى الله .....أما الرب فقد تجسد دون أن يتخلى عن ألوهيته ، وهو ما يعني أنه لا يوجد فيه صراع داخلي صادر من الطبيعة القديمة أي إنساننا القديم. هذا يجعلنا نتعلم منه كيف " نخلع الإنسان القديم، ونلبس الإنسان الجديد"( أف4: 22و 24). وهذا في حد ذاته سر عجيب فقد صار الرب إنسانا ولكن " بلا خطية "، وصار بذلك الإنسان الجديد الكامل فكشف عما يقدر أن يفعله من أجلنا ".( تجسد ربنا يسوع المسيح : 17 )
   56- " لذلك جاء ابن الله لكي يجدده في طبيعته، ويمنحه بداية جديدة ميلادا ثانيا عجيبا، وليس بتقسيم الطبيعة الإنسانية، تاركا العنصر الذي أفسده الشيطان تحت سيادة الشيطان، وإنما بالقضاء التام على العنصر الذي خلق تناقض الإنسان مع الله.. وهكذا بالطبيعة التي دخلت بها الخطية إلى العالم ، هي بذاتها التي يظهر منها البر، وبذلك وحده تباد أعمال الشيطان بتحرير الطبيعة الإنسانية من الخطية ". ( ظهور المسيح المحيي :6 )
    57- "   مخاطبا الهراطقة   : "... ولكن ليس هذا إيمانكم لأنكم تقولون" إذا كانت الطبيعة التي أخطأت لم تعد تخطئ عندما صارت كائنة في الله ، فهذا يعني أنها صارت تحت ضغط بسبب ضرورة وجودها في الله ، ولكن ما هو تحت الضغط هو في الحقيقة تحت القهر والإكراه". أخبرونا هل عدم الخطية هو حالة تنشأ من الضرورة والقهر، إذن الخطية هي حالة طبيعية عندما لا توجد ضرورة . وهذا يعني أنكم توافقون على أن خالق الطبيعة هو مصدر الخطية ومصورها. أما إذا كانت هذه الكلمات تجديفا، فالخطية تنشأ من قوة مؤثرة قاهرة وخارجية ويصبح عدم الخطية هو في الطبيعة. ولذلك لم يكن بالقهر وبالضرورة أن صورة العبد لم تخطئ عندما رأيناها في ألوهية الله الكلمة وإنما هو قد حطم حاجز القهر والضرورة و " ناموس الخطية  " . ( ظهور المسيح المحيي: 9 )
    58- "... ولذلك السبب اقترب الشيطان من يسوع كإنسان، ولكنه لم يجد فيه ملامح الإنسان القديم ولا الزرع الذي زرعه في الإنسان، ولذلك لم ينجح في تجاربه ، فهزم واندحر في اضطراب وعجز .. لذلك قال الرب " رئيس هذا العالم آت ولن يجد شيئا في "... وهكذا أبيدت الخطية بالمسيح . وهذه هي شهادة الأسفار عنه " لم يخطئ ولا وجد في فمه غش " . ( ظهور المسيح المحيي: 10 )
   يتبع
 مجدي داود