الأحد، 7 مارس 2021

حوار حول شركة جسد المسيح ( 2 )

 

                      

                       بعض من أصداء الحوار

1-  تكميل القديسين أم تكميل المسيح

كان الحوار كاشفا لتشوهات الفكر اللاهوتي لكنيستنا القبطية الحبيبة في العصر الحديث، والتي تشكلت بفضل التشبع باللاهوت المدرسي، لاهوت العصر الوسيط، اللاهوت الذي ملأ الفراغ الذي أحدثته الانقطاعية عن فكر الآباء، لاسيما كتابات العظيمين أثناسيوس وكيرلس السكندريين. وإن كان الحوار حول الكنيسة كشركة في جسد المسيح، فقد أطلت برأسها فكرة عجيبة وهي ماتعرف بنظرية  الثلاثة أجساد الخاصة بالمسيح: الجسد الذي أخذه من العذراء، والجسد الإفخارستي، والكنيسة كجسد للمسيح. وبالطبع لا يمكن أن يكون الجسد، "الكنيسة "، أكثر من مجرد تعبير استعاري، مجازي، بلاغي. وبناء عليه هناك ثنائية واضحة، وتفريق جلي بين المسيح والكنيسة بأفرادها، ويكون من المنطقي جدا- طبقا لذلك- أن يكون اعتبار أعضاء الكنيسة مالئين للمسيح انتقاصا للمسيح، الذي هو بطبيعته - حسب رؤيتهم- كامل ولايحتاج أن يتكمل بنا بل نحن الذين نتكمل به. هذا فضلا عن أننا- حسب رؤيتهم، أيضا - مجرد أصفار لاقيمة لها كإضافة بالنسبة للمسيح، حتى لو بلغنا البلايين، فهي بلايين الأصفار المضافة إلى الواحد. هكذا طردت الكنيسة خارج المسيح واعتبرت محاولة إدخالها انتقاصا منه. بينما - على الضفة الأخرى - يفاجئنا الرسول بولس بعدم وجود هذه الانقطاعية وهذا الفصل بين تكميل رأس الكنيسة من ناحية، وتكميلها كجسد من ناحية أخرى، بل على العكس؛ فمن كماله ينبع تكميل إخوته، فيكتب في الرسالة إلى العبرانيين: " لكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ. لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ. لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً،  قَائِلًا: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ» (عب 2: 9- 12 ). إذا نحن - ككنيسة- لسنا أصفارا، نحن أبناء كثيرون يؤتى بنا إلى المجد، نحن إخوة له وهو بكر لنا، وإن كنا نجتمع معه – فيه – إلى واحد فهو اجتماع الإخوة مع بكرهم ، واجتماع الأعضاء مع رأسهم، وليس اجتماع الأصفار إلى الواحد الذي لايضيف إلى الواحد أي قيمة؛ فنحن نضيف إليه - كرأس - كل باقي أعضاء جسده. وهذا لا يتناقض مع كونه هو الذي يضيف إلينا كل وجودنا النابع منه؛  فالكلمة بتجسده قد قدس جسده الخاص ليس لأنه كان في احتياج للتقديس بل هو صنع هذا لحساب الكنيسة، وفيما هو يقدس ذاته فهم مقدسون فيه. وفي نص، ينتمي لدرة تاج الكتاب المقدس كله، يوحنا ( 17)، يشرح الرب، الكلمة المتجسد الرب يسوع، علاقته بالكنيسة كصورة لعلاقته بالآب – والعلاقتان تجمعهما الواحدية- فيقول مخاطبا أباه الذاتي: "وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ. «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ،  لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي"( يو17: 19 -23 ). إذن تكميل الرأس من أجل تكميل الجسد وتكميل الجسد من كمال الرأس. هذا ماتضمنه علاقة الوجود المتبادل بين الكنيسة والمسيح، كصورة لعلاقة الابن بالآب. والنص في رسالة أفسس في منتهى الوضوح ولايحتاج أدنى مجهود في استنتاج أن تكميل القديسين يستهدف بنيان جسد المسيح للوصول إلى مستهدف واحد هو امتلاء المسيح بكنيسته، وبتعبير آخر غير تعبير البنيان يستخدم الرسول تعبير النمو، نمو الجسد إلى الرأس الذي منه يتراكب كل الجسد، فيكتب: " وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ. كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالًا مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ. بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ "( أف4: 11- 16 ). إذن تكميل القديسين هو تكميل وامتلاء للمسيح، ولاتناقض بين الحدثين؛ فمعنى أن يتكمل أفراد من الكنيسة هو صيرورة هؤلاء الأفراد أعضاء في جسد الرب.

2- ربوبية الرب ومسحة المسيح

في خطبته النارية التي نخست قلوب ثلاثة آلاف نفس، في يوم الخمسين، ماذا كان يعني الرسول بطرس بقوله :" فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا " ( أع 2: 36 ). الإجابة هي أن الكلمة بتجسده قد اضطلع بوظيفة نعموية جديدة أظهر فيها محبته للبشر؛ فالربوبية والمسحة وجهان لعملة واحدة هي النعمة، فهو لم يصر ربا - منذ البداية - إلا عندما صار خالقا، ولكن قمة استعلان الربوبية، أي استعلانها الأبدي، لم يحدث إلا بتجسد الكلمة إذ صار الكلمة المتجسد ربا يستقبل مربوبين في جسده ، كرأس لهم، جاعلا منهم أعضاء له، أي الكنيسة. وهو سيظل يستقبل مربوبيه من البشر في جسده إلى أن يكتمل العدد المعين للأعضاء - أي اكتمال جسده بالأعضاء - وحينئذ فقط ينهي الكلمة ربوبيته للكون الطبيعي ليستمر إلى الأبد ربا لكنيسته التي هي جسده، هذا هو الرب الذي يجيء الآن في كنيسته. والكلمة لم يصر مسيحا إلا عندما تجسد، إذ مسح جسده الخاص - الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت- صائرا رأسا ومنبعا لمسحة جميع الذين ينضمون إليه كأعضاء، ليصبح الكيان الكوني الوحيد الذي يضم كل الممسوحين من البشر، هذا هو المسيح الذي يتكمل ويمتلئ بكنيسته.

احتياج الربوبية

 تعبير غريب وصادم، أوحى به لنا مشهد اليوم العظيم لدخول الرب أورشليم، إذ

" أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ قَائِلًا: «اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشًا مَرْبُوطًا لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُّلاَهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُّلاَنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ»(لو 19 : 29- 31 ). وقد كان بالفعل ماتوقعه الرب. كيف نفهم أن الرب يحتاج إلى شي؟ التأويل الرمزي للعبارة، أي صيرورة الرب ملكا على حيوانيتنا، هو المفتاح؛ فهو الإنسان الجديد، آدم الثاني الرب من السماء، الروحاني، الذي فيه تتغير حيوانيتنا إلى روحانيته بصيرورتنا أعضاء فيه، ومن المنطقي والطبيعي أن تكون أعضاء الروحاني أعضاء روحانية. ولنا ملحوظتان لغويتان - في الأصل اليوناني - على  عبارة " الرب محتاج إليه"، الملحوظة الأولى هي ورود اسم الرب في الصيغة المعرفة، والتعريف للاسم في لغة الكتاب يعني الشخص الكامل المستقل. والملحوظة الثانية هي أن الاحتياج هنا هو احتياج النقص ولايمكن أن يفهم أنه نوع من المناورة كأن الرب  يمنح كرامة للشيء ليبدو وكأنه يحتاج إلى هذا الشيء. ودليلنا على أن الاحتياج هنا هو احتياج النقص هو الاستعمال الكتابي لنفس " الفعل " في أماكن عديدة - بمعنى النقص - وهذه بعض الأمثلة:  

  - " حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلًا: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!"( مت 3 :13و 14 ).

- " لَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى"( مت9: 11 و12 ).

- " فَالْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ"( لو9: 11 ).

 والشاهد أن الرب، الكلمة المتجسد - بربوبيته الكاملة والذي لايحتاج إلى مايكمله، فهو الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد – لم يتجسد ليكون رأسا فقط من دون جسد، لذلك فهو كرأس يحتاج أن يتكمل بأعضاء جسده أي كنيسته، وبالطبع كنيسته لم تضف إلى ملئه شيئا بل هي التي تمتلئ به وفيه، ولكن هذا لايتناقض مع كون أن شخص الرب، شخص المسيح، كيان يتعاظم كميا بضم أفراد الكنيسة كأعضاء فيه، هكذا يشبع الرب - كرأس - احتياجه إلى أعضاء جسده، فيخاطبهم عند اكتمال مجيئه فيهم قائلا لهم : " جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي "( مت25: 35 ). فالرب لايحتاج إلا إلى أن يجيء في كنيسته.

3- عتيق الرب وعتيقنا

عندما لبس الكلمة طبيعتنا بتجسده ظهر كياننا فيه عتيقا، مهترئا، متألما، مصلوبا، مائتا. وهو قد ظهر هكذا على خلفية مرجعية الجديد عديم الألم، عديم الموت. الموت بالنسبة لنا – بدون المسيح - نهاية كل شيء، بينما موت عتيق الرب مجرد  ناقض لما يحجب الإنسان الجديد وباب لاستعلان القيامة . كان قد انزعج أحد الأخوة جدا- في الحوار - من مجرد القول بأن للرب عتيق باعتبار أن للعتيق ارتباط – بشكل ما - بالخطية، فضلا عن أن دوافع وميول العتيق تجعل للرب مشيئتين وإرادتين. وأما القول الفصل فهو في الرؤية الخريستولوجية الصحيحة؛ فالرب الكلمة المتجسد إله كامل وإنسان كامل بآن واحد ، عنصران في اتحاد أقنومي يثمر شخصا ليس من الوارد أن يكون فيه أي تناقض أوعزلة أو فجوة بين الله والإنسان، وترجمة هذا هو أنه ليس من الوارد أن يكون فيه خطية؛ فالخطية هي عنصر التناقض بين الله والإنسان. وليس من الوارد أيضا أن يكون لعتيقه إرادة ومشيئة ثانية، فإرادة عتيق الرب مصلوبة قبل أن يصلب، ومعلقة قبل أن يعلق، ومذبوحة قبل أن يذبح وميتة قبل أن يموت، هي هكذا لحساب إرادة الشخص الواحدة التي للجديد الكائن في الكلمة؛ فهاهو الرب، وبينما هو على مشارف الصلبوت الرهيب - " وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ"( لو22 : 44 )- يصلي مخاطبا أباه « قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ»( لو22: 42 ).

 لقد كان عتيق الرب بالنسبة لكيانه الكامل مجرد رداء أو حجاب، فيه ذاق - كشخص الكلمة المتجسد - تعبنا وألمنا وموتنا، وبموته على الصليب كان قد أسلمه إلى مصيره الطبيعي الذي هو مصيرنا ومصير الكون الطبيعي كله، ليكون موت هذا شقا للحجاب الساتر للإنسانية الجديدة المنتصرة على الألم والموت، تلك الصائرة رأسا لخلقتنا الجديدة، أي الكنيسة.

  

ليست هناك تعليقات: