السبت، 25 مايو 2013

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 4 )


                        
                     
                       ثالثا :  موت المسيح وقيامته
   لقد كان مشهد الصلبوت المأساوي مشهدا كاشفا لعمق أعماق التدبير؛ إذ قد تكشف بجلاء شديد أن الكلمة بتجسده قد أظهر إنسانيته الخاصة إنسانية جديدة خالدة عديمة الألم والموت . ينتهي المشهد الجلل بالصرخة المدوية للمعلق على الخشبة " إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟". تفارق نفسه جسده فيموت موتنا . يوضع جسده الظاهر في القبر . ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد المأساوي ، فالأمر كله تحت سيطرة التدبير،  إذ يتجلى أن صورته الإنسانية الباطنية غير قابلة للموت ، بل ومتحدية له ، ليس على مستواه الشخصي بل على مستوى الجميع ، فينزل الكلمة إلى الجحيم  محتجبا في هذه الصورة ، فيكرز للأروح الحبيسة ويحلها من أسرها مؤسسا القيامة . وهنا يتكشف وجه آخر لما يستعلنه المشهد ، إذ قد حدث تغير جذري دراماتيكي بالنسبة لنا ، فقد حدث تحول من مشهد صليب العار إلى حقيقة وواقع الصليب المحيي  ،إذ تكرس طريق خلاص الذين يؤمنون بالمسيح وذلك حينما يقبلون أن يشتركوا في صليب وموت المسيح بفعل مماتية الروح القدس فيقومون من موتهم لينضموا إلى بكرهم وبذلك يكونون قد استقبلوا  ثمر التجسد في أجسادهم ، ويكونون قد قبلوا استحقاق ما صنعه الكلمة لجسده الخاص – عندما صار جسدا خاصا به – في أجسادهم ، وتصبح إنسانية يسوع المنتصرة رأسا لوجودهم الإنساني الجديد ، أي الكنيسة .
   78- " إنه لم يذهب إلى الجحيم بجسده بل ذهب إلى الجحيم لكي يبشر النفوس التي كانت في سلاسل العبودية، وذهب وبشر بصورة إنسانيته التي لم تخضع لسلطان الموت ، بل غلبت الموت ودحرته ، وهكذا كان حاضرا مع الموتى لكي يصور أساس القيامة ويحطم السلاسل التي كانت تربط النفوس الأسيرة في الجحيم . وهكذا أعلن أنه خالق الإنسان ومصوره، والذي حكم على الإنسان بالموت، جاء وبحضوره في الصورة الإنسانية ، وبإرادته وحده حرر الإنسان من حكم الموت ، لأن الموت لم يستطع أن يقوى على نفس المسيح الإنسانية التي اتحدت باللوغوس، بل عجز الموت عن أن يستعبدها، ولا استطاع الفساد أن يذلها أو يأسرها، ومع أن الموت فصل النفس عن الجسد، إلا أن الفساد لم يتجاسر على أن يقترب من أيهما لأن كل الذي حدث ، إنما كان تحت السيطرة الإلهية وعنايتها ". ( تجسد ربنا يسوع المسيح : 14 )

" صورة أو "  morphi " تعني الصفات والمميزات والخصائص التي تكون الكائن ولذلك قيل أن المسيح كان في صورة الله أي له ذات صفات وخصائص الله، وبالاتحاد بين اللاهوت والناسوت صارت الصورة الإنسانية في المسيح غير قابلة للموت وهو ما جعل بشارة المسيح في الجحيم أساسية لكي ينزل إلى مجال الموت بنفسه الإنسانية وهناك يصور أو يخلق القيامة ويطلق سراح الاسرى من البشر ". (     تعليق د/ جورج حبيب  على النص ، هامش ص35  )
    79- " إن الجحيم لم يكن يستطيع أن يحتمل ظهور اللاهوت غير محجوب في النفس الإنسانية "( تجسد ربنا يسوع المسيح : 17 )
   80- " وهكذا " بنفس " الآلة، انحلت قبضة الموت، والقيامة من الجحيم تمت، والأرواح الأسيرة سمعت البشارة المفرحة، "وبجسد" المسيح أبطل الفساد وسطع عدم الفساد من القبر. وهكذا لم ينفصل الإنسان عن الله ولا تخلى الله عن الإنسان ، ولا بالموت وانفصال الروح كان اللاهوت قد فارق الجسد وإنما فارقت النفس الجسد وبذلك تم موتنا نحن .( ظهور المسيح المحيي : 15)
        ملحوظة : استخدم المعرب  مفردات " اللاهوت " و" الناسوت " بدلا من " الله "و "الإنسان " ، ثم عاد واستدرك في الهامش موضحا أن الأصل الوارد في النص اليوناني هو " الله والإنسان ". والأمر في الصيغة الأصلية ذو دلالة مهمة ، فما يتحدث عنه أثناسيوس هو إنسانية يسوع الكاملة بظاهرها وباطنها وإن كان الجسد قد " ترك" من اللاهوت ووضع في القبر فهذا لايعني أن كيان يسوع الإنساني قد خضع للموت أو هزم منه ، فحياته الإنسانية ( الصورة الإنسانية ) التي تعبر عن كل إنسانيته لم تهزم بل على العكس قد نزلت إلى الجحيم لتبشر المسبيين بالعتق من عبودية الموت وتؤسس لهم القيامة ليلحقوا ببكرهم الرب يسوع نفسه .
   81- " هذا الجسد هو الذي وُضِعَ في قبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك " ليكرز للأرواح التى في السجن " كما يقول بطرس  ". ( الرسالة إلى أبكتيتوس: 5 )
   82- " وهكذا حيث ساد الفساد على جسد الإنسان ، قدم يسوع جسده، وعندما ربطت النفس الإنسانية بقوة الموت، قدم يسوع نفسه، فاستطاع الذي لا يمكن أن يربطه الموت أن يكون حاضرا كإنسان وأن يفك رباطات الموت كإله . وحيث زرع الفساد ، ينمو عدم الفساد، وحيث ملك الموت على الصورة الإنسانية أي النفس،يحضر عديم الموت والذي يعطي الخلود وبذلك يجعلنا شركاء في عدم فساده وعدم موته بالرجاء في القيامة من الموت، وهكذا تم الخلاص عندما " لبس الفساد عدم الفساد والمائت عدم الموت". " وكما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم ، وبالخطية الموت، هكذا بإنسان واحد يسوع المسيح تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية"( تجسد ربنا يسوع المسيح : 17 )
   يمثل مشهد الصليب ، المعقوب بالقيامة ، أفضل مثال لخاصية أخرى تضطلع بها علامات وإعلانات التدبير المختلفة ،وهي دلالة المشهد كلغة منطقية يخاطب بها العقل البشري ، حتى مايتم ضخ الحد الأدنى المعرفي بخصوص التدبير . لذلك نجد القديس أثناسيوس حينما يحاجج بخصوص موت الرب وقيامته فهو يستخدم  الألفاظ التي تتعامل مع منطقية العقل البشري مثل : الواضح والمعلن والدليل والبرهان والشك والظن وما هو لائق وما هو غير لائق وما هو معقول ..الخ
إذن أي مشهد من مشاهد التدبير يحمل رسالة ولغة خطاب معينة تتوافق مع العقل البشري وبالتالي توصل الحقيقة الإيمانية اللاهوتية في صيغة منطقية إنسانية تتوافق مع الحد الأدنى للإدراك البشري . هذا فضلا عن إظهار التطابق بين تفاصيل المشهد وبين النبوات القديمة . وفي حالة الصليب والقيامة نجد أن القديس أثناسيوس يتجاوز مجرد انحصار توجه الخطاب التدبيري ( إذا جاز التعبير) إلى المؤمنين بل يجده خطابا صالحا للكرازة ، أي الخطاب الذي يوجه لغير المؤمنين :
   83- "... أما التدبير فهو واضح ومعلن في الصليب لأن جسده ظهر أنه جسد حقيقي بواسطة سكب دمه، وعندما صرخ بصوت عال ، أعلن عن نفسه الإنسانية التي أسلمها دون ان تنفصل عن اللاهوت ، وإنما بخروج نفسه مات الجسد، أما اللاهوت فلم يفترق من الجسد في القبر ولا من نفسه في الجحيم ، وهذا هو معنى الكلمات التي نطق بها فم النبي " لن تترك نفسي في الهاوية ولن تدع قدوسك يرى فسادا ". ( ظهور المسيح المحيي: 14 )
   84-" ولو أنه وَضَعَ جسده (للموت) فى مكان خاص وعلى فراش كما يموت البشر عادة، لكان الناس قد ظنوا أنه ذاق ذلك (الموت) بسبب ضعف طبيعته، ولظنوا أيضًا أنه لم يكن فيه ما يميّزه عن سائر البشر". ( تجسد الكلمة  21: 5 )
   85- " ولماذا إذن لم يمنع حدوث الموت كما منع المرض من أن يسيطر (على الجسد)؟ ذلك لأنه لأجل هذا (الموت) اتخذ الجسد، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تتعطل القيامة أيضاً. ولم يكن لائقًا أيضًا أن يسبق المرض موته لئلا يُظن أن ذاك الذى كان في الجسد كان ضعيفًا ". (  تجسد الكلمة 21: 7 )
   86- " ومرة أخرى نقول لو أن جسده كان قد مات نتيجة تعرضه للمرض وانفصل عنه الكلمة أمام نظر الجميع لكان غير لائق بمن شفى أمراض آخرين أن يترك أداته الخاصة (جسده) يموت بسبب المرض. فكيف يُصدّق المرء أنه كان يشفى أمراض الآخرين إن كان هيكله الخاص قد تعرّض للمرض ؟ "( تجسد الكلمة 22: 5 )
   87- " وحتى ولو لم يكن به أي مرض أو وجع، وافترضنا أنه هو نفسه قام بإخفاء جسده "فى زاوية" أو فى صحراء أو منزل، أو أي مكان آخر، ثم بعد ذلك ظهر فجأة قائلاً أنه قام من بين الأموات، وتراءى للجميع أنه يتكلّم بكلام هذيان ولَمَا صدقوا ما قاله عن القيامة، لأنه لم يكن هناك أي شاهد على موته.  فالموت لابد أن يسبق القيامة، لأنه لا يمكن أن تكون هناك قيامة ما لم يسبقها موت ". (تجسد الكلمة 23: 1 )
   88-  " ولماذا يجعل موته سرًا إن كان، بعد ما قام، أعلن قيامته جهارًا؟ .. فلماذا لا يُظهِر أمام الجميع عدم فساد جسده الذى كان قابلاً للموت، لكى يؤمن الجميع أنه هو "الحياة" ؟ " ( تجسد الكلمة 23: 2 )
   89- " وكيف يكون لتلاميذه الجسارة على أن يتكلّموا عن القيامة إن كانوا لا يستطيعون أن يقولوا إنه مات أولاً؟ أو كيف يمكن أن يُصدِّق أحد قولهم إن الموت حدث أولاً ثم بعد ذلك القيامة لو لم يكن هناك شهود على موته من بين الذين يكلّمونهم؟ " ( تجسد الكلمة 23 : 3 )
   90- " وكيف كان يمكن تقديم البرهان على إبطال الموت والانتصار عليه لو لم يكن قد واجه الموت أمام أعين الجميع وأظهر أنه ميت، وأنه سيتلاشى كلية في المستقبل، وذلك بواسطة عدم فساد جسده ؟ "( تجسد الكلمة 23: 5 )
    91- " إذًا فقد كان الموت من أجلنا على الصليب لائقًا وملائمًا. وقد اتضح أن سببه كان معقولاً من جميع الوجوه، ومن الحق أن يقال إنه لم تكن هناك طريقة أخرى يتحقق بها خلاص الجميع سوى الصليب. لأنه حتى على الصليب فإنه لم يجعل نفسه مختفيًا بل بالحرى فإنه جعل الطبيعة تشهد لحضور خالقها، وبعد ذلك لم يَدَع هيكل جسده يظل وقتًا طويلا ميتًا، إلاّ بالقدر الذى أظهر فيه أن الجسد مات باحتكاك الموت به، ثم أقامه حالا فى اليوم الثالث، حاملا عدم الفساد وعدم التألم اللذين حصلا لجسده، كعلامة للظفر والانتصار على الموت. " ( تجسد الكلمة 26: 1 )
   92- " ولقد كان يستطيع أن يقيم جسده بعد الموت مباشرة، ويظهره حيًا، ولكن المخلّص بحِكمَة وبُعد نظر لم يفعل ذلك لأنه لو كان قد أظهر القيامة فى الحال لكان من المحتمل أن يقول أحدهم إنه لم يَمُتْ بالمرة أو إن الموت لم يلمسه بشكل كامل ". ( تجسد الكلمة 26: 2 )
   93- " وربما لو حدثت القيامة فى اليوم التالي للموت مباشرة لما ظهر مجد عدم فساد جسده. ( تجسد الكلمة 26: 3 )
   94- " ولكن لو أنه أقام الجسد بعد أن بقى فترة طويلة، وبعد أن فسد تمامًا، فقد يُشَك فيه كأنه قد استبدل جسده بجسد آخر... لهذا السبب فإن الرب لم ينتظر أكثر من ثلاثة أيام " . ( تجسد الكلمة 26: 5 )
  95- ولكن بينما أقواله لا تزال تَرِنْ فى آذانهم، وعيونهم لا تزال في حالة توقع وعقولهم معلّقة حائرة، وإذ الذين قتلوه لا يزالون أحياءً على الأرض وفى المكان نفسه، ويمكن أن يشهدوا بموت جسد الرب؛ فإن ابن الله نفسه ـ بعد فترة ثلاثة أيام ـ أظهر جسده الذى قد مات غير مائت وعديم الفساد. وقد اتضح للجميع أن الجسد قد مات ليس بسبب أي ضعف فى طبيعة الكلمة الذى اتحد بالجسد، بل لكى يُباد الموت فيه (في الجسد) بقوة المخلّص.( تجسد الكلمة 26: 6 )
   96- "... وإن كان المسيح قد أمات الموت فماذا كان ممكنًا أن يحدث  إلاّ أن يقيم جسده ويظهره كعلامة للنصرة على الموت؟ أو كيف كان ممكنًا إظهار ما لم يكن جسد الرب قد قام؟   (تجسد الكلمة 30: 2 )
    97- " الكتب المقدسة أيضًا لم تصمت عن ذكر موته، بل على العكس أشارت إليه بوضوح تام. ولكي لا يتشكك أحد بسبب نقص المعرفة للأحداث الفعلية، فإنها لم تخش أن تتحدث عن سبب موته... كما تحدثت الكتب عن مؤامرات اليهود ضده وما لاقاه من إهانات منهم ". (تجسد الكلمة 34: 1 )
   98- " لأن موسى هو أول من تنبأ عنه بصوت عالٍ قائلاً: "وترون حياتكم معلقة أمام أعينكم ولا تؤمنون" ومن بعده شهد الأنبياء قائلين: "وأنا كحمل برئ يساق إلي الذبح ولم أعلم أنهم تآمروا عليّ قائلين تعالوا لنلقى على خبزه شجرة ونقطعه من أرض الأحياء" . ( تجسد الكلمة 35 : 2 )
   99- " وأيضًا " ثقبوا يدي ورجلي، وأحصوا كل عظامي، اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا القرعة" .( تجسد الكلمة 35 : 3 )
   100- " فالموت الذي يُرفع فيه الإنسان إلى فوق في الهواء ويُعلّق على خشبة لا يمكن إلاّ أن يكون موت الصليب. وأيضًا اليدان والرجلان لا تثقبان في أى موت سوى موت الصليب".( تجسد الكلمة 35 : 4 )
                            خلاصة 
     كيف ندرك المدلول اللاهوتي لإعلانات ( مشاهد ) التدبير المختلفة ، من ميلاد الرب في مزود للبقر و نموه في القامة ومسحته في مياه الأردن وصلبه وقيامته وصعوده ؟ اعتقد أنه قد بات واضحا من خلال النصوص السابقة أننا  نستطيع أن نرصد إشارات واضحة عند أثناسيوس بخصوص   المدلول العميق لمشهد تدبيري ما ، من خلال النقاط الحاكمة الآتية :
  أولا: التجسد هو النقطة الحاكمة الأم؛ فمحورية التجسد أمر أساسي حاكم في أمر تدبير خلاصنا . ولا يوجد أي ثمر يرتجى أو نعمة تبتغى ، خارجا عن ما قد حدث لجسد الكلمة الخاص الصائر رأسا ومنبعا للنعمة .
  ثانيا : الإعلان التدبيري كاشف لواقع يسوع ، منشئ لواقع الكنيسة : 
    مشهد الولادة
     يكشف أن يسوع الإنسان مولود كرب للحياة الأبدية قبل أن يولد في المذود، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في حياة الكلمة بفضل الوحدة الأقنومية معه، وهذه هي شهادة أليصابات تؤكد هذ الأمر، إذ قد شهدت بأن العذراء- التي ماتزال حبلى ، في ذلك المشهد - هي أم الرب (  لو1: 43). وبالتأكيد لم تكن أليصابات تشيير إلى ربوبية الكلمة ، في لاهوته العاري ، بل إلى الكلمة المتجسد الذي بالفعل كان قد ظهر متجسدا مع ظهور الجنين في رحم العذراء ، فالكلمة لم يصر ربا،  في ذلك الحدث، إلا بظهوره متجسدا. أيضا لايمكن أن يطلق على العذراء أنها أم الرب إلا حينما صار الكلمة جسدا، وهو بالفعل قد حل بيننا ( فينا ) بمجرد ظهوره جنينا في رحم أمنا المطوبة . هذا بالإضافة إلى أن مشهد ولادته   يكرس بدايتنا نحن للحياة الجديدة وولادتنا من فوق وتبنينا للآب السماوي بالشركة في ابنه المتجسد في الروح القدس. ولذلك نحن نستدعي كل عام مشهد ولادته كمناسبة للاحتفال والفرح بولادتنا الجديدة التي كشفها ميلاد الكلمة المتجسد في تاريخنا .
   مشهد المسحة في الأردن
    يكشف أن يسوع الإنسان ممسوح بالروح قبل أن يدلف إلى مياه الأردن ، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في وحدة أقنومية مع من يهب روح المسحة . وإذا كان الإنسان يسوع واحدا مع الابن فهو في ذات الحدث واحد مع الآب ومع الروح ، لأن الشخص ( من شخوص الثالوث ) لايحضر منفردا بل في شركة مع الشخصين الآخرين ، وبينما الإنسان يسوع كائن في وحدة أقنومية مع الابن ، فهذا يعني أنه في وحدة مع من هو في ضمنية متبادلة مع الآب والروح .
 أيضا معمودية الأردن - وظهور الروح مثل حمامة ، وسماع صوت الآب " هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " - تكرس مسحتنا نحن ككنيسة ، وصيرورتنا موضوعا لمسرة الآب باجتماعنا كأعضاء في جسد ابنه . فلم يكن الآب - في الأردن - مخاطبا للابن - في لاهوته العاري ( naked )- بل كان مخاطبا الابن الظاهر في كنيسته المكتملة ، لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد معمودية الرب كمناسبة للاحتفال والفرح بمسحتنا فيه.
   مشهد الصليب
   يكشف أن يسوع الإنسان مصلوب قبل أن يعلق على الخشبة، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي سمرت فيه كل أهواء البشرية وميولها الردية وإرادتها الضعيفة المنحرفة ، بفضل الكلمة الكائن معه ، في وحدة أقنومية لا تسمح  بأي عزلة أو خطية أو شر .
هذا بالإضافة إلى أن مشهد الصلبوت المهيب يكرس لنا طريقا للخلاص بالشركة في آلام وموت الرب المحيي الذي نجتازه معه من خلال مماتية الروح القدس ، فنصلب الجسد مع الأهواء والشهوات   ، نصلب العتيق ، فيموت معه ،على حساب خلقة الجديد . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد آلامه وموته للاحتفال بصليبه المحيي الذي كشفه لنا في ذلك الزمان ، كطريق لفصحنا نحو الحياة وعدم الموت .
   مشهد القيامة
    يكشف أن يسوع الإنسان منتصر على الموت قبل أن يعلن ذلك في اليوم الثالث لموته ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الشريك في حياة الكلمة ، بفضل الوحدة الأقنومية التي تجمعهما  في شخص واحد .
هذا بالإضافة إلى أن مشهد القيامة يكرس ويدشن قيامتنا فيه وبه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد قيامته المظفرة للاحتفال بقيامتنا معه  بتدبير ظهور  باكورة قيامتنا وخلودنا ، الرب القائم ذاته .
   مشهد الصعود
   يكشف أن يسوع الإنسان صاعد إلى السماء قبل أن يرتفع وسط دهشة تلاميذه الشاخصين إليه ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي كان ظهوره كاشفا لنزول الكلمة إلى عالمنا ، ونزول الكلمة إلى الإنسان يعني صعود الإنسان في الكلمة إلى الآب .
 إذن بالإضافة إلى أن مشهد الصعود يكرس بدء زمن صعودنا فيه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد صعوده لنحتفل بتكريس صعودنا فيه إلى الآب ، فهاهي بشارة المجدلية إلى التلاميذ ، والتي حملت إياها من قبل الرب القائم  " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"( يو20: 17 )، فهو يصعد مرتين ، مرة حينما صعد منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بينه وبين الكلمة ( إلى أبي ، إلى إلهي )، ومرة ثانية حينما يصعد كنيسته فيه إلى الآب ( إلى أبيكم ، إلى إلهكم ).  هكذا يكشف هذا المشهد  صعود إنسانيته بفضل التجسد ، ويدشن صعودنا بفضل إنضمامنا إليه.
  ثالثا : الإعلان التدبيري يشير إلى الحدث كاملا ، ولا مجال للرؤية التكاملية بين المشاهد المختلفة ؛ فلم نرصد أن أثناسيوس قال بتكامل مضامين المشاهد المختلفة ، مثل تكامل مضمون الصليب  مع مضمون مسحة الأردن ، مثلا ،  بل أن كل مشهد يكشف  مضمون تدبير التجسد كاملا . فالمسحة كشفت صيرورة الكلمة مسيحا حينما صار جسدا ، ولم يكن من الممكن أن يلقب بالمسيح مالم يكن قد ارتدى جسدنا . والصليب كشف عن الصورة الإنسانية عديمة الفساد التي صارت فيه منذ اول لحظة للتجسد . فلا يحتاج يسوع أن نحسب له رصيدا ما  قد حصل عليه بالمسحة ، ثم يضاف إليه ما قد حصل عليه بالصليب ، ثم القيامة والصعود إلى أن يبلغ ما ينبغي أن يبلغه . هذا وهم لا ينبغي أن ننزلق إليه ، والقديس أثناسيوس لا يعرف ترقيا حصل عليه يسوع ، الكلمة المتجسد ، غير نمو قامته بيولوجيا ، ونمو وعي معاصريه به كإله . ولقد كان من الضروري لأثناسيوس بحسب أسلوبه في الكتابة – في سياق دحضه لقول الهراطقة بأن الكلمة قد ارتقى كأجر فضيلة – أن يقرر صراحة بأن الذي ارتقى – بطريقة تدريجية تراكمية - هو جسد الكلمة الخاص ، وعليه تكون إنسانيته -وفقا لهذا الطرح -  قد ارتقت وتجددت صائرة عديمة الموت. ولكنه لم يقل بذلك ولم يشر من قريب أو بعيد إلى ذلك ، بل على العكس فقد قرر القديس أثناسيوس أن الترقي هو التحرر من الخطية ، إذن فكيف يستقيم هذا الأمر بخصوص من هو بلا خطية منذ بداية ظهوره بيننا ؟ الأمر الصحيح إذن هو أن الترقي والتطور الذي أحدثه الكلمة في جسده الخاص هو حدث نوعي ( كيفي ) وليس فعلا تراكميا ، وهو قد حدث بالفعل لجسد الكلمة الخاص ، منذ أن صار جسدا خاصا بالكلمة .خلاصة الخلاصة: كل مشهد من مشاهد التدبير-  بمفرده -  هو مجرد لغة تخاطب البشر بقدر إدراك عقولهم، لتكشف عن الواقع النعموي الكامل الكائن في جسد يسوع ( كثمرة للتجسد ) منذ أول لحظة للتجسد، وتكشف عن ماسيكون كامتداد لهذه الثمرة ، من نبع النعمة ورأسها الرب يسوع إلى باقي أعضاء جسده أي الكنيسة.   
                    المصادر المرجعية
  -    تجسد الكلمة – ترجمة د/ جوزيف موريس فلتس
  -   المقالات ضد الآريوسيين - مؤسسة  القديس أنطونيوس  - مركز دراسات الآباء
 -   تجسد ربنا يسوع المسيح – مؤسسة  القديس أنطونيوس- تعريب د / جورج حبيب يناير  
 -   ظهور المسيح المحيي- مؤسسة القديس أنطونيوس-  - تعريب د/ جورج حبيب
 -   الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي - مؤسسة  القديس أنطونيوس - مركز دراسات الآباء
 -  رسالة أبينا القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس المعترف ضد الآريوسيين ( موقع الموجة القبطية )
 -  رسالة أبينا القديس أثناسيوس الرسولى إلى أبكتيتوس ضد الهراطقة ( موقع الموجة القبطية )
مجدي داود

ليست هناك تعليقات: