الأربعاء، 24 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 7 )

 

 

            الاتحاد الأقنومي بين الإخلاء والتخلي

 هل معنى  إخلاء الذات الذي بادر به الابن الذاتي هو التجرد التام من الذات، أم هل هو التلاشي، أم هل هو التخلي، أم هل هو تفريغ الذات، أم هل هو إنكار الذات، أم هل هو شيء آخر؟

 المصطلح: إخلاء الذات " kenosis  " من الفعل " kenoo  "، الذي ورد في ( فيليبي2: 7 ) - النص موضوع الدراسة- قد ورد أيضا في ثلاثة مواضع أخرى فقط في رسائل الرسول بولس، وبالتالي في العهد الجديد كله. ولكي نستطيع أن نبني -بالتدريج - مفهوما دقيقا للمصطلح نستعين بالآليات الآتية:

 أولا- الاستخدام الكتابي للكلمة

المرة الوحيدة التي ترجمت فيها الكلمة إلى " إخلاء الذات " هي ماورد في نص فيليبي، أما الثلاثة مواضع الأخرى فقد استخدمت الكلمة فيهم استخداما آخرا؛ فقد أتى مفهوم الكلمة بمعنى التعطيل والإجهاض لمفهوم ما. في كل اقتباس من الاقتباسات الثلاثة لدينا مفهومان متناقضان، أحدهما صحيح والآخر خاطئ، وأما افتراض صحة الخاطئ فهو بالضرورة يؤدي إلى تعطيل المفهوم الآخر، وجاء الفعل     kenoo ، في هذا السياق ليفيد هذا التعطيل. والاقتباسات الثلاثة تحديدا هي: 

 1- " فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ (kekenwtai  ) الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ "( رو4: 13و 14 ). والمفهوم الخاطئ هو: أن يكون الذين من الناموس ورثة، وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل المفهوم الصحيح الذي هو أن الوعد لإبراهيم كان ببر الإيمان.

2- " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ، لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ (kenwqh ) صَلِيبُ الْمَسِيحِ. فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"( 1كو1: 17و 18 ). والمفهوم الخاطئ هو: أن البشارة هي بحكمة الكلام، وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل مفهوم صليب المسيح – عند المخلصين -كقوة الله وليس مجرد كلمة بلا فاعلية ( جهالة )، كم هو كائن عند الهالكين. 

3- " هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ. أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِنْ هذَا، وَلاَ كَتَبْتُ هذَا لِكَيْ يَصِيرَ فِيَّ هكَذَا. لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ (kenwsei ) أَحَدٌ فَخْرِي. لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ. فَإِنَّهُ إِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ هذَا طَوْعًا فَلِي أَجْرٌ، وَلكِنْ إِنْ كَانَ كَرْهًا فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ " ( 1كو9: 14- 17 ). والمفهوم الخاطئ من وجهة نظر بولس الرسول – بالرغم من كون هذا حقا قد مارسه آخرون، بل أمر به الرب - هو أن يعتاش من وراء خدمته،  وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل فخره ببشارته، كبشارة طوعية بلا أجر.

خلاصة القول هو أن الاستخدام الكتابي لفعل " kenoo  "- فيما عدا نص فيليبي-  يأتي بما يفيد تعطيلا أو إبطالا أو إسقاطا لمفهوم ما.  

ثانيا- لغة السياق

يأتي تعبير " إخلاء الذات " - كفكر للمسيح، الذي بتجسده قد قبل كل مايخص البشر - في سياق الاهتمام بالآخر والخروج من التقوقع في النفس، ولم يأت المصطلح - بأي حال من الأحوال - في سياق تنظير لاهوتي عن تجسده:" لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ ( eauton ekenwsen ) ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ"( في2: 4- 7 ).

ثالثا- ماذا لو أدمجنا الاستخدام الكتابي للكلمة -  كإبطال للمفهوم - مع لغة السياق، كعطاء محبة للبشر؟ ماعسى أن يكون معنى إخلاء الذات؟ ماهو المفهوم الذي أبطله- وأسقطه، وألغاه - الرب بتجسده، حبا في البشر، ورغبة في التقرب منهم ، وحسب هذا إخلاء لنفسه ؟ واضح أن الذي يتم التجرد منه  - أو الذي يتلاشى، أو الذي يتم تفريغه، أو الذي يتم التخلي عنه، أو الذي يتم إبطاله، أو الذي يتم تعطيله - ليس الذات بل هو مفهوم معين عن الذات.

 بالتأكيد كان لإخلائه نفسه - الذي بادر به الابن في سياق تدبير تجسده - بعدا ناسخا لمفهوم عتيق عن الذات الإلهية؛ أقصد الألوهة المتعالية الساكنة للسماء والمنعزلة عن الإنسان ساكن الأرض، بفساده الطبيعي المعبر عن هذه العزلة والفجوة المهلكة. ولكن ليس لإخلاء الذات الذي أقدم عليه الكلمة بعدا مفهوماتيا نظريا فقط، لقد كان الإخلاء فعلا وحركة، كان عبورا من قبل الابن- وجسرا - للهوة بينه وبين الإنسان، كان خروجا من الذات ( الألوهة ) نحو الآخر ( الإنسان )، وكأننا  نستطيع أن نترجم عبارة " الكلمة صار جسدا " إلى عبارة " الذات صار آخرا ". كانت هذه هي المرة الأولى - والوحيدة - في تاريخ الكون التي يحدث فيها هذا النمط من الخروج؛ فبالاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان صار الابن مستعلنا- كإله كامل - في الإنسان، كما صار الإنسان مستعلنا - كإنسان كامل - في الكلمة. هكذا نستطيع أن نقول بأن إخلاء الذات لم يكن تجردا منها أو تلاشيا لها، بل كان خروجا من الذات - بالذات - إلى الآخر، كان عطاء الذات - دون فقد - للآخر. وفكر الآخرية، هذا، هو الفكر الذي في المسيح :" لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، ..لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ،..  "( في2: 4- 7 ).

  فإخلائه نفسه هو عمل المحبة الذي استعلن في تدبير تجسده؛ بأن أعطى ذاته -كشخص الابن - للإنسان كعطاء محبة، والمحبة بالتعريف - إنجيليا، في سياق الحديث عن التجسد - هي عطاء الذات للآخر؛" لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ( edwken  من الفعل didwmi = أعطى = gave ) ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " (يو 3: 16). ولم تكن هذه المحبة أمرا جديدا عليه بل كانت استعلانا لما هو كائن بالفعل كطبيعة للألوهة ؛ " فاَللهُ مَحَبَّةٌ "( 1يو4: 16 ). والمحبة هي العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس: كل شخص يعطي ذاته لكل شخص من الشخصين الآخرين،لأن كل شخص له نفس الجوهر ( الذات ) الذي لكل شخص من الشخصين الآخرين، وبالتعبير النيقاوي "   هوموأوسيوس، homoousios ". ذات الآب هي ذات الابن هي ذات الروح القدس. وعليه فنستطيع أن نرصد الفرق بين المحبة التي في إخلائه نفسه وبين المحبة التي بين شخوص الثالوث، فبينما في الإخلاء قد أعطيت الذات ( اللاهوت ) للآخر المغاير، الذي هو طبيعتنا البشرية، لتصير الطبيعتان في اتحاد أقنومي، ففي حالة الثالوث يعطى الجوهر ( الذات ) للآخر الذاتي ( إذا جاز التعبير )؛ فالآب يعطي كل ملئه لابنه الذاتي، والابن يقبل كل عطية أبيه الذاتي. هذه هي حركة المحبة الثالوثية المستعلنة صورتها في إخلاء الابن الوحيد نفسه، محبة لنا. أيضا نقول بأن في الإخلاء تقوم المحبة - التي هي عطاء الذات للآخر - بجسر الهوة بين المعطي والعطية  - من طرف -  أي اللاهوت ، وبين المعطى له، أي الإنسان ، من طرف آخر، أما في المحبة الثالوثية فبفضل " الآخرية الذاتية "( إذا جاز التعبير ) لاتوجد أية فجوة أو هوة ، لتقوم المحبة بعبورها أو جسرها .

 ولإخلاء الذات وجهان:

1- الوجه السلبي لإخلائه نفسه هو خضوعه لضرورات طبيعة البشر، آخذا مالهم، ذائقا في جسده الذي أخذه منهم كل مايخصهم من ضعف وألم وموت: " لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ"( في2: 7و 8 ). ولأن كل مظاهر خضوعه – طائعا - للضعف والإهانة والألم والموت قد قبلها في جسد هو جسده الخاص وليس جسدا يخص غيره فقد حسب - عن حق - أن الكلمة الذاتي، فيه ( في جسده ) قد ذاق واختبر كل هذا. بإخلائه ذاته، قد شعر بأسوأ مشاعرنا، وقهر وأذل بأحط مستويات الذل والازدراء والتعذيب حتى الموت، وقد تعرض لكل هذا لأنه حينما تجسد – وبإخلائه ذاته - كان قد نزع عن نفسه كل مايفصله عن معايشة ومكابدة واقع البشر المزري. ونستطيع أن نقول بأن الوجه السلبي للإخلاء هو الأكثر وضوحا وتمثيلا للمفهوم؛ فخضوع الابن لكل ضرورات وجودنا العتيقة كاشف بجلاء لا يمكن مجاراته لعبوره الفجوة بين الألوهة – في مجدها – والخليقة – في فسادها – هذا العبور الذي أظهره في صورة عبد بينما هو الكائن في صورة الله. 

2- أما الوجه الإيجابي للإخلاء فهو الصورة من الاتجاه العكسي؛ فإذا كان خضوعه لضرورات وجودنا نزولا إلينا، فإن تألهنا هو صعود إليه، فيه؛ وهذا ماقد تم في الرب يسوع المسيح الذي بفضل كونه الإنسان الكائن مع الكلمة في اتحاد أقنومي، فقد ارتفعنا برفعتة " لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ  لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ"( في2:  9- 11 ). فالوجه الإيجابي للإخلاء، إذن ، هو ماقد صار لنا فيه من مجد التأله، أي الخلود بالشركة في حياة الكلمة ذاته حينما أعطي لنا فيه أن نعبر الهوة التي تفصله عنا حينما حل فينا متجسدا.

الإخلاء والتخلي

من البديهيات اللاهوتية أنه لايوجد مايعمله الآب ولايعمله الابن في ذات الحدث ؛" لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ. لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ"( يو5: 19 و20 )، وبناء عليه كيف لنا أن نفهم تخلي الآب عن الابن المتجسد، وتركه ليذوق الألم والإهانة والتعذيب حتى الموت ، هل تخلى الابن - أيضا - عن نفسه - باعتبار أن مايعمله الآب يعمله هو أيضا - كيف نفهم هذا ؟ الحل هو في الوجه السلبي لمفهوم إخلاء الذات، الذي بدوره يتقاطع مع تخلي الآب؛ فبإخلائه نفسه قد أخضع الابن ذاته - طوعا واختيارا وحبا - لكل مسار الألم والموت، فحسب إخضاعه ذاته لهذا المسار تماهيا مع الترك والتخلي - من قبل الآب - عنه.

خلاصة

ارتحل الابن الوحيد من عليائه قاصدا إيانا، خرج من سمائه ليسكن أرضيتنا، جسر الهوة العظيمة بين ألوهته وبشريتنا، صار الخالق مخلوقا، لم يعد بيننا وبينه أية عزلة أو فجوة إذ قد صار إيانا. عندما أتحد ذاته ببشريتنا أقنوميا استعلن لاهوته في أخينا البكر الذي اتخذه منا، واستعلنت إنسانيتنا في ابنه الوحيد الذي حل فينا. لم يكن إخلاؤه ذاته مجرد جسر للهوة بين طبيعتين، بل بين الذي له وحده عدم الموت وذاك الذي هو فاسد بالطبيعة، وإذذاك صار الميت حيا، تأله بالشركة في حياة الكلمة. كان الإخلاء ارتحالا للتأله كي مايحل فينا. وهو من فرط حبه فينا - الذي جعله يضطلع بهذا التدبير العجيب، واهبا إيانا ما يجعلنا شركاء في مجده، المعطى له من أبيه الذاتي -من فرط هذا الحب قد قبل أن يرتحل إلى أسوأ ما في جبلتنا، قبل أن يضع  ذاته موضع من هو متروك ومتخلى عنه بالطبيعة من قبل الآب؛ فعندما أصبح إيانا لبس عارنا وألبسنا مجده ، هذا هو عمق مفهوم إخلائه نفسه.

ومفهوم إخلاء الذات وثيق الصلة بمفهوم الاتحاد الأقنومي بين الابن الوحيد والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح، بل إن المفهومين تعبيران مختلفان عن نفس الحالة، حالة الاقتراب المطلق بين الألوهة والإنسان؛ فليس بين عنصري الشخص - الداخلين في اتحاد أقنومي- أي مجال للحديث عن أي نوع من العزلة أو المسافة أو الفصل؛ وهكذا نستطيع أن ندرك أن حدث الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان هو نفسه حدث إخلاء الكلمة ذاته آخذا صورة إنسان.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات: