الاثنين، 21 مايو 2012

الحضور الإلهي

     لعل تعبير " الحضور المتجسد للكلمة " هو أنضج تعبير لاهوتي ، من الممكن أن يبلور عمق اللاهوت الأرثوذكسي . وواقع الحال هو أن هذا التعبير هو مضمون كتاب " تجسد الكلمة " للعظيم أثناسيوس . وعبقرية هذا التعبير تكمن في إنهاء الانقطاعية وعدم الإتصال الوهميين الظاهرين بين مفهوم " الحضور " ومفهوم " التجسد " . فالتجسد ليس حدثا تعسفيا يقتحم الكون بل هو امتلاء ووصول بالواقع الحضوري إلى قمته .فحضور الكلمة في الخليقة هو تجسد بطريقة ما، وبقدر ما ،  للكلمة . وتجسد الكلمة هو أقصى حضور – غير قابل للانحلال- للكلمة في الخليقة . تعبير" الحضور المتجسد للكلمة " هو بمثابة رؤية بانورامية للحقيقة اللاهوتية الأرثوذكسية ، فالمفهوم الأصيل للنعمة لايمكن بلوغ أعماقه خارجا عن سياق هذا التعبير . فإذا كانت قمة امتلاء مفهوم النعمة واستعلانها تتجلى في حضور الكلمة في الإنسان بالتجسد ، فإن ذلك يعني ببساطة استعلان قمة هرم النعمة الذي يمتد بقاعدته في الخليقة كلها . فلم يصر الكلمة حاضرا في الخليقة منذ لحظة التجسد فقط ، بل كانت تلك اللحظة كشفا لقمة حضوره في الكون . فحدث الخلقة لم يكن استعلانا لإرادة الخالق ، من بعد ، بل كان كشفا لذلك الحضور، فالنعمة بمفهومها الشامل هي استعلان للحضور الإلهي وكشف له . والإبحار الهادئ المتأني في كتاب " تجسد الكلمة " يقودنا إلى رصد تلك المستويات المتراكمة المتصاعدة للنعمة والتي تكشف تصاعدا وتراكما لمستويات حضور الكلمة في الخليقة . فالخليقة الطبيعيةالجامدة ، أي الكون ، قد ظهرت موجودة لتستعلن حضورا للكلمة . وظهور الحياة البيولوجية (الحيوانية ) يكشف حضورا أكثر كثافة للكلمة . بينما ظهور الإنسان وتمتعه بنعمة مماثلة الصورة الإلهية ، ككائن عاقل ، يكشف قدرا أكثر كثافة من حضور الكلمة، وبحسب تعبير أثناسيوس ، يكشف " نعمة إضافية " وبتعبير آخر لأثناسيوس ،أيضا ، يظهر العقل الإنساني" كظل للكلمة " . ويبلغ حضور الكلمة في الخليقة قمته وأقصى قدر لكثافته في حدث تجسد الكلمة في شخص الرب يسوع المسيح الذي يحل فيه كل الملء ، والذي لم يكن ظهوره حدثا غريبا عن الخليقة بل كشفا لقمة حضور من هو كائن في الخليقة منذ أول لحظة لها وبحضوره فيها هي كائنة وحاضرة فيه. 
إشكالية اختزال حضور الكلمة في حدث تجسده
لم يكن حدث تجسد الكلمة في شخص الرب يسوع التاريخي حدثا منشئا لمفهوم الحضور بل كان حدثا ينتمي إلى ذات نسيج حضوره في الكون . وبالتأكيد قد كان تجسد الرب حدثا جديدا على الكون ولكن لم تكن جدة الحدث في طبيعته المنشئة له ولكن في عمقه وفي ديمومته ، فإذا كان التجسد هو الحضور الأبدي للكلمة في الخليقة ، ممثلة في الإنسان ، فقد كانت الخليقة الطبيعية منذ نشأة الكون – واستمرار وجودها وتطورها حتى نهايتها وعودتها للعدم – تجسدا زمنيا للكلمة، ولكن ماينجم عن فصل التجسد كقمة لهرم الحضور ، عن قاعدته ، أي حضوره في الخليقة ، هو عدم الفهم لعدة قضايا أساسية :
    1- قضية الخلق من العدم  
لم تظهر الخليقة من العدم بطريقة سحرية تعسفية وفقا لإرادة خالق مطلق القوة يقبع في سمائه ممسكا بأداة للتحكم من بعد ، بل قد كان ظهورها موجودة كشفا واستعلانا لحضور الخالق ، الكلمة الذاتي . كانت الخليقة المادية الطبيعية تجسيدا لحضرته ليس فقط في لحظة انطلاق الحدث بل في ديمومة ذلك الحدث ، الأمر الذي يعني أن إنهاء الحضور هو نهاية وجود الخليقة وارتدادها إلى العدم . كل ذرة ، أو قل كل مايمكن أن يكتشفه العلم من مكونات ما تحت الذرة ، هو تجسيد لحضور الكلمة . منظومة القوانين الطبيعية التي تحكم الكون في جميع مستوياته من الجزء إلى الكل ، هي تجسيد لحضور الكلمة الذي يحمل الكل ، الذي يحضر الكل ، الذي يحضر في الكل.
   2- قضية النعمة  
ليست النعمة هبة تتساقط من السماء عابرة لتلك الفجوة البائسة التي يفترضها الفكر الثنائي الذي يحتفل دائما بالفصل المأساوي بين السماء والأرض ، بل هي استعلان وكشف للحضور الإلهي ، كشف لحضور الكلمة ، كشف لحدث ينبع من الآب ليحققه الابن في الروح القدس . وإذا كان ظهور الكلمة متجسدا في شخص الرب يسوع التاريخي هو ظهور لملء وعمق ومنبع النعمة الأبدي ، فلم يكن ذلك إلا وصولا بالنعمة إلى قمة هرمها ، المشيد على قاعدة تمتد منذ لحظة نشأة الكون الطبيعي. 
 3- قضية الأسرار
ليس السر الكنسي حدثا للتقوى الفردية التي تنتشل الإنسان من وجوده الطبيعي لتلحقه بعالم جديد وخليقة جديدة لا تنتمي إلى العتيقة ، بل هو نمو وامتلاء للخليقة العتيقة ووصول بها إلى هدفها الذي هو المسيح الحاضر فيها . السر الكنسي هو نمو للوعي البشري بحضور الكلمة فيه ، الأمر الذي يبلغ قمته بالشركة في جسد الكلمة المتجسد ، أي الانتماء إلى وطن الحضور الأبدي للكلمة في الخليقة .
ماهية الحضور الإلهي
  ليس الحضور الإلهي استيعابا مكانيا أو زمانيا للاهوت ، فالمكان والزمان ذاتيهما هما بعض من تجلي الحضور الإلهي ، هما مجال لإعلان هذا السر العجيب.الحضور الإلهي هو شركة اللاهوت في الآخر ، تلك الشركة التي تتجلى في وجود ذلك الآخر . فالوجود هو الحضور الإلهي المنطوق ، هو الحضور المستعلن .في اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي نستطيع أن نرصد ثلاثة مستويات للحضور الإلهي : 
 1- الحضور الإلهي الذاتي ( سر الثالوث  )
في شركة الثالوث القدوس يتكشف نمط مدهش وفائق للعقل البشري ، من الحضور الإلهي ، من حضور متبادل بين شخوص الثالوث . كل شخص حاضر في الآخر في علاقة ضمنية متبادلة . كل شخص هو " هومو أوسيوس " بالنسبة للآخر ، أي أن كل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر . ومن خلال حركة المحبة المطلقة التي لتلك " الآخرية الذاتية " يتحقق الوجود الإلهي .شخص الابن ، الكلمة الذاتي ، حاضر في أبيه الذاتي ، فهو كل ملء الآب ، كما أن الآب هو منبع ومصدر ابنه الذاتي . والابن ، أيضا ، حاضر في شخص الروح القدس ، لأن الأخير هو روح الإبن كما أنه أيضا روح الآب ، لأنه شركة .شخص الابن ، اللوغوس هو الحضور الإلهي المنطوق ذاتيا ، أي من أبيه الذاتي ، والذي يستعلن كل ما للجوهر الإلهي . الحضور المتبادل بين شخوص الثالوث المقدس هو مايتجلى وجودا وجوهرا إلهيا . 
2- الحضور الإلهي المتجسد ( سر التجسد )
في شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، يتكشف نمط جديد من الحضور الإلهي في الخليقة ، إذ قد صار الكلمة حاضرا إلى الأبد حضورا تجلى في إنسان له عدم الموت وعدم افساد ، بل والأكثر من ذلك قد صار هذا الإنسان ، الرب يسوع ، رأسا للحياة الأبدية وعدم الفساد لكل البشر الصائرين أعضاءا له . بتجسد الكلمة وظهور الرب يسوع كرأس ، بامتداد كيانه في الكنيسة ، كجسد له ، يكون الحضور الإلهي قد تجلى مسيحا يستوعب كنيسته في كيانه ، تجلى خليقة جديدة تتمتع بالوجود الأبدي في مظلة شركة الثالوث الأقدس . 
3- الحضور الإلهي الخالق ( سر الخليقة )
لم يكن الكون مجرد إرادة لخالق خارجي منعزل ومنفصل عنه ، بل كان تجليا لحضور إلهي ، تجليا لقدر من الشركة في شخص الكلمة الحامل للكون على مستوى الكل ، كما على مستوى كل جزء . الخليقة ، زمانا ومكانا ، تكشف حضورا إلهيا ديناميكيا فاعلا ، فليست الخليقة ، وليس الكون ، إلا سيمفونية قام بتأليفها المايسترو الحاضر والقائد للأوركسترا التي تعزفها.  خلقة الكون واستمراره وتطوره حتى نهايته هو حدث كاشف للمستوى الأولي للحضور الالهي .
  خلاصة
الحضور الإلهي مفهوم متسع ، واتساعه يتخطى محدودية العقل البشري . ويتقاطع هذا المفهوم مع الخليقة من خلال مفهوم " النعمة " بمستوييها : مستوى الخليقة الطبيعية ، والمستوى الأكمل والأتم الذي للخليقة الجديدة التي في المسيح . بينما يظل مركز وبؤرة مفهوم الحضور الإلهي هو الثالوث القدوس ، ذاته .  بينما تستعلن شركة الثالوث حضور الله أي تحقق وجوده الذاتي في حدث  سرمدي فائق لعقولنا، فإن لدينا نمطا آخرا للحضور الإلهي يمكن أن نطلق عليه " الحضور الإلهي النعموي " ، وهو استعلان حضور الله في الخليقة . الحضور الإلهي الذاتي هو حضور نوعي ( كيفي ) لا مثيل له في الخليقة ، بينما الحضور النعموي هو حضور كمي ( تراكمي ) وهو  مفهوم متصل   له طرفان  :  طرف خلقة الكون من العدم ، والطرف الآخر طرف اكتمال مجيء الخليقة الجديدة ، أي الكنيسة ، الكون الجديد الكائن في المسيح، أي اكتمال مجيء ( حضور ) الرب .
 مجدي داود

الخميس، 17 مايو 2012

علاقات لاهوتية ملتبسة


1- العلاقة بين مفهوم الألوهية ومفهوم الربوبية
 يحدث الالتباس دائما بين ألوهية الله وربوبيته ، وبالتأكيد لم تعرف الخليقة – وعلى رأسها الإنسان – ربا غير الله . ولكن الربوبية – لغة واصطلاحا – هي العناية والرعاية من قبل الرب تجاه المربوب . وعليه فلم يكن الله ربا – من الناحية العملية - إلا حينما صار خالقا ، وإذ ذاك فقد اقتنى لنفسه موضوعا لعنايته ورعايته. وبالتأكيد إن قدرة الله على العناية والرعاية لخليقة ما، فضلا عن خلقتها من الأصل ، هي قدرة كائنة فيه منذ الأزل من منظور صلاحه ، ولكن توفر القدرة على عمل شيء لا يعني بأي حال من الأحوال ظهور هذا الشيء عمليا ، وإلا كانت الخليقة – وفقا لهذا الطرح – أزلية ، وهذا ما لا تعرفه المسيحية .  الألوهية حقيقة سرمدية تخص الوجود الإلهي ذاته كوجود قائم في شركة الثالوث القدوس ، بينما الربوبية حقيقة " نعموية " ( إذا جاز التعبير ) ،أي حقيقة لا يمكن تفهمها إلا من منظور النعمة . والنعمة بالتعريف هي استعلان حضور الثالوث القدوس في الخليقة ، فبحسب القديس أثناسيوس : النعمة واحدة من الآب تنبع وبالابن تتم في الروح القدس ( من الآب بالابن في الروح القدس ). ولكن النعمة وفقا لطرح " الحضور الثالوثي " هذا ، والذي فيه وبه تستعلن الربوبية ، إنما هي بمثابة كاشف لحضور ذلك الذي هو حاضر سرمديا ، من ذاته كشخص الآب ، وحاضر سرمديا ، بذاته كشخص الابن ، وحاضر سرمديا ، في ذاته كشخص الروح القدس .إذن الربوبية هي الاستعلان النعموي للألوهية في الخليقة . وإذا كانت الألوهية هي حقيقة وجود الله فإن الربوبية - كاستعلان لهذه الحقيقة في الخليقة – هي حقيقة وجود الخليقة وتمتعها بالشركة في حياة الله .  والمسألة ليست مجرد ترف لاهوتي أو فلسفي ، بل هي ضالعة في  عمق أعماق الطرح المسيحي ، فالربوبية ليست مجرد ذلك الفعل الرعائي الذي قام به الله من نحو الخليقة ، بدءا من استحضارها من العدم ومرورا باكتمال مسيرتها في هذا العالم المادي المنظور ، ولكن الله في المسيحية قد أكمل وأتم ربوبيته للخليقة بأن جددها وأعتقها من مصيرها الطبيعي أي الفناء والعدم ، حينما أعطى ابنه الوحيد إلى العالم فاكتملت وامتلأت ربوبية الرب لخليقته بأن صارت كائنة وساكنة فيه إلى الأبد وذلك بأن أصبح البشر – تاج هذه الخليقة وثمرتها - الذين يقبلون الشركة في المسيح ، شركاء الطبيعة الإلهية ، كائنين إلى الأبد كأهل بيت الله ، بل كأعضاء في جسد ابنه الذي اتخذه منهم في تدبير سر تجسده العجيب . إذن الربوبية ليست مجرد اجتلاب للخليقة من العدم والعناية بها لزمن محدد ، بل هي اجتلاب للخليقة لتصير كائنة إلى الأبد في الله حيث العناية والرعاية الأبدية. وعليه فالربوبية ليست مجرد فعل يتكمل في زمن محدد بل هي شخص يتكمل الآن هو الرب ، هو  الابن الوحيد المتجسد الذي يجمع في جسده كل شعبه ورعيته أي كل مربوبيه. وهذا يقودنا إلى المفهوم العجيب – الذي يكاد يكون غائبا عن الوعي به من قبل معظم المسيحيين – مفهوم " مجيء الرب " ، وهو مفهوم   يمثل درة تاج الإنجيل . وللأسف يتماهى هذا المفهوم مع مفهوم زوال العالم فيعتقد بأن الرب سوف يأتي مكانيا وزمانيا ليكون شاهد هذه اللحظة وبطلها  . ولكن مفهوم المجيء هنا ليس مفهوما مكانيا أو زمانيا ، فكلمة " باروسيا = parosia " تعنى تحقق الوجود أوالحضور الشخصي ، وعليه فمجيء الرب هو تحقق اكتمال وامتلاء شخص الرب يسوع المسيح الكلمة المتجسد بشعب رعيته ومربوبيه الذين اقتناهم كأعضاء تحقق كيان جسده الكامل . وباكتمال جسد الرب ، الكنيسة ، يكتمل مفهوم الربوبية وتصل إلى سقفها الأبدي في المسيح ، ويكتمل مجيء شخص الرب ، أي يتحقق وجوده الممتلئ بالبشر المفديين بدم الخروف الذي يرعاهم إلى الأبد . هكذا صار الله ربا إلى الأبد ، وصارت ربوبيته للخليقة ربوبية أبدية إذ قد جعل ابنه المتجسد يسوع ربا ومسيحا،  وفيه قد مسح الجميع .
2-   علاقة الشخص بالجوهر في سر الثالوث القدوس
تلتبس هذه العلاقة عند الكثير من المسيحيين - وبالأحرى عند كل غير المسيحيين – فيحدث اختزال وهمي وتماه بين الأقنوم والجوهر والنتيجة الخاطئة هي الاعتقاد - أو على الأقل تكريس صورة ذهنية - بوجود ثلاثة كيانات مستقلة ومنعزلة ، عمليا . والحقيقة هي أن هذه العلاقة تمثل عمق السر  الفائق للإدراك ، والذي يتحقق من خلاله - سرمديا - وجود الله .
    الأقانيم الثلاثة هي ثلاث هويات شخصية إرادية فاعلة ، متمايزة في مابينها وكائنة في شركة تحقق الوجود الإلهي الواحد : - هوية إصدار ( إعطاء ) الذات الإلهية ،وهي هوية شخص الآب .- هوية  قبول الذات الإلهية ( قبول عطاء الآب )، وهي هوية شخص الابن .- هوية الشركة بين عطاء الآب وقبول الابن ، وهي هوية شخص الروح القدس . الشركة الكائنة بين الأقانيم لها مفهوم ليس له مايشبهه في ماندركه بخبرتنا عن معنى كلمة " شركة "، فالتعبير العملي والحقيقي عن الكلمة هو مصطلح " الاحتواء المتبادل "( Perichoresis ) بين شخوص الثالوث . ولا أريد التوقف كثيرا عند الترجمات أو التأويلات المختلفة للمصطلح ، وسواء كان المعنى يخص " احتواء.. استيعاب..وجود ..تواجد  أو حلول "، فالمهم هو مفهوم " الضمنية المتبادلة " بين شخص الثالوث ،أي تضمن كل شخص للشخصين الآخرين  ، فحينما يذكر حضور أحد الشخوص فهذا يعني حضورا مستترا للشخصين الآخرين. فلايوجد الشخص منعزلا أو مستقلا بل في شركة  . حضور الآب يتضمن حضور الابن لأنه لا آب بدون ابن ، وحضور الآب والابن يتضمن حضور الروح القدس لأنه روح الآب والابن بآن واحد. العلاقة بين الشخص والجوهر ليس فيها أي شبهة للثنائية . فالجوهر هو جوهر كل شخص وليس للشخص جوهر أو ذات مستقلة غير ذلك الجوهر الواحد المستعلن في شركة ثلاث هويات شخصية مريدة . وحينما يجتمع ذكر الشخص مع الجوهر في عبارة واحدة فنحن بصدد الحديث عن فعل تحقق الوجود الإلهي الواحد من منظور شخص معين من شخوص الثالوث ، ولذلك فحينما نضع تعريفا للوجود الإلهي مفاده أن " الله الآب هو الجوهر الحي الوحيد الذي يصدر ذاته ، والله الابن هو الجوهر الحي الوحيد الذي يقبل وجود ذاته " فإن كلمة " ذات " في الحالتين تعني الجوهر الإلهي المتضمن داخل هوية كل شخص ، وبدون هذا الجوهر المستتر خلف تلك الهوية يصبح مفهوم الشخص نفسه فارغا بل ويتلاشى تماما . عبارة " فعل إصدار الذات الإلهية" هي تطوير معمق لمفهوم " الينبوع " الذي قدمه القديس أثناسيوس الرسولي كتوصيف – يتقبله العقل البشري – لشخص الآب . فقط أردت أن أرصد أن هوية الشخص هي هوية ديناميكية حرة مريدة ، فالينبوع هوشخص قد اختار سرمديا بإرادته أن يكون ينبوعا .  علاقة الضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث – الذين يستعلن كل شخص منهم الذات الإلهية ، مؤقنما إياها وكاشفا لها كجوهر شخصي حي – تكشف أمرين جوهريين :
1- التمايز المطلق بين شخوص الثالوث .
2- واحدية الجوهر الإلهي .
     خلاصة
 مايدحض شبهة ثنائية الجوهر والشخص  هو أن الجوهر ليس مجرد جوهر حي ولكنه " جوهر شخصي " ، والشخص ليس مجرد شخص بل هو شخص يستعلن الجوهر الذي له ، و الذي هو - في نفس الحدث - ذات الجوهر الذي للشخصين الآخرين ، فكل شخص يقع موقع "الهوموأووسيوس " بالنسبة لكل شخص من الشخصين الآخرين ؛ أي أن كل شخص له ذات الجوهر الذي لأي من الشخصين الآخرين .كل شخص من شخوص الثالوث هو الألوهة الكاملة التي تتضمن  الشخصين الآخرين اللذين يستعلنان ذات الألوهة الواحدة . فالألوهة الكاملة مستعلنة بأبوة الآب لأنه لا ألوهة كاملة لله مالم يكن مصدرا لذاته . ولأنه – أيضا - لا أبوة بدون بنوة ، فالألوهة الكاملة مستعلنة ببنوة الابن ، الذي يتقبل بإرادته كل ملء أبيه الذاتي. أيضا ، ولأنه لا أبوة ولا بنوة بدون الروح القدس الذي هو روح الآب وروح الابن بآن واحد ، فالألوهة الكاملة مستعلنة بشركة الروح الذي هو وسط ( meso ) بين الآب والابن .
3- العلاقة بين "عتيق " يسوع و"جديده "
للطبيعة البشرية صيغتان ، من منظور اللاهوت المسيحي . الصيغة الأولى هي الصيغة البيولوجية ، صيغة اللحم والدم، الكيان الحيواني ، الطبيعي، الذي يتحقق فيه الوجود البشري الفاسد بالطبيعة . والصيغة الثانية هي صيغة الوجود الروحاني ، أي الشريك في الروح القدس، شريك الطبيعة الإلهية ، الذي له الخلود وعدم الموت بفضل اشتراكه في حياة الكلمة بالعضوية في جسده الذي ظهر فيه بتدبير سر تجسده العجيب . وعن العلاقة بين الصيغتين ، الفاسدة وعديمة الفساد ، يقول الرسول بولس :
"  يزرع في فساد و يقام في عدم فساد.  يزرع في هوان و يقام في مجد .
  يزرع في ضعف و يقام في قوة.  يزرع جسما حيوانيا و يقام جسما روحانيا  "( 1كو15 : 42- 44 ).
النقطة الهامة في هذا السياق هي أن العتيق الفاسد الميت بطبيعته ليس أكثر من مجرد بذرة يتم استثمار موتها لحساب وجود جديد . ويقرر الرسول أن البذرة التي تدفن فتموت - لحساب الحياة – شيء ، والجسم المنتج شيء آخر : "  الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت . و الذي تزرعه، لست تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ،ربما من حنطة أو أحد البواقي. و لكن الله يعطيها جسما كما أراد. و لكل واحد من البزور جسمه ."
( 1كو15 :36- 38  ) .وفي موضع آخر يكشف الرسول عن أن الصيغة العتيقة البالية هي صيغة العري التي يتم علاج مأساتها بلبس الجديد . والجديد هنا لا يبيد العتيق ولا يلغي وجوده بل يستر عري الطبيعة البشرية بظهورها متسربلة بالصيغة الجديدة عديمة الموت :" لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي ، فلنا في السماوات بناء من الله ، بيت غير مصنوع بيد ، أبدي.فإننا في هذه أيضا نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء.وإن كنا لابسين لا نوجد عراة. فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين، إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها ، لكي يبتلع المائت من الحياة"( 2كو5 :1- 4 ).وإذا كانت الصيغة الجديدة لطبيعة البشرية تنشأ حينما يشترك البشر في حياة الكلمة بالعضوية في جسده ، فماذا عن إنسانية ذاك الذي هو بطبيعته جسد الكلمة الخاص ، أي إنسانية يسوع ، الجديدة ؟ ماذا عن ذاك الذي هو آدم الثاني الذي من السماء، الروحاني، الذي هو أصل ومنبع الطبيعة الروحانية الجديدة للبشر ؟ وما هي النقطة الحاكمة في ظهوره ؟ والإجابة الوحيدة الصحيحية هي أن إنسانية يسوع بفضل كونها إنسانية الكلمة المتجسد الخاصة فهي الإنسانية الروحانية المنتصرة على الألم والموت ؛ فالاتحاد الأقنومي هو النقطة الحاكمة في الأمر. وعليه فهو كآدم الثاني الروحاني الذي من السماء ، هو قائم هكذا منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بين إنسانيته ولاهوته. وهذا يقودنا إلى النقطة شديدة الالتباس في الأمر، فماذا عن علاقة إنسانية يسوع الروحانية الجديدة بذلك الكيان البيولوجي العتيق الذي رأيناه يولد بيننا على الأرض وينمو ويتألم ثم يموت ؟والمشكلة الصعبة هنا هي اختزال إنسانية يسوع بكاملها ( ظاهرها وباطنها) في ذلك العتيق الظاهر ، وهي مشكلة عويصة لدرجة أنها - في ما أعتقد – كانت الأصل في نشأة الهرطقات الكبرى التي واجهت وارهقت الفكر المسيحي في القرون الخمسة الأولى . ففي النسطورية أدى هذا الاختزال إلى أن يربأ نسطور بلاهوت الكلمة أن يكون في وحدة أقنومية مع بشريته - التي أعثر فيها من وجهة نظره – فادعى بمفهوم المصاحبة بين الطبيعتين . وفي الأوطاخية أدى الاختزال إلى قناعة بعدم قدرة الطبيعة البشرية على الصمود والبقاء في مقابل اللاهوت فذابت في اللاهوت ذوبان الخل في الماء  . وفي الأبولينارية لم يتخيل أبوليناريوس أن نفسا بشرية تحيا في هذه الصيغة العتيقة من الممكن أن تكون نفسا لإنسانية الكلمة المتجسد فادعى بأن الكلمة اللوغوس ذاته قد حل محل النفس البشرية العاقلة .والحقيقة إن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يدركوا أن هذه الطبيعة العتيقة إنما هي قمة جبل الجليد الظاهرة من الكيان الإنساني للكلمة المتجسد بينما " غاطس " هذا الكيان هو آدم الثاني الروحاني الذي هو متحرر - بطبيعته - من قيود الزمان والمكان ومن الألم والموت منذ أن صار اتحاد أقنومي بين لاهوته وناسوته ، بل والأكثر من ذلك هو – ولأنه جسد الكلمة الخاص – فهو كائن حيثما وأينما يكون الكلمة المجتمع معه في وحدة أقنومية ؛ فإنسانية يسوع الجديدة هي الإنسانية " الكونية " منذ أول لحظة للتجسد ، فقد صارت كائنة في وحدة شخصية مع ذاك الذي هو كائن في الكل والكل كائن به . إن الطبيعة البشرية الجديدة ليسوع لم تنشأ بالقيامة بل قد أظهرت بالقيامة، وإذا كان ظاهر يسوع قد أظهر موتنا وفسادنا الطبيعي فهو بخلعه ، بموت الصليب، قد كشف عن باطنه الجديد الذي هو المضمون العملي الوحيد للاتحاد الأقنومي. هذا هو الشخص الذي قال عن نفسه - قبل أن يسلم عتيقه لمصيره المحتوم ، الذي هو مصيرنا - : " أنا هو القيامة والحياة " . في خلاصة كاشفة نستطيع أن نقول بأن الفرق بين الصيغة الجديدة ، الروحانية لإنسانية يسوع والصيغة الروحانية الجديدة لإنسانية البشر الذين في المسيح تكمن في أمرين :
1- من منظور العلاقة الزمنية بين الجديد والعتيق ، فبينما يحكم ظهور الجديد - عوضا عن العتيق – بالنسبة لأعضاء جسد المسيح – بعد زمني تراكمي يولد فيه الجديد على أنقاض موت العتيق مع المسيح ، فإن العلاقة بين ظهور جديد يسوع وظهور عتيقه هي علاقة تزامن مطلق ، فقد ظهر جديد يسوع  منذ أول لحظة لظهور العتيق في أحشاء العذراء بفضل الاتحاد الأقنومي . وهذا لا يتناقض مع السيرة الذاتية للصيغة العتيقة لإنسانيته التي انتهت بموت الصليب ، والتي حسب أن الكيان بجملته قد اجتازه منتصرا بظهور قيامة من هو – بطبيعته – القيامة .
2- من منظور نشأة وأصل الحدث ، فيتمايز الوجود الإنساني الجديد ليسوع عن نظيره الذي لأولئك الذين في المسيح في كونه الأصل والمنبع والرأس للوجود الروحاني ، فالبشر يصيرون روحانيين حينما يقبلون أصلا لذريتهم الجديدة ولخلقتهم الجديدة هو آدم الثاني ، الروحاني الذي من السماء .
4- العلاقة بين اسمي الرب ( "يسوع " و"المسيح" )
 هناك من يقول بأنه لا فرق بين الاسمين ، فيسوع هو اسم الشخص و" المسيح " هو اسم الوظيفة التي اضطلع بها الشخص . ولكن   يكمن اللغز في مضمون " الوظيفة " التي يعتلنها اسم " المسيح ". فالكلمة بتجسده قد أعطى جسده الخاص مسحة الحياة وعدم الفساد بفضل كونه جسد الكلمة الخاص . هكذا صار الرب باكورة للممسوحين . ولكن الله قد جعل من " يسوع " ربا ومسيحا ( أع2: 36  ) . هكذا صار الرب يسوع مصدرا لمسحة  جميع أفراد الكنيسة حينما يؤتى بهم بالنعمة فيمسحوا كأعضاء تنتمي إلى رأس المسحة ذاته الرب يسوع التاريخي . هنا نجد أنفسنا أننا أمام أعجب وظيفة من الممكن أن يقوم بها شخص ما ، فشخص الرب يسوع التاريخي رأس المسحة يمتد إفخارستيا في الزمان والمكان ململما شتات الكنيسة آتيا بها كأعضاء تنتمي إلى هذا الرأس . هكذا نجد أن الشخص وهو يؤدي  مهام وظيفته فهو لا يمارس فقط عمل النعمة المعطاة للآخر ( الكنيسة )، ولكنه – وهذا هام جدا – يؤدي وظيفة كيانية خاصة به كشخص ، فالشخص لم يعد مجرد رأس ، بل هو يتضخم ويمتلئ بقدر مايستقبل من أعضاء جدد تضيف إليه وتزيده من الناحية الكمية ، إلى أن يمتلئ إلى قياس قامة ملء المسيح ( أفس4 :13 ) ،وهنا يكون الشخص قد أتم مهام وظيفته . حقا دعي يسوع التاريخي من جهة اسم وظيفته أنه المسيح ، ولكن تظل خصوصية هذه الوظيفة في كونها عملية (  process  ) حاضرة ،آنية ، تنطلق منذ لحظة ظهوره وإلى لحظة نهاية الكون . هذه الآنية تكشفها وتؤكدها شهادة   مرثا ، في خطابها ليسوع" أنت هو المسيح الآتي ( الآن ) إلى العالم " ، ويكشفها ويؤكدها تعليق يسوع على شهادة بطرس  عنه بأنه " المسيح ابن الله الحي " ، بقوله :" على هذه الصخرة ( صخرة ذاتي ) أبني ( الآن ) كنيستي " .لذلك فشخص المسيح ليس شخصية تاريخية، لأنه شخص لامثيل لخصوصية طبيعته في ماندرك عن معنى "الشخصية التاريخية"، فهو شخص يظهر رأسه في لحظة تاريخية فيقبض على ماتبقى من التاريخ مستثمرا إياه في إظهار باقي أعضاء كيان جسده ، وباكتمال عمل النعمة بمجيء الكنيسة وباجتماع كل أفرادها داخل كيانه ، يسمح بانتهاء التاريخ .إذن هو شخص " كل التاريخ "، والذي من أجله ظهر التاريخ . في الأكل الإفخارستي نحن نأكل فنتحول إلى ماهو مزمع أن نصير إليه . ونحن لانأكل فنصير رأسا بل نأكل فنتحول إلى أعضاء . لذلك نحن لانأكل جسد يسوع التاريخي بل نأكل جسد المسيح الذي هو بطبيعته - وبالتعريف - ممتلئ بنا ، والذي بدون وجودنا فيه  يظل مجرد رأس بلا أعضاء. هنا يكمن الفرق الشديد الدقة بين الاسمين " يسوع والمسيح " ، وهو الفرق بين رأس الكيان ومؤسسه وبين الكيان الممتلئ . هو الفرق بين الأساس والبنيان الشاهق المكتمل .هذا الطرح لايتناقض مطلقا مع كلمات الاعتراف بل على العكس يؤكدها ؛ فحينما يقال أن جسد يسوع التاريخي هو " الجسد المحيي " الذي " يعطى عنا خلاصا وغفرانا للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه " ،فهذا يعني أن الكنيسة تقر بقبولها للنعمة التي تفيض من جسد يسوع الكلمة المتجسد كاستحقاق لتدبير تجسده ، فيها ، هذا الذي صنعه لأجلها فهو " معطى عنها "   . وهذا يعني أن الكنيسة تقبل امتداده فيها وتكريسه لها فتتحول إلى كيان عضوي ينتمي إليه.    وهنا وجب التمييز بين رأس ، هو مصدر الحياة ، وبين أعضاء تستقبل إلى الأبد نعمة الحياة بالشركة مع مصدر الحياة.هكذا يبدو انضمام أعضاء الكنيسة إلى الرأس يسوع كقيمة تراكمية تضاف إلى رصيد امتلاء شخص المسيح إلى أن يكتمل مجيء (  Parousia) المسيح ، أي يتحقق امتلاء كيانه باجتماع كل أعضاء الكنيسة فيه .  والآن علينا الاختيار بين أمرين ، إما أننا نؤمن بأن الكنيسة هي جسد المسيح  بالفعل ، فنرى الأمر على النحو السابق شرحه ،أو أن نكتفي بأن الأمر مجرد تعبير مجازي رومانسي.

الأحد، 6 مايو 2012

مفهوم الصعود في النص الإنجيلي


       مشهد الصعود
 العودة إلى الأصل اليوناني ، بخصوص مشهد الصعود ، المذكور في سفر الأعمال، تأخذنا إلى مستوى من الدقة ، من المستحيل أن تنافسها فيها  أي لغة أخرى . ولكي ندخل إلى الحديث ، نذكر النص:
         " إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا، بنفس الطريقة ( on tropon = in the same way ) التي رأيتموه بها ، منطلقا إلى السماء ".   (  أع 1 : 11 ).
     تعليق تحليلي
   .  تعبير، " الذي ارتفع" ، ورد في الأصل اليوناني ، في صيغة " اسم المفعول " من الزمن  الماضي، المبني للمجهول  للفعل " analambano " ، الذي يعني " مفهوم الأخذ " ، ولايعني مجرد " الارتفاع المكاني ".
   .  حرف الجر، الوارد في شبه الجملة ، "عنكم"، هو " af "، والترجمة الأصح هي "منكم "( af emon ).   .  الحرف " af " ، لايعنى الانفصال، الذى يعنيه الحرف " apo " ، ولايعني حتى مجرد الانبثاق ، الذي يتضمن تواصلا ، مثل الحرف " ek "، ولكنه يعني "خروج الأيلولة  ( إذا جازالتعبير) ؛ كخروج الإرادة، والفكرمن النفس، كما في :
    - " لايقدر الابن أن يعمل " من نفسه " شيئا إلا ماينظر الآب يعمل " .( يو 5 : 19 ).
    - "  ليرفع من بينكم " af emon " ، كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث.( أفس 4 : 31).
   .  الحرف " af " ، لايعني انفصال شيء عن شيء آخر، بل يعني خروجا لما يعلن الشيء ويكشفه ، بينما تظل الوحدة الذاتية والاتصالية ، قائمة بعد الحدث.  وعليه ، فان مشهد الصعود يرصد ، باكورة ثمر الإنسانية . يرصد باكورة الصعيدة البشرية ،   المرفوعة من المدعوين( المأخوذ منكم) . ودائما مايستتبع الباكورة ، مجيء باقى الثمر( سيأتي هكذا، كما رأيتموه ، منطلقا إلى السماء).  هو قد أتى أولا ، بتجسده ، فأصعد جسده الخاص . وسيأتي هكذا ، وبنفس الطريقة - وكاستحقاق لذات تدبير تجسده - في كنيسته ، مصعدا إياها إلى السماء ، في كيانه الذي سبق فأصعد رأسه ليلتحق باقي الجسم ( الكنيسة ) إلى ذات الأنافورا ، ذات الصعيدة ، ذات التقدمة ، ذات الحدث النعموي المستمر الآن وإلى اكتمال إصعاد الجميع   .  
      إني أصعد إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ( يو 20: 17 )  
 .   الملحوظة  الهامة ، بالرجوع إلى الأصل اليوناني ، هي ورود كلمة " أبي " في صيغة معرفة ( ton patera mo ) ، بينما وردت كلمة " أبيكم " في صيغة التنكير ( patera emon ) ، ووردت لفظة " الله "، في صيغة التنكير في الكلمتين"إلهي وإلهكم" .
.  التعريف في يونانية العهد الجديد ، كما في " السبعينية "، يعني " الشخص " ( الحالة المغلقة )، والتنكير يعني " حركة النعمة " ( الحالة المفتوحة لحدث النعمة الآني) ، وهذا يمثل بعدا إضافيا يمكن استخدامه كأداة تأويلية رائعة ، خاصة بلغة الكتاب المقدس .  كلمة " أبي " من هذا المنظور ، تعني أن المتحدث هو " الكلمة المتجسد " ، هو باكورة الصعيدة البشرية، والباكورة تستتبعها باقي الصعيدة ، التي تحدث "الآن"، ، بالنعمة ، وهذا ماتكشفه كلمة " أبيكم ". والمعنى العميق ، هو أن الكلمة بتجسده ، قد أصعد جسده الخاص ، وهو لم يفعل ذلك فقط ، بل جعل جسده هذا ، معبرا ، فيه يصعد الجميع ( أصعد إلى…أبيكم ).
.  الشق الأول ، لحديث الصعود ( إلى أبي وأبيكم )، هو  الصعود من منظور الابن المتجسد ، ذلك الذي بتجسده قد أصعد جسده الخاص إلى أبيه الذاتي . لذلك قال : " أصعد إلى أبي ". وبقبوله لكنيسته في كيانه فهو يصعد الجميع ، فيه إلى الآب ، ولذلك قال : "  أبيكم "، ففي جسده ، جسد الابن ، الذي هو وحيد الآب  قد تم تبني الجميع وتم تجلي صعودهم إلى الآب ، الذي صار أبا لهم .
 .  الشق الثاني ، لحدث الصعود ( إلهي وإلهكم ) ، هو الصعود من منظور الخليقة الطبيعية ، من منظورنا نحن .فلفظة " الله " - بخلاف الألفاظ المرتبطة بالنعمة، مثل " الرب ، المسيح،. .  " -  تتخذ موقفا حياديا ، تجاه" الآخر "- بالنسبة لها - الذي هو العالم الطبيعي . وهكذا يكشف هذا الشق، أن الكلمة المتجسد هو بكر بين أخوة كثيرين ، وقد اشترك معهم في اللحم والدم ، اشترك معهم في عالمهم الطبيعي- الذي فيه "الله "،إلههم ، قد صار "إلهه " أيضا - حتى إذا ماشترك معهم في الآلام - وفي ترك الله لهم ، كطبيعة فاسدة ، صارخا : " إلهي إلهي لماذا تركتني " - كان ذلك كاشفا للمجد الذي نالوه بصعودهم فيه من هذا العالم الطبيعي إلى الله إلههم بعدما صار أبا لهم .               لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ( يو 20 : 17)
 أولا : بالعودة إلى الأصل اليوناني ، لنا عدة ملاحظات لغوية :
 1- لا تلمسينى 
  الفعل الذي يعطي معنى " التلامس البسيط "- كما في "جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام ( لو 24 :39 )"، وكما في " لم تأتوا إلى جبل ملموس . (عب 12 : 18 ) - ليس هو نفس الفعل المستخدم هنا.
.  الفعل في " لاتلمسيني "، هو فعل "apto"، وفي المواضع، التي استخدم فيها هذا الفعل في العهد الجديد ، فإن مضمونا عجيبا ، للتلامس، قد أعطاه هذا الفعل ؛ فقد استخدم للتعبير عن " لمسة الشفاء" في معجزات كثيرة، قد صنعها يسوع ، والأمر الأكثر عجبا، هو أن لنفس الفعل استخدام آخر  بمعنى "إضرام النار" كما في( لو 8 :16 . ،11 : 33 . ، 15: 8. ،22 :55 ).   اللمسة ، هنا ، هي " اللمسة الدراماتيكية " ( إذا جاز التعبير) ؛ أي اللمسة التي تعطي إشارة البدء لحدث جلل ، كما في ( كل من ولد من الله لايخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه، والشرير لا يمسه .( 1يو 5 : 18 ).  اللمسة في " لاتلمسيني"  ، هي الشركة. وقد كانت المجدلية غير قادرة ، وغير مؤهلة لأن تلمسه ،أي تشترك فيه في تلك اللحظة التاريخية تحديدا ، أي لحظة إعلان قيامة جسده الخاص ، تلك اللحظة التي سوف تستبع بإظهاركيانه القائم صاعدا ، ذلك الكيان الذي هو باكورة إصعاد الجميع حينما يقبلون الروح القدس الذي فيه يصعدون إلى الآب في الابن المتجسد . ولأن الروح لم يكن قد أعطي بعد في تلك اللحظة ، وبالتالي لم تكن الكنيسة قد تأسست تاريخيا ، كما حدث في ما بعد ، في يوم الخمسين ، فلذلك قال لها : لا تلمسيني ، أي لن تستطيعي أن تشتركي في الآن . وبالرغم من ذلك فقد حملها البشرى السارة لتوصيلها إلى الكنيسة : " اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم : " إني أصعد ..  "
  2- لم أصعد
   الفعل " أصعد " ، هنا هو نفس الفعل المستخدم في باقي الخطاب الموجه للمجدلية " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " ، ولكن وجه الاختلاف في وضع الفعل في الموقعين ، هو أن الفعل في " لم أصعد " ، هو صيغة المضارع التام ( التي تعني حدوث الفعل في الماضي وتمامه ، مع بقاء واستمرارية أثره في الحاضر) ، أما الفعل في " أصعد إلى أبي " ، فهو صيغة المضارع المبني للمعلوم ( التي تعني حدثا آنيا ؛ يتم الآن ).             
  ثانيا : التأويل
 - " لم أصعد بعد " و" أصعد إلى أبي وأبيكم " ، هما وجها حدث الصعود ، بمعناه الكامل ، كإصعاد للكنيسة في المسيح .
 في الوجه الأول ، تستعلن نقطة الانطلاق للحدث ؛ أي نقطة ماقبل صعود الجميع في المسيح. وفي الوجه الثاني ، يستعلن الحدث الحاضر للصعود ، والذي انطلق من صعود الباكورة ، الرب يسوع التاريخي ( أصعد إلى أبي) ، ويتكمل الآن بصعود باقي أفراد الكنيسة ، التي هي جسده ( وأبيكم).. صعود الكنيسة إلى الآب السماوي هو نوال نعمة التبني بالشركة في الابن المتجسد الرب يسوع المسيح ، باكورة الصاعدين .
       صعود " ابن الإنسان "
    يكشف لنا إنجيل يوحنا، المفهوم الخفي للاسم العجيب ،" ابن الانسان " ، ذلك الاسم المتجذر في عمق الكتاب المقدس .   ابن الإنسان ، ليس مجرد اسم يخص الرب يسوع التاريخي ، وحده ، بل هو الاسم الذي فيه يستعلن كمال النعمة؛ هو الاسم الذي يخص الكنيسة المستوعبة في الكلمة المتجسد ؛ هو الاسم الذي يخص الشخص الكاثوليكي الممتلئ بجميع أعضاء الكنيسة المنتمية لرأس واحد هو الرب يسوع. لذلك فإن "ابن الإنسان " هو اسم يخص كيانا ، يمتلئ ويتكمل الآن؛ بانضمام الأعضاء المبعثرين- في الزمان والمكان- إلى رأسهم وباكورتهم ،الرب يسوع.هذا ، مايكشفه إنجيل يوحنا ، على لسان يسوع في سياق حديثه إلى نثنائيل : ( ترون السماء مفتوحة ، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. (يو 1 : 51 ).مانكتشفه هنا هو أننا بصدد استعلان حقيقة " ابن الانسان "، نفسه ؛ إذ هو الكيان الذي يتحقق الآن ، وما " صعود ونزول ملائكة الله  "،إلا كشف لحدث النعمة "الآني "،الذي فيه يتحقق وجود الكنيسة ، الكائنة في ابن الإنسان( أليس جميعهم أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص.( عب 1 : 14 ).  ابن الإنسان ، هو سلم يعقوب ، الذي فيه يتم إصعاد البشرية الجديدة، نحو السماء المفتوحة، نحو الآب. 
 لم يذكر مفهوم " الصعود" ، منسوبا إلى " ابن الإنسان" - في إنجيل يوحنا، وفي العهد الجديد بصفة عامة - إلا في موضعين فقط ، والعجيب أننا في كل من الموضعين نجد أنفسنا في سياق الحديث عن " عثرة " حول "سر المسيح " ؛ ثم تأتي كلمات يسوع عن " ابن الإنسان " لتكشف الغموض ،ولتتخطى العثرة ،ولتستعلن هذا الاسم العجيب ، الذي فيه يتم سر الكنيسة. الموضع الأول: فيه يتكشف أن، صعود ابن الإنسان هوحدث تبني البشر .دهش  نيقوديموس  من حديث يسوع عن الولادة الثانية ، الولادة من الروح ، وصاح قائلا:             
 " كيف يمكن أن يكون هذا ؟".( يو3 : 9). وكانت الإجابة الكاشفة هي أن الوجود الانساني الجديد في المسيح ، الذي فيه يولد الجميع من فوق ، هوشخص جماعي ، فيه يصعد الجميع  إلى الآب الذي تبناهم :
( وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان.( يو 3 : 13 ).
- الموضع الثاني : فيه يتكشف أن، صعود ابن الإنسان هوحدث الشركة في الجسد الواحد. يعثر اليهود من كلمات يسوع عن ، أكل جسد ابن الإنسان ، الخبز الحي النازل من السماء. حتى أن كثيرين من التلاميذ قد استصعبوا هذا الكلام ( يو 6 :60) ، وكانت الإجابة الكاشفة هي أن ، "الأكل " من الخبز الحي النازل من السماء، هو حدث الشركة في الشخص الجماعي "ابن الإنسان " ، الذي فيه يصعد الجميع ؛ فالشركة في " النازل من السماء " هي " صعود إلى السماء "، "  أهذا يعثركم ؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا!. ( يو 6: 62 ).
    بين الصعود والمجيء
    "  سيأتى … منطلقا الى السماء "( أع 1 :11 )
  مفهوم صعود ابن الإنسان ، ومفهوم مجيء ابن الإنسان ، مفهومان مترادفان؛ فصعود ابن الإنسان هو صعود البشر إلى الآب في شخص المسيح ، الذي فيه يتم تبني الجميع بفضل اشتراكهم في الابن الذاتي .  كان الكلمة بتجسده قد أصعد جسده الخاص ، ولكن ليس هذا هو كل حدث الصعود ، بل منطلقه ، وباكورته ، ورأسه المتبوع بصعود باقي أعضاء جسد ابن الإنسان . ومجيء ابن الإنسان هو تحقق الحضور الكياني الشخصي ( presence )، الذي يجمع الكل في جسد واحد ؛ أي تحقق وجود شخص المسيح الممتلئ بأعضاء كنيسته .
. مصطلح " مجئ الرب " ( Parousia ) ،لايعني الحضور الجغرافي ( المكاني ) للرب ، بل يعني تحقق شخص الرب ؛ بمعنى استعلان كمال النعمة ؛ أي استعلان كمال الربوبية التي فيها يستعلن انضمام الجميع إلى الشخص الواحد ، شخص الرب يسوع المسيح . وبالتالي فإن انضمام آخر عضو إلى جسد الرب ، هو بمثابة صوت البوق الذي به يعلن كمال مجيء الرب؛ أي الوصول إلى قياس قامة ملء المسيح.
            مجدي داود

السبت، 5 مايو 2012

مسألة الطلاق : إشكاليات


 1- مسألة الطلاق ، والبعد اللاهوتي المفقود   
تمثل مسألة الطلاق بصورتها الحالية في الكنيسة القبطية قمة جبل الجليد الظاهرة فوق سطح المياه ، ويمكننا تشخيص المشهد كالآتي : 
   1-   ثقافة النص والحرف هي الثقافة السائدة ، فينظر إلى الكتاب المقدس كمجرد نص مقدس ينبغي التقوقع فيه وفقا لما يبدو من ظاهره . 
 2-  ثقافة امتلاك الحقيقة المطلقة من قبل قادة الكنيسة ، وبالتالي امتلاك التأويل الوحيد الصحيح للنص المقدس . 
  3-  لأن الثقافة السائدة هي ثقافة النص والحرف فهي أبعد ما تكون من الرمزية والمستيكية التي هي جوهر الأرثوذكسية . 
  4-  كانت الثمرة المرة لتلك الثقافة أن تم تفريغ لاهوت الأسرار من قوته ومضمونه بأن صار التماهي بين علامة السر الظاهرة وجوهره . حدث هذا بالنسبة لكل الأسرار بما فيها سر الزيجة ، فأصبح الأخير هو مجرد شرعنة للعلاقة بين الرجل والمرأة ، وأصبح ما يجمعه الله هو الرجل والمرأة في علاقتهما الخاصة ، وضاع مفهوم السر الذي قال عنه الرسول : " هذا السر عظيم ، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة" ( أفس5 : 32 ) . فالزيجة هي سر المسيح ، سر تحقق وجود الكنيسة . وشأنها في ذلك شأن السر الكنسي بصفة عامة . الكنيسة بكل أفرادها عروس واحدة لعريسها ورأسها الرب يسوع ، الكلمة المتجسد . في طقس سر الزيجة تعيش الكنيسة هذا الحدث وعيناها تسابقان الأفق نهو رجلها ورأسها .
  5- من المستحيل فهم مسألة – ومعضلة – الطلاق خارجا عن مفهوم سر الحب الزيجي ، سر المسيح ، سر الكنيسة . لا يوجد شيء قد جمعه الله ، ولا يستطيع أن يفرقه إنسان ، إلا  في المسيح ، الذي " فيه يجمع كل شيء ، ما في السماوات وما على الأرض " ( أفس1 : 10 ) .
 6-   بالرجوع إلى الأربعة مواضع التي ذكرت فيه مسألة الطلاق : ( مت5 : 32 ) ، ( مت19 : 9 ) ، ( مر10 : 11 ) و ( لو 16 :18 ) ، نجد أن مدلول النص – لمن يتمسك بالنص – يضع الطلاق مكافئا للزنا ، لأن الطلاق ببساطة – كما الزنا أيضا – هو شق للعلاقة الزوجية وارتباط بالآخر . مع ملاحظة أنه لاترد في النصوص الإشارة إلى طرف ظالم وآخر مظلوم ، وبالطبع لا ترد الإشارة إلى التصريح لطرف دون آخر بالزواج ، وأيضا لا ترد الإشارة إلى المفهوم المبتدع : " بطلان الزواج " . إذن عندما نتوه عن أفق النص ، عن المسيح ، نجد أنفسنا نتلمس ثغرات واجتهادات غريبة ، فمن ناحية لم تستطع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن تكون أمينة حتى النهاية في حرفيتها ، مثل الكنيسة الكاثوليكية ، ومن ناحية أخرى لم تستطع أيضا أن تتحرر من عبودية ظاهر النص وحرفيته إلى سر المسيح .
 7-  تأثيم الطلاق ، انجيليا ، وجعله مكافئا للزنا ينبع من رمزيته كفصل للكنيسة عن رأسها المسيح . الموضوع عميق جدا وضارب بجذوره في المستيكية الأرثوذكسية ، والإنجيل ليس كتابا للتشريعات والناموس ، فهذا قد تخطيناه في المسيح . كلمة الله المكتوبة هي ما تجد تأويلها وشرحها في شخص المسيح المستوعب لكنيسته . أما أن ينظر إلى علاقة الزيجة المعزولة ، على أنها سر المسيح ، وبالتالي لا ينبغي فصل هذه العلاقة مهما وصلت إلى طريق مسدود ، ولا يسمح بالتطليق إلا بسبب الزنا ، والمخطئ لا يتزوج ثانية ، فكل هذا بعيد كل البعد عن روح المسيح وعن روح النص المقدس ، فهل يجوز الحكم بالإعدام على الزاني الخائن لزواجه ؟ أليست الخيارات المطروحة عليه هي أحد الإحتمالات : 1- أن يترك الإيمان .2- أن يظل في الخطية طيلة حياته .3- أن يصبح راهبا قديسا ، رغم أنفه !  
  2-  مسألة الطلاق ، وإشكالية الفهم الحرفي للنص
  " لا اجتهاد مع النص " ، هذه قاعدة فقهية قانونية وقل ، أيضا ، فريسية ناموسية . ولكن هل من الممكن تطبيق هذه القاعدة على النص الإنجيلي ؟ دعونا نجرب على نص ، في صميم موضوعنا ، وهو ما قد ورد في سياق عظة الرب على الجبل:    " قد سمعتم أنه قيل للقدماء : لا تزن . وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك ، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم .وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك ، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل : من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق . وأما أنا فأقول لكم : إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني  " ( مت5 :27- 32).    
ملحوظات وتعليقات
    - ورد حديث " الطلاق " في سياق الحديث العام عن " الزنى " وكجزء تكميلي له ، لنا أن نتساءل :  هل نستطيع أن نطبق منهج التفسير الحرفي على النص الذي يشير إلى نظرة الشهوة من قبل الرجل نحو المرأة ؟
إذا كانت الإجابة بالإيجاب فقد كان من الواجب علينا أن نتخيل أنه يينبغي أن ينتمي كل الرجال المسيحيين – بلا استثناء ، فيما عدا غير الطبيعيين منهم - لأضخم منظمة عالمية للعميان ! 
   - الخطية التي تثمرها النظرة الشهوانية من قبل الرجل للمرأة هي ذاتها نفس الخطية التي يثمرها " الطلاق " ، وبالرغم من ذلك نجد أن الذين يتبنون التفسير الحرفي لنص " زنى الطلاق " يتملصون من هذا المنهج في تعرضهم لنص " زنى النظرة الشهوانية " ، ومما يزيد الأمر غرابة أن نص " زنى النظرة " قد ورد فيه مايقرر – بوضوح – مبدأ العقوبة ( فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك ) بينما لم يرد في نص " زنى الطلاق " ما يفيد بنفس الوضوح ، مبدأ العقوبة ، أي منع الزواج الثاني للطرف المخطئ.  
 3-  مسألة الطلاق ، وإشكالية الفهم الخاطئ للأسرار
  التعنت المستميت من قبل المؤسسة الكنسية القبطية المعاصرة نحو مسألة الطلاق ، هو موقف كاشف لتبني رؤية خاطئة لسر الزيجة ، وبالتالي هو موقف كاشف أيضا لما هو أكثر فشلا من ذلك وهو الفهم الخاطئ للأسرار جميعها بصفة عامة ، وهذا ماسبق أن شبهناه بقمة جبل الجليد الظاهرة فوق سطح المحيط بينما البنية الضخمة التي تمثل جوهر لاهوت الأسرار الذي تم اجهاضه ، لاتظهر فوق سطح المياه. 
وانطلاقا من هذا المدخل لابد لنا – مبدئيا – أن نثبت قاعدة فهم السر الكنسي الأرثوذكسي ، فنقول بأنه يجب أن نميز مابين مفردات ثلاث تخص السر الكنسي وتجمعها علاقة من الضمنية المتبادلة ، علاقة من الإحتواء المتبادل ، وهذه المفردات هي : 1- علامة السر ، الظاهرة . 2- البنية الرمزية للسر . 3- جوهر السر ومستهدفه . 
- للسر الكنسي – أيا كان ماتعارفنا عليه من اسم للسر ، ونحن لدينا سبعة أسماء – مستهدف وجوهر واحد هو شخص المسيح الممتلئ بالكنيسة . وتنطلق الكنيسة في هذا العالم نحو التموقع العضوي في جسد المسيح حيث تستعلن امتلاء وكشف السر الكنسي .  علامة السر ، الظاهرة ، هي واقعنا الطبيعي العتيق الذي تنطلق منه الكنيسة في الليتورجيا . وأيا كان هذا الواقع الظاهر الملموس – خبزا وخمرا ، مياها ، زيتا ، رجلا منا يترأس الليتورجيا ، رجلا وامرأة يتحدان في علاقة الحب الزيجي – فسيبقى في النهاية أن العلامة هي مجرد منطلق ديناميكي نحو جوهر السر ، نحو المسيح.   
وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد أكلوا وشبعوا بالمأكل الحق والمشرب الحق ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد صاروا إفخارستيين ، قد صاروا خبزا واحدا وكأسا واحدة . 
وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد ولدوا من الله ، قد اصطبغوا بالمسيح ، قد لبسوا المسيح .وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد مسحوا هيكلا واحدا لروح الله الساكن فيهم إلى الأبد . وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد صاروا ملوكا وكهنة بانضمامهم إلى كيان رئيس الكهنة الأوحد الذي هو رأسهم والذي في جسده الذي أخذه منهم قد رفع إلى الآب مرة واحدة تقدمة أبدية . هكذا يستعلن كهنوت الكنيسة الكائنة في جسد رئيس الكهنة الوحيد ، المسيح الرب . وفي المسيح الممتلئ بالكنيسة ، فقط ، في الملكوت ، يتكشف أن جميع أفراد الكنيسة قد صاروا عروسا واحدة تجمعها برجلها وربها الذي هو رأسها ، علاقة عشق أبدي وشبق معرفي لانهائي نحو الآب السماوي " فهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " ( يو 17 : 3 ) . هكذا تستعلن تلك الزيجة الأبدية بين المسيح والكنيسة . البنية الرمزية للسر هي تلك الحركة النعموية المحمولة بقوة الروح القدس والتي تنطلق من العلامة الظاهرة للسر نحو جوهر السر ومضمونه ، نحو المسيح . ماذا حدث نتيجة لغياب هذا العمق في فهم السر الكنسي ؟ الإجابة هي مانراه من ذلك الاختزال المأساوي لكل من الرمز وجوهرالسر في العلامة الظاهرة ، أصبحت الإفخارستيا هي مجرد صورة الخبز والخمر اللذين قد تم تقديسهما ، وأصبح التناول هو مجرد صورة الأكل الظاهري الطبيعي من الخبز المقدس والشرب الطبيعي من الخمر المقدس. وأصبحت المعمودية هي مجرد صورة التغطيس في المياه المقدسة . وأصبح الكهنوت هو صورة السلطان الإلهي المعطى لآحاد الرجال .  وما قد حث تحديدا لسر الزيجة هو اختزال السر في مجرد تقديس وشرعنة علاقة الحب الزيجي لرجل ما بامرأة ما ، فضاع البعد الكنسي للسر ولم يعد السر كشفا لتحقق وجود الكنيسة ، ذلك الذي قال عنه الرسول : " هذا السر عظيم ، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة "( أفس 5 : 32 ). ولم يعد السر كشفا لاجتماع الجميع في المسيح ، ذلك الذي قال عنه الرب : " ماجمعه الله لا يفرقه إنسان " ( مت 19 : 6 ) ، بل صارت القضية الأساسية هي اجتماع رجل بامرأته لممارسة حق طبيعي لهما في هذا العالم ، وليس اجتماع المسيح بالكنيسة لممارسة الحياة الأبدية كملحمة محبة وعشق من المسيح للكنيسة ، أولا ، ومن الكنيسة للمسيح ثانيا . والآن قد بات ظاهرا أنه من المنطقي – وفقا لتلك النظرة الخاطئة لسر الزيجة - أن ينظر إلى الطلاق بين رجل وامرأة طبيعيين في هذا العالم – أي في صورة وعلامة وجودهم الظاهر – على أنه كسر وتحطيم للسر ، وكسر وتحطيم وفض لما قد جمعه الله ولا يستطيع أن يفرقه إنسان . وقد فات على هؤلاء أن ما قد جمعه الله هو " الكنيسة والمسيح "، الكنيسة التي لن تقوى عليها أبواب الجحيم ، لأنها قد تزوجت المسيح زيجة أبدية غير قابلة للتطليق أو الفسخ أو البطلان .
   4- مسألة الطلاق ، وإشكالية الشريعة
في الموعظة على الجبل – حيث تكررت العبارة المحورية التي تمثل مفصلا في تاريخ علاقة الإنسان بالله : " سمعتم أنه قيل للقدماء … أما أنا فأقول لكم … " – ماهو المضمون الجديد الذي يقدمه الرب ؟ هل يقدم شريعة جديدة ، ذات حدود وأركان مغايرة ومخالفة للقديمة ؟ واقع الحال أن الرب ، في مطلع مقارنته بين جديده وبين الشريعة القديمة ، يدحض هذا الطرح قائلا : " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل "( مت5: 17 ) .لكي ندرك مفهوم جديد المسيح لابد لنا أولا أن ندرك مفهوم الشريعة القديمة . ولنا أولا أن نتساءل : ماذا يعني أنه " قيل للقدماء : لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم "  ( مت5 :21 )  ؟  وماذا يعني أنه " قيل للقدماء : لا تزن ." ؟ (مت5 : 27 ). وماذا يعني أنه " قيل : من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق "  ( مت5 :31 ) ؟. وماذا يعني  أنه قيل للقدماء : " لا تحنث ، بل أوف للرب أقسامك "  ( مت5 : 33 ) ؟   وماذا يعني أنه قيل : عين بعين وسن بسن "   ( مت5 :38 ) ؟  وماذا يعني أنه قيل : " تحب قريبك وتبغض عدوك " . ( مت5 : 43 )   ؟ الإجابة هي أن مايعنيه كل ماقد قيل للقدماء هو أن جوهر الشريعة القديمة هو ذلك المستوى الأول لعلاقة الإنسان بالله القائم من خلال منظومة من الحدود السلوكية التي تضبط ميول ورغبات وأهواء الإنسان الطبيعي بما لا يحرم الإنسان الطبيعي من حقه الطبيعي ، وفي نفس الوقت بما لا يجور على حق طبيعي للآخر ، الطبيعي .   والآن ، ماذا عن الجديد الذي يقدمه الرب ؟ ماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه : رقا ، يكون مستوجب المجمع ، ومن قال : يا أحمق ، يكون مستوجب نار جهنم " ( مت5 : 22 )  ؟  وماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه " ( مت5 : 28 ) ؟  وماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني " ( مت5 : 32 ) ؟ . وماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة ، … بل ليكن كلامكم : نعم نعم ، لا لا . وما زاد فهو من الشرير "( مت5 : 34-37 ) ؟ . وماذا عن قوله : " وأما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا " ( مت5 : 39 ) ؟  وماذا عن قوله :" وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ،.." ( مت 5 : 44 )؟ الإجابة هي أن الرب لا يقدم حدودا وضوابطا جديدة للإنسان الطبيعي ، الحيواني ، بل يتجاوز تلك الطبيعة العتيقة إلى الخليقة الجديدة ، إلى طبيعة المحبة وعطاء الذات للآخر ، ككشف لعطائها ، بالمطلق ، لله . مايقدمه الرب هو شريعة ذاته ، هو ناموس ذاته ، ناموس المسيح .  المسيحية ليست شريعة أو ناموسا بل هي شخص المسيح الذي يحتوي الكنيسة في جسده ، وعندما يقول الرب بأنه لم يجئ لينقض بل ليكمل ، فهو يقصد أن فيه قد تكمل الناموس والأنبياء والشريعة ، وفيه قد تحرر الإنسان من نرجسيته ومن تمحوره الشهوي حول ذاته إلى شركة المحبة التي تجمع المسيح بالكنيسة. في عبارة الرب : " وأما أنا فأقول لكم : إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه "( مت 5 : 28) ، نلاحظ عمومية النص دون أي تقييد أوتحفظ ، فالحديث منصب على " الشهوة " بصفة عامة ، ولم يقل الرب ، مثلا : كل من ينظر إلى امرأة غير زوجته ( حلاله ) ! ومن المنتظر – بطبيعة الحال – أن تثور ثائرة الكثيرين فيقولون بأن هذا التحفظ هو منطقي ولا يحتاج إلى أن ينص عليه ، فالقرينة التي يقررها سياق النص هي الحديث عن وصية " لا تزن "، الواردة في الوصايا العشر وبالتأكيد كان المقصود منها أن لا يقيم الإنسان علاقة جنسية خارجا عن شركة الزوجية ، ولكن هذا مردود عليه فالزنى ليس خطيئة تخص المتزوجين فقط .والشاهد أن شريعة المسيح لا تستهدف مجرد ضبط الشهوة في إطار شرعي بل تستهدف امتلاء الشهوة لتبلغ كمالها في المسيح حيث الاستعلان النهائي لملء شهوة الإنسان إذ حينئذ يصير لسان حاله :" لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ، ذاك أفضل جدا "( في 1 : 23 ).   الزواج المسيحي لايستهدف مجرد إباحة ممارسة الشهوة بل يستهدف ذلك التراكم الخبراتي بواسطة الروح القدس لاكتشاف العمق الحقيقي لسر الحب الزيجي ، أي اكتشاف المسيح والتموقع فيه في زيجة أبدية تجمع ما بين الزوجين بنفس القدر الذي تجمعهما بجميع أعضاء الكنيسة . وبالتالي فإن استحقاق سر الزيجة هو استحقاق لكل مايخص مفهوم النعمة ، استحقاق لكل مايخص امتلاء شخص المسيح بعروسه ، أي كنيسته . 
خلاصة
شريعة الزواج في المسيحية هي سر الزيجة ، هي سر المسيح ، هي سر تحقق وجود الكنيسة كجسد للمسيح ، هي سر شركة الزيجة الأبدية بين الله والبشر في الكلمة المتجسد الرب يسوع المسيح . وهي ليست مجرد الشرعنة أو حتى التقديس لصورة العلاقة الجنيسة بين رجل وامرأة ، بل هي امتلاء وتكميل لهذه الصورة بكشف المسيح وتحققه ، وتصوره ، في الكنيسة ،كجوهر لرمزية وسرائرية هذه الصورة . وبالتالي فإن تكريس هذه الصورة ككيان معزول ساكن ، ميت – بالاستماتة في عدم فض هذه الشركة مهما وصلت إليه من انسداد ومأساوية – إنما يعني بكل بساطة ، إجهاض لمفهوم السر وتفريغه من جوهره ، تفريغه من المسيح . 
 مسألة الطلاق وإشكالية الزواج الثاني                               
 من خلال ما قد سبق طرحه نستطيع أن نرصد أن القناعات الفكرية – المتناقضة مع الإنجيل – التي تمثل الخلفية التي أنتجت هذا التشدد والتعنت نحو مسألة الطلاق والزواج الثاني ، يمكن بلورتها في النقاط الآتية : 
 1- اختزال سر الزيجة في صورة معزولة لمجرد علاقة زوجية بين رجل وامرأة معينين وبالتالي ضياع البعد الكنسي للسر ، ضياع مفهوم أن الزيجة سر يتكمل في المسيح حينما تكتمل الكنيسة في الملكوت الآتي ، فيصير الزوجان جسدا واحدا لأنهما في المسيح يصيران عضوين لذات الجسد الواحد ، الكنيسة  .
 2- تبني ذات النظرة العتيقة للشريعة ، نحو شريعة المسيح وذلك من خلال القناعة بأن الإنجيل يقدم شريعة ، يقدم نصا مقدسا وحدودا سلوكية معينة لا يجب تخطيها ، وقد تكرست هذه النظرة في التأويل الحرفي للنص ، ولكن ، وللعجب ، فلم يلتزم أصحاب هذا التوجه ، حتى ، بصدق التأويل الحرفي إذ قد تم  :
   - التأويل الفاسد للنص باستخراج لمعنى يخرج عن السياق فعن العبارة الواردة في : ( مت 5 : 32 ) قد فهم أن السياق يخص مجال التشريع للطلاق – وهذا غير حقيقي ، فالسياق يخص تأثيم الطلاق على خلفية أسرارية ، رمزية ، أفقها سر الزيجة ، سر المسيح ، وهنا يتكافأ كل من الطلاق والزنى مع نقض رمزية الزيجة كعلاقة بين المسيح والكنيسة – وعليه فقد فهم أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيه التطليق هي علة الزنى . والأمر الأعجب هو أنه قد تم اعتماد العبارة التأويلية "  لا طلاق إلا لعلة الزنى  " كعبارة بديلة للنص الإنجيلي وأصبحت تكتب هكذا : "  لا طلاق إلا لعلة الزنى  " ( مت 5 : 32 ) ، فأي خطأ مركب قد ارتكب  هنا ؟!
 - تحميل النص مالم يرد به والخروج بتفاصيل لم يقررها صراحة ، فلم يرد بالنص أن هناك – في العلاقة الزوجية موضوع الطلاق – طرفا ظالما وطرفا مظلوما ولم يرد أن هناك طرفا مخطئا وطرفا بريئا . ولم يرد مفهوم التصريح بالزواج للطرف المظلوم ومنعه بالنسبة للطرف المخطئ . أيضا لم يرد معنى " بطلان الزواج " في حالة الغش والتدليس . 
  3- اختزال الشريعة – التي تم تبنيها – في قضية الأحوال الشخصية وتحديدا مسألة الطلاق ، فلم يرد بالإنجيل أي حدود أخرى يجب تطبيقها ، ولم يرد تشريع يخص " التبني " مثلا ، ولم يرد تشريع يخص " الميراث " ، حتى أن الرب يسوع ، ذاته ، رفض أن يكون قاضيا في قضية للميراث بين أخ وأخيه قائلا لسائله – ولجميعنا من خلفه : " يا إنسان ، من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما ؟ " ( لو12 : 14 ) . باختصار فإن هذه الرؤية تتبنى أن الشريعة المسيحية هي " شريعة لا طلاق إلا لعلة الزنى " هذا هو كل شيئ  في ما يخص الشريعة المسيحية !
  4- إمكانية غلق باب الرحمة والتوبة أمام الإنسان الخاطئ
تقدم الكتبة والفريسيون ، حماة الشريعة ، إلى الرب يسوع ممسكين بامرأة قد ضبطت في زنا مضمرين أن يجربوه ، فهذه قضية شرعية ثابتة بحكم نص شريعة موسى التي بمقتضاها يجب أن ترجم حتى الموت . وأما الرب فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض غير مبال بأسئلتهم المستمرة ،ثم انتصب وقال لهم : " من كان منكم بل خطية فليرمها أولا بحجر! " ( يو8 : 7 ).  ثم انحنى واستمر في الكتابة بينما ابتدأ الجميع في الانصرف مبكتة ضمائرهم ، ليتواجد الرب ، في النهاية ، بمفرده مع المرأة الواقفة في الوسط فيقول لها : " يا امرأة ، أين هم أولئك المشتكون عليك ؟ أما دانك أحد ؟ “ فقالت :  لا أحد يا سيد ! " . فقال لها يسوع : "  ولا أنا أدينك . اذهبي ولا تخطئي أيضا "  (يو8: 10و11 )  . ومضمون وجوهر موقف الرب من هذه القضية الشرعية هو أن الرحمة بالإنسان تأتي فوق الشريعة ، وأن الشريعة هي من أجل الإنسان وليس العكس ، وأيضا ، أن الديان الوحيد هو شخص الرب يسوع المسيح الذي هو جوهر الشريعة .      ناموس المسيح ، الخليقة الجديدة الكائنة في الكلمة المتجسد ، هو جوهر الناموس وأفقه ومبتغاه . فقط ، المسيح هو النموذج المرجعي ، الذي ، بالرجوع إليه ، يدان أو يبرر البشر ، وأما الكل فلا يملك الدينونة لأن " الجميع زاغو وفسدوا معا . ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد "( رو3 : 12) ، ويستطيع الرب أن ينحني على الأرض ليكشف بإصبعه دينونة الجميع فلا يستطيع أحد أن يرمها أولا بحجر .  ثم ، لنا هنا أن نسأل : أليس عدم الرحمة بالمطلق  لعلة الزنى – في حالة توبته – بعدم إزالة الأثر العقابي المترتب عل خطيئته ، بعدم تزويجه ثانية – يعد تناقضا واضحا وصريحا مع الإنجيل الذي يقرر أنه لاخطية بدون مغفرة ، وبدون زوال أثرها العقابي ، إلا خطية التجديف على الروح القدس ، تلك الخطية التي من المستحيل رصدها إلا بخروج الإنسان من هذا العالم ، إذ أن مضمونها هو رفض الإنسان لشركة الروح القدس ، أبديا ، وبالتالي هلاكه ، أبديا ؟
       إمكانية حرمان الإنسان من حق طبيعي على خلفية السر الكنسي
  في الأسرار يتكشف امتلاء أركان الوجود الطبيعي للإنسان فمثلا في المعمودية يمتلئ ركن وجودنا أننا ندخل الحياة من باب الولادة ، وواقع الحال أننا نولد ولكننا بعد حين نموت وفقا لطبيعتنا . ولكن في المسيح ، فقط ، يمتلئ مضمون " الولادة " كبوابة للوجود الأبدي . بالمعمودية نولد الولادة الجديدة كأبناء لله الآب بالشركة في ابنه في الروح القدس . وبالرغم من ذلك يظل الجنس البشري يدخل الوجود من باب الولادة البيولوجية ، ولم تنسخ المسيحية مفهوم الميلاد البيولوجي لحساب المعمودية بل ظل ميلادنا الطبيعي رمزا يمتلئ في معمودية المسيح . وفي الإفخارستيا يمتلئ ركن وجودنا أننا نأكل لنحيا ، وواقع الحال أننا نأكل ونظل نأكل وفي النهاية نموت وفقا لطبيعتنا . ولكن في المسيح فقط يمتلئ مضمون " الأكل " كشركة في الحياة ، فالمسيح هو المأكل الحق ودمه هو المشرب الحق . بالإفخارستيا يشبع وجودنا بدسم الحياة الأبدية وتمتلئ شركتنا مع جميع أعضاء الكنيسة الذين هم أعضاء كياننا الواحد المسيح . وبالرغم من ذلك يظل المسيحيون يتناولون طعامهم الطبيعي ، فلم تنسخ المسيحية الطعام البائد لحساب الطعام الباقي ، بل ظل طعامنا المادي رمزا يمتلئ في افخارستيا المسيح . والآن ، ماذا لو ظهرت لنا فتوى تدعي بأنه طالما يتناول المسيحيون الطعام الباقي في الإفخارستيا فيجب أن يمتنعوا عن الطعام البائد ؟! أليس هذا دربا من الجنون ؟ على نفس القياس نستطيع أن نتساءل : ماذا لو أفتى أحدهم بأنه يجب منع الزواج الثاني ، كحق طبيعي ، للمطلق المخطئ ، لحساب صيانة سر الزيجة ؟ إن الرب حينما قال : " لم آت لأنقض بل لأكمل " كان يقصد أنه بتكميله لأركان ودوافع وجودنا الطبيعي ، فيه ، هو لم يلغ ولم ينقض تلك الأركان طالما ظللنا في هذا الوجود . سنظل نأكل إلى نهاية حياتنا إلى أن ننتقل إلى المسيح فنشبع إلى الأبد . وسيظل رباط المحبة والعشق الطبيعي يربط الأغلب الأعم منا إلى أن ننتقل إلى المسيح فنرتبط جميعا معا كجسد واحد في رباط زيجي إلى الأبد. وأما تحريم ما أحله الله وحرمان البشر من حقوقهم الطبيعية فهذا – تحديدا – هو الذي يتناقض مع المسيح .
مجدي داود 

الجمعة، 4 مايو 2012

يسوع جوهر الصلاة

                     


                             ( تأمل في الصلاة الربانية )


  1-   أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين : " أبانا "، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة . فالآب لم يصر أبا لنا إلا حينما أصبحنا فيك . فأنت رأس و حجر زاوية بنوتنا للآب. أنت هو الابن الوحيد رسم جوهر الآب، الكائن في حضن أبيه الأزلي والذي يتقبل كل ملئه مستعلنا الوجود الإلهي في سر فائق هو سر الثالوث القدوس . وأنت بينما تتقبل عطية أبيك سرمديا ، فقد شاء أبوك أن يعطيك إلى الخليقة فظهرت الخليقة كائنة بك وفيك . أيضا قد  رسم تدبيرا فائقا للنعمة ، فأعطاك أبديا للبشر حينما تجسدت فيهم وقبلت سكناهم كشعب في مملكة جسدك ، ولأنك أنت هو الابن المتجسد فالخبر السار لنا هو أن الآب يرى كل الذين صاروا مستوطنين  كأعضاء في جسد ابنه، ابناء له  . لذلك نتجاسر – بك وفيك – أن ندعوه أبا لنا.
    آمين . تعال أيها الرب يسوع
 2-  أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ،إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين : " ليتقدس اسمك " ، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة. ففي اسمك ، الذي يعني المسحة ، قد مسحنا وتقدسنا ، ومن أجلنا قد قدست ذاتك ، وفي اسمك - الذي قد أخذته من الآب - قد حفظتنا . هكذا بتقديسنا فيك قد تم تبنينا للآب فتقدس اسم الآب في ابنه . لأنك الابن الوحيد فأنت القدوس الكائن في حضن أبيه القدوس وفي الروح القدس الذي هو روحك مثلما هو روح أبيك . قداسة واحدة لكل شخص من شخوص الثالوس ، وحينما تجسدت فإنك قد رسمت تدبيرا لتقديس الجميع فيك ، وحينما قلت " لأجلهم أقدس أنا ذاتي " ( يو17: 19 ) فلم يكن مقصدك أنك محتاج إلى التقديس ، بل كان ما تقصده هو أنك قد أشبعت احتياج الجميع إلى التقديس باجتلابهم ليسكنوا فيك فيصطبغون بمسحتك الفائضة منك كرأس لمسحتهم ، وهكذا يتقدسون ، وهكذا يصيرون مسيحا واحدا ، فيتجلى اسم " المسيح " - الذي صرت مضمونا له - وقد تقدس " لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد "( عب2: 11 )، وحينما يتقدس اسم " المسيح "- ولأنه  اسمك أيها الابن المتجسد - فإن اسم " الآب " ، أبيك ، يتقدس أيضا في ذات الحدث " فيتمجد الآب بالابن"( يو14: 13 ).
   آمين. تعال أيها الرب يسوع
 3 -   أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين : " ليأت ملكوتك " ، فلم  يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة. فأنت الملك ، الذي في مجيئه ، يستقبل كنيسته ، التي عن يمينه ليدخلها إلى مملكته الأبدية . الملكوت هو ملكوتك . وملكوتك كائن في جسدك الذي صار وطنا يستقبل جميع الصائرين مواطنين ينتمون لهذه المملكة التي أنت ملكها . فلتأت الآن ، وليكتمل بنيان جسدك ، وليكتمل حضورك فينا .
   آمين . تعال أيها الرب يسوع 
 4 -   أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين : " لتكن مشيئتك "، كما في   السماء كذلك على الأرض "، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا ، كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة . ففيك قد أصبح وجودنا صورة للثالوث القدوس ، وهكذا ، فكما أن مشيئة الآب كائنة في الأعالي ، في شركة الثالوث ، هكذا أيضا استعلن الثالوث القدوس في البشر ، بمجرد تجسدك فيهم . فيك ياسيدي تمت مشيئة الآب في الأرض كما هي كائنة ، سرمديا ، في السماء . فمشيئة الآب محققة - منذ الأزل وإلى الأبد – كمصدر للوجود الإلهي ، كمصدر لك أيها الابن الوحيد وكمصدر للروح القدس الذي هو روحك مثلما هو روح أبيك . بهذه المشيئة- التي في السماء – أنت كائن يا سيدي . وحينما تجسدت فينا واجتلبتنا لنسكنك إلى الأبد كأعضاء في جسمك فقد نقلت مشيئة الوجود من مستوى الثالوث القدوس إلى مستوى النعمة ، إذ قد أدخلتنا إلى مظلة شركة الثالوث وأسست لنا وجودا هو صورة للثالوث القدوس ، فمن أبيك الذاتي تنبع نعمة هذا الوجود ، أي التبني . وبواسطة الشركة والعضوية فيك تتكرس وتتحقق هذه النعمة . وفي الروح القدس – الذي هو روح الآب - نتهيأ ونتأهل لقبول عطية الآب ، وأيضا ،فيه – إذ هو روح الابن- نتهيأ ونتأهل للعضوية فيك أيها الابن المتجسد .
   آمين . تعال أيها الرب يسوع
5 -   أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين : " خبزنا كفافنا ( الجوهري ) أعطنا اليوم "، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا ، كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة. فأنت الخبز الحي النازل من السماء ، أنت قوت وجودنا وطعامنا الباقي ، غير البائد . أنت خبز شركتنا وشكرنا .  أنت  مطلبنا وطلبتنا وصلاتنا . أنت شبعنا وقوت وجودنا غير الفاسد.إننا نظل نأكل ونشبع ثم نعود فنجوع لنأكل ثانية ، إلى أن نموت في النهاية ويفشل اللحم والدم في البقاء ، أما أنت أيها الكلمة المتجسد الخبز الحي والطعام الباقي ، فشركتنا فيك هي شبع  وجودنا الجديد وهي قوامه وأساسه وسره ، وخارجا عنك هو جوع افتقاد طعام الحياة ،أي الموت.
 آمين. تعال أيها الرب يسوع
6 -  أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين :" أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا "، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا ،كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة . فأنت الكفارة . فيك قد تسربلنا بحياتك وقد سترت عورة موتنا . فيك سترت آثامنا من أمام عينيك ومن أمام أعيننا نحو بعضنا ، إذ صرنا أعضاء بعضنا لبعض ، مثلما قد صرنا أعضاء لك ، كرأس للجميع .
    آمين . تعال أيها الرب يسوع 
7 -  أيها الرب يسوع المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر ، إنك حينما علمتنا أن نخاطب الآب قائلين :" لاتدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير "، فلم يكن ذلك يعني إلا أن نطلب حضورك فينا ، كرأس لخلقتنا الجديدة ، كرأس للكنيسة . فأنت فلك الخلاص من بحر هذا العالم الذي وضع في الشرير ، ودخولنا التجربة بدونك يفضح عري طبيعتنا وفسادها. إذن دعنا نحتمي فيك ونخلص بك ، فإذ قد صرنا مشتركين فيك تصير لنا المنعة والحصانة من أن نفتضح كطبيعة عتيقة لا لشيء إلا لأننا فيك قد صارت لنا خليقة جديدة ، وفيك ، الأشياء العتيقة قد مضت . فيك، إذن نحن بمأمن من هول التجربة ومن الشرير . أنت لن تدخلنا في تجربة لأننا فيك ، وأنت قد انتصرت على تجارب الشرير ونحن فيك منتصرون.
   آمين . تعال أيها الرب يسوع   
مجدي داود