الاتحاد الأقنومي و الشخص الإفخارستي
لم يقم ( بضم الياء ) الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان شخصا "استاتيكيا
" ( إذا جاز التعبير ) ، بل أقام شخصا " ديناميكيا ". والمقصود هنا
هو أن شخص الرب يسوع التاريخي ، الإنسان الكامل لم يكن ذا أفق لشخص بسيط بل هو شخص
قد ظهر ليكون شخصا مركبا ، ظهر ليكون شخصا كاثوليكيا . كان الرب يسوع التاريخي هو بداية
تاريخ الإنسانية الجديدة ، وبظهوره ظهر رأس هذه الخليقة الجديدة ، لتنطلق منه حركة
النعمة التي تخترق الزمان والمكان فتأتي بالبشر المختارين ، مظهرة إياهم كأعضاء تنتمي
لهذا الرأس . هذه الحركة النعموية هي التي نطلق عليها مصطلح " الحركة الإفخارستية " ، ويكون وفقا لذلك أن الاتحاد الأقنومي الخاص
بشخص الكلمة المتجسد قد أثمر شخصا " إفخارستيا " هو شخص المسيح الرب .
لم تذكر الأناجيل التي رصدت مشهد التأسيس
الإفخارستي أن الرب يسوع قد أكل مع تلاميذه من الخبز أوشرب من الخمر اللذين قسمهما
عليهم بعد تناولهم الفصح ، بل أنه بعد أن أخذ الخبز وكسره وقسمه عليهم قال لهم : " خذوا ( اقبلوا ) كلوا . هذا هو جسدي " ( مت26: 26 ) ، " هذا هو جسدي الذي يبذل
عنكم . اصنعوا ( أثمروا ) هذا لذكري " ( لو22 : 19 ) . وأيضا أخذ الكأس قائلا :
" اشربوا منها كلكم ، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين
لمغفرة الخطايا “( مت26 : 27 ) . وكأن لسان حال الرب : " كما أخذت ( قبلت ) أنا
في جسدي الخاص ، خذوا ( اقبلوا ) أنتم أيضا . فإن صنعتم هذا صرتم أعضائي وأنا صرت رأسكم
، فهذا الذي تثمرونه هو جسدي الذي يستوعبكم جميعا ". وبالفعل قد كان جسد الرب يسوع التاريخي هو أول كيان
بشري يعتمل فيه الحدث الإفخارستي ؛ فبتجسد الكلمة صار لجسده الخاص ، الحياة
وعدم الموت بالقيامة من الأموات بفضل الكلمة الحال فيه ، فأكلت فيه الطبيعة البشرية
وشبعت وامتلأت . ولكن هذا لم يكن نهاية الأمر فقد صار جسد الكلمة الخاص نبعا للحدث
الإفخارستي الفائض على الجميع لكي مايصير لهم
الإمتلاء ، فيه ، " فقد رأينا مجده ،… مملوءا نعمة وحقا … ومن ملئه نحن جميعا
أخذنا ، … " ( يو1 : 14-16 ). إن إنسانية يسوع التاريخي ، ذاتها ، قد أكلت وشبعت
بل وصارت مصدرا لشبع الجميع . ووفقا للدقة اللاهوتية المطلقة لكلمات الإنجيل ، نحن
نقول بأننا نأكل جسد المسيح . ونقول بأن الكنيسة هي جسد المسيح ، ولانقول بأننا نأكل
جسد يسوع أو أن الكنيسة هي جسد يسوع . والفرق دقيق جدا وهام جدا ؛ فمعنى أننا نأكل جسد المسيح هو أننا نصير جميعا مشتركين في
المسيح ، ذلك الكيان الكاثوليكي الذي يستوعب الجميع والذي رأسه هو الرب يسوع التاريخي
. فيسوع هو خمير الإفخارستيا الذي بواسطته يختمر كل عجينها ، صائرا مسيحا مستوعبا للجميع.
نحن نقبل من الرب يسوع كل مايملأنا ، وحينئذ نستطيع أن نملأه، كشخص المسيح المستوعب
للكنيسة . نحن لانأكل ناسوت الرب يسوع التاريخي ، بل نأكل ونمتلئ حينما نتقبل الفيض
الإفخارستي النابع منه والممتد فينا محققا انتماءنا إليه كأعضاء ، ومحققا - في ذات
الحدث – انتماءه إلينا كرأس .
لقب الرب يسوع التاريخي بلقب
" المسيح ". وشخص المسيح هو الشخص الإفخارستي ، هو الشخص الآتي الآن في البشر
، في الكنيسة . وإن كان الكلمة بتجسده قد أشبع جسده الخاص ، فمتى امتد هذا الشبع ،
إفخارستيا ، إلى كل أعضاء الكنيسة – وامتلأ
شخص المسيح بلملمة أعضاءه المشتتين في الزمان والمكان – استعلن شبع الجميع ، فيه .
الإنسان الجديد ، آدم الأخير ، الذي
من السماء ، القائم من الموت والمنتصر على الفساد الطبيعي بفضل الكلمة الحال فيه هو
– بحسب تعبير الرسول بولس في ( 1كو 15 ) –
جسم روحاني ، عوضا عن الجسم الحيواني ، الترابي ، الذي من آدم الأول . ولم يكن ذاك
مجرد جسم روحاني حي بل صار " روحا محييا " ، صار رأسا للوجود الروحاني ، الجديد ، عديم
الفساد ، للإنسان . وفي الإفخارستيا تتدفق الحياة الروحية الأبدية من رأس هو الرب يسوع
، الابن البكر ، إلى جميع أعضاء الجسد . وبامتلاء وتكميل الحدث الإفخارستي يكتمل بنيان
الكنيسة ، يكتمل بنيان جسد المسيح . الأكل الإفخارستي ليس أكلا بالمفهوم البيولوجي
بل هو ولوج إلى الوجود الروحاني الجديد في المسيح ، هو دخول إلى الطبيعة الجديدة عديمة
الفساد القائمة من الموت . وفي الأكل الإفخارستي نحن نتجاوز ونتخطى ظاهر صورة الأكل
البيولوجي الطبيعي إلى جوهر الحدث المحمول بقوة الرمز ، في الروح القدس ، إلى شركة
الحياة الأبدية ، في المسيح . في الإفخارستيا نحن نرتحل من صورة وجودنا العتيق إلى
المسيح . نحن نتحول إلى المسيح وليس هو الذي يتحول إلينا. نحن لانبتلعه ليسكن بطوننا ، بل هو الذي يختطفنا لنسكن ونستوطن
في جسده ، كأعضاء. نحن لانجعله عتيقا مرة أخرى، بتعاطينا البيولوجي معه ، بل هو يجعلنا
جددا ، بتعاطيه الروحاني معنا .
الشخص الإفخارستي
من منظور الكنيسة يبدو الحدث الإفخارستي
هو سر تكريس وتحقيق وجودها ككنيسة ، وجودها كجميع أعضاء جسد المسيح ، وفي ذلك يقول
الرسول بولس : " وهو أعطى البعض أن يكونوا
رسلا ، والبعض…لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة ، لبنيان جسد "المسيح " ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان
ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل . إلى قياس قامة ملء " المسيح "…ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي
هو الرأس : " المسيح "، الذي منه
كل الجسد مركبا معا ، ومقترنا بمؤازرة كل مفصل ، حسب عمل ، على قياس كل جزء ، يحصل نمو
الجسد لبنيانه في المحبة " ( أفس 4 : 11-16 ) .
ولكن إذا كان الحدث الإفخارستي – من
منظور الكنيسة – يعني كشف وتجلي الكنيسة جسدا للمسيح ، فماذا يعني ذلك من منظور شخص
المسيح ، نفسه ؟ ألا يعني ذلك أن الإفخارستيا هي سر امتلاء شخص المسيح بامتداده في
الكنيسة ؟ ألا يعني ذلك أن كيان المسيح الممتلئ هو كيان يتحقق متعاظما متناميا منطلقا
من شخص الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد ليبلغ كمال امتلائه باستيعابه لجميع أفراد
الكنيسة كأعضاء فيه ؟ وإذا كان الأمر هكذا ، فالمسيح هو الشخص الإفخارستي الذي يتحقق
ويتكمل منطلقا من مركزه الرب يسوع . هو جسد يتكمل وينمو منطلقا من رأسه . هو بيت الله
الذي يتكمل منطلقا من حجر زاويته . وفي ذلك يقول الرسول بولس : " فلستم إذا بعد
غرباء ونزلا ، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله ، مبنيين عل أساس الرسل والأنبياء
، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية ، الذي فيه كل البناء مركبا معا ، ينمو هيكلا مقدسا
في الرب . الذي فيه أنتم أيضا مبنيون معا ، مسكنا لله في الروح " ( أفسس 2 :
19- 21 ). المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص الذي يتحقق – ويجيء ، ويظهر ، ويستعلن
– الآن ، بإظهاره الكنيسة جسدا له ، بامتداده فيها ، واستيعابه لها ، وامتلائه
بها ، وتعظمه وتضخمه فيها . المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص المتنامي من داخله
نحو الخارج بأن يضم الذين هم في الخارج ، أي شعب كنيسته ، فيتعظم بهم وينمو فيهم ويبلغ
كماله بوجودهم فيه ، كأعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه .المسيح ، الشخص الإفخارستي هو
الشخص الذي يتكمل الآن في الكنيسة ، ومتى تم ذلك يكون قد اكتمل مجيء الرب ، يكون قد
اكتمل مجيء ابن الإنسان .
خلاصة
مفهوم الشخصية الإفخارستية للمسيح
هو أن شخص المسيح ، بظهوره في تاريخ البشر في شخص الرب يسوع التاريخي – بفضل الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان
– قد ظهر ككيان يتضخم ويتنامى – كميا – بضم
أفراد الكنيسة – المبعثرين في الزمان والمكان – كأعضاء في جسده . هو يتنامى ويتضخم
الآن ، وسيظل هكذا إلى الحد الذي فيه يستعلن جميع أفراد الكنيسة . سيظل يتنامى ويتضخم
إلى أن يمتلئ بجميع الأعضاء اللازمين لجعله جسدا كاملا . وحينئذ فقط يكون قد اكتمل
الحدث الإفخارستي ، يكون قد امتلأ شخص المسيح ، يكون قد امتلأ الشخص الإفخارستي كامتداد
نعموي لما ناله جسد الكلمة الخاص، في البشر.
هامش
نشرت هذه المقالة تعليقا
على مقال: الاتحاد الأقنومي وسر الإفخارستيا المنشور في مارس2014 على صفحات موقع الدراسات
القبطية والأرثوذكسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق