الاتحاد الأقنومي ولاهوت الموت المحيي
تعليقا على الحوار الساخن جدا -
في مقال " الاتحاد الأقنومي" ( 4 ) - نقول بأنه ماكان من المتوجب أن
يفهم أن بكيان الرب انقسام بين عتيق وجديد، جديد كائن في الكلمة وعتيق يرزح تحت الضعف
والموت ، منخرطا في حالة من الصراع مع الجديد ، إلى أن يتم التخلص منه على
الصليب فتهدأ الأمور من ما أسماه أخونا - متهكما
وساخرا -" الشيزوفرينيا الناسوتية"، والواقع الصادم هو أن هذا الفهم
الخاطئ جدا - لما قلته، وبالتأكيد لم أقصده أو أعنيه من قريب أو من بعيد – هو
إعادة انتاج – بطريقة أخرى للنسطورية، فبدلا من وجود طبيعتين ومشيئتين هما الله
الكلمة والإنسان أصبح لدينا طبيعتان ومشيئتان هما الجديد الكائن في الكلمة
والعتيق. أيضا تطبيقا لهذا الفهم عند أخينا الحبيب فإن للموت الذي اجتازه العتيق
دورا إيجابيا أساسيا في تخليص الرب من ضعفه ، وبنفس طريقته التهكمية اقترح نشأة
فرع جديد من اللاهوت أسماه" لاهوت الموت ". وماكان يدري صاحبنا أن
لتهكمه موضعا في عالم الجد وليس في عالم الهزل -كما كان يتصور - فصليب الرب هو
الموضوع الرئيس في " لاهوت الموت المحيي"، وليس "لاهوت الموت"
فقط - إذا جاز التعبير. وأما تركيزي أحيانا على عتيق الرب فهو تأكيد على وجود
الجديد - المنسي خريستولوجيا إلى لحظة القيامة - فلا وجود للعتيق إلا على خلفية
وجود الجديد؛ هكذا يضمن حديث العتيق- في سياق حديث الاتحاد الأقنومي - وجودا مؤكدا
للخليقة الجديدة الكائنة فيه منذ أول لحظة للتجسد .
وعودا على ذي بدء أقول بأن الاتحاد الأقنومي
المستعلن في شخص الرب يسوع المسيح هو الاتحاد بين الله الكلمة ( اللاهوت )
والإنسان ( الطبيعة الإنسانية )، الاتحاد الذي أثمر شخصا واحدا ذا إرادة واحدة
وطبيعة واحدة متجسدة هو الإله الكامل وهو الإنسان الكامل بآن واحد. وبتأنس الكلمة
قد تأله الإنسان فيه، فصارت إنسانيته جديدة منتصرة على الموت وعلى الألم منذ أول
لحظة للتجسد في رحم العذراء لأنها صارت جسد الكلمة الخاص ، ولكن بالرغم من تأليهه
لطبيعتنا فيه وتجديده إياها إلا أنه لم يلغ طبيعة اللحم والدم العتيقة فيه بل ظل
لابسا إياها إلى أن اجتاز فيها موت الصليب، وأما انسجام الطبيعتين وعدم تناقضهما ووجودهما
تحت لافتة إرادة واحدة فهو خبرة يختبرها القديسون " فَإِنَّنَا نَحْنُ
الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ
نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ
الْحَيَاةِ"( 2كو5: 4). وإذا كان الرسول بولس هنا يوصف الحالة النعموية
كصورة لما هو حادث في كيان الرب نفسه، فما
بالنا بالأصل أي انسجام الطبيعة البشرية بكاملها- جديدها وعتيقها – مع شخص الكلمة
الكائن في اتحاد أقنومي مع الإنسان،
وبينما يستعلن جديده مجد التأله، أي الشركة في حياة الكلمة، يستعلن عتيقه الانصياع
والطاعة لإرادة الشخص الواحد حتى موت الصليب.
ولكي نفهم كلمات الرسول " الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ
يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ،
آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي
الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ
الصَّلِيبِ" ( في2: 6- 8 )، نقول بأن الكلمة بتجسده - باتخاذه جسدا بشريا في
اتحاد أقنومي معه - قد أخضع نفسه تحت سطوة الزمن، وهو غير الزمني الذي لايحد
والكائن في أبيه سرمديا؛ فولد في الزمن وهو المولود من أبيه الذاتي خارج الزمن.
ولد تحت الناموس ( غل4: 4 ). رصده تاريخ البشر طفلا رضيعا على صدر أمه، وهو القائت
كل الخلائق من نعمته. نما في القامة وهو الكامل الذي لانقص ولا احتياج فيه لأي
نمو، بل هو الذي يعطي كل خليقة يديه نموا
ونضجا وتكميلا. جاع وهو الذي يشبع كل الخليقة، وعطش وهو ري الجميع. تعب وهو مريح
التعابى. تألم وهو " شمس البر والشفاء في أجنحتها" ( ملا4: 2 ). اصطبغ
على يد المعمدان وهو الصبغة التي يصطبغ بها كل المفديين. مسح وهو المسيح معطي المسحة لكل الذين له. أخضع ذاته
للظالمين من أصحاب السلطان الأرضي، وصدر ضده الحكم، وهو الديان العادل وصاحب
السلطان الأبدي ، فضرب دون أن يفتح فاه، أهين وبصق في وجهه ، وهو المعطي كرامة لكل
الوجهاء.كلل بالشوك وهو الملك، ومملكته ليست من هذا العالم، نزعت عنه ثيابه وهو
ساتر كل الخليقة بمحبته. رفعوه على الخشبة وهو رافع لكل مرتفع بقدرته، سمروه على
الخشبة وهو مثبت الكون بطلاقة قدرته. وأخيرا مات وهو الحي الذي لايموت، بل هو رب
الحياة، الذي " فيه كانت الحياة "( يو1: 4). وبينما تبدو رحلة الرب على
الأرض مسارا يخص ظاهر كيان الرب - أي الكيان البيولوجي من اللحم والدم الذي ندعوه
العتيق – فإن كل هذا المسار قد نسب للكيان كله، نسب للرب يسوع المسيح الكلمة
المتجسد بإنسانيته الكاملة ولاهوته الكامل، وهذا ماقد تسلمناه من الرسل أن "
الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ،
وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، "( 1كو15: 3و4
). حتى اللعنة قد وصم بها الكيان الكامل، فيكتب الرسول بولس: " الْمَسِيحُ
افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ
مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»( غل3: 13 ).
خضوع الابن
ولكن نسبة كل ضعفات العتيق إلى
الرب ليست مجرد " نسبة القبول"، الرومانسي منه لكل مالنا، ولكنها "
نسبة الخضوع" ( إذا جاز التعبير )؛ فالابن بدخوله إلى الزمن متجسدا، أي موحدا
ذاته - أقنوميا- بجسد اتخذه منا، فقد أخضع ذاته لكل مايخص طبيعتنا من ضعف ومعاناة،
ليس قهرا ولكن عن مبادرة منه، وهو قد صرح بذلك: ".. لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي
لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ
ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا
أَيْضًا" ( يو10: 17و 18)
على أننا نستطيع أن نرصد أربعة
معالم لخضوع الابن :
1- الخضوع بانصياع الإرادة
الله
الابن هو الحر المريد - المكتوب عنه " وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ،
وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ "( 2كو3: 17 )- فيما أتحد ذاته
بطبيعتنا، أقنوميا، ففي عتيقه الظاهر قد أخضع إرادته للانصياع لإرادة الآب ،
فيرصده الإنجيل في جبل الزيتون قبيل اعتقاله - لتقديمه ذبيحا على الخشبة في يوم
الصلبوت العظيم - مصليا ومتضرعا إلى الآب ، قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ
أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي
بَلْ إِرَادَتُكَ». وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ
كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ
كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ"( لو22: 42- 44 ). احتمل الكلمة المتجسد
في هذا المشهد الرهيب أن يكون بلا إرادة فاعلة، احتمل أن يكون مستسلما لمصيره
المأساوي، بينما هو الذي - منذ البداية- اختار - حبا- " أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ
لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ "( يو15: 13 ). طبيعتنا البشرية العتيقة مصلوبة فيه،
وإرادتها غائبة لحساب إرادة الشخص الكامل؛ فلشخص الرب يسوع إرادة واحدة ومشيئة واحدة
هي إرادة ومشيئة الإله الكامل والإنسان الكامل بآن واحد، المسيح الرب. ولكن،
وللعجب، نجد الرب في البستان ذا إرادة مصلوبة ومنصاعة ومستسلمة لإرادة الآب، هذه الإرادة
هي الإرادة العتيقة التي لبشريته ، تلك البشرية التي فيها قد أظهر الابن خضوعا
عجيبا ، خضوع الطاعة، الذي هو الترجمة العملية الأكثر وضوحا لمفهوم إخلائه لذاته، وبحسب
تعبير الرسول : " أَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ".
2- الخضوع للترك
والتخلي من قبل الآب
الابن الكلمة كائن في أبيه
الذاتي، مثلما الآب كائن في ابنه الذاتي، سرمديا. لاتوجد لحظة واحدة لم يكن فيها
الابن كائنا في أبيه ولا الآب كائنا في ابنه. الابن في الآب بينما الآب في الابن. جوهر
الابن هو ذات جوهر الآب، وجوهر الآب هو ذات جوهر الابن. علاقة عجيبة مدهشة لامثيل
لها. هذا الابن الوحيد- الفريد في علاقته بأبيه الذاتي – عندما دخل عالمنا ولبس
بشريتنا وضع ذاته وأخضعها جاعلا إياها في موضع ومكان ومكانة من هو متخلى ( بفتح
اللام ) عنه، ومتروك، بالطبيعة من قبل الآب، أي البشرية العتيقة الفاسدة البائسة
المهترئة المحملة بعار العزلة عن الله الآب. وفي كيانه الظاهر العتيق من اللحم
والدم، أخضع نفسه للإهانة والضرب والتعذيب والآلام المبرحة التي وصلت إلى سقف لا يمكن
تجاوزه واحتماله من أي بشر. على الصليب كان العار كل العار، وكانت اللعنة كل
اللعنة، وهو قد " صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ
كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»." (غل 3: 13 ). لذلك كانت صرخته المدوية التي
استدعاها من أعماق التاريخ - المملوءة حزنا وغما وألما وانسحاقا ومهانة - تعبيرا
مكثفا رهيبا عن مأساة الترك والتخلي عنه من قبل الآب، فصرخ " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
قَائِلًا: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (مر
15: 34 )، ( مت27: 46 )، ( مز 22 : 1 ). كيف لنا أن نفهم صرخة الساعة التاسعة من
يوم الصلبوت العظيم؟ كيف نفهم خضوع الابن المتجسد لتخلي الآب عنه وتركه له؟ أليست
لحظة الصرخة العظيمة هي لحظة الوصول إلى تخوم مفهوم " إخلاء الذات "؛ إذ
يبدو الابن المتجسد في أقصى وأقسى درجات تجرده من مجده، بل يبدو في حالة مزرية
لامثيل لها. حتى كلمات المزمور - الذي استدعاه كصرخة له – تنطق بلسان حاله قائلة :
" أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ
الشَّعْبِ. كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ،
وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ
لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ»( مز22: 6- 8 ).
وهنا نكون قد توجب علينا أن نتصدى لسؤال أخينا الحبيب، في الحوار: كيف نخلص
وقد أشاحَ الله الآب بوجهه بعيداً عن ما يمثلنا في المسيح, ألا وهو عتيقنا الفاسد؟
ووراء السؤال افتراضان خاطئان، أولهما هو أن ما يمثلنا في المسيح هو العتيق الفاسد
أي كيانه الظاهر فقط، والافتراض الثاني هو أن الله الآب قد اتخذ موقفا مستحدثا
بالتخلي والترك في حالة عتيق الرب تحديدا. بخصوص الأول، مايمثلنا في المسيح هو
الكيان الإنساني الكامل بجديده – الباطن - الكائن في الكلمة منذ أول لحظة للتجسد
والمزمع أن يستعلن فجر أحد القيامة، وبعتيقه الظاهر الذي فيه قد اجتاز الرب الآلام
والموت، وقد أخضع الكلمة فيه ذاته للترك والتخلي من قبل الآب. أما موقف الآب فهو
ليس جديدا ولا مستحدثا، في حالة الكلمة المتجسد؛ فالبشر بالطبيعة فاسدون ومنحدرون
نحو العدم الذي هو أصلهم - أي محكوم عليهم ومتروكون ومتخلى عنهم من قبل الآب - قبل
أن يتدخل الكلمة بتدبير خلاصهم، لذلك فحينما تجسد الابن لابسا طبيعتهم هذه فقد
أخضع ذاته - بإرادته - لعارهم - الملتصق بهم منذ لحظة سقوطهم - كمتروكين ومتخلى
عنهم من قبل الله الآب. وإذ كان الكلمة بتجسده قد حمل عار البشر - بل كما هو مكتوب
" صار لعنة لأجلنا " - فبفضل تدبير تجسده- أيضا - قد حمل البشر إلى داخل
جسده ليعاينوا مجده كأعضاء فيه، وكأبناء للآب باشتراكهم في حياة الابن المتجسد.
3- الخضوع لموت الجسد
كيف لنا أن نتصور أو نتخيل أو ندرك أن الابن الوحيد ( أومونوجينيس ) الذي
في حضن أبيه - الأزلي غير المائت، وغير القابل للموت بل هو نبع الحياة ومصدرها،
الذي به كان كل شيء - قد خضع للموت بالجسد ؟ والإجابة دائما تبدأ بالاتحاد
الأقنومي بين الكلمة والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح؛ فبالتجسد اتخد الكلمة جسدا
منا قابلا للموت، كقبولنا الطبيعي للموت، وفيه " قبل كل شيء لأجل خلاصنا، وصَبَرَ
على موت الصليب، وقبله في جسده وهو أزلي غير مائت "( كما تقول كلمات اللحن
العظيم أومونوجينيس ). كان الصليب بآلامه المبرحة يمثل قمة الترك والتخلي من قبل
الآب، وتأتي لحظة الموت لتمثل أعلى نقطة في هذه القمة. وتأتي مواجهته للموت - واستسلامه
له وقبوله في جسده – لتمثل أعلى مستوى لخصوع الابن، ولكن يفاجئنا مشهد اللحظة
الأخيرة بماهو كاشف للدافع وراء خضوع الابن، فإذ بيسوع قد نادى " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي (to pneuma mou
) ». وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ (exepneusen
)( الترجمة الأصح: لفظ أنفاسه الأخيرة، وليس أسلم الروح )"( لو23: 46 ). ليس
من الطبيعي ولا من المنطقي أن من يموت بعد كل هذا التعذيب يستطيع أن ينادي بصوت
عظيم، ولكنها ليست صرخة محتضر - إن كان من
الجائز أن يكون للمحتضر صرخة – ولكنها صرخة المنتصر ؛ فلأول مرة في تاريخ البشر
يصبح وجودهم وديعة محفوظة لدى الآب, الرب يستودع روحه في يدي الآب قبل أن يلفظ
أنفاسه الأخيرة. نص النداء العظيم للرب يكشف أن له " الخارج" الذي ينهار
تحت وطأة الموت، وله " الباطن" المنتصر على الموت والكائن وديعة أبدية
في يدي الآب. الروح هنا في " روحي " - الكلمة المعرفة في النص اليوناني
- تعني إنسانية الرب الجديدة، المتألهة، المنتصرة على الموت وعلى الألم، تعني
الخليقة الجديدة الكائنة إلى الأبد في الكلمة – والمزمع أن يكشفها للعالم في فجر
الأحد، والمزمع أن تصير رأسا لخلقتنا الجديدة، أي الكنيسة - لأنه" هكَذَا مَكْتُوبٌ
أَيْضًا: «صَارَ آدَمُ، الإِنْسَانُ الأَوَّلُ، نَفْسًا حَيَّةً، وَآدَمُ الأَخِيرُ
رُوحًا مُحْيِيًا». لكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلًا بَلِ الْحَيَوَانِيُّ،
وَبَعْدَ ذلِكَ الرُّوحَانِيُّ"، " وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ،
سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ "( 1كو15: 45و 46و 49 ). ونص
النداء العظيم الذي لمشهد اللحظة الأخيرة يكشف أصل النعمة ومنبعها المزمع إعطاؤها
للبشر ولكن بصورة متدرجة متراكمة وليس كما حدث في كيان الرب بمجرد حدوث الاتحاد
الأقنومي بين لاهوت الرب وناسوته، وهذه حقيقة يؤكدها الرسول بولس: "عَالِمِينَ
أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا
مَعَكُمْ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ
وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ. لِذلِكَ
لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ
يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا ( 2كو 4:
14- 16 ). والخارج، العتيق، يفنى لأن " لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ
يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ"( 1كو15: 50 )، لذلك عندما واجه الابن الوحيد
الموت في جسده قتله بل أباده، وأظهره
فاشلا فلم يستطع أن يحصل من الرب أكثر مما حصل من الكل وهو الموت الطبيعي للإنسان
الخارج، وفقا لطبيعة اللحم والدم ، وأما ذاك، الروحاني الكائن أبديا في الكلمة فلم
يستطع أن يقترب منه الموت، بل سقط صريعا عند قدمي الرب قبل أن يفكوا وثاقه من
الصليب تمهيدا لدفنه. ماكان للابن أن ينتصر على موت البشر مالم يواجهه في جسد
منهم، لذلك فقد أتحد ذاته أقنوميا بجسد بشري مخلوق وفيه قد أخضع ذاته للألم
والموت، فذاق فيه الألم والموت، لينطق في النداء العظيم الأخير بلسان حال الكلمة
المتجسد المنتصر لحساب البشر، كاشفا في هذا النداء عن كيانه الإنساني الروحاني
الجديد الصائر رأسا لخلقتهم الجديدة.
4- الخضوع لموت الكون
لم ينته خضوع الابن، على الصليب،
ففي القبر قد أخضع ذاته لمستوى آخر من الموت وهو تكميل الموت؛ فالموت ليس هو مجرد
ذلك الانهدام لأقنوم الإنسان الطبيعي الذي من اللحم والدم. ليس هو ذلك الفراق
المأساوي بين النفس والجسد ولكنه السقوط المريع في هوة العدم تاركا لاشيء خلفه من
الكيان. اكتمال موتنا هو هكذا، عتيقنا الذي يتوارى في القبر ليؤول إلى حفنة من
عظام نتنة، هذا وضع ليس نهائيا للموت؛ فتظل عناصر أساسية - قد خرجت من تحلل الجسد
- تدور في دورة الحياة بأشكال جديدة، أما الموت في استعلانه الأخير فهو يتم في
لحظة نهاية الكون حينما تنحل كل العناصر فيتلاشى الكون غارقا في لجة العدم الذي
كان قد استدعي منه في البدء. في قبر يسوع واجه الابن الوحيد تكميل موت جسده، بل واجه
لحظة موت الكون كله، وموته هو النموذج العياري للموت standard model ( إذا جاز التعبير )، فهو قد مات موتا لم
يمته مخلوق من قبل- ولن يموته مخلوق من بعد، إلى أن تأتي لحظة نهاية الكون - فأخضع
ذاته لتذوق عمق أعماق الجحيم ، وفي جسده المسجى في القبر أخضع الابن نفسه للحظة
نهاية الكون، بالفعل، وعندما نقول في الليتورجية بأنه " نزل إلى الجحيم"
فإننا نتحدث حرفيا عن واقع موته - فهو في جسده المسجى قد نزل إلى أعماق الجحيم - هذا
فضلا عن أي تأويل آخر لمفهوم نزوله للجحيم.
انحلت كل ذرة من عناصر جسده العتيق في أعجوبة فائقة لاتقل في قوتها عن أعجوبة
الخلق من العدم، وللأعجوبتين صانع واحد، ذلك الذي " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ،
وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ " (يو 1: 3). وبموته هذا فإن "الأَشْيَاءُ
الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ ( بفناء عتيقه )، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا (
في جديده الروحاني ) (2 كو 5: 17). خرج كيانه الإنساني الجديد - الكائن في الكلمة –
سالما بل منتصرا - من أعظم اختبار للتحدي في تاريخ الكون، وحينئذ يكون تدبير
قيامته قد تهيأ لمخاطبة تاريخ البشر، في فجر الأحد.
أما القيامة فهي ليست حدثا تعسفيا - تحدثه قوة
اللاهوت – يقتحم القبر ليتم فيه إحياء الميت وتغيير طبيعته من العتيق إلى الجديد؛
فمفهوم التغير أو التحول - في سياق حديث
التجسد أو حديث الخريستولوجي أو حتى حديث النعمة – هو الكشف عن الجديد الممجد المخبوء،
وليس تغير ( تحول ) العتيق إلى جديد ممجد. والمرجعية الإنجيلية الكاشفة لماهية
التغير الحادث في القيامة هي في مشهد التجلي ، تجلي الرب على الجبل المقدس في حضور
ثلاثة من المقربين من تلاميذه - واستدعاء موسى وإيليا من كنيسة العهد القديم،
والذي تجلى وظهر هو الخليقة الجديدة المستترة فيه ، ومع ذلك فالنص المقدس عندما
يتحدث عن ظهور ذك في صورة مدهشة فهو يعبر عن ذلك على أنه " تغير" ؛ إذ
" تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ ( الترجمة الأصح : "تغير"، فقط ) قُدَّامَهُمْ،
وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ"(
مت17: 2 ). فيكشف الرب للخاصة من تلاميذه عن كيانه الإنساني الروحاني الممجد
الكائن فيه منذ أول لحظة للتجسد، ذلك الكيان المزمع أن يستعلنه الرب بالقيامة في
فجر الأحد؛ لذلك فقد أوصى تلاميذه - حينما انتهى المشهد الرائع- أن لايخبروا أحدا
بما رأوا إلى أن يكشفه بنفسه بعد أن يجتاز الآلام والموت . على الجبل لم تتغير
طبيعة يسوع الظاهرة العتيقة إلى هذا الكيان الجديد المدهش في نورانيته وجماله، بل
تكشفت وقتيا طبيعته الجديدة الممجدة المستترة وراء الكيان الظاهر الذي كانوا
يتعاملون معه، وما أن انتهى المشهد إلا وقد استعاد الرب هيئته التي يدركونها،
والتي سيجتاز فيها الموت. هذا هو مفهوم التغير أو التحول ( METAMORPHOSIS )، المستخدم في
التجلي. هذا وقد استخدم نفس الفعل بنفس المفهوم - أي الكشف وليس التحول من صيغة
إلى أخرى – في موضعين آخرين فقط في العهد الجديد، في سياق حديث النعمة: الموضع
الأول: حينما يكتب الرسول بولس :" وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ
( الترجمة الأصح عاكسين مجد الرب ) بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ
( الترجمة هنا صحيحة ) إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ،
كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ"( 2كو3: 18 )، ونحن بالطبع حينما نتغير إلى تلك
الصورة عينها- أي إلى الجديد- فالعتيق لايتحول إلى الجديد، بل ينمو فينا الجديد
يوما فيوما إلى أن تكتمل ولادته بانضمامه لجسد الابن المتجسد، أما العتيق فمصيره
معروف لأن " لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ
أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ."
(1 كو 15: 50). والموضع الثاني حينما يكتب أيضا : " وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ،
بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ ( الترجمة الصحيحة: " تغيروا"،
فقط ) بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا
مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ." (رو
12: 2) "، فتجديد الذهن هو كشف عن الجديد وليس تحولا - ناسخا – لوجود العتيق.
وعليه فالتغير (METAMORPHOSIS ) الذي يكشفه
فجر أحد القيامة هو استعلان الخليقة الجديدة المخبوءة في الكلمة المتجسد منذ أن
صار هناك اتحاد أقنومي بين الكلمة والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح، وأما عتيقه
ففيه قد أخضع الكلمة ذاته للموت، موت جسده وموت الكون كله ليظهر - فيما قد تكشف في
فجر الأحد – منتصرا، قاهرا الموت، وجاعلا من كيانه الجديد الذي استعلنه، باكورة
للخليقة الجديدة التي تقبله رأسا لها، أي الكنيسة. . التجلي قبس من نور القيامة فالكيان
الذي تم استعلانه على الجبل للخاصة من
التلاميذ - وأودع لديهم كسر مخبوء- هو ذاته الذي تم استعلانه للتاريخ في أحد
القيامة، وبينما في الحالة الأولى تم استعادة الحجاب العتيق ليجتاز فيه الرب الألم
والموت، ففي الحالة الثانية، في حجابه العتيق- اجتاز الكلمة الحامل للكيان الجديد
جحيم الكون كله وخرج منتصرا.
الموت
مع المسيح
آلام
الصليب ليست مجرد آلام، لأنها آلام المسيح. وموت الصليب ليس مجرد موت لأنه موت
المسيح. ولأنها آلامه فهي آلام شافية، ولأنه موته فهو موت محيي، وآلامه شافية وموته
محيي، لأن الابن قد أخضع ذاته لهما في جسده، فأصبحت شركتنا فيهما طريقا ذهبيا
للشركة في حياة الكلمة ذاته، إذ أنه " مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ
أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا
أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ
لأَجْلِي." (غل 2: 20). فموت عتيقنا مع المسيح هو اصطباغ بصبغته، وبالتالي
فهو ليس مجرد صبغة بموته فقط بل صبغة بحياته، فيشرحها الرسول بولس شرحا نافيا
للجهالة، فيكتب: " أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ
الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ،
حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ
نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ
مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ
إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ
لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ"( رو6: 3- 6 ).
ويفاجئنا الرسول بولس بأنه متى
خضع كل أفراد الكنيسة لموتهم مع المسيح – فاستحقوا، فيه وبه، أن يكونوا جسدا له، فحينئذ
يحسب خضوعهم خضوعا من قبل الابن، الذي به قد خضعوا. هذا نمط جديد لخضوع الابن لم
نتطرق إليه في الحديث عن خضوعه، أيام جسده على الأرض. وبينما النمط الأول هو خضوع
له علاقة بإخلاء الذات ، فالثاني هو خضوع له علاقة بتأله البشر فيه، ليكون الجميع
واحدا. الأول هو الخضوع الذي في تجسد الابن والثاني هو الخضوع الذي في تكريس
وجود الكنيسة، في الابن المتجسد. وهنا نستعين باقتباسين:
1- " لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ
يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ: الْمَسِيحُ
بَاكُورَةٌ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ.. . .لأَنَّهُ أَخْضَعَ
كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ : «إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ
قَدْ أُخْضِعَ» فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ. وَمَتَى
أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ
لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ
"( 1كو 15: 22- 29 ).
2- «مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ؟
أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ ... أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ»...
لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ
بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ.
لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ
لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً،
قَائِلًا: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ»...
فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا
كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ،
أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ - خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ -كَانُوا
جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ."( عب2: 6- 15 ).
ماهية الموت مع
المسيح
الابن الكلمة بتجسده قد أتحد ذاته
بجسد بشري منا، وللأنه جسد الكلمة الخاص فقد أعتقه من فساده الطبيعي بمجرد
الاتحاد، صائرا كيانا إنسانيا روحانيا هو البكر بين البشر الذين صاروا شركاء في
حياة الكلمة ذاته، وخرج الرب من الموت ظافرا جاعلا من ذاته كشخص الكلمة المتجسد
رأسا لخلقتنا الجديدة، فينتقل استحقاق تجسده - أي تأله البشر - منه كرأس إلى كل
أعضاء الكنيسة المشتتين في الزمان والمكان. ولكن كيف يحدث هذا الانتقال؟ من الذي
يقوم بإفاضة هذه النعمة العظمى - هذه المسحة، هذه الصبغة - من الرأس إلى الأعضاء ؟
من الذي يأخذ منه ليعطي أعضاء كنيسته التي هي جسده؟ والإجابة تنطق بها كلمات الرب ذاته،
فيقول في إنجيل يوحنا: " وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ
الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ
لَكُمْ"( يو14: 26 ). وفي موضع آخر يقول أيضا: " وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ
يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ
كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي،
لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ
إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ "( يو16: 13 - 15 ).
أما الآلية التي من خلالها يصنع الروح انتقال
جدة الحياة من الرأس إلى الأعضاء فهي في قيادته المباشرة للأعضاء - بإماته أعمال
الجسد العتيق، بفضل نقل آلام وموت المسيح إليهم - تلك القيادة التي من شأنها أيضا
نقل مجد البنوة بالنعمة من الرأس إليهم، هكذا يصبح الروح بالنسبة إليهم روح
التبني، بهذه المعاني يخاطب الرسول بولس أهل رومية، بل الكنيسة كلها: " لأَنَّهُ
إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ
تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ
بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ
أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا
أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ
اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ
مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ"(
رو 8: 13 - 17 ).
والعمل الذي يصنعه الروح القدس في
أعضاء الكنيسة ليس مجرد عمل سلبي فيه تحدث إماته للعتيق بشهواته ولكن هناك ماهو
أعظم ، إذ يتماهى حدث موت العتيق - بفعل قيادة الروح القدس - مع ولادة الكيان الروحاني
الجديد المعبر عن الشركة في الروح القدس،
أي التأله ، أي الشركة في الطبيعة
الإلهية، فيكتب معلمنا بطرس الرسول:" كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ
وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا
بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ
الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ،
هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ"( 2بط1:
3و4 ). والمعادلة عند الرسول بولس هي خسارة الكل- بفضل شركة آلام وموت المسيح- في
مقابل ربح المسيح، فيكتب: " بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً
مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ
كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ
فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ،
الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ،
وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ
الأَمْوَاتِ " ( في3: 8- 11 ).
خلاصة
أولا: خضوع الابن
بتجسد الكلمة - بأن أتحد ذاته أقنوميا بجسد من
بني جلدتنا- فقد أخضع ذاته فيه لاستحقاقات بشريتنا العتيقة المائتة حتى مايخضعنا
فيه لاستحقاقات بشريته الجديدة المتألهة؛ أي أنه أخضع ذاته لما لنا حتى ما يخضعنا
لما له، وبالتعبير الشائع: " أخذ مالنا ليعطينا ماله ". و" مالنا "
الذي أخضع ذاته له - والخضوع هو الترجمة العملية لإخلاء الذات- نرصده في أربعة
أمور:
1- أخضع ذاته لانصياع الإرادة،
فإرادته العتيقة مصلوبة فيه لحساب الإرادة الواحدة للشخص الكامل، وباجتيازه طريق
الآلام والموت – المرفوض من العتيق بالطبيعة – فقد أخضع الابن ذاته لموت إرادة
العتيق ليبدو كما لو كان بلا إرادة مستقلة فاعلة، وهو الذي بإرادته كل شيء قد كان
وبغيرها لم يكن شيء مما كان.
2- أخضع ذاته للترك والتخلي من
قبل الآب، وهو الكائن في أبيه وأبوه كائن فيه، فبشريتنا العتيقة ،فيه ، متروكة بالطبيعة، وهو بينما
يصرخ - وهو معلق على الخشبة - " إِلهِي،
إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" ، فقد كان الكيان كاملا ينطق بلسان حال
العتيق الظاهر، لسان حال المتروك المتخلى عنه.
3- أخضع ذاته للموت وهو القدوس
المونوجينيس الحي الذي لا يموت، وقبل أن يلفظ أنفاس كيانه العتيق ، الأخيرة، صرخ
صرخة الانتصار المدوية مستودعا باكورة خلقتنا الجديدة ورأسها لدى الآب، وهو المزمع
أن يجتلب جميع الأعضاء لينضموا للجسد الواحد، أي الكنيسة
4- أخضع ذاته للعدم والفناء- في
جسده المسجى في القبر - والعدم مرحلة من مراحل الموت لم يختبرها مخلوق على ظهر الأرض
من قبل ، بل لم يختبرها شيء في الكون من قبل، وهو حينما ذاق هذا، متلامسا مع عمق
أعماق الجحيم، فهو قد أتم موت الكون العتيق كله، في عتيقه، فضلا عن تحقيقه للكون
الجديد في خلقتنا الجديده الكائنة فيه، أيضا.لم يكن هذا الحدث الرهيب مجرد محرقة
لعتيقه الظاهر فقط - كما كان يتهكم أخونا الحبيب في الحوار - بل أن الابن المونوجينيس
قد أخضع ذاته - في أقصى مستوى للخضوع وإخلاء الذات - ليصير في الجسد - لمرة واحدة
في تاريخ البشر- ذبيحة المحرقة الحقيقية
؛ لأنه" لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ
يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلًا عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا الشَّعْبِ،
لأَنَّهُ فَعَلَ هذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ "( عب7: 27
). ولأنه ذبيحة المحرقة، الأبدية، فنار مذبحه مشتعلة ليل نهار، ورائحة الرضا فواحة
دائما، هذا مايعتلن في الكنيسة الكائنة فيه؛ فهو الجاعل من أعضاء جسده " مُلُوكًا
وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ"( رؤ1: 6 )، فالكل فيه صعيدة مرضية لدى الآب .
ثانيا : شركة آلام وموت المسيح
الألم بطبيعته مرفوض ومهروب منه من
قبل طبيعتنا البشرية، وطيلة تاريخ البشر وهم يحاولون جاهدين باستمرار أن يخترعوا
أدوية قاتلة للألم، فما بالنا بألم ارتبط بالعار، أي ألم الصليب. والموت، تلك
النهاية المرعبة المأساوية للمخلوقات الحية - ذلك الذي هو "آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ
" ( 1كو15: 26 ) – فلسنا محتاجين للحديث عن رفضنا ونفورنا من مجرد تذكره ،
ولكن العجيب هو أنه "مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ
"( قض14 : 14 )؛ فباجتياز الرب للآلام المبرحة تقدس الألم فيه، وباجتيازه
للموت تقدس الموت فيه. آلام الرب وموته مقدسين بالنسبة لنا، ليس لأنهما ينتسبان
للرب بل لأنهما أداة فاعلة يستخدمها الروح
القدس لتكميلنا؛ فعندما ينقل إلينا الروح شركة آلام وموت الرب يصلب عتيقنا ويموت
مع المسيح، فنكتشف الوجه الإيجابي للحدث وهو أن صليب وموت الرب كانا مخاضا وولادة
لكياننا الروحي الجديد عديم الألم والموت، فكيف صار للألم وجه آخر هو الدواء
والشفاء، وكيف صار للموت وجه آخر هو الخلود ؟ هذا هو مايصنعه صليب وموت الرب فينا ؛
فمن رحم صليبه وموته نولد في الروح القدس، إخوة للابن المتجسد وأبناء للآب
السماوي. فباشتراكنا في صليب الرب وموته يصلبب عتيقنا ويموت معه موتا استثماريا -
إذا جاز التعبير- لحساب تحقق وجود الخلقة الجديدة، والأمر أشبه بحبة الحنطة التي "
إِنْ لَمْ تَقَعْ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ
تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ"( (يو 12: 24) . هذا ماينجزه الروح القدس في
الكنيسة.
مجدي داود