الخميس، 11 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 5 )

 

 

             الاتحاد الأقنومي و الشخص الإفخارستي

  لم يقم ( بضم الياء ) الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان شخصا "استاتيكيا " ( إذا جاز التعبير ) ، بل أقام شخصا " ديناميكيا ". والمقصود هنا هو أن شخص الرب يسوع التاريخي ، الإنسان الكامل لم يكن ذا أفق لشخص بسيط بل هو شخص قد ظهر ليكون شخصا مركبا ، ظهر ليكون شخصا كاثوليكيا . كان الرب يسوع التاريخي هو بداية تاريخ الإنسانية الجديدة ، وبظهوره ظهر رأس هذه الخليقة الجديدة ، لتنطلق منه حركة النعمة التي تخترق الزمان والمكان فتأتي بالبشر المختارين ، مظهرة إياهم كأعضاء تنتمي لهذا الرأس . هذه الحركة النعموية هي التي نطلق عليها مصطلح  " الحركة الإفخارستية  " ، ويكون وفقا لذلك أن الاتحاد الأقنومي الخاص بشخص الكلمة المتجسد قد أثمر شخصا " إفخارستيا " هو شخص المسيح الرب .

لم تذكر الأناجيل التي رصدت مشهد التأسيس الإفخارستي أن الرب يسوع قد أكل مع تلاميذه من الخبز أوشرب من الخمر اللذين قسمهما عليهم بعد تناولهم الفصح ، بل أنه بعد أن أخذ الخبز وكسره وقسمه عليهم قال لهم :  " خذوا ( اقبلوا ) كلوا . هذا هو جسدي  " ( مت26: 26 ) ، " هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم . اصنعوا ( أثمروا ) هذا لذكري  " ( لو22 : 19 ) . وأيضا أخذ الكأس قائلا : " اشربوا منها كلكم ، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا “( مت26 : 27 ) . وكأن لسان حال الرب : " كما أخذت ( قبلت ) أنا في جسدي الخاص ، خذوا ( اقبلوا ) أنتم أيضا . فإن صنعتم هذا صرتم أعضائي وأنا صرت رأسكم ، فهذا الذي تثمرونه هو جسدي الذي يستوعبكم جميعا ".  وبالفعل قد كان جسد الرب يسوع التاريخي هو أول كيان بشري يعتمل فيه الحدث الإفخارستي ؛ فبتجسد الكلمة صار لجسده الخاص ،    الحياة وعدم الموت بالقيامة من الأموات بفضل الكلمة الحال فيه ، فأكلت فيه الطبيعة البشرية وشبعت وامتلأت . ولكن هذا لم يكن نهاية الأمر فقد صار جسد الكلمة الخاص نبعا للحدث الإفخارستي  الفائض على الجميع لكي مايصير لهم الإمتلاء ، فيه ، " فقد رأينا مجده ،… مملوءا نعمة وحقا … ومن ملئه نحن جميعا أخذنا ، … " ( يو1 : 14-16 ). إن إنسانية يسوع التاريخي ، ذاتها ، قد أكلت وشبعت بل وصارت مصدرا لشبع الجميع . ووفقا للدقة اللاهوتية المطلقة لكلمات الإنجيل ، نحن نقول بأننا نأكل جسد المسيح . ونقول بأن الكنيسة هي جسد المسيح ، ولانقول بأننا نأكل جسد يسوع أو أن الكنيسة هي جسد يسوع . والفرق دقيق جدا وهام جدا ؛ فمعنى أننا  نأكل جسد المسيح هو أننا نصير جميعا مشتركين في المسيح ، ذلك الكيان الكاثوليكي الذي يستوعب الجميع والذي رأسه هو الرب يسوع التاريخي . فيسوع هو خمير الإفخارستيا الذي بواسطته يختمر كل عجينها ، صائرا مسيحا مستوعبا للجميع. نحن نقبل من الرب يسوع كل مايملأنا ، وحينئذ نستطيع أن نملأه، كشخص المسيح المستوعب للكنيسة . نحن لانأكل ناسوت الرب يسوع التاريخي ، بل نأكل ونمتلئ حينما نتقبل الفيض الإفخارستي النابع منه والممتد فينا محققا انتماءنا إليه كأعضاء ، ومحققا - في ذات الحدث – انتماءه إلينا كرأس .

لقب الرب يسوع التاريخي بلقب " المسيح ". وشخص المسيح هو الشخص الإفخارستي ، هو الشخص الآتي الآن في البشر ، في الكنيسة . وإن كان الكلمة بتجسده قد أشبع جسده الخاص ، فمتى امتد هذا الشبع ، إفخارستيا ، إلى كل أعضاء الكنيسة –  وامتلأ شخص المسيح بلملمة أعضاءه المشتتين في الزمان والمكان  – استعلن شبع الجميع ، فيه .

الإنسان الجديد ، آدم الأخير ، الذي من السماء ، القائم من الموت والمنتصر على الفساد الطبيعي بفضل الكلمة الحال فيه هو – بحسب تعبير الرسول بولس في  ( 1كو 15 ) – جسم روحاني ، عوضا عن الجسم الحيواني ، الترابي ، الذي من آدم الأول . ولم يكن ذاك مجرد جسم روحاني  حي  بل صار  " روحا محييا  " ، صار رأسا للوجود الروحاني ، الجديد ، عديم الفساد ، للإنسان . وفي الإفخارستيا تتدفق الحياة الروحية الأبدية من رأس هو الرب يسوع ، الابن البكر ، إلى جميع أعضاء الجسد . وبامتلاء وتكميل الحدث الإفخارستي يكتمل بنيان الكنيسة ، يكتمل بنيان جسد المسيح . الأكل الإفخارستي ليس أكلا بالمفهوم البيولوجي بل هو ولوج إلى الوجود الروحاني الجديد في المسيح ، هو دخول إلى الطبيعة الجديدة عديمة الفساد القائمة من الموت . وفي الأكل الإفخارستي نحن نتجاوز ونتخطى ظاهر صورة الأكل البيولوجي الطبيعي إلى جوهر الحدث المحمول بقوة الرمز ، في الروح القدس ، إلى شركة الحياة الأبدية ، في المسيح . في الإفخارستيا نحن نرتحل من صورة وجودنا العتيق إلى المسيح . نحن نتحول إلى المسيح وليس هو الذي يتحول إلينا. نحن لانبتلعه  ليسكن بطوننا ، بل هو الذي يختطفنا لنسكن ونستوطن في جسده ، كأعضاء. نحن لانجعله عتيقا مرة أخرى، بتعاطينا البيولوجي معه ، بل هو يجعلنا جددا ، بتعاطيه الروحاني معنا .

الشخص الإفخارستي

من منظور الكنيسة يبدو الحدث الإفخارستي هو سر تكريس وتحقيق وجودها ككنيسة ، وجودها كجميع أعضاء جسد المسيح ، وفي ذلك يقول الرسول  بولس : " وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلا ، والبعض…لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة ، لبنيان جسد "المسيح  " ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل . إلى قياس قامة ملء  " المسيح "…ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس : " المسيح  "، الذي منه كل الجسد  مركبا معا ، ومقترنا بمؤازرة  كل مفصل ، حسب عمل ، على قياس كل جزء ، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة " ( أفس 4 : 11-16 ) .

ولكن إذا كان الحدث الإفخارستي – من منظور الكنيسة – يعني كشف وتجلي الكنيسة جسدا للمسيح ، فماذا يعني ذلك من منظور شخص المسيح ، نفسه ؟ ألا يعني ذلك أن الإفخارستيا هي سر امتلاء شخص المسيح بامتداده في الكنيسة ؟ ألا يعني ذلك أن كيان المسيح الممتلئ هو كيان يتحقق متعاظما متناميا منطلقا من شخص الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد ليبلغ كمال امتلائه باستيعابه لجميع أفراد الكنيسة كأعضاء فيه ؟ وإذا كان الأمر هكذا ، فالمسيح هو الشخص الإفخارستي الذي يتحقق ويتكمل منطلقا من مركزه الرب يسوع . هو جسد يتكمل وينمو منطلقا من رأسه . هو بيت الله الذي يتكمل منطلقا من حجر زاويته . وفي ذلك يقول الرسول بولس : " فلستم إذا بعد غرباء ونزلا ، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله ، مبنيين عل أساس الرسل والأنبياء ، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية ، الذي فيه كل البناء مركبا معا ، ينمو هيكلا مقدسا في الرب . الذي فيه أنتم أيضا مبنيون معا ، مسكنا لله في الروح " ( أفسس 2 : 19- 21 ). المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص الذي يتحقق – ويجيء ، ويظهر ، ويستعلن –  الآن ، بإظهاره الكنيسة  جسدا له ، بامتداده فيها ، واستيعابه لها ، وامتلائه بها ، وتعظمه وتضخمه فيها . المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص المتنامي من داخله نحو الخارج بأن يضم الذين هم في الخارج ، أي شعب كنيسته ، فيتعظم بهم وينمو فيهم ويبلغ كماله بوجودهم فيه ، كأعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه .المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص الذي يتكمل الآن في الكنيسة ، ومتى تم ذلك يكون قد اكتمل مجيء الرب ، يكون قد اكتمل مجيء ابن الإنسان .

خلاصة

مفهوم الشخصية الإفخارستية للمسيح هو أن شخص المسيح ، بظهوره في تاريخ البشر في شخص الرب يسوع التاريخي  – بفضل الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان –  قد ظهر ككيان يتضخم ويتنامى – كميا – بضم أفراد الكنيسة – المبعثرين في الزمان والمكان – كأعضاء في جسده . هو يتنامى ويتضخم الآن ، وسيظل هكذا إلى الحد الذي فيه يستعلن جميع أفراد الكنيسة . سيظل يتنامى ويتضخم إلى أن يمتلئ بجميع الأعضاء اللازمين لجعله جسدا كاملا . وحينئذ فقط يكون قد اكتمل الحدث الإفخارستي ، يكون قد امتلأ شخص المسيح ، يكون قد امتلأ الشخص الإفخارستي كامتداد نعموي لما ناله جسد الكلمة الخاص، في البشر.

هامش

   نشرت هذه المقالة تعليقا على مقال: الاتحاد الأقنومي وسر الإفخارستيا المنشور في مارس2014 على صفحات موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية.

ليست هناك تعليقات: