الأربعاء، 24 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 7 )

 

 

            الاتحاد الأقنومي بين الإخلاء والتخلي

 هل معنى  إخلاء الذات الذي بادر به الابن الذاتي هو التجرد التام من الذات، أم هل هو التلاشي، أم هل هو التخلي، أم هل هو تفريغ الذات، أم هل هو إنكار الذات، أم هل هو شيء آخر؟

 المصطلح: إخلاء الذات " kenosis  " من الفعل " kenoo  "، الذي ورد في ( فيليبي2: 7 ) - النص موضوع الدراسة- قد ورد أيضا في ثلاثة مواضع أخرى فقط في رسائل الرسول بولس، وبالتالي في العهد الجديد كله. ولكي نستطيع أن نبني -بالتدريج - مفهوما دقيقا للمصطلح نستعين بالآليات الآتية:

 أولا- الاستخدام الكتابي للكلمة

المرة الوحيدة التي ترجمت فيها الكلمة إلى " إخلاء الذات " هي ماورد في نص فيليبي، أما الثلاثة مواضع الأخرى فقد استخدمت الكلمة فيهم استخداما آخرا؛ فقد أتى مفهوم الكلمة بمعنى التعطيل والإجهاض لمفهوم ما. في كل اقتباس من الاقتباسات الثلاثة لدينا مفهومان متناقضان، أحدهما صحيح والآخر خاطئ، وأما افتراض صحة الخاطئ فهو بالضرورة يؤدي إلى تعطيل المفهوم الآخر، وجاء الفعل     kenoo ، في هذا السياق ليفيد هذا التعطيل. والاقتباسات الثلاثة تحديدا هي: 

 1- " فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ (kekenwtai  ) الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ "( رو4: 13و 14 ). والمفهوم الخاطئ هو: أن يكون الذين من الناموس ورثة، وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل المفهوم الصحيح الذي هو أن الوعد لإبراهيم كان ببر الإيمان.

2- " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ، لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ (kenwqh ) صَلِيبُ الْمَسِيحِ. فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ"( 1كو1: 17و 18 ). والمفهوم الخاطئ هو: أن البشارة هي بحكمة الكلام، وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل مفهوم صليب المسيح – عند المخلصين -كقوة الله وليس مجرد كلمة بلا فاعلية ( جهالة )، كم هو كائن عند الهالكين. 

3- " هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ. أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِنْ هذَا، وَلاَ كَتَبْتُ هذَا لِكَيْ يَصِيرَ فِيَّ هكَذَا. لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ (kenwsei ) أَحَدٌ فَخْرِي. لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ. فَإِنَّهُ إِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ هذَا طَوْعًا فَلِي أَجْرٌ، وَلكِنْ إِنْ كَانَ كَرْهًا فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ " ( 1كو9: 14- 17 ). والمفهوم الخاطئ من وجهة نظر بولس الرسول – بالرغم من كون هذا حقا قد مارسه آخرون، بل أمر به الرب - هو أن يعتاش من وراء خدمته،  وهو مفهوم لو افترضنا صحته لتعطل فخره ببشارته، كبشارة طوعية بلا أجر.

خلاصة القول هو أن الاستخدام الكتابي لفعل " kenoo  "- فيما عدا نص فيليبي-  يأتي بما يفيد تعطيلا أو إبطالا أو إسقاطا لمفهوم ما.  

ثانيا- لغة السياق

يأتي تعبير " إخلاء الذات " - كفكر للمسيح، الذي بتجسده قد قبل كل مايخص البشر - في سياق الاهتمام بالآخر والخروج من التقوقع في النفس، ولم يأت المصطلح - بأي حال من الأحوال - في سياق تنظير لاهوتي عن تجسده:" لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ ( eauton ekenwsen ) ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ"( في2: 4- 7 ).

ثالثا- ماذا لو أدمجنا الاستخدام الكتابي للكلمة -  كإبطال للمفهوم - مع لغة السياق، كعطاء محبة للبشر؟ ماعسى أن يكون معنى إخلاء الذات؟ ماهو المفهوم الذي أبطله- وأسقطه، وألغاه - الرب بتجسده، حبا في البشر، ورغبة في التقرب منهم ، وحسب هذا إخلاء لنفسه ؟ واضح أن الذي يتم التجرد منه  - أو الذي يتلاشى، أو الذي يتم تفريغه، أو الذي يتم التخلي عنه، أو الذي يتم إبطاله، أو الذي يتم تعطيله - ليس الذات بل هو مفهوم معين عن الذات.

 بالتأكيد كان لإخلائه نفسه - الذي بادر به الابن في سياق تدبير تجسده - بعدا ناسخا لمفهوم عتيق عن الذات الإلهية؛ أقصد الألوهة المتعالية الساكنة للسماء والمنعزلة عن الإنسان ساكن الأرض، بفساده الطبيعي المعبر عن هذه العزلة والفجوة المهلكة. ولكن ليس لإخلاء الذات الذي أقدم عليه الكلمة بعدا مفهوماتيا نظريا فقط، لقد كان الإخلاء فعلا وحركة، كان عبورا من قبل الابن- وجسرا - للهوة بينه وبين الإنسان، كان خروجا من الذات ( الألوهة ) نحو الآخر ( الإنسان )، وكأننا  نستطيع أن نترجم عبارة " الكلمة صار جسدا " إلى عبارة " الذات صار آخرا ". كانت هذه هي المرة الأولى - والوحيدة - في تاريخ الكون التي يحدث فيها هذا النمط من الخروج؛ فبالاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان صار الابن مستعلنا- كإله كامل - في الإنسان، كما صار الإنسان مستعلنا - كإنسان كامل - في الكلمة. هكذا نستطيع أن نقول بأن إخلاء الذات لم يكن تجردا منها أو تلاشيا لها، بل كان خروجا من الذات - بالذات - إلى الآخر، كان عطاء الذات - دون فقد - للآخر. وفكر الآخرية، هذا، هو الفكر الذي في المسيح :" لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، ..لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ،..  "( في2: 4- 7 ).

  فإخلائه نفسه هو عمل المحبة الذي استعلن في تدبير تجسده؛ بأن أعطى ذاته -كشخص الابن - للإنسان كعطاء محبة، والمحبة بالتعريف - إنجيليا، في سياق الحديث عن التجسد - هي عطاء الذات للآخر؛" لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ( edwken  من الفعل didwmi = أعطى = gave ) ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " (يو 3: 16). ولم تكن هذه المحبة أمرا جديدا عليه بل كانت استعلانا لما هو كائن بالفعل كطبيعة للألوهة ؛ " فاَللهُ مَحَبَّةٌ "( 1يو4: 16 ). والمحبة هي العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس: كل شخص يعطي ذاته لكل شخص من الشخصين الآخرين،لأن كل شخص له نفس الجوهر ( الذات ) الذي لكل شخص من الشخصين الآخرين، وبالتعبير النيقاوي "   هوموأوسيوس، homoousios ". ذات الآب هي ذات الابن هي ذات الروح القدس. وعليه فنستطيع أن نرصد الفرق بين المحبة التي في إخلائه نفسه وبين المحبة التي بين شخوص الثالوث، فبينما في الإخلاء قد أعطيت الذات ( اللاهوت ) للآخر المغاير، الذي هو طبيعتنا البشرية، لتصير الطبيعتان في اتحاد أقنومي، ففي حالة الثالوث يعطى الجوهر ( الذات ) للآخر الذاتي ( إذا جاز التعبير )؛ فالآب يعطي كل ملئه لابنه الذاتي، والابن يقبل كل عطية أبيه الذاتي. هذه هي حركة المحبة الثالوثية المستعلنة صورتها في إخلاء الابن الوحيد نفسه، محبة لنا. أيضا نقول بأن في الإخلاء تقوم المحبة - التي هي عطاء الذات للآخر - بجسر الهوة بين المعطي والعطية  - من طرف -  أي اللاهوت ، وبين المعطى له، أي الإنسان ، من طرف آخر، أما في المحبة الثالوثية فبفضل " الآخرية الذاتية "( إذا جاز التعبير ) لاتوجد أية فجوة أو هوة ، لتقوم المحبة بعبورها أو جسرها .

 ولإخلاء الذات وجهان:

1- الوجه السلبي لإخلائه نفسه هو خضوعه لضرورات طبيعة البشر، آخذا مالهم، ذائقا في جسده الذي أخذه منهم كل مايخصهم من ضعف وألم وموت: " لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ"( في2: 7و 8 ). ولأن كل مظاهر خضوعه – طائعا - للضعف والإهانة والألم والموت قد قبلها في جسد هو جسده الخاص وليس جسدا يخص غيره فقد حسب - عن حق - أن الكلمة الذاتي، فيه ( في جسده ) قد ذاق واختبر كل هذا. بإخلائه ذاته، قد شعر بأسوأ مشاعرنا، وقهر وأذل بأحط مستويات الذل والازدراء والتعذيب حتى الموت، وقد تعرض لكل هذا لأنه حينما تجسد – وبإخلائه ذاته - كان قد نزع عن نفسه كل مايفصله عن معايشة ومكابدة واقع البشر المزري. ونستطيع أن نقول بأن الوجه السلبي للإخلاء هو الأكثر وضوحا وتمثيلا للمفهوم؛ فخضوع الابن لكل ضرورات وجودنا العتيقة كاشف بجلاء لا يمكن مجاراته لعبوره الفجوة بين الألوهة – في مجدها – والخليقة – في فسادها – هذا العبور الذي أظهره في صورة عبد بينما هو الكائن في صورة الله. 

2- أما الوجه الإيجابي للإخلاء فهو الصورة من الاتجاه العكسي؛ فإذا كان خضوعه لضرورات وجودنا نزولا إلينا، فإن تألهنا هو صعود إليه، فيه؛ وهذا ماقد تم في الرب يسوع المسيح الذي بفضل كونه الإنسان الكائن مع الكلمة في اتحاد أقنومي، فقد ارتفعنا برفعتة " لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ  لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ"( في2:  9- 11 ). فالوجه الإيجابي للإخلاء، إذن ، هو ماقد صار لنا فيه من مجد التأله، أي الخلود بالشركة في حياة الكلمة ذاته حينما أعطي لنا فيه أن نعبر الهوة التي تفصله عنا حينما حل فينا متجسدا.

الإخلاء والتخلي

من البديهيات اللاهوتية أنه لايوجد مايعمله الآب ولايعمله الابن في ذات الحدث ؛" لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ. لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ"( يو5: 19 و20 )، وبناء عليه كيف لنا أن نفهم تخلي الآب عن الابن المتجسد، وتركه ليذوق الألم والإهانة والتعذيب حتى الموت ، هل تخلى الابن - أيضا - عن نفسه - باعتبار أن مايعمله الآب يعمله هو أيضا - كيف نفهم هذا ؟ الحل هو في الوجه السلبي لمفهوم إخلاء الذات، الذي بدوره يتقاطع مع تخلي الآب؛ فبإخلائه نفسه قد أخضع الابن ذاته - طوعا واختيارا وحبا - لكل مسار الألم والموت، فحسب إخضاعه ذاته لهذا المسار تماهيا مع الترك والتخلي - من قبل الآب - عنه.

خلاصة

ارتحل الابن الوحيد من عليائه قاصدا إيانا، خرج من سمائه ليسكن أرضيتنا، جسر الهوة العظيمة بين ألوهته وبشريتنا، صار الخالق مخلوقا، لم يعد بيننا وبينه أية عزلة أو فجوة إذ قد صار إيانا. عندما أتحد ذاته ببشريتنا أقنوميا استعلن لاهوته في أخينا البكر الذي اتخذه منا، واستعلنت إنسانيتنا في ابنه الوحيد الذي حل فينا. لم يكن إخلاؤه ذاته مجرد جسر للهوة بين طبيعتين، بل بين الذي له وحده عدم الموت وذاك الذي هو فاسد بالطبيعة، وإذذاك صار الميت حيا، تأله بالشركة في حياة الكلمة. كان الإخلاء ارتحالا للتأله كي مايحل فينا. وهو من فرط حبه فينا - الذي جعله يضطلع بهذا التدبير العجيب، واهبا إيانا ما يجعلنا شركاء في مجده، المعطى له من أبيه الذاتي -من فرط هذا الحب قد قبل أن يرتحل إلى أسوأ ما في جبلتنا، قبل أن يضع  ذاته موضع من هو متروك ومتخلى عنه بالطبيعة من قبل الآب؛ فعندما أصبح إيانا لبس عارنا وألبسنا مجده ، هذا هو عمق مفهوم إخلائه نفسه.

ومفهوم إخلاء الذات وثيق الصلة بمفهوم الاتحاد الأقنومي بين الابن الوحيد والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح، بل إن المفهومين تعبيران مختلفان عن نفس الحالة، حالة الاقتراب المطلق بين الألوهة والإنسان؛ فليس بين عنصري الشخص - الداخلين في اتحاد أقنومي- أي مجال للحديث عن أي نوع من العزلة أو المسافة أو الفصل؛ وهكذا نستطيع أن ندرك أن حدث الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان هو نفسه حدث إخلاء الكلمة ذاته آخذا صورة إنسان.

 

 

 

 

الأربعاء، 17 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 6 )

       

 

               

                   الاتحاد الأقنومي ولاهوت الموت المحيي

 

تعليقا على الحوار الساخن جدا - في مقال " الاتحاد الأقنومي" ( 4 ) - نقول بأنه ماكان من المتوجب أن يفهم أن بكيان الرب انقسام بين عتيق وجديد، جديد كائن في الكلمة وعتيق يرزح تحت الضعف والموت ، منخرطا في حالة من الصراع مع الجديد ، إلى أن يتم التخلص منه على الصليب  فتهدأ الأمور من ما أسماه أخونا - متهكما وساخرا -" الشيزوفرينيا الناسوتية"، والواقع الصادم هو أن هذا الفهم الخاطئ جدا - لما قلته، وبالتأكيد لم أقصده أو أعنيه من قريب أو من بعيد – هو إعادة انتاج – بطريقة أخرى للنسطورية، فبدلا من وجود طبيعتين ومشيئتين هما الله الكلمة والإنسان أصبح لدينا طبيعتان ومشيئتان هما الجديد الكائن في الكلمة والعتيق. أيضا تطبيقا لهذا الفهم عند أخينا الحبيب فإن للموت الذي اجتازه العتيق دورا إيجابيا أساسيا في تخليص الرب من ضعفه ، وبنفس طريقته التهكمية اقترح نشأة فرع جديد من اللاهوت أسماه" لاهوت الموت ". وماكان يدري صاحبنا أن لتهكمه موضعا في عالم الجد وليس في عالم الهزل -كما كان يتصور - فصليب الرب هو الموضوع الرئيس في " لاهوت الموت المحيي"، وليس "لاهوت الموت" فقط - إذا جاز التعبير. وأما تركيزي أحيانا على عتيق الرب فهو تأكيد على وجود الجديد - المنسي خريستولوجيا إلى لحظة القيامة - فلا وجود للعتيق إلا على خلفية وجود الجديد؛ هكذا يضمن حديث العتيق- في سياق حديث الاتحاد الأقنومي - وجودا مؤكدا للخليقة الجديدة الكائنة فيه منذ أول لحظة للتجسد .

 وعودا على ذي بدء أقول بأن الاتحاد الأقنومي المستعلن في شخص الرب يسوع المسيح هو الاتحاد بين الله الكلمة ( اللاهوت ) والإنسان ( الطبيعة الإنسانية )، الاتحاد الذي أثمر شخصا واحدا ذا إرادة واحدة وطبيعة واحدة متجسدة هو الإله الكامل وهو الإنسان الكامل بآن واحد. وبتأنس الكلمة قد تأله الإنسان فيه، فصارت إنسانيته جديدة منتصرة على الموت وعلى الألم منذ أول لحظة للتجسد في رحم العذراء لأنها صارت جسد الكلمة الخاص ، ولكن بالرغم من تأليهه لطبيعتنا فيه وتجديده إياها إلا أنه لم يلغ طبيعة اللحم والدم العتيقة فيه بل ظل لابسا إياها إلى أن اجتاز فيها موت الصليب، وأما انسجام الطبيعتين وعدم تناقضهما ووجودهما تحت لافتة إرادة واحدة فهو خبرة يختبرها القديسون " فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ"( 2كو5: 4). وإذا كان الرسول بولس هنا يوصف الحالة النعموية كصورة  لما هو حادث في كيان الرب نفسه، فما بالنا بالأصل أي انسجام الطبيعة البشرية بكاملها- جديدها وعتيقها – مع شخص الكلمة الكائن في اتحاد أقنومي  مع الإنسان، وبينما يستعلن جديده مجد التأله، أي الشركة في حياة الكلمة، يستعلن عتيقه الانصياع والطاعة لإرادة الشخص الواحد حتى موت الصليب.

  ولكي نفهم كلمات الرسول " الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" ( في2: 6- 8 )، نقول بأن الكلمة بتجسده - باتخاذه جسدا بشريا في اتحاد أقنومي معه - قد أخضع نفسه تحت سطوة الزمن، وهو غير الزمني الذي لايحد والكائن في أبيه سرمديا؛ فولد في الزمن وهو المولود من أبيه الذاتي خارج الزمن. ولد تحت الناموس ( غل4: 4 ). رصده تاريخ البشر طفلا رضيعا على صدر أمه، وهو القائت كل الخلائق من نعمته. نما في القامة وهو الكامل الذي لانقص ولا احتياج فيه لأي نمو، بل هو  الذي يعطي كل خليقة يديه نموا ونضجا وتكميلا. جاع وهو الذي يشبع كل الخليقة، وعطش وهو ري الجميع. تعب وهو مريح التعابى. تألم وهو " شمس البر والشفاء في أجنحتها" ( ملا4: 2 ). اصطبغ على يد المعمدان وهو الصبغة التي يصطبغ بها كل المفديين. مسح وهو  المسيح معطي المسحة لكل الذين له. أخضع ذاته للظالمين من أصحاب السلطان الأرضي، وصدر ضده الحكم، وهو الديان العادل وصاحب السلطان الأبدي ، فضرب دون أن يفتح فاه، أهين وبصق في وجهه ، وهو المعطي كرامة لكل الوجهاء.كلل بالشوك وهو الملك، ومملكته ليست من هذا العالم، نزعت عنه ثيابه وهو ساتر كل الخليقة بمحبته. رفعوه على الخشبة وهو رافع لكل مرتفع بقدرته، سمروه على الخشبة وهو مثبت الكون بطلاقة قدرته. وأخيرا مات وهو الحي الذي لايموت، بل هو رب الحياة، الذي " فيه كانت الحياة "( يو1: 4). وبينما تبدو رحلة الرب على الأرض مسارا يخص ظاهر كيان الرب - أي الكيان البيولوجي من اللحم والدم الذي ندعوه العتيق – فإن كل هذا المسار قد نسب للكيان كله، نسب للرب يسوع المسيح الكلمة المتجسد بإنسانيته الكاملة ولاهوته الكامل، وهذا ماقد تسلمناه من الرسل أن " الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، "( 1كو15: 3و4 ). حتى اللعنة قد وصم بها الكيان الكامل، فيكتب الرسول بولس: " الْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»( غل3: 13 ).

  خضوع الابن

ولكن نسبة كل ضعفات العتيق إلى الرب ليست مجرد " نسبة القبول"، الرومانسي منه لكل مالنا، ولكنها " نسبة الخضوع" ( إذا جاز التعبير )؛ فالابن بدخوله إلى الزمن متجسدا، أي موحدا ذاته - أقنوميا- بجسد اتخذه منا، فقد أخضع ذاته لكل مايخص طبيعتنا من ضعف ومعاناة، ليس قهرا ولكن عن مبادرة منه، وهو قد صرح بذلك: ".. لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا" ( يو10: 17و 18) 

على أننا نستطيع أن نرصد أربعة معالم لخضوع الابن :

1- الخضوع بانصياع الإرادة

    الله الابن هو الحر المريد - المكتوب عنه " وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ "( 2كو3: 17 )- فيما أتحد ذاته بطبيعتنا، أقنوميا، ففي عتيقه الظاهر قد أخضع إرادته للانصياع لإرادة الآب ، فيرصده الإنجيل في جبل الزيتون قبيل اعتقاله - لتقديمه ذبيحا على الخشبة في يوم الصلبوت العظيم - مصليا ومتضرعا إلى الآب ، قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ"( لو22: 42- 44 ). احتمل الكلمة المتجسد في هذا المشهد الرهيب أن يكون بلا إرادة فاعلة، احتمل أن يكون مستسلما لمصيره المأساوي، بينما هو الذي - منذ البداية- اختار - حبا- " أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ "( يو15: 13 ). طبيعتنا البشرية العتيقة مصلوبة فيه، وإرادتها غائبة لحساب إرادة الشخص الكامل؛ فلشخص الرب يسوع إرادة واحدة ومشيئة واحدة هي إرادة ومشيئة الإله الكامل والإنسان الكامل بآن واحد، المسيح الرب. ولكن، وللعجب، نجد الرب في البستان ذا إرادة مصلوبة ومنصاعة ومستسلمة لإرادة الآب، هذه الإرادة هي الإرادة العتيقة التي لبشريته ، تلك البشرية التي فيها قد أظهر الابن خضوعا عجيبا ، خضوع الطاعة، الذي هو الترجمة العملية الأكثر وضوحا لمفهوم إخلائه لذاته، وبحسب تعبير الرسول : " أَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ".

2- الخضوع للترك والتخلي من قبل الآب

الابن الكلمة كائن في أبيه الذاتي، مثلما الآب كائن في ابنه الذاتي، سرمديا. لاتوجد لحظة واحدة لم يكن فيها الابن كائنا في أبيه ولا الآب كائنا في ابنه. الابن في الآب بينما الآب في الابن. جوهر الابن هو ذات جوهر الآب، وجوهر الآب هو ذات جوهر الابن. علاقة عجيبة مدهشة لامثيل لها. هذا الابن الوحيد- الفريد في علاقته بأبيه الذاتي – عندما دخل عالمنا ولبس بشريتنا وضع ذاته وأخضعها جاعلا إياها في موضع ومكان ومكانة من هو متخلى ( بفتح اللام ) عنه، ومتروك، بالطبيعة من قبل الآب، أي البشرية العتيقة الفاسدة البائسة المهترئة المحملة بعار العزلة عن الله الآب. وفي كيانه الظاهر العتيق من اللحم والدم، أخضع نفسه للإهانة والضرب والتعذيب والآلام المبرحة التي وصلت إلى سقف لا يمكن تجاوزه واحتماله من أي بشر. على الصليب كان العار كل العار، وكانت اللعنة كل اللعنة، وهو قد " صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»." (غل 3: 13 ). لذلك كانت صرخته المدوية التي استدعاها من أعماق التاريخ - المملوءة حزنا وغما وألما وانسحاقا ومهانة - تعبيرا مكثفا رهيبا عن مأساة الترك والتخلي عنه من قبل الآب، فصرخ " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (مر 15: 34 )، ( مت27: 46 )، ( مز 22 : 1 ). كيف لنا أن نفهم صرخة الساعة التاسعة من يوم الصلبوت العظيم؟ كيف نفهم خضوع الابن المتجسد لتخلي الآب عنه وتركه له؟ أليست لحظة الصرخة العظيمة هي لحظة الوصول إلى تخوم مفهوم " إخلاء الذات "؛ إذ يبدو الابن المتجسد في أقصى وأقسى درجات تجرده من مجده، بل يبدو في حالة مزرية لامثيل لها. حتى كلمات المزمور - الذي استدعاه كصرخة له – تنطق بلسان حاله قائلة : " أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ»( مز22: 6- 8 ).

  وهنا نكون قد توجب علينا أن نتصدى لسؤال أخينا الحبيب، في الحوار: كيف نخلص وقد أشاحَ الله الآب بوجهه بعيداً عن ما يمثلنا في المسيح, ألا وهو عتيقنا الفاسد؟ ووراء السؤال افتراضان خاطئان، أولهما هو أن ما يمثلنا في المسيح هو العتيق الفاسد أي كيانه الظاهر فقط، والافتراض الثاني هو أن الله الآب قد اتخذ موقفا مستحدثا بالتخلي والترك في حالة عتيق الرب تحديدا. بخصوص الأول، مايمثلنا في المسيح هو الكيان الإنساني الكامل بجديده – الباطن - الكائن في الكلمة منذ أول لحظة للتجسد والمزمع أن يستعلن فجر أحد القيامة، وبعتيقه الظاهر الذي فيه قد اجتاز الرب الآلام والموت، وقد أخضع الكلمة فيه ذاته للترك والتخلي من قبل الآب. أما موقف الآب فهو ليس جديدا ولا مستحدثا، في حالة الكلمة المتجسد؛ فالبشر بالطبيعة فاسدون ومنحدرون نحو العدم الذي هو أصلهم - أي محكوم عليهم ومتروكون ومتخلى عنهم من قبل الآب - قبل أن يتدخل الكلمة بتدبير خلاصهم، لذلك فحينما تجسد الابن لابسا طبيعتهم هذه فقد أخضع ذاته - بإرادته - لعارهم - الملتصق بهم منذ لحظة سقوطهم - كمتروكين ومتخلى عنهم من قبل الله الآب. وإذ كان الكلمة بتجسده قد حمل عار البشر - بل كما هو مكتوب " صار لعنة لأجلنا " - فبفضل تدبير تجسده- أيضا - قد حمل البشر إلى داخل جسده ليعاينوا مجده كأعضاء فيه، وكأبناء للآب باشتراكهم في حياة الابن المتجسد.

 3- الخضوع لموت الجسد

  كيف لنا أن نتصور أو نتخيل أو ندرك أن الابن الوحيد ( أومونوجينيس ) الذي في حضن أبيه - الأزلي غير المائت، وغير القابل للموت بل هو نبع الحياة ومصدرها، الذي به كان كل شيء - قد خضع للموت بالجسد ؟ والإجابة دائما تبدأ بالاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح؛ فبالتجسد اتخد الكلمة جسدا منا قابلا للموت، كقبولنا الطبيعي للموت، وفيه " قبل كل شيء لأجل خلاصنا، وصَبَرَ على موت الصليب، وقبله في جسده وهو أزلي غير مائت "( كما تقول كلمات اللحن العظيم أومونوجينيس ). كان الصليب بآلامه المبرحة يمثل قمة الترك والتخلي من قبل الآب، وتأتي لحظة الموت لتمثل أعلى نقطة في هذه القمة. وتأتي مواجهته للموت - واستسلامه له وقبوله في جسده – لتمثل أعلى مستوى لخصوع الابن، ولكن يفاجئنا مشهد اللحظة الأخيرة بماهو كاشف للدافع وراء خضوع الابن، فإذ بيسوع قد نادى " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي (to pneuma mou ) ». وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ (exepneusen )( الترجمة الأصح: لفظ أنفاسه الأخيرة، وليس أسلم الروح )"( لو23: 46 ). ليس من الطبيعي ولا من المنطقي أن من يموت بعد كل هذا التعذيب يستطيع أن ينادي بصوت عظيم، ولكنها ليست صرخة محتضر  - إن كان من الجائز أن يكون للمحتضر صرخة – ولكنها صرخة المنتصر ؛ فلأول مرة في تاريخ البشر يصبح وجودهم وديعة محفوظة لدى الآب, الرب يستودع روحه في يدي الآب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. نص النداء العظيم للرب يكشف أن له " الخارج" الذي ينهار تحت وطأة الموت، وله " الباطن" المنتصر على الموت والكائن وديعة أبدية في يدي الآب. الروح هنا في " روحي " - الكلمة المعرفة في النص اليوناني - تعني إنسانية الرب الجديدة، المتألهة، المنتصرة على الموت وعلى الألم، تعني الخليقة الجديدة الكائنة إلى الأبد في الكلمة – والمزمع أن يكشفها للعالم في فجر الأحد، والمزمع أن تصير رأسا لخلقتنا الجديدة، أي الكنيسة - لأنه" هكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضًا: «صَارَ آدَمُ، الإِنْسَانُ الأَوَّلُ، نَفْسًا حَيَّةً، وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحًا مُحْيِيًا». لكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلًا بَلِ الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذلِكَ الرُّوحَانِيُّ"، " وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ "( 1كو15: 45و 46و 49 ). ونص النداء العظيم الذي لمشهد اللحظة الأخيرة يكشف أصل النعمة ومنبعها المزمع إعطاؤها للبشر ولكن بصورة متدرجة متراكمة وليس كما حدث في كيان الرب بمجرد حدوث الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الرب وناسوته، وهذه حقيقة يؤكدها الرسول بولس: "عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ. لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا ( 2كو  4: 14- 16 ). والخارج، العتيق، يفنى لأن " لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ"(  1كو15: 50 )، لذلك عندما واجه الابن الوحيد الموت في جسده قتله  بل أباده، وأظهره فاشلا فلم يستطع أن يحصل من الرب أكثر مما حصل من الكل وهو الموت الطبيعي للإنسان الخارج، وفقا لطبيعة اللحم والدم ، وأما ذاك، الروحاني الكائن أبديا في الكلمة فلم يستطع أن يقترب منه الموت، بل سقط صريعا عند قدمي الرب قبل أن يفكوا وثاقه من الصليب تمهيدا لدفنه. ماكان للابن أن ينتصر على موت البشر مالم يواجهه في جسد منهم، لذلك فقد أتحد ذاته أقنوميا بجسد بشري مخلوق وفيه قد أخضع ذاته للألم والموت، فذاق فيه الألم والموت، لينطق في النداء العظيم الأخير بلسان حال الكلمة المتجسد المنتصر لحساب البشر، كاشفا في هذا النداء عن كيانه الإنساني الروحاني الجديد الصائر رأسا لخلقتهم الجديدة.

 4- الخضوع لموت الكون

لم ينته خضوع الابن، على الصليب، ففي القبر قد أخضع ذاته لمستوى آخر من الموت وهو تكميل الموت؛ فالموت ليس هو مجرد ذلك الانهدام لأقنوم  الإنسان  الطبيعي الذي من اللحم والدم. ليس هو ذلك الفراق المأساوي بين النفس والجسد ولكنه السقوط المريع في هوة العدم تاركا لاشيء خلفه من الكيان. اكتمال موتنا هو هكذا، عتيقنا الذي يتوارى في القبر ليؤول إلى حفنة من عظام نتنة، هذا وضع ليس نهائيا للموت؛ فتظل عناصر أساسية - قد خرجت من تحلل الجسد - تدور في دورة الحياة بأشكال جديدة، أما الموت في استعلانه الأخير فهو يتم في لحظة نهاية الكون حينما تنحل كل العناصر فيتلاشى الكون غارقا في لجة العدم الذي كان قد استدعي منه في البدء. في قبر يسوع واجه الابن الوحيد تكميل موت جسده، بل واجه لحظة موت الكون كله، وموته هو النموذج العياري للموت  standard model  ( إذا جاز التعبير )، فهو قد مات موتا لم يمته مخلوق من قبل- ولن يموته مخلوق من بعد، إلى أن تأتي لحظة نهاية الكون - فأخضع ذاته لتذوق عمق أعماق الجحيم ، وفي جسده المسجى في القبر أخضع الابن نفسه للحظة نهاية الكون، بالفعل، وعندما نقول في الليتورجية بأنه " نزل إلى الجحيم" فإننا نتحدث حرفيا عن واقع موته - فهو في جسده المسجى قد نزل إلى أعماق الجحيم - هذا فضلا عن أي تأويل آخر  لمفهوم نزوله للجحيم. انحلت كل ذرة من عناصر جسده العتيق في أعجوبة فائقة لاتقل في قوتها عن أعجوبة الخلق من العدم، وللأعجوبتين صانع واحد، ذلك الذي " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ " (يو 1: 3). وبموته هذا فإن "الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ ( بفناء عتيقه )، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا ( في جديده الروحاني ) (2 كو 5: 17). خرج كيانه الإنساني الجديد - الكائن في الكلمة – سالما بل منتصرا - من أعظم اختبار للتحدي في تاريخ الكون، وحينئذ يكون تدبير قيامته قد تهيأ لمخاطبة تاريخ البشر، في فجر الأحد.

 أما القيامة فهي ليست حدثا تعسفيا - تحدثه قوة اللاهوت – يقتحم القبر ليتم فيه إحياء الميت وتغيير طبيعته من العتيق إلى الجديد؛ فمفهوم التغير أو التحول  - في سياق حديث التجسد أو حديث الخريستولوجي أو حتى حديث النعمة – هو الكشف عن الجديد الممجد المخبوء، وليس تغير ( تحول ) العتيق إلى جديد ممجد. والمرجعية الإنجيلية الكاشفة لماهية التغير الحادث في القيامة هي في مشهد التجلي ، تجلي الرب على الجبل المقدس في حضور ثلاثة من المقربين من تلاميذه - واستدعاء موسى وإيليا من كنيسة العهد القديم، والذي تجلى وظهر هو الخليقة الجديدة المستترة فيه ، ومع ذلك فالنص المقدس عندما يتحدث عن ظهور ذك في صورة مدهشة فهو يعبر عن ذلك على أنه " تغير" ؛ إذ " تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ ( الترجمة الأصح : "تغير"، فقط ) قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ"( مت17: 2 ). فيكشف الرب للخاصة من تلاميذه عن كيانه الإنساني الروحاني الممجد الكائن فيه منذ أول لحظة للتجسد، ذلك الكيان المزمع أن يستعلنه الرب بالقيامة في فجر الأحد؛ لذلك فقد أوصى تلاميذه - حينما انتهى المشهد الرائع- أن لايخبروا أحدا بما رأوا إلى أن يكشفه بنفسه بعد أن يجتاز الآلام والموت . على الجبل لم تتغير طبيعة يسوع الظاهرة العتيقة إلى هذا الكيان الجديد المدهش في نورانيته وجماله، بل تكشفت وقتيا طبيعته الجديدة الممجدة المستترة وراء الكيان الظاهر الذي كانوا يتعاملون معه، وما أن انتهى المشهد إلا وقد استعاد الرب هيئته التي يدركونها، والتي سيجتاز فيها الموت. هذا هو مفهوم التغير أو التحول ( METAMORPHOSIS  )، المستخدم في التجلي. هذا وقد استخدم نفس الفعل بنفس المفهوم - أي الكشف وليس التحول من صيغة إلى أخرى – في موضعين آخرين فقط في العهد الجديد، في سياق حديث النعمة: الموضع الأول: حينما يكتب الرسول بولس :" وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ ( الترجمة الأصح عاكسين مجد الرب ) بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ ( الترجمة هنا صحيحة ) إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ"( 2كو3: 18 )، ونحن بالطبع حينما نتغير إلى تلك الصورة عينها- أي إلى الجديد- فالعتيق لايتحول إلى الجديد، بل ينمو فينا الجديد يوما فيوما إلى أن تكتمل ولادته بانضمامه لجسد الابن المتجسد، أما العتيق فمصيره معروف لأن "  لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ." (1 كو 15: 50). والموضع الثاني حينما يكتب أيضا : " وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ ( الترجمة الصحيحة: " تغيروا"، فقط )  بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ." (رو 12: 2) "، فتجديد الذهن هو كشف عن الجديد وليس تحولا - ناسخا – لوجود العتيق. وعليه فالتغير (METAMORPHOSIS   ) الذي يكشفه فجر أحد القيامة هو استعلان الخليقة الجديدة المخبوءة في الكلمة المتجسد منذ أن صار هناك اتحاد أقنومي بين الكلمة والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح، وأما عتيقه ففيه قد أخضع الكلمة ذاته للموت، موت جسده وموت الكون كله ليظهر - فيما قد تكشف في فجر الأحد – منتصرا، قاهرا الموت، وجاعلا من كيانه الجديد الذي استعلنه، باكورة للخليقة الجديدة التي تقبله رأسا لها، أي الكنيسة. . التجلي قبس من نور القيامة فالكيان الذي تم استعلانه على  الجبل للخاصة من التلاميذ - وأودع لديهم كسر مخبوء- هو ذاته الذي تم استعلانه للتاريخ في أحد القيامة، وبينما في الحالة الأولى تم استعادة الحجاب العتيق ليجتاز فيه الرب الألم والموت، ففي الحالة الثانية، في حجابه العتيق- اجتاز الكلمة الحامل للكيان الجديد جحيم الكون كله وخرج منتصرا.

  الموت مع المسيح

  آلام الصليب ليست مجرد آلام، لأنها آلام المسيح. وموت الصليب ليس مجرد موت لأنه موت المسيح. ولأنها آلامه فهي آلام شافية، ولأنه موته فهو موت محيي، وآلامه شافية وموته محيي، لأن الابن قد أخضع ذاته لهما في جسده، فأصبحت شركتنا فيهما طريقا ذهبيا للشركة في حياة الكلمة ذاته، إذ أنه " مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." (غل 2: 20). فموت عتيقنا مع المسيح هو اصطباغ بصبغته، وبالتالي فهو ليس مجرد صبغة بموته فقط بل صبغة بحياته، فيشرحها الرسول بولس شرحا نافيا للجهالة، فيكتب: " أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ"( رو6: 3- 6 ).

ويفاجئنا الرسول بولس بأنه متى خضع كل أفراد الكنيسة لموتهم مع المسيح – فاستحقوا، فيه وبه، أن يكونوا جسدا له، فحينئذ يحسب خضوعهم خضوعا من قبل الابن، الذي به قد خضعوا. هذا نمط جديد لخضوع الابن لم نتطرق إليه في الحديث عن خضوعه، أيام جسده على الأرض. وبينما النمط الأول هو خضوع له علاقة بإخلاء الذات ، فالثاني هو خضوع له علاقة بتأله البشر فيه، ليكون الجميع واحدا. الأول هو الخضوع الذي في تجسد الابن والثاني هو الخضوع الذي في تكريس وجود الكنيسة، في الابن المتجسد. وهنا نستعين باقتباسين:

1- " لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ.  وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ: الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ.. . .لأَنَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ : «إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ» فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ. وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ "( 1كو 15: 22- 29  ).

2- «مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ؟ أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟  ... أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ»... لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ. لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً،  قَائِلًا: «أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ»... فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ - خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ -كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ."( عب2:  6- 15 ).

ماهية الموت مع المسيح

الابن الكلمة بتجسده قد أتحد ذاته بجسد بشري منا، وللأنه جسد الكلمة الخاص فقد أعتقه من فساده الطبيعي بمجرد الاتحاد، صائرا كيانا إنسانيا روحانيا هو البكر بين البشر الذين صاروا شركاء في حياة الكلمة ذاته، وخرج الرب من الموت ظافرا جاعلا من ذاته كشخص الكلمة المتجسد رأسا لخلقتنا الجديدة، فينتقل استحقاق تجسده - أي تأله البشر - منه كرأس إلى كل أعضاء الكنيسة المشتتين في الزمان والمكان. ولكن كيف يحدث هذا الانتقال؟ من الذي يقوم بإفاضة هذه النعمة العظمى - هذه المسحة، هذه الصبغة - من الرأس إلى الأعضاء ؟ من الذي يأخذ منه ليعطي أعضاء كنيسته التي هي جسده؟ والإجابة تنطق بها كلمات الرب ذاته، فيقول في إنجيل يوحنا: " وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ"( يو14: 26 ). وفي موضع آخر يقول أيضا: "  وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ "( يو16: 13 - 15 ).

 أما الآلية التي من خلالها يصنع الروح انتقال جدة الحياة من الرأس إلى الأعضاء فهي في قيادته المباشرة للأعضاء - بإماته أعمال الجسد العتيق، بفضل نقل آلام وموت المسيح إليهم - تلك القيادة التي من شأنها أيضا نقل مجد البنوة بالنعمة من الرأس إليهم، هكذا يصبح الروح بالنسبة إليهم روح التبني، بهذه المعاني يخاطب الرسول بولس أهل رومية، بل الكنيسة كلها: " لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ"( رو 8: 13 - 17 ).

والعمل الذي يصنعه الروح القدس في أعضاء الكنيسة ليس مجرد عمل سلبي فيه تحدث إماته للعتيق بشهواته ولكن هناك ماهو أعظم ، إذ يتماهى حدث موت العتيق - بفعل قيادة الروح القدس - مع ولادة الكيان الروحاني الجديد المعبر عن الشركة في الروح القدس،  أي التأله ، أي الشركة في  الطبيعة الإلهية، فيكتب معلمنا بطرس الرسول:" كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ"( 2بط1: 3و4 ). والمعادلة عند الرسول بولس هي خسارة الكل- بفضل شركة آلام وموت المسيح- في مقابل ربح المسيح، فيكتب: " بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ " ( في3: 8- 11 ).

                                   خلاصة

أولا: خضوع الابن

 بتجسد الكلمة - بأن أتحد ذاته أقنوميا بجسد من بني جلدتنا- فقد أخضع ذاته فيه لاستحقاقات بشريتنا العتيقة المائتة حتى مايخضعنا فيه لاستحقاقات بشريته الجديدة المتألهة؛ أي أنه أخضع ذاته لما لنا حتى ما يخضعنا لما له، وبالتعبير الشائع: " أخذ مالنا ليعطينا ماله ". و" مالنا " الذي أخضع ذاته له - والخضوع هو الترجمة العملية لإخلاء الذات- نرصده في أربعة أمور:

1- أخضع ذاته لانصياع الإرادة، فإرادته العتيقة مصلوبة فيه لحساب الإرادة الواحدة للشخص الكامل، وباجتيازه طريق الآلام والموت – المرفوض من العتيق بالطبيعة – فقد أخضع الابن ذاته لموت إرادة العتيق ليبدو كما لو كان بلا إرادة مستقلة فاعلة، وهو الذي بإرادته كل شيء قد كان وبغيرها لم يكن شيء مما كان.  

2- أخضع ذاته للترك والتخلي من قبل الآب، وهو الكائن في أبيه وأبوه كائن فيه،   فبشريتنا العتيقة ،فيه ، متروكة بالطبيعة، وهو بينما يصرخ - وهو معلق على الخشبة  - " إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" ، فقد كان الكيان كاملا ينطق بلسان حال العتيق الظاهر، لسان حال المتروك المتخلى عنه.

3- أخضع ذاته للموت وهو القدوس المونوجينيس الحي الذي لا يموت، وقبل أن يلفظ أنفاس كيانه العتيق ، الأخيرة، صرخ صرخة الانتصار المدوية مستودعا باكورة خلقتنا الجديدة ورأسها لدى الآب، وهو المزمع أن يجتلب جميع الأعضاء لينضموا للجسد الواحد، أي الكنيسة

4- أخضع ذاته للعدم والفناء- في جسده المسجى في القبر - والعدم مرحلة من مراحل الموت لم يختبرها مخلوق على ظهر الأرض من قبل ، بل لم يختبرها شيء في الكون من قبل، وهو حينما ذاق هذا، متلامسا مع عمق أعماق الجحيم، فهو قد أتم موت الكون العتيق كله، في عتيقه، فضلا عن تحقيقه للكون الجديد في خلقتنا الجديده الكائنة فيه، أيضا.لم يكن هذا الحدث الرهيب مجرد محرقة لعتيقه الظاهر فقط - كما كان يتهكم أخونا الحبيب في الحوار - بل أن الابن المونوجينيس قد أخضع ذاته - في أقصى مستوى للخضوع وإخلاء الذات - ليصير في الجسد - لمرة واحدة في تاريخ البشر-  ذبيحة المحرقة الحقيقية ؛ لأنه" لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلًا عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا الشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ "( عب7: 27 ). ولأنه ذبيحة المحرقة، الأبدية، فنار مذبحه مشتعلة ليل نهار، ورائحة الرضا فواحة دائما، هذا مايعتلن في الكنيسة الكائنة فيه؛ فهو الجاعل من أعضاء جسده " مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ"( رؤ1: 6 )، فالكل فيه صعيدة مرضية لدى الآب .

ثانيا : شركة آلام وموت المسيح

الألم بطبيعته مرفوض ومهروب منه من قبل طبيعتنا البشرية، وطيلة تاريخ البشر وهم يحاولون جاهدين باستمرار أن يخترعوا أدوية قاتلة للألم، فما بالنا بألم ارتبط بالعار، أي ألم الصليب. والموت، تلك النهاية المرعبة المأساوية للمخلوقات الحية - ذلك الذي هو "آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ " ( 1كو15: 26 ) – فلسنا محتاجين للحديث عن رفضنا ونفورنا من مجرد تذكره ، ولكن العجيب هو أنه "مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ "( قض14 : 14 )؛ فباجتياز الرب للآلام المبرحة تقدس الألم فيه، وباجتيازه للموت تقدس الموت فيه. آلام الرب وموته مقدسين بالنسبة لنا، ليس لأنهما ينتسبان للرب بل لأنهما أداة  فاعلة يستخدمها الروح القدس لتكميلنا؛ فعندما ينقل إلينا الروح شركة آلام وموت الرب يصلب عتيقنا ويموت مع المسيح، فنكتشف الوجه الإيجابي للحدث وهو أن صليب وموت الرب كانا مخاضا وولادة لكياننا الروحي الجديد عديم الألم والموت، فكيف صار للألم وجه آخر هو الدواء والشفاء، وكيف صار للموت وجه آخر هو الخلود ؟ هذا هو مايصنعه صليب وموت الرب فينا ؛ فمن رحم صليبه وموته نولد في الروح القدس، إخوة للابن المتجسد وأبناء للآب السماوي. فباشتراكنا في صليب الرب وموته يصلبب عتيقنا ويموت معه موتا استثماريا - إذا جاز التعبير- لحساب تحقق وجود الخلقة الجديدة، والأمر أشبه بحبة الحنطة التي " إِنْ لَمْ تَقَعْ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ"( (يو 12: 24) . هذا ماينجزه الروح القدس في الكنيسة.

مجدي داود 

 

 

 

 

       

 

               

               

الخميس، 11 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 5 )

 

 

             الاتحاد الأقنومي و الشخص الإفخارستي

  لم يقم ( بضم الياء ) الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان شخصا "استاتيكيا " ( إذا جاز التعبير ) ، بل أقام شخصا " ديناميكيا ". والمقصود هنا هو أن شخص الرب يسوع التاريخي ، الإنسان الكامل لم يكن ذا أفق لشخص بسيط بل هو شخص قد ظهر ليكون شخصا مركبا ، ظهر ليكون شخصا كاثوليكيا . كان الرب يسوع التاريخي هو بداية تاريخ الإنسانية الجديدة ، وبظهوره ظهر رأس هذه الخليقة الجديدة ، لتنطلق منه حركة النعمة التي تخترق الزمان والمكان فتأتي بالبشر المختارين ، مظهرة إياهم كأعضاء تنتمي لهذا الرأس . هذه الحركة النعموية هي التي نطلق عليها مصطلح  " الحركة الإفخارستية  " ، ويكون وفقا لذلك أن الاتحاد الأقنومي الخاص بشخص الكلمة المتجسد قد أثمر شخصا " إفخارستيا " هو شخص المسيح الرب .

لم تذكر الأناجيل التي رصدت مشهد التأسيس الإفخارستي أن الرب يسوع قد أكل مع تلاميذه من الخبز أوشرب من الخمر اللذين قسمهما عليهم بعد تناولهم الفصح ، بل أنه بعد أن أخذ الخبز وكسره وقسمه عليهم قال لهم :  " خذوا ( اقبلوا ) كلوا . هذا هو جسدي  " ( مت26: 26 ) ، " هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم . اصنعوا ( أثمروا ) هذا لذكري  " ( لو22 : 19 ) . وأيضا أخذ الكأس قائلا : " اشربوا منها كلكم ، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا “( مت26 : 27 ) . وكأن لسان حال الرب : " كما أخذت ( قبلت ) أنا في جسدي الخاص ، خذوا ( اقبلوا ) أنتم أيضا . فإن صنعتم هذا صرتم أعضائي وأنا صرت رأسكم ، فهذا الذي تثمرونه هو جسدي الذي يستوعبكم جميعا ".  وبالفعل قد كان جسد الرب يسوع التاريخي هو أول كيان بشري يعتمل فيه الحدث الإفخارستي ؛ فبتجسد الكلمة صار لجسده الخاص ،    الحياة وعدم الموت بالقيامة من الأموات بفضل الكلمة الحال فيه ، فأكلت فيه الطبيعة البشرية وشبعت وامتلأت . ولكن هذا لم يكن نهاية الأمر فقد صار جسد الكلمة الخاص نبعا للحدث الإفخارستي  الفائض على الجميع لكي مايصير لهم الإمتلاء ، فيه ، " فقد رأينا مجده ،… مملوءا نعمة وحقا … ومن ملئه نحن جميعا أخذنا ، … " ( يو1 : 14-16 ). إن إنسانية يسوع التاريخي ، ذاتها ، قد أكلت وشبعت بل وصارت مصدرا لشبع الجميع . ووفقا للدقة اللاهوتية المطلقة لكلمات الإنجيل ، نحن نقول بأننا نأكل جسد المسيح . ونقول بأن الكنيسة هي جسد المسيح ، ولانقول بأننا نأكل جسد يسوع أو أن الكنيسة هي جسد يسوع . والفرق دقيق جدا وهام جدا ؛ فمعنى أننا  نأكل جسد المسيح هو أننا نصير جميعا مشتركين في المسيح ، ذلك الكيان الكاثوليكي الذي يستوعب الجميع والذي رأسه هو الرب يسوع التاريخي . فيسوع هو خمير الإفخارستيا الذي بواسطته يختمر كل عجينها ، صائرا مسيحا مستوعبا للجميع. نحن نقبل من الرب يسوع كل مايملأنا ، وحينئذ نستطيع أن نملأه، كشخص المسيح المستوعب للكنيسة . نحن لانأكل ناسوت الرب يسوع التاريخي ، بل نأكل ونمتلئ حينما نتقبل الفيض الإفخارستي النابع منه والممتد فينا محققا انتماءنا إليه كأعضاء ، ومحققا - في ذات الحدث – انتماءه إلينا كرأس .

لقب الرب يسوع التاريخي بلقب " المسيح ". وشخص المسيح هو الشخص الإفخارستي ، هو الشخص الآتي الآن في البشر ، في الكنيسة . وإن كان الكلمة بتجسده قد أشبع جسده الخاص ، فمتى امتد هذا الشبع ، إفخارستيا ، إلى كل أعضاء الكنيسة –  وامتلأ شخص المسيح بلملمة أعضاءه المشتتين في الزمان والمكان  – استعلن شبع الجميع ، فيه .

الإنسان الجديد ، آدم الأخير ، الذي من السماء ، القائم من الموت والمنتصر على الفساد الطبيعي بفضل الكلمة الحال فيه هو – بحسب تعبير الرسول بولس في  ( 1كو 15 ) – جسم روحاني ، عوضا عن الجسم الحيواني ، الترابي ، الذي من آدم الأول . ولم يكن ذاك مجرد جسم روحاني  حي  بل صار  " روحا محييا  " ، صار رأسا للوجود الروحاني ، الجديد ، عديم الفساد ، للإنسان . وفي الإفخارستيا تتدفق الحياة الروحية الأبدية من رأس هو الرب يسوع ، الابن البكر ، إلى جميع أعضاء الجسد . وبامتلاء وتكميل الحدث الإفخارستي يكتمل بنيان الكنيسة ، يكتمل بنيان جسد المسيح . الأكل الإفخارستي ليس أكلا بالمفهوم البيولوجي بل هو ولوج إلى الوجود الروحاني الجديد في المسيح ، هو دخول إلى الطبيعة الجديدة عديمة الفساد القائمة من الموت . وفي الأكل الإفخارستي نحن نتجاوز ونتخطى ظاهر صورة الأكل البيولوجي الطبيعي إلى جوهر الحدث المحمول بقوة الرمز ، في الروح القدس ، إلى شركة الحياة الأبدية ، في المسيح . في الإفخارستيا نحن نرتحل من صورة وجودنا العتيق إلى المسيح . نحن نتحول إلى المسيح وليس هو الذي يتحول إلينا. نحن لانبتلعه  ليسكن بطوننا ، بل هو الذي يختطفنا لنسكن ونستوطن في جسده ، كأعضاء. نحن لانجعله عتيقا مرة أخرى، بتعاطينا البيولوجي معه ، بل هو يجعلنا جددا ، بتعاطيه الروحاني معنا .

الشخص الإفخارستي

من منظور الكنيسة يبدو الحدث الإفخارستي هو سر تكريس وتحقيق وجودها ككنيسة ، وجودها كجميع أعضاء جسد المسيح ، وفي ذلك يقول الرسول  بولس : " وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلا ، والبعض…لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة ، لبنيان جسد "المسيح  " ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل . إلى قياس قامة ملء  " المسيح "…ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس : " المسيح  "، الذي منه كل الجسد  مركبا معا ، ومقترنا بمؤازرة  كل مفصل ، حسب عمل ، على قياس كل جزء ، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة " ( أفس 4 : 11-16 ) .

ولكن إذا كان الحدث الإفخارستي – من منظور الكنيسة – يعني كشف وتجلي الكنيسة جسدا للمسيح ، فماذا يعني ذلك من منظور شخص المسيح ، نفسه ؟ ألا يعني ذلك أن الإفخارستيا هي سر امتلاء شخص المسيح بامتداده في الكنيسة ؟ ألا يعني ذلك أن كيان المسيح الممتلئ هو كيان يتحقق متعاظما متناميا منطلقا من شخص الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد ليبلغ كمال امتلائه باستيعابه لجميع أفراد الكنيسة كأعضاء فيه ؟ وإذا كان الأمر هكذا ، فالمسيح هو الشخص الإفخارستي الذي يتحقق ويتكمل منطلقا من مركزه الرب يسوع . هو جسد يتكمل وينمو منطلقا من رأسه . هو بيت الله الذي يتكمل منطلقا من حجر زاويته . وفي ذلك يقول الرسول بولس : " فلستم إذا بعد غرباء ونزلا ، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله ، مبنيين عل أساس الرسل والأنبياء ، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية ، الذي فيه كل البناء مركبا معا ، ينمو هيكلا مقدسا في الرب . الذي فيه أنتم أيضا مبنيون معا ، مسكنا لله في الروح " ( أفسس 2 : 19- 21 ). المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص الذي يتحقق – ويجيء ، ويظهر ، ويستعلن –  الآن ، بإظهاره الكنيسة  جسدا له ، بامتداده فيها ، واستيعابه لها ، وامتلائه بها ، وتعظمه وتضخمه فيها . المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص المتنامي من داخله نحو الخارج بأن يضم الذين هم في الخارج ، أي شعب كنيسته ، فيتعظم بهم وينمو فيهم ويبلغ كماله بوجودهم فيه ، كأعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه .المسيح ، الشخص الإفخارستي هو الشخص الذي يتكمل الآن في الكنيسة ، ومتى تم ذلك يكون قد اكتمل مجيء الرب ، يكون قد اكتمل مجيء ابن الإنسان .

خلاصة

مفهوم الشخصية الإفخارستية للمسيح هو أن شخص المسيح ، بظهوره في تاريخ البشر في شخص الرب يسوع التاريخي  – بفضل الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان –  قد ظهر ككيان يتضخم ويتنامى – كميا – بضم أفراد الكنيسة – المبعثرين في الزمان والمكان – كأعضاء في جسده . هو يتنامى ويتضخم الآن ، وسيظل هكذا إلى الحد الذي فيه يستعلن جميع أفراد الكنيسة . سيظل يتنامى ويتضخم إلى أن يمتلئ بجميع الأعضاء اللازمين لجعله جسدا كاملا . وحينئذ فقط يكون قد اكتمل الحدث الإفخارستي ، يكون قد امتلأ شخص المسيح ، يكون قد امتلأ الشخص الإفخارستي كامتداد نعموي لما ناله جسد الكلمة الخاص، في البشر.

هامش

   نشرت هذه المقالة تعليقا على مقال: الاتحاد الأقنومي وسر الإفخارستيا المنشور في مارس2014 على صفحات موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية.

الأربعاء، 10 مارس 2021

الاتحاد الأقنومي ( 4 )

 

    

                حوار ساخن جدا حول الاتحاد الأقنومي

نشر هذا الحوار بالتتابع تعليقا على كتاب " هل يخلص غير المسيحي: نص وتعليقات" ، سبتمبر 2009، على موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية.

 سوستانيس

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع المتجسد عن غير عمد ولا قصد  (1)

  إن اقترابنا من بعض العبارات والألفاظ الرشيقة, التي وردت بهذا المقال الجميل والجاد بالتحليل والنقد, لايعني بأي حال من الأحوال, محاولتنا إضفاء صفة عدم الشرعية أو عدم صحة تلك المحاولة, التي حاولت فتح أغوار أسرار التجسد . لأننا نتفق مع كاتبنا في الكثير, فيما عدا القليل من العبارات والمصطلحات الجديدة الغير مستخدمة من قِبَل أبائنا المدافعين عن الأيمان في شرح هذا السر العظيم.

ومن الواضح إن علم الأبائيات لديه ما يكفيه من مصطلحات لاهوتية قادرة على شرح سر التجسد الإلهي, ولهذا لا يحب علينا إضافة مصطلحات جديدة بدون  دواعي حقيقية ومخاوف فعلية من وجود هرطقة ما, لأن الباب ليس مفتوحا لجلب وأعتماد ألفاظاً وتعبيرات جديدة بدون داعي, وإلا تحول علم اللاهوت  إلى علم  فلسفي يهتم بتجديد نظرياته اللاهوتية, بحسب المستجدات العقلية. وأن ابتكار مصطلحات جديدة تنشأ نقاط خلافية حديثة معاصرة, لم نعهد بها من قبل, ليبتعد التعليم برمته عن حياة الناس,  .. إذن…لا … لأي مصطلحات جديدة تفتح باباً نقدياً بحثياً جديداً,  .. إذن باختصار… القاعدة اللاهوتية الحافظة هي التكرار والاجترار, وليس الابتكار. كما أن سر التجسد هو بالحق سر يفوق قدرات عقولنا التي ما زالت مرتبطة بدواعى الزمان والمكان, ولهذا لايجب علينا فحصه بمشرط العقل والمنطق, لأننا أن كنا نعرف بعضاً قليلاً من أسرار إنسانيتنا, فأننا نجهل الكثير جداً من أسرار اللاهوت, فكيف يحق لنا الشرح والتفصيل, ونحن نجهل على الأقل أحد طرفي الأتحاد  الأقنومي لأن القاعدة الروحية التي تواكب الاستعلان الإلهي أن لا نكتب كل ما يستعلن لنا,  .. ليبقى سراً من أسرار التذوق والأختبار الحقيقى الغير مكتوب ولا مسجل بكلمات,  .. لهذا ( اجاب يسوع وقال له لست تعلم انت الآن ما انا اصنع, ولكنك ستفهم فيما بعد ) يو 7:13

إلا أننا هنا مضطرون –  وللأسف – استخدام ذات المنطق والتحليل لنصل لأصل الكلام ولبه,... سنحاول وضع مقتطفات في متناول القارئ من هذا المقال, ليتضح لنا بأن بعض من العبارات والتعبيرات والمصطلحات به, قد خرجت عن السياق اللاهوتي المنضبط.

 سوستانيس

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع المتجسد عن غير عمد ولا قصد  (2)

  لأجل عدم تشتيت القارئ, ومنحه جرعة إضافية من التركيز, أكتفينا بعدد قليل من الصفحات والعبارات,...ونذكر بعض من تلك الفقرات التى أفتقرت لدقة التعبيرات اللاهوتية, المعبرة عن  الاتحاد الأقنومى … فلنبدأ إذن:

بصفحة 98: أنه " بمجرد حلول الكلمة فى أحشاء العذراء. قد ظهر فى كوننا أنسان جديد غير قابل للموت, ولكن ذلك الجديد قد ظهر فى عالمنا متسربلاً بعتيقه -الذى هو عتيقنا-  "…ص 99 : " عتيق يسوع هو فاسد بالطبيعة, لأنه هو عتيقنا نحن, وهو ظل لابساً إياه حتى ما أسلمه إلى مصيره  الطبيعي ( يقصد الموت ), الذي هو مصيرنا. وعندما تم فيه ذلك ( بالصليب), أعلنت القيامة خلف الحجاب المخلوع ).وفى نفس الصفحة 99 يكمل هكذا: ( إن الموت لم يستطع أن يلتهم من كيان يسوع غير ما يستطع أن يلتهم من كياننا ….أما فيما يخص يسوع فقد التهم الموت حجاب عتيقة, ليتبقى الإنسان الجديد المنتصر على الموت ذلك المستتر خلف الحجاب ( إي انسانه العتيق ) ويعاود كاتبنا التأكيد فى صفحة 105 : إن " النقطة الجوهرية هنا إن كنا نؤمن بأن عتيق يسوع هو لحم ودم من طبيعتنا, فعلينا أن نؤمن بأن مصيره هو نفس مصيرنا أي العدم وبانشطار عتيقة إلى شطريه (النفس والجسد)

ونكتفى بهذا العرض المبسط لنخلص الى :

أولاً: عتيق يسوع هو فاسد بالطبيعة كعتيقنا تماماً, وأن مصيره كمصيرنا تماماً, للموت والعدم, ولكن اُنقِذَ -يسوع وليس عتيقه- بالقيامة. كأنقاذ الغريق في اللحظة الأخيرة والفارقة, والتي بعدها – إن تأخر- يغيب في ظلمات بحار الفساد.

ثانياً: ظل يسوع لابساً إياه – العتيق الفاسد- لمدة 33 سنة, إلى أن أسلمه لمصيره  الطبيعي وهو الموت على خشبة الصليب. وهكذا ظل المسيح طوال حياته على الأرض بعتيق فاسد, لكي يؤكد لنا أنه قد شابهنا بالحق في كل شئ. يالهُ من اثبات لم يخطر على بال أباءنا طوال قرون طويلة هذه عددها.

ثالثاً: ولد يسوع بجديد وعتيق في ذات الوقت, ولكن الجديد كان مخفياً في ستار العتيق, ولم يظهر إلا بعد القيامة ,بزوال العتيق بالموت وعدم عودته مرة أخرى  ليفسح المجال للجديد الذي ظهر من بيَاتِه العتيق بالقيامة.

والسؤال هنا كيف تعايش المسيح مع جديده وعتيقه فى ذات الجسد؟

هل يسوع عاش بميول عتيقه الفاسد فقط؟ لأنه من الواضح من المقال بأن الجديد كان معطلاً باختفاءه خلف العتيق الفاسد. أم أن المسيح كان يعاني من صراع  واضطراب بسبب تواجد جديد يسمو في ميوله عن عتيقه؟ أم أن هذا نوعا جديداً من الشزوفيرنيا الناسوتية التي لم تحدث إلا في المسيح يسوع فقط ؟

رابعاً: ومن خلال القول بأن يسوع ولد بعتيق فاسد وجديد مخفي في سِتَارِه, نجد أن الموت قادر على التهام العتيق ليفسح الأجواء للجديد المخفى خلفه. وبالصليب أُهلِكَ او اُلتُهِمَ  هذا العتيق من الموت بلا رجعة, ليظهر الجديد المخفي في سِتَارِه بالقيامة.  إذن هناك جزء من ناسوت ربنا يسوع- وهو عتيقه الفاسد- يُلتَهم من الموت ولا يعود من بعد ابداً. وما زال لحديثنا بقية ……

سوستانيس

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع المتجسد عن غير عمد ولا قصد  ( 3 )

 خامساً: حاول الكاتب التخفيف من صدمة بأن المسيح قد قضى حياته كلها تحت وطأة عتيق فاسد موبوء بالضعفات, مترنحا تحت ثقل الطبيعة البشرية الفاسدة الضعيفة والواهنة لمدة ليست بقليلة. في ص 99  " بأن إعلان قيامة الرب في فجر الأحد ليس إعلانا عن تحول العتيق إلى الجديد. بل هو كشف للجديد بعد زوال الحجاب ". وبهذا يبدأ محاولته في تدارك الصدمة التي ألصقت الفساد والضعف بالمسيح على مدار حياته كلها. ولهذا كانت المحاولة المطمئنة بأقرار وتأكيد . . عدم وجود عتيق يسوع الفاسد منفرداً, بل وجد أيضا وملازماً لعتيقه الجسد الجديد الطاهر, ولكنه كان مستتراً خلفه, وبهذا عمل الفاسد كغلاف للبار الطاهر, بالضبط كالورق المزركش المغلِف للهدايا, ننحيه جانباً لصندوق القمامة لتتبقى لنا هديتنا المُبتغاه, وبالمثل .. عتيق يسوع قد تم التخلص منه بالموت ليلتهمه العدم والفناء, ليتبقى لنا جديد يسوع المراد الحصول عليه, وهذا هو المنطلق الذي اكده المقال, بأن العتيق لا يتحول إلى جديد. بل ينتهي العتيق لمصيره المحتوم.

فهل يصلح لاهوتياً أحتواء الفاسد للطاهر؟ وليس فقط يحتويه بل استطاع أن يسود عليه ويستره ويخفيه! فهل من سيادة للفاسد على  كلي الطهارة والقداسة؟

سادساً: إلا أن هذا التدارك لم يكن كافياً لحل الإشكال, فحاول محاولة أخرى في ص 105 محاولة أكثر جراءة وصحة فقال: " في القبر لم يتحلل عتيق يسوع, كما نتحلل نحن الآن ليس لأنه القدوس الذي لا يرى فساداً, بل  لأن تحلل  الأجساد ما هو  إلا مرحلة من مراحل الموت, تلك التي تكتمل بالعدم والفناء, وهذا هو ما  اجتازه منتصراً جديد يسوع, ففي قبر يسوع نزل الكلمة المتجسد  إلى قاع الجحيم حيث نهاية الخليقة بانحلال عناصرها وفنائها ".

وبالرغم من تلك المحاولات التعديلية للمفاهيم, إلا أن المفهوم الأساسي باق كما هو بلا حراك أو تغيير, ألا وهو أن المسيح عاش متخبطاً مترنحاً تحت ثقل طبيعة ضعيفة فاسدة حتى أسلم جسده العتيق للموت بالصليب ليخرج إنسانه الجديد المستتر الى النور بالقيامة.

سابعاً: ناسوت المسيح  المنقسم - وهذا لأول مرة في تاريخ علم الأبائيات- إلى عتيق وجديد, في تشكيل منسجم لناسوت المسيح يسوع, ليعملان معاً في حياة الرب, وفجأة ينقلب هذا الأنسجام رأساً على عقب, ليتخلص الرب من عتيقه الفاسد بأماتته على الصليب, ليتحرر منه بالكامل ويظهر جديده فى القيامة. فهل نرتضى بنظرية حرق عتيق يسوع, لنظفر بجديده؟

ثامناً: عتيق يسوع يموت ويهلك بالصليب, والقيامة لا تستطيع إحياءه مرة أخرى,  ولأجل فشل القيامة في تغيير العتيق, لذلك تقوم القيامة بالكشف ليسوع عن جديده المخفى فيه طوال الوقت. الذي حمله في طياته وجنباته, ليظهر في ميعاد الظهور والمكاشفة, ليبدأ مرحلة جديدة للعمل, ليعلن عدم صلاحية استمرار العتيق الفاسد في العمل, ليتم التخلص منه بصفة دائمةً.

اذن عتيق يسوع - الذى دام معه حياته كلها- قد فشل في اجتياز الموت, لأنه مات ولم يعود, لأن الموت قد وقع على العتيق وحده, دون الجديد الغير قابل للموت, هذا ما ذكره المقال عن عدم امكانية موت الجديد فى صفحة 98, ولأجل هذا كانت القيامة  هي فرصة الجديد للظهور فقط لا غير. , لذا نستطيع أن نصف الصليب بأنه هو موت العتيق وإلى الأبد بلا عودة, والقيامة إعلان الكشف عن الجديد الفاخر, فالذى مات هو العتيق بلا أمل في إحياءه مرة أخرى,  والذي ظهر في القيامة هو الجديد الغير قابل للموت أصلا. إذن الصليب هو موت بلا قيامة, والقيامة ليس لها علاقة بالموت, فهى مجرد عملية كشفية للمخفي والمستور. إذن الذي مات بالصليب لم يقم بالقيامة. يتبع ……

سوستانيس

الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع المتجسد عن غير عمد ولا قصد ( 4 )  

 تاسعاً:  في ص 104 : " الكيان الجديد ليسوع, الكائن بفضل اتحاد الكلمة بالبشر, هو الذي قيل عنه لن تدع قدوسك يرى فساداً "، وماذا عن عتيق يسوع  إذن ؟ هل يترك للفساد بالرغم من اتحاد الكلمة به ؟ وكيف نقبل للكلمة  اتحادا أقنومياً بفاسد دون أن يُغيّره ؟ أم أن الكلمة قد أتحد بالجديد فقط. تاركاً العتيق فريسة سهلة للفساد؟ وإن كان  الاتحاد هو مع الجديد فقط, دون العتيق الفاسد. فما هو الهدف والغرض من أن المسيح يأخذ عتيق فاسد لا يتحد به ؟ هل لكي يميته فقط؟ وإن كان العتيق ليس له طريق ولا سبيل ولا مستقبل سوى الموت والفناء. فلماذا أخذه المسيح؟

العتيق الفاسد هو للموت والعدم والفناء, حتى لو لم يتحد به المسيح. فما هو عمل المسيح الخلاصى إذن ؟ المسيح هنا لم يصنع شيئاً ولا فضلاً ولا خلاصاً !!

فلنتأمل قليلاً … كيف نخلص وقد أشاحَ الله الآب بوجهه بعيداً عن ما يمثلنا في المسيح, ألا وهو عتيقنا الفاسد؟ بالطبع بحسب رأى المقال . وهل بالحق قد قيل عن الجديد فقط  ( لن تدع قدوسك يرى فساداً ) متجاوزاً بذلك العتيق؟!

فيرعى الله الآب جزءاً في المسيح, تاركاً جزءاً آخر من ابنه الحبيب للموت والفساد؟

وبهذا حرم العتيق من التغيير, بل وترك لفساده  الشخصي, ليموت ويفنى بالرغم من وجوده في اتحاد أقنومي, بمن لا يموت ولا يفنى. وهكذا نتأكد من عجز الله أن يطهر جسده الخاص – الذي قد أتخذه بنفسه – من الضعف, بينما الموت استطاع  أن يخلص الجسد من العتيق الفاسد, وبهذا صار الموت شريك أساسي وإيجابى في الخلاص, لأنه قد أمات العتيق الفاسد الضعيف الذي عجز الله بالقيامة عن تغييره, وهذا يُنشئ موضوعاً جديداً في اللاهوت العقيدي – وياله من موضوع جديد – هو … لاهوت الموت!!  

سوستانيس

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع المتجسد عن غير عمد ولا قصد  ( 5 )

 عاشراً:   فى ص 99 " قيامة الرب لم تنشأ في القبر, لأن القيامة هي دليل الاتحاد وثمرته, ولأن لاهوته لم يفارق ناسوته -لحظة واحدة ولا طرفة عين- فأن القيامة لم تكن إلا حدثاً متلازماً ومتزامناً للتجسد منذ أول لحظة له فى أحشاء العذراء ". لاحظ هنا – وهذا للأهمية القصوى – إن تلازم وتزامن فعل ونتائج القيامة لثمرة التجسد, حدث بطريقة فورية ومباشرة, منذ أول لحظة لاتحاد اللاهوت بالناسوت فى أحشاء العذراء. وبهذة المقولة الجميلة, .. انقلبت المفاهيم..  تماماً, .. لما سبق عرضه,.. وبهذة المقولة الرائعة أكد وأقر كاتبنا – بدون أن يدري – ببدء عمل الاتحاد الأقنومي فى المسيح يسوع إيجابياً, ليؤكد فاعليته منذ اللحظة الأولى  للاتحاد , لندرك أهمية عدم فصل فعل القيامة ونتائجها عن التجسد, بل والذي من خلاله – أي  الاتحاد الأقنومي– قد ذابت وتلاشت وأنتهت كل الفوارق الزمنية في كل الأعمال الخلاصية جملةً وتفصيلاً وأحداثاً, وبهذا قد أبَادَ وأنتصر المسيح يسوع المتجسد على الموت والفساد والزمن وضعفات الطبيعة البشرية الساقطة منذ اللحظة الأولى للاتحاد. وما أنتظر حتى الصليب والقيامة, ليتخلص ويتحرر هو شخصياً كيسوع المسيح المتجسد, من فساد وضعف وثقل طبيعتنا, لأنه ليس محتاجاً للخلاص مثلنا, لأنه رب الخلاص, الخالق والمخلص , ولهذا لا يصح أقرار الزمن كقياس, ... إذن لا فساد ولا ضعف في المسيح يسوع المتجسد, ولا حتى للحظةِ واحدةِ بعد  الاتحاد،  وإلا سقط  الاتحاد الأقنومي برمته, ويتحول لنوع آخر من الاتحاد, غير كونه أتحاداً أقنومياً جوهرياً. لأنه سيكون وقتها من المستحيل نعته بالأقنومي, إن تخلله ضعف أو فساد أو زمان أو مكان  أو تحديث أو نمو أو أي قياس من قياسات هذا الزمان الحاضر البائد. وهنا نذكر مقولة رائعة للدكتور جورج فى اثناء شرحه لعلاقة الزمن بأعمال المسيح هكذا : ( ما يستعلن في الزمان هو أزلي, ولكن يعطى فى الزمان للزمانيين ). وبهذة المقولة الدقيقة الواضحة الهدف, نستطيع أن نكرر ونؤكد بكل وضوح : بأن المسيح ليس فيه عتيق البتة, ولا ضعف ولا فساد ولا نمو ولا تحديث, نهائياً من بعد الاتحاد, ولا حتى للحظة واحدة ولا طرفة عين. فالمسيح ذو طبيعة ناسوتية واحدة غير منقسمة, جديدة بالتمام والكمال, وليس بها عتيقاً ضعيفاً أو فاسداً بالمرة. لأنه هو رب الجسد وخالقه.

أما ما قد فعله وأستحدثه خطأ الأنسان, للطبيعة الإنسانية, وما قد جلبه الإنسان على نفسه بنفسه, من خطية وضعف وفساد, فأنها مجرد أحداث عرضية غير أصيلة  في خلقة الإنسان الأولى, فالمسيح قد أتحد بأصل وجذر الإنسانية وجوهرها, وليس بمجرد أحداث عرضية من حياتنا, لأنه ليس من زرع بشر. وهذا هو ما يجعل  الإنسانية جمعاء, الماضية والحاضرة والمستقبلية, حاضرة دائماً أمام الرب, ولها مكان  فريد في يسوع المسيح المتجسد. لأنه إن سقط الاتحاد الأقنومي في غياهب ودهاليز قياسات الزمان الحاضر, سقطت العقيدة المسيحية كلها !! ومن هنا تأتي خطورة هذا المقال.. وللأسف بهذا الشرح صار الله عديم القدرة, يصاب بضعف وفساد, ولا يستطيع أن يخلص نفسه, ويظل ينكوي بنار ضعفه, سنوات تلو سنوات, منتظراً للموت ليخلصه, وينقذه بل وينقيه من الضعف والفناء والعدم. فيضاف إليه – أي لناسوته – أو ينمو هو إلى  تلك  الإمكانية المفقودة فيه, الغير موجودة فى أصل تجسده وجوهرية إتحاده الأقنومي. .. وإن صح هذا الشرح – الغير منضبط عقائدياً وأبائياً – وقتها يجب علينا أن نعلن بوضوح, سقوط الاتحاد الأقنومي في المسيح يسوع,  لأن الله ليس ضعيفاً ولا عاجزاً عن تطهير جسده, وتنقيته من الضعف والفساد والموت, الذى جلبه الإنسان. فهل أتحد الله بجسد فاسد وظل على فساده, وأتحد بجسد ضعيف وظل على ضعفه؟؟

   مجدي داود

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي ليسوع المسيح الكلمة المتجسد عن غير عمد ولا قصد ينبع من تبني قناعة مشوهة بخصوص مفهوم الاتحاد الأقنومي ذاته ، وفي هذا السياق استدل بالاقتباس التالي لأقوم بالتعليق والتدليل على هذا الطرح :

اقتباس:  " إذن لا فساد ولا ضعف في المسيح يسوع المتجسد, ولا حتى للحظةِ واحدةِ بعد الاتحاد، وإلا سقط الاتحاد الأقنومي برمته, ويتحول لنوع آخر من الأتحاد, غير كونه أتحاداً أقنومياً جوهرياً. لأنه سيكون وقتها من المستحيل نعته بالأقنومي, إن تخلله ضعف أو فساد أو زمان أو مكان أو تحديث أو نمو أو أي قياس من قياسات هذا الزمان الحاضر البائد. وهنا نذكر مقولة رائعة للدكتور جورج فى اثناء شرحه لعلاقة الزمن بأعمال المسيح هكذا : ( ما يستعلن في الزمان هو أزلي, ولكن يعطى فى الزمان للزمانيين ). وبهذة المقولة الدقيقة الواضحة الهدف, نستطيع أن نكرر ونؤكد بكل وضوح : بأن المسيح ليس فيه عتيق البتة, ولا ضعف ولا فساد ولا نمو ولا تحديث, نهائياً من بعد الاتحاد, ولا حتى للحظة واحدة ولا طرفة عين. فالمسيح ذو طبيعة ناسوتية واحدة غير منقسمة, جديدة بالتمام والكمال, وليس بها عتيق ضعيف أو فاسد بالمرة. لأنه هو رب الجسد وخالقه ".  

تعليق

أولا – مصطلح  " الاتحاد الأقنومي " يمكن أن ينظر إليه من زاوية معينة بأنه ليس خصيصة إلهية أعلنها فعل التجسد ، أي نسبة إلى "الأقنوم " ، فالاتحاد الأقنومي يعني  " الاتحاد الشخصي " ، أي الاتحاد بين عنصرين مختلفين في كيان شخصي جديد ذي هوية واضحة يستعلنها كل عنصر بوضوح يستوعب الشخص كاملا ، هذا في المطلق . والمثال الأكثر وضوحا هو ما قد استخدمه القديس كيرلس السكندري إذ استعان بنموذج شخص الإنسان كثمرة انتجها " الاتحاد الأقنومي "  الشخصي " بين النفس والجسد ، والشخص الإنساني هو نفس " إنسانية " بذات القدر الذي هو عليه كجسد " إنساني " ، ونفسه تستوعب جسده بنفس القدر الذي يستوعب به جسده نفسه ، ولحظة الردة إلى فصل النفس عن الجسد هي لحظة إنهيار الاتحاد الإقنومي الإنساني بزوال الشخص ، الأمر الذي نطلق عليه مصطلح  " الموت ". أما بالنسبة لتدبير التجسد فقد كشف عن اتحاد أقنومي عجيب بين  " لاهوت الكلمة  " و " الطبيعة الإنسانية "، الأمر الذي أثمر شخصا هو الإله الكامل بنفس  القدر الذي هو عليه كإنسان كامل .

ثانيا- كمال ألوهية يسوع الكلمة المتجسد -  المتجلي في شركة المجد التي أتيحت للإنسانية فيه بعدم الموت والخلود ، أي الشركة في الطبيعة الإلهية والتأله – لا يتناقض مع قبوله لعارنا المتأصل في عتيقنا أي الموت .فقد أعطانا الذي له أي الحياة بعد أن أخضع ذاته للذي لنا أي الموت وحينما التقاه قهره ودحره مظهرا ماله ، الذي أصبح لنا ، أي الحياة .وحينما يقال : " بأن المسيح ليس فيه عتيق البتة, ولا ضعف ولا فساد " فلدينا سؤال : أين إذن التقى الرب بالعدو ليبيده ؟ والسؤال بطريقة أكثر سهولة ووضوحا : ما علاقة كل هذا بنا ؟ إذا لم يكن بيسوع الكلمة المتجسد ما يمت لعتيقنا ولا لضعفنا ولا لموتنا بصلة فما جدوى التجسد ولمن  "غيرنا  " وهب الخلاص ، إذا كان قد حدث خلاص لأحد ؟

ثالثا- الخلط بين الفكرة الفلسفية اللاهوتية الرائعة – بأن ما يخص تدبير الخلاص أمر محسوم في ذهن الله قبل الأزمنة وهو يعطى في الزمان للزمانيين – وبين الواقعية الزمانية المكانية لأحداث الخلاص ، هذا الخلط يثير تشويشا وتشويها للذهن ، والقضية ببساطة هي أن الله الكلمة ، منذ الأزل، قد دبر أمر تجسده لخلاص البشر ، وقد بات في ذهنه أمرا محسوما لاجدال فيه وواقعا قائما خارج الزمان والمكان ، ولكن بإرادته قد أخضع ذاته للزمان والمكان فقبل أن يكون له بداية في الزمان وقبل أن يستوعبة مزود البقر، وحينما أخضع ذاته للزمان رآه الزمانيون طفلا ضئيلا ينمو ويزداد في القامة ، يأكل ويشرب ويتعب ويبكي ويتألم … ويموت . لم يكن هذا المسار وهما بل مسار بشر ، مثل سائر البشر، رصده تاريخ البشر ، ولكنه فيما كان يجتاز تاريخ البشر فقد أعد في ذاته مسارا آخرا يأخذ فيه البشر هو تاريخ الله أي الحياة الأبدية . إن محاولة تبرئة وتطهير المسيح من عار " العتيق  " هي محاولة تجريد الإنسان من نعمة الخلاص التي نالها حينما حل الكلمة في الجسد حاملا عار العتيق الفاسد بالطبيعة ، هذا عن ضياع النعمة ، أما فيما يخص الخريستولوجي فالأمر جد كارثي فقد أصبح الأمر ظاهريا تمثيليا أو ربما نحن بصدد إنتاج جديد للأوطاخية .

مجدي داود

 إن محاولة تبرئة الرب من " عار العتيق  " تكشف في الواقع خللا مشينا في فهم الاتحاد الأقنومي الذي أثمر شخص يسوع ، الكلمة المتجسد، ومضمون هذا الخلل هو افتراض مأساوي بأن الشخص بكامله قد اختزل في هذا العتيق الفاسد بالطبيعة فأصبح مركز الشخص الإنساني ليسوع هو طبيعتنا نحن وعليه فهذا أمر مشين ولا يليق بالكلمة المتجسد . وربما يكون هناك أفتراض أكثر مأساوية وهو أن الاتحاد الأقنومي قد فهم على أنه نوع من المصاحبة بين لاهوت الكلمة وطبيعتنا العتيقة وهذه هي النسطورية في أوضح تجلياتها . إذن الحقيقة التي تدحض هذه الخرافات هي أن الشق الإنساني الذي يستعلن مجد الشركة في ألوهة الكلمة – بل ويستعلن لاهوت الكلمة كاملا ، كإنسان وكإله في ذات الكيان الواحد  – هو مركز الشخصية الإنسانية ليسوع ، وهذا هو ما أصر على تبنيه من أنه لا مضمون حقيقي لمفهوم الاتحاد الأقنومي بين الله الكلمة والإنسان مالم تكن منطقة الاتحاد هي الجديد الذي يستعلن مجد تأله الإنسان الذي ظهر بمجرد تجسد الكلمة وظهوره بيننا كفرد من بني جلدتنا . أما العثرة التي تعترض فهم هذا الطرح فهي " علاقة الجديد بالعتيق  " ويبرز السؤال هل هناك ازدواجية في الرب بين كيانين ، جديد منتصر على الموت بفضل الشركة في الكلمة وعتيق ينتظر مصيره الذي هو مصيرنا وحينئذ يتكشف المشهد عن الجديد المستتر ؟ وللإجابة على السؤال سأخرج عن الصندوق لأضع أما القارئ مقولة الرسول بولس: " وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوما فيوما "( 2كو: 16)، ولي أن أسأل هل توجد ازدواجية مهددة للكيان الواحد للقديس  الذي يتكرس فيه الكيان الجديد يوما فيوما إلى الوقت الذي يولد فيه لملكوت السموات بينما يتوارى العتيق الظاهر في جوف الثرى ؟ وإن كنا نحن الذين صارت إلينا النعمة نتقبل أن تتأله طبيعتنا بواسطة الشركة في جسد المسيح الكلمة المتجسد ، فينتقل إلينا مجد شركة الإنسان يسوع في لاهوت الكلمة الكائن فيه فنصير به وفيه – كرأس لوجودنا الجديد –  مشتركين في مجد حياة الكلمة  ، الأمر الذي يحدث لنا تراكميا في مسار النعمة التي تتعامل مع زمن وجودنا على الأرض، أفهل من الواجب أن نعتقد أن الرب قد ظل – مثلنا – وهو في زمن وجوده على الأرض  – يتقبل تجديدا تراكميا إلى أن أعلن جديده في فجر الأحد ؟  أم أن فعل القيامة قد اقتحم القبر تعسفيا ليقيم الميت كما أقيم لعازر ؟ والواقع أن كل من الاحتمالين لا صحة له فالاتحاد الأقنومي الذي أثمر شخص يسوع ليس حدثا تراكميا بل حدث نوعي تم بسر عجيب ، إذ ظهر الكلمة في الإنسان في وحدة بلا تغيير ولا تبديل ولا قابلية  للمفارقة ولا ذوبان ولا اختلاط بين العنصرين المستعلنين للشخص الواحد ، بل ظل العنصران في حالة من  الحلول المتبادل ، ألوهة الكلمة المتجسد تستوعب إنسانيته بنفس القدر الذي تستعلن به إنسانيته ألوهته , والسؤال هو هل يستطيع اللحم والدم أن يستوعب ألوهة الكلمة ويستعلنها أم أنه كان حجابا لذلك الجديد الشريك في مجد الكلمة والذي يستعلن ويستوعب ألوهة الكلمة ؟ والبديهي هو أنه بينما كان الكلمة المتجسد ظاهرا بيننا كإنسان من طبيعتنا لم يكن كيانه البيولوجي الظاهر يمثل محدودية مكانية أو زمانية للاهوت الكلمة بل ظل كما هو مالئا الكون وحاضرا فيه ومسيرا إياه بفضل هذا الحضور ، بل والأكثر من ذلك هو أنه ظل  كما هو حاضرا حضوره السرمدي في أبيه الذاتي . هذه بديهية لاهوتية بطبيعة الحال ولكن الحلقة المفقودة في هذه المنطقة هي أن الكلمة حينما اتخذ لذاته كيانا إنسانيا فقد أصبح هذا الكيان هو جسد الكلمة الخاص الذي يستعلن لامحدودية طبيعته ، فحيثما يوجد الكلمة يوجد جسده الخاص ، وهذا  يقودنا إلى مفهوم " المسيح الكوني  " ، فجديد يسوع ليس مجرد ذلك الميت العائد للحياة في فجر الأحد بل هو ذلك الرأس الذي يلملم باقي أعضاء جسد ضخم يفترش زمان ومكان الكون حتى لحظة نهاية الكون التي يستعلن فيها امتلاء كيان شخص اسمه "المسيح " هو ثمرة الكون التي نبتت فيه بعدما زرع الكلمة ذاته فيه  بتجسده. فالشخصية الكونية للإنسان يسوع المسيح هي الحلقة المفقودة في الفكر الخريستولوجي ، وهذا الكيان قد صار هكذا ، أي على حقيقته الكونية ،حينما اتخذ الكلمة لذاته كيانا من الكون – هو  بطبيعة الحال قمة هرم الوعي الكوني ، أي الإنسان – فاستقطب الكون ممثلا في الإنسان في المسيح ليصبح كونا جديدا يطلق عليه مصطلح " ملكوت السموات "، وعندما أسلم الرب عتيقه البالي ، الذي لنا ، إلى مصيره الذي هو مصيرنا أي العدم ، مات الرب موت الكون كله مكملا إياه وفي نفس الوقت لم يستطع الموت أن يقترب من جديده الكوني الكائن في وحدة أقنومية مع الكلمة ، ليعلن القيامة كحقيقة كونية في المسيح يسوع.

 سوستانيس

 الخوف من إسقاط الاتحاد الأقنومي فى المسيح يسوع المتجسد

عن غير عمد ولا قصد  (6)

 عزيزنا فى الرب

بدايةً … أوضح تقديرنا وتفهمنا العميق لما تفضلت به, والذي استغرق منا قراءة متأنية متفهمة, لنصل إلى أغوار المراد والهدف, الذي بدا لي منذ اللحظة الأولى, تعارضه الواضح مع ما قدمه القديس كيرلس الكبير, من شروحات لناسوت المسيح بكلمات وتعبيرات واضحة جلية,  ..

أولاً: حَاولت تخليص مفهوم مصطلح (  الاتحاد الأقنومي ) من خصوصيته الإلهية, لتُعمم أستخدام المصطلح بخفة ورشاقة, ليشمل أيضاً خلقة الأنسان الأولى بعيداً عن المسيح, فتقوم بوصف علاقة روح الإنسان بجسده, على إنها أتحاداً أقنومياً أيضاً, ونحن هنا لا نبحث فى صحة التعبير منطقياً وعقلياً, لأن ما يهمنا هو الجانب الأبائى اللاهوتي, فبهذا التعميم الغير دقيق أبائياً, يتضح لنا الهدف المراد توصيلنا إليه, وهو إمكانية السماح للإنسان بحالته المزرية من الفساد والنقصان, أن يتسلل إلى الاتحاد الأقنومي فى المسيح يسوع حتى يصل إلى اعماق جوهر الله, بفساده وضعفه دون تجديد وتغيير, إلا أن الأباء لم يستخدموا هذا المصطلح أثناء شرحهم لعلاقة روح الإنسان بجسده. فهل هناك من شرح وتوصيف لاهوتي من الأباء الكبار لعلاقة روح الإنسان بجسده في خلقته الأولى على  أنه أتحاد أقنومي؟!

 ... أما عن المثال الذى قدمه القديس كيرلس الكبير فهو مجرد مثال توضيحي غير مباشر, أُستخدمَ للتقريب فقط, لكي يتراجع كلً من أعتقد بعدم الانسجام بين اللاهوت والناسوت, كطرفين متناقضين متضادين في أتحاد أقنومي فريد, ليس للمؤمنين خبرة عملية به, فأضطر القديس تشبيه ذلك بأنسجام روح الإنسان مع جسده, ولم يتعرض القديس لأي شرح إيجابى يصف من خلاله علاقة روح الإنسان  بجسده, على أنها أتحاداً أقنومياً على غرار ما تم في المسيح يسوع المتجسد, لأنه ببساطة لم يكن يتحدث عن جسد الإنسان وروحه, ليظل مصطلح (  الاتحاد الأقنومي ) ذو خصوصية إلهية خاصة بالمسيح يسوع المتجسد فقط.  

  مجدي داود

 الحبيب / سوستانيس

كلمة أقنوم عند القديس كيرلس تعني  " الشخص  " وتعني  " الطبيعة الحية ذات الهوية الخاصة  " والاتحاد الأقنومي هو  " الاتحاد الطبيعي " القائم بين طبيعتين مختلفتين ، أو أقنومين مختلفين ، ليثمر طبيعة جديدة وهوية جديدة وأقنوم جديد لم يكن موجودا من قبل الاتحاد.

نموذج الشخص الإنساني عند القديس كيرلس

أعتقد بأن عبقرية نموذج الشخص الإنساني- الذي استخدمه قديسنا العظيم كمرجعية للحديث عن الاتحاد الأقنومي الكائن في شخص الكلمةالمتجسد- هي أنه لم يكن مجرد نموذج توضيحي بل بالقطع كان نموذجا تطبيقيا " applied model " لحالة الاتحاد الأقنومي ، أو قل " الشخصي " الذي يقيم شخصا حيا واحدا باتحاد عنصرين مختلفين بغير ثنائية أو ازدواجية أو اختلاط أو أي أثر تغييري لعنصر على الآخر. فالشخص الإنساني – الذي نحن إياه – هو النفس الإنسانية العاقلة المستعلنة والواضحة بجلاء شديد في الهيكل البيولوجي المرئي في صيغة اللحم والدم . والشخص الإنساني – الذي نحن إياه – هو أيضا ذات الهيكل البيولوجي الذي تعبر صيغته عن النفس الإنسانية العاقلة بجلاء شديد . لا انقسام ولا ثنائية ولا فصل يمكن رصده ماديا بين النفس والجسد ، فكل من العنصرين ينتمي إلى الآخر ، فالنفس هي نفس الجسد والجسد هو جسد النفس ، وفي ذلك يقول قديسنا العظيم :

- " لأن من المعروف أن الجسد من طبيعة مختلفة عن النفس، لكنه جسد النفس، ويُكمّل أقنوم الإنسان الواحد. ورغم أن الفرق المذكور بين النفس والجسد ليس غامضاً فى عقلنا وتفكيرنا، إلا أن إجتماعهما معاً أو تقابلهما - لأنه ( أي الإجتماع ) غير مُقسّم (غير منفصل) أي كون إنسان واحد حي.  ( رسالة القديس كيرلس الكبير رقم 50 إلى فاليريان أسقف أيقونية- 6 ).

- ويقول أيضا  :"  ولكن الكلمة إذ اتحد بالجسد بحسب الطبيعة دون أن يتغير إلى جسد، فإنه حقق حلولًا مثلما يقال عن حلول نفس الإنسان في جسدها الخاص ( الرسالة رقم 17، الثالثة إلى نسطور- 4 ) .

- وأيضا: " إن الله والإنسان بإجتماعهما معاً by coming together لم يكوّنا المسيح الواحد - كما يقولون - بل، كما قلت، أن الكلمة الذي هو الله فعلاً تشارك في الدم واللحم مثلنا ليعرف أن الله تأنس وأخذ جسدنا وجعله خاصاً به، لكى- تماماً كما هو معروف أن أي إنسان مثلنا يتكون من نفس وجسد- كذلك هو أيضاً يعترف به أنه واحد، إبن ورب معاً. " رسالة القديس كيرلس رقم 50 إلى فاليريان أسقف أيقونية (5 ) 

- وأيضا:  ".. إذا دعونا ابن الله الوحيد الجنس المتجسد والمتأنس، واحدًا، فهذا لا يعنى أنه امتزج كما يظنون؛ فطبيعة الكلمة لم تتحول إلى طبيعة الجسد. ولا طبيعة الجسد تحولت إلى طبيعة الكلمة، لا، بل بينما ظل كل عنصر منهما مستمرًا في صفته الطبيعية الخاصة، للسبب الذي ذكرناه، متحدًا بطريقة سرية وفائقة لأي شرح، ظهر لنا في طبيعة واحدة (لكن كما قلت طبيعة متجسدة) للإبن. وعبارة "واحدة" لا تطبق بالضبط على عناصر مفردة أساسًا لكن لكيان مركب مثل الإنسان المركب من نفس وجسد. فالنفس والجسد، هما من نوعين مختلفين ولا يتساويان أحدهما مع الآخر في الجوهر، إلا أنهما في اتحادهما يؤلفان طبيعة الإنسان الواحدة، على الرغم من أن الاختلاف في عناصر الطبائع المتحدة موجود في حالة التركيب. ، )الرسالة 46 من القديس كيرلس إلى سكسينسوس- 3 .

- وأيضا :  " فلنأخذ مرة أخرى مثال الإنسان العادى. إننا ندرك أن هناك طبيعتين في هذا الإنسان، إحداهما هى النفس والأخرى هي الجسد. ولكننا نقسمهما في الفكر فقط، قابلين الاختلاف ببساطة على أنه في البصيرة الداخلية والإدراك الذهنى فقط، فنحن لا نفصل الطبيعتين، ولا ننسب إليهما قدرات على الانفصال الجذرى، لكننا ندرك أنهما ينتميان إلى كائن حى واحد حتى أن الاثنين لا يعودوا بعد اثنين، والكائن الحى الوحيد يكمل من طبيعتين". ( الرسالة 46، إلى سكسينسوس-5) .

- وأيضا: "… لأن المسيح الواحد الوحيد ليس فيه ثنائية رغم أننا نعتبره من عنصرين مختلفين إتحدا في وحدة غير منقسمة، وبنفس الطريقة فإننا مثلًا لا نعتبر أن في الإنسان ثنائية مع أنه يتكون من عنصرين هما النفس والجسد. ( الرسالة رقم 17 ، الثالثة إلى نسطور - 8 ).

 وإذا كان لديك حساسية معينة من ناحية المصطلح فترى أنه خاص جدا بالكلمة المتجسد  وينبغي أن يقتصر عليه فقط ، أفترى  أنه ينبغي  أيضا أن يقتصر عليه مصطلح  مثل " الاتحاد الطبيعي  " ؟ أرجوك أعد قراءة النصوص التالية دون استنطاق للآباء ، فقط الاستنتاج المنطقي الهادئ :

 " من يقسم بعد الاتحاد المسيح الواحد إلى أقنومين، ويربط بينهما فقط بنوع من الاتصال في الكرامة، والسلطة والقوة، والمظهر الخارجى، وليس بالحرى بتوحيدهما في اتحاد طبيعي، فليكن محرومًا " ( الحروم الإثنى عشر ، 3 – الرسالة رقم 17 ، وﻫﻲ  اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ إلى ﻧﺴﻄﻮر  ).

- "   من ينسب الأقوال التي في البشائر والكتابات الرسولية، أو التي قالها القديسون عن المسيح أو التي قالها هو عن نفسه إلى شخصين أو أقنومين، ناسبًا بعضها للإنسان على حده منفصلًا عن كلمة الله، وناسبًا الأقوال الأخرى، لكونها ملائمة لله، فقط إلى كلمة الله الآب وحده، فليكن محرومًا "( الحروم الإثنى عشر،4 ، الرسالة رقم 17 ، وﻫﻲ  اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ إلى ﻧﺴﻄﻮر).

 " إن طبيعة الإنسان يُعترف بها أنها واحدة، وأنها أقنوم (هيبوستاسيس hypostasis ) واحد، حتى بالرغم من أنه معروف عنها أنها ( مكونة ) من عناصر مختلفة متباينة الأنواع،.".( رسالة القديس كيرلس الكبير رقم 50 إلى فاليريان أسقف أيقونية – 6  ).

وأما عن سؤالك : هل من مرجعية لكيرلس أو لأثناسيوس تفيد أن الإنسان " يتمتع  " بالاتحاد الأقنومي بين جسده ونفسه ؟ والإجابة بالتأكيد لا ، وفي الواقع نحن لسنا في احتياج إلى أثناسيوس أو لكيرلس كمرجعية في هذه النقطة تحديدا ، وإن كانت النصوص التي أوردتها عن كيرلس تحت عنوان " نموذج الشخص الإنساني عند القديس كيرلس " تكفي لهذا  الغرض، ولكن أعود فأكرر أننا لسنا محتاجين لكيرلس أو لأثناسيوس ليقرر أن الإنسان ، أي إنسان ، هو شخص . وفي مفهوم الشخصانية- وليس طبيعة الشخص – يتساوى الإنسان ، أي إنسان مع الكلمة المتجسد   " كشخص " . يسوع شخص ، وأي إنسان في أي زمان وأي مكان وأي ملابسات هو شخص .ليست القضية هي " شخصانية الشخص ، ولكنها " طبيعة الشخص وهويته  " . لذلك ليست المشكلة هي " الاتحاد الأقنومي " ولكنها   " الاتحاد الأقنومي بين ماذا وماذا، ليثمر ماذا ؟ ". بين أي جوهرين  ، أو أقنومين قد تم هذا الاتحاد الأقنومي ؟ وبالتالي لدينا الفرق اللانهائي بين الاتحاد الطبيعي بين النفس والجسد الذي يثمر الإنسان، و بين الاتحاد الطبيعي بين الكلمة والإنسان الذي يثمر شخص الرب يسوع المسيح .

 مجدي داود

 لكي يكون مصطلح " الاتحاد الأقنومي  " ذا تعريف جامع مانع ،لابد أن يكون لدينا القناعة بوجود حتمية منطقية لاهوتية وهي أن النسب اللغوي في كلمة "

الأقنومي" إنما يعود إلى  " الأقنوم  " ، hypostasis ، في المفهوم العام للكلمة  وليس إلى أقنوم الكلمة تحديدا ، فنسب الأقنومية إلى أقنوم الكلمة يحدث تفريغا تاما لمصطلح الاتحاد الأقنومي من مضمونه الذي نحت من أجله ، إذ  أن مفهوم الاتحاد قد انفتح على كل أنماط الاتحاد التي تحقق  " مجرد " اتحاد الكلمة بالجسد ، وقد يدخل – على سبيل المثال –  " تأله الإنسان  "  كنموذج لمثل هذا النوع من الاتحاد ، الذي فيه يحتفظ  الكلمة بلا محدوديته وفي المقابل ينال البشر وجودهم الجديد عديم الفساد بفضل اشتراكهم في الكلمة بعضويتهم في جسد المسيح ، هكذا ، في مثل هذا الاتحاد تحتفظ كل طبيعة باستقلالها، ويظل الكلمة هو معطي الحياة للمشتركين فيه ويظل البشر بشرا محدودين يتقبلون النعمة وفقا لما يشبع وجودهم الإنساني . مثل هذا النمط من الاتحاد من الممكن أن ينطبق عليه مصطلح الاتحاد الأقنومي إذا افترضنا أن الاتحاد الأقنومي هو اتحاد أقنوم الكلمة بالانسان ( فقط ). أما إذا كانت كلمة  " الأقنومي " توصيفا للاتحاد ذاته ، فالأمر جد مختلف إذ أصبح لدينا منعة ضد أي نمط من أنماط الاتحاد بخلاف الاتحاد الذي يثمر شخصا واحدا بلا ازدواجية وبلا ثنائية .

إن نسطور ذاته قد أدرك وفهم المضمون الحقيقي لمصطلح الاتحاد الأقنومي ، ولذلك قد رفضه حتى النهاية لأنه كان يؤمن بطبيعتين مستقلتين وليس ب " طبيعة واحدة متجسدة للكلمة  " ( بحسب كيرلس وآباء أفسس ) . ولو كان للمصطلح مجرد مفهوم اتحاد أقنوم الكلمة مع الإنسان - دون أن يكون لكلمة أقنوم ذلك المفهوم المانع لأي نوع من الاتحاد غير الاتحاد الشخصي ( الطبيعي )، لو كان الأمر كذلك لقبله نسطور من أول جولة من جولات الصراع مع كيرلس ، لينتهي الأمر ، وربما أصبحنا نحن من النساطرة !