الخميس، 31 أكتوبر 2019

مجيء الرب ( 3 )

                      
                        
                         

                       محددات المفهوم 


 هذه زبدة المقالتين السابقتين وقد تمت صياغتها كمحددات للمفهوم والتي بالنظر إليها مجتمعة نتمكن من الاقتراب المستنير من مفهوم مجيء الرب.                   
       1- الفرق بين الربوبية والألوهية
   ليس من باب الحصافة اللاهوتية أن نخلط بين الربوبية والألوهية؛ فالله الكلمة لم يصر" ربا " إلا عندما صار خالقا؛ أي أصبح له مربوبون يعتني بهم، ولم تستعلن ربوبيته في كمالها إلا بالتجسد ، الحدث الذي فتح دعوة وفعلا كونيا -  يمتد حتى نهاية التاريخ - لمجيء كل المربوبين ليستقروا في كيانه العجيب. الربوبية ترتبط بالنعمة وهذا يختلف تماما عن مفهوم الألوهة الذي يشير إلى الوجود الإلهي الكائن خارجا عن إطار النعمة. ومن هذا المنطلق ، نستطيع أن ندخل إلى مفهوم " مجيء الرب " ؛ فالمجيء ، أو " الحضور" ليس حضورا للاهوت ؛ إذ أن الحضور المجرد المطلق ، لله ، لامعنى له خارج " الثالوث القدوس ".  الله لايحضر بطريقة مطلقة إلا في ذاته . أما التجسد ، فهو ليس " حضورا للاهوت العاري " ، ولكنه حضور للكلمة المتجسد.  يسوع التاريخي هو مركز دائرة الربوبية ومنبعها ، وما أن تبلغ هذه الدائرة أقصى اتساع لها ، باستيعاب كل أفراد الكنيسة ، حتى ويستعلن كمال مفهوم " الربوبية "، أي " اكتمال مجيء الرب" . وإذا كان " البعد الكيفي " للربوبية قد بلغ قمته وسقفه  في الرب يسوع ، فإن البعد الكمي لمجيء الرب  إنما يتم استيفاؤه الآن في الزمن المقرر له والذي يبدأ منذ لحظة يسوع وحتى لحظة نهاية العالم.
         2- ابن الإنسان
   " مجيء ابن الإنسان " صيغة إنجيلية أخرى لمفهوم مجيء الرب، وتتجلى الرؤية البانورامية للحدث في ذلك المشهد الكلاسيكي لمجيء ابن الإنسان على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ثم يرسل ملائكته فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح . والمشهد يذكرنا على نحو ما بالتبادلية الظهورية العجيبة بين ابن الإنسان وبني العلي في رؤيا دانيال ، فيبدو حدث مجيء الشخص معادلا لحدث تجميع المختارين ، فمجيء شخص ابن الإنسان كاملا وممتلئا يعني مجيء ملء هذا الشخص أي كنيسته ( مختاريه ). سحاب السماء بطبيعة الحال هو الروح القدس الذي يحقق وجود الكنيسة مصورا المسيح فيها ، ناقلا إلى كل أعضائها ثمر استحقاق سر التجسد النابع من رأس الكيان يسوع. يمتد كيان جسد الرب يسوع في مسار  يهيمن عليه الروح القدس، هو  مسار الكنيسة في زمن مابعد التجسد ، إلى أن يكتمل بناؤها . هكذا يكتمل مجيء ابن الإنسان بقوة الروح القدس هكذا يجيء على السحاب . لذلك فإن زمن مجيء ابن الإنسان ( يوم الرب ) ليس لحظة تاريخية يمكن تسجيلها بل هو مجال زمني يستوعب زمن مابعد التجسد كاملا. ابن الإنسان ليس مجرد شخص الكلمة الصائر إنسانا بل شخص الكلمة الصائر الإنسان، كل الإنسان، كل أفراد الجنس البشري الجديد؛ فالكلمة الصائر إنسانا هو يسوع التاريخي، أما ابن الإنسان فهو الكيان الكامل، الذي يسوع رأسه. الرب ( الذي يجيء ) هو المسيح ( الشخص الآتي )، هو ابن الإنسان ( الآتي على سحاب السماء )، هو الكيان الذي يتكمل ويمتلئ الآن، انطلاقا من لحظة ظهور يسوع التاريخي وحتى لحظة نهاية التاريخ.
       3- الرصدية المستحيلة
   ولأن شخض الرب الذي يجيء هو شخص كل الزمان وكل المكان فحدث مجيئه لايمكن رصده وبحسب قول الرب : " لايأتي بمراقبة " وهو شخص لايمكن أن ينطبق عليه القول : " هوذا ههنا أو هوذا هناك " ؛ فهو شخص لا يمكن لعين طبيعية أن تراه ولا لمكان طبيعي أن يحتويه ولا للحظة تاريخية أن تسجل اكتمال مجيئه. وحدث مجيء الرب لا يمكن رصده لعدة أمور : الأمر الأول طبيعة زمن الحدث ؛ فهو الزمن الآني الذي يفترش كل التاريخ حتى نهايته، وبالتالي إذا افترضنا جدلا وجود لحظة تاريخية من الممكن أن يرصد من خلالها اكتمال مجيء الرب فلابد أن تكون لحظة مابعد نهاية التاريخ ونهاية الزمان والمكان ، وهذا تناقض وعبث غير مقبول. ولكن حل اللغز قد يكون في رصد الحدث من خلال لحظة غير تاريخية ، أي لحظة مابعد انهيار  الزمكان ، لحظة اسخاطولوجية ، وهذا ماكشفه الرائي حينما كتب : " هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ " ( رؤ1: 7  ). والرصدية المستحيلة - التي نتحدث عنها  - هي مايخص الشطر الأول " يأتي مع السحاب "، حيث زمن المضارعة والآنية المستمرة للحدث الواحد الذي يستوعب كل التاريخ، أما الشطر الثاني - حيث الزمن المستقبلي ( ستنظره كل عين )- فيخص الرصدية الاسخاطولوجية ، رصدية مابعد التاريخ . والأمر الثاني الذي يؤدي إلى عدم إمكانية رصد حدث مجيء الرب هو طبيعة الراصد ؛ فالمفترض أن يتمثل الراصد في أعضاء الكنيسة الذين ينتظرون مجيء الرب، ولكن هذا أيضا مستحيل فهم ضالعون في الحدث وفي الحركة؛ إذ أن " ملكوت الله داخلهم " ، وراصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة، أما هم فكل منهم "جزء من كل "بالنسبة للشخص الآتي فيهم، ومن غير الوارد أن أيا منهم يستطيع في وجوده الطبيعي الآني أن يرصد مجيئا لشخص لم يكتمل بعد . هذا وضع الذين للرب هنا في هذا العالم أما في مايخص حياة الدهر الآتي فالوضع إذذاك  لايقبل المقارنة، حيث الجميع ملكوتا واحدا ، مسيحا واحدا ، إدراكا واحدا ورؤيه واحدة للشخص الواحد الذي يضمهم .وأما الأمر الثالث الذي يمنع إمكانية رصد الحدث فهو طبيعة الشخص؛ فالرب الآتي ليس فردا مستقلا، من الممكن أن يأتي ويذهب في المكان، أو  يرصد حضوره في لحظة تاريحية معينة ، فهو كيان جماعي، كاثوليكي ، يتكمل ويمتلئ عبر التاريخ كله، هو منتج كل الزمان وكل المكان. وأما اللحظة التي ينضم فيها آخر عضو إلى كيان الرب فهي اللحظة التي يكتمل فيها كل ماهو مرجو من التاريخ، وإذذاك   يتخلى الكلمة عن الكون ليعود ثانية إلى العدم. ولذلك فإن الرصد الافتراضي- المستحيل - لمجيء الرب في لحظة تاريخية معينة هو رصد لحدث ناقص ولكيان لم يكتمل ؛ فلارصد لتمام حدث مجيء الرب إلا في حياة الدهر الآتي .
     4- كونية مجيء الرب
    المسيح ، ليس شخصا تاريخيا ، تقاطع مع  الزمان والمكان في الكون ، في لحظة زمنية وفي مكان معين ، بل هو محور حركة وجود الكون . وهذه المحورية تتجلى على صعيدين، الأول محوريته كفاعل ، في الكون إذ بحضوره قد ظهر الكون ، وبحضوره  يتطور الكون في مساره المرسوم ، وفقا للقوانين الطبيعية ، التي هي ، في حد ذاتها ، تكشف صورته كشخص اللوغوس الفاعل والمسيطر والمعلن ذاته. والثاني محوريته كمستهدف ( بفتح التاء )، من وجود الكون. حضور شخص الكلمة ، كفاعل ، فى الكون الطبيعى هو حضور مؤقت ، وباستمراره، يستمر وجود الكون الطبيعي، ولكن الخبر السار،  هو أن شخص الكلمة الحاضر في الكون الطبيعي ، قد صار - بتجسده - بكرا للكون الجديد ، عديم الفساد وعديم الموت ، صار رأسا للإنسانية الجديدة الممتدة في الزمان والمكان. هوية شخص المسيح هوية مركبة ممتدة عبر الزمان والمكان، في حدث إفخارستي كوني يمتد من الرأس يسوع إلى الأعضاء كافة. وبهذا المخاض الكوني يولد الكون الجديد ويتحقق المسيح الكوني. ليس لوجود الكون هدف غير إنتاج شخص المسيح الكامل المستوعب للكنيسة. هذا هو الكون الجديد . هذا هو الأرض الجديدة والسماء الجديدة. هذا هو ملكوت السموات . هذا هو المسيح الكوني . انطلاق الكون واستمراره، حتى تلاشيه ، حدث يمثل غاية كونية واحدة . أنافورا واحدة يصعدها خادم كوني واحد . حدث يستهدف منتجا كونيا واحدا هو المسيح الواحد. المسيح الكوني هو الشخص الذي يتحقق مجيئه الآن في الليتورجيا الكونية . والمسيح الشخص الآتي ليس فردا مستقلا منعزلا بل هو الكون الجديد الذي يطلق عليه ملكوت الله، والرب حينما قال لكنيسته : " ملكوت الله داخلكم" لم يكن يشير إلا إلى حضوره في كنيسته وحضور كنيسته فيه .
     5- الوجود المتبادل بين الرب والكنيسة
  ولأن كل شخص ينتمي للكنيسة هو عضو في جسد الرب فهو بالتعريف "بعض الرب " ( إذا جاز التعبير )؛ فالعضوية في الرب بعضية منه. الكنيسة في الزمان والمكان، أشلاء مبعثرة في التاريخ، تستعاد لها الحياة في الرب باجتلابه لها فتصير أعضاء فيه، كل في زمانه الخاص بدءا من لحظة التجسد حتى لحظة نهاية التاريخ. وليس معنى " بعضية الرب " أن الكنيسة قد صارت يسوعا بل قد صارت تنتمي - كجسد - إلى ذلك الذي ينتمي إليه يسوع ،كرأس ، لذلك " دعي بكرا بين إخوة كثيرين " ، وهي إن لم تصر يسوعا فهي في طريقها لأن تصير مسيحا، باعتبار أن الجسد ينتمي للشخص مثلما أن الرأس ينتمي لذات الشخص، ولكن على كل حال لن يصير الجسد رأسا. ومتى اجتذب الرب أبعاضه المشتتين زمكانيا، وضمهم إلى كيانه، يكون قد اكتمل مجيء الرب، يكون قد اكتمل مجيء المسيح الكوني؛ فالرب - ومنذ ظهوره متجسدا - يبحث عن ذاته الكاملة في كل التاريخ ليجدها في كل أفراد الكنيسة المشتتين في الزمان والمكان، ومتى استحضرهم جميعا إلى ذاته ، يصير موجودا فيهم وإذذاك  يقال أن مجيء الرب قد تم، لتعتلن صريحة بدون مراوغة : " هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه " ( يه: 14 ).
مجيء الرب - أي تحقق وجود شخصه الممتلئ - لايتأتى إلا بوجود الكنيسة، ووجود الكنيسة لايتأتى إلا في الرب. لذلك يمكننا القول بأن "ربانية الكنيسة"( إذا جاز التعبير ) أي انتماءها العضوي إلى الرب، كجسد، هي الوجه الآخر ل" كنسية الرب" ( إذا جاز التعبير )، أي انتمائه العضوي للكنيسة ، كرأس. إذن، مجيء الرب من مجيء الكنيسة، ومجيء الكنيسة من مجيء الرب. هذه التبادلية العجيبة للوجود بين الرب والكنيسة ( الحضور  - الوجود، الحلول- المتبادل (  CO- INHERENCE  محدد أساسي لمفهوم مجيء الرب. 
   لذلك لم يكن تعبير " في المسيح " - ذلك التعبير الذائع الصيت والانتشار عند الرسول بولس- تعبيرا بلاغيا رومانسيا – من خلاله يتغزل الرسول بذلك الانتماء الإيماني بين المسيحيين وشخص المسيح – ولكنه كان تعبيرا وجوديا يوصف انتماء عضويا كيانيا في داخل شخص المسيح الواحد، نفسه، الذي يضم كل أفراد الكنيسة في اتحاد عضوي شخصي يفيض وجوده من الرأس ، الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد، إلى كل الأعضاء المشتتين في الزمان والمكان- كل في زمانه الخاص - إلى أن ينضم الجميع إلى الشخص الواحد فيكتمل تحقق وجود الكنيسة، في الرب ويكتمل مجيء الرب، في الكنيسة. وجود الكنيسة في الرب  باكتمال مجيء الرب  هو الوجود الإنساني الجديد عديم الموت ، وهو وجود موطنه وأرضه وسماؤه شخص المسيح نفسه، الذي بالتموقع العضوي فيه - وليس بمجرد الانتماء العقدي الإيماني له – يتحقق ويتكرس إلى الأبد، " لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ ( الاسم المعرف، أي الشخص الكامل الممتلئ ) سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ: الْمَسِيحُ ( الاسم بدون تعريف، أي حالة النعمة الآنية الفائضة من الرأس نحو الأعضاء )بَاكُورَةٌ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ ( الاسم بدون تعريف ) فِي مَجِيئِهِ" ( 1كو15: 22و 23 ). 

  
   6- إيجابية المفهوم
   الانطباع المزعج - أحيانا - عن المفهوم مرده إلى ارتباط مجيء الرب بنهاية العالم ومايستتبع ذلك من الحساب والدينونة، ولكن الواقع الإنحيلي للمفهوم لاعلاقة له - في عمقه – بهذا الانطباع. مجيء الرب حدث إيجابي؛ فهو موسم حصاد الحنطة البشرية ليتم تجميعها في مخزن الرب. هذا ماقد بشر به يوحنا الصابغ إذا قال عن الرب: " رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ ( مت3: 12 ). الرب ذاته هو مخزن الحنطة البشرية، أما ماهو خارج الرب – خارج المخزن - فمصيره التلاشي، هذه هي طبيعة الأشياء. أيضا الرب قال عن ذاته أنه " رب الحصاد الذي يرسل فعله إلى حصاده "( لو10: 2 ) . هو رب الحصاد الذي يتحقق كيانه الممتلئ حينما يستقبل كل حصيد الكون في ذاته. المفهوم إيجابي لأن الحدث بمثابة احتفالية جني ثمر تجسد الكلمة في الكون، احتفالية الفرح بالحصاد الممتد من لحظة التجسد حتى لحظة نهاية العالم. وإتمام العمل، بالإتيان بكل الحصيد - بالنسبة لكيان الرب – هو طعام يملأه ويشبعه؛ فبعد لقائه بالسامرية قال الرب لتلاميذه: " أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ».. «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ..  هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَرًا لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعًا"( يو4: 32- 36 ). فرحة الزارع والحاصد معا هي فرحة الرب ، لأن الرب هو الزارع والحاصد بآن واحد. هو الزارع الذي خرج ( من عند الآب ) ليزرع زرعه، مستهدفا أرضا جيدة، فاستنبت فيها ثمرا وفيرا ثلاثين وستين ومئة. هو الحاصد- بحسب المعمدان- الممسك برفشه والمنقي بيدره والجامع لحصيده في مخزن ذاته. مجيء الرب في كماله هو حالة شبعه بتخزين حصيد الكنيسة في كيانه وإذذاك يخاطبهم قائلا : " كنت جوعانا فأطعمتموني "( مت25: 35 ). هو ، كبكر بين إخوة كثيرين يخاطب إخوته هؤلاء الأصاغر بهذه العبارة العجيبة؛ فلم تكن شركتهم في ابن الإنسان شبعا خاصا بهم ، فقط - من جهة الحياة الأبدية وعدم الفساد - بل كانت شبعا لكيان ابن الإنسان - الكامل ، الممتلئ بهم - ذاته. هم بشبعهم قد أشبعوه ، إذ أن امتلاء الجزء هو امتلاء للكل ، وتحقق وجود العضو هو في سياق تحقق وجود الجسد الكامل . لذلك قال لهم ، ما معناه : بما أنكم أطعمتم أحد إخوتي الأصاغر ، فيكم ، فقد أطعمتموني. حدث مجيء الرب حدث إيجابي لأنه حدث منتج ( بكسر التاء ). وهو ينتج شخصا كونيا يولد في التاريخ بميلاد يسوع، لينطلق ممتدا في الزمان والمكان مجتلبا حصيد البشر - الذي هو الكنيسة - إلى كيانه، ومتى امتلأ هذا الكيان بكل المعينين للحياة الأبدية تنتفي سببية وجود الكون فينهار مرتدا إلى العدم بعدما ينهي الكلمة حضوره فيه. هذه البانوراما العجيبة هي البشرى التي يزفها إنجيل يسوع المسيح. ترى هل من الممكن - بعد بلورة مضمون المفهوم بهذا الشكل - أن يتبقى لدينا مايصم مفهوم مجيء الرب بالسلبية، أو يختزله في مجرد مشهد يوم الحشر العظيم حيث التطبيق الحرفي البائس لنظرية الثواب والعقاب، التي هي بالطبع ليست نظرية مسيحية ؟ 
7- ماهية فعل المجيء
   لدينا في العهد الجديد كلمتان ، في صيغة الاسم، تترجمان إلى " المجيء " في   الحديث عن مجيء الرب، الأولى هي" الباروسيا" ( parousia  )، والثانية هي " الإبيفانيا "( epiphania  ). الأولى هي الحضور والثانية هي الظهور، والكلمتان مترادفتان بخصوص مجيء الرب؛ فمجيء الرب هو ظهوره في  الكنيسة، وظهور الرب هو مجيئه في الكنيسة. الباروسيا هي الكلمة الأكثر استخداما وقد وردت في أربعة وعشرين موضعا في العهد الجديد منها سبع مرات في الحديث عن حضور مؤثر لأشخاص معينين، عند الرسول بولس، منهم بولس الرسول نفسه. والسبع عشرة مرة الأخرى كانت في الحديث عن مجيء الرب، ومنها مرة واحدة في الحديث عن " يوم الله "( 2بط3: 12 ). جاءت الباروسيا في إنجيل متى وفي رسائل الرسول بولس وفي رسائل بطرس ويعقوب ويوحنا. الإبيفانيا وردت في عدة مواضع في رسائل الرسول بولس فقط. وردت الكلمتان معا في سياق عبارة واحدة " ظهور مجيئه " ( th epifaneia thV parousiaV ) عند الرسول بولس في:( 2تس2:  8). الباروسيا هي الحضور الشخصي المؤثر، الحضور الظاهر في الآخر، أي حضور الرب في الكنيسة. الباروسيا ليست في تحرك الرب الزمكاني في لحظة معينة وفي مكان معين بل في تحقق وجود وحضور شخص الرب في مسار يخترق كل الزمان وكل المكان. لذلك فالباروسيا ، وبالتوازي مع الإبيفانيا هي الحضور الظهوري ( إذا جاز التعبير ) لمجيء الرب بدءا من لحظة تجسده وحتى اكتمال الكنيسة في كيانه. ظهور مجيئه ، ابيفانيا الباروسيا ( إذا جاز التعبير ) هي كشف وجودي للكنيسة بدءا من ظهور رأسها الرب يسوع التاريخي وحتى اكتمال كل الثمر في المسيح الآتي؛ فيكتب بولس الرسول : " لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ: الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ ( الرب يسوع التاريخي )، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ ( الكنيسة ) فِي مَجِيئِهِ ( الباروسيا )"( 1كو15 : 22و23 ).ويكتب بطرس الرسول:" " لأنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ ( الباروسيا) ،  ...  وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ ... كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ( الرب يسوع المسيح ) فِي قُلُوبِكُمْ ( الكنيسة )" ( 2بط1: 16- 19). ويكتب يعقوب الرسول: " فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ( الباروسيا ). هُوَذَا الْفَلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ ( في الرب يسوع )وَالْمُتَأَخِّرَ( في الكنيسة ). فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ( الباروسيا ) قَدِ اقْتَرَبَ"( يع5: 7 و 8).وهناك كلمة ثالثة لها علاقة بالباروسيا والإبيفانيا وهي " apocalypsis"، الكشف والإعلان وترجمت إلى الرؤيا ، رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهو السفر النبوي الوحيد في العهد الجديد ، وروح نبوته هو شهادة يسوع ( رؤ19: 10 ) ، أي مجيء الرب في الكنيسة، وشهادة الكنيسة بأنها جسد الرب الذي رأسه يسوع، ففي استهلالية السفر يكتب الرائي: " إِعْلاَنُ (  apocalypsis) يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ،  .. .. طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ. يُوحَنَّا، إِلَى السَّبْعِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي أَسِيَّا: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، وَمِنَ السَّبْعَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ، وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ: الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ،  وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ.  هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ"( رؤ1:1- 7 ).
  خلاصة القول هي أن مجيء الرب حدث يكشف تمدد استحقاق حضور الكلمة المتجسد، في البشر، في الزمان والمكان ، الكشف الذي ينطلق مساره من لحظة التجسد وحتى اكتمال ظهور الكنيسة؛ " لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ ( الرب يسوع التاريخي ) وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ ( الكنيسة )، هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ"( مت24: 27 ).
  والباروسيا ، الكلمة المستخدمة إنجيليا، هي من الأصل مصطلح تقني في الثقافة اليوناية له مدلول خاص يعبر عن الحضور الرسمي لملك أو لإمبراطور، حضور مصحوب باحتفالية عظيمة ويكون إيذانا بالولوج في عصر جديد . والكلمة انطلاقا من هذا المدلول تضيء مفهوم مجيء الرب الذي هو احتفالية حضور الملك الرب يسوع المسيح. والحضور هو حضور فاعل مؤثر جاذب - في كل مساراته عبر الزمان والمكان- للكنيسة "لأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ الْجُثَّةُ، فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" ( مت24: 28 ). هو حضور( presence ) مستعلن في البشر ( الكنيسة) وليس مجرد إتيان في المكان (coming ) لشخص مستقل عن الكنيسة ، تنتظره الكنيسة ، في لحظة تاريخية معينة ، لذلك قد سبق الرب وحذر كنيسته قائلا : "حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ: هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ! فَلاَ تَخْرُجُوا. هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ! فَلاَ تُصَدِّقُوا"( مت24: 23- 26 ).
  هو إذن ليس مجيئا تاريخيا ولكنه مجيء كل التاريخ بدءا من لحظة التجسد حتى نهاية التاريخ ( الزمن ) بطرفيه : الماضي والمستقبل؛ وأقصد بالماضي زمن ماقبل التجسد، وبالمستقبل زمن مابعد التجسد؛ فلحظة التجسد هي مركز دائرة الزمن الذي انطلق منه حضور الرب مثل اشعة الشمس ليغمر كل مساحة تلك الدائرة. وفكرة مجيء ماضي لحظة التجسد ، أي ماقبل التجسد ، قد تبدو غريبة، ولكن هذا ماقد كتبه الرسول بولس ؛ فالراقدون على الرجاء في زمن ماقبل التجسد قد احضروا به ومعه في لحظة تجسده، وقد سبقوا كنيسة دعوة الإنجيل، كنيستنا نحن المتبقين من رصيد المجيء الكامل للرب، فكان انضمامهم للرب ابتعاثا لهم من موتهم، الذي أصبح مجرد رقاد. ولكن انضمامنا نحن إليه هو بمثابة اختطاف لنا فنحن لانرقد مثلهم، ولكننا ننتقل لنتموقع فيه ونكون جميعا معا، فيكتب الرسول: " ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ ( tou kuriou thn parousian ) ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ"( 1تس4: 13- 17 ).
نحن الآن في زمن مجيء الرب. نحن الآن في يوم الرب. الرب قد أتى بالتجسد، وهو يأتي الآن في الكنيسة منذ لحظة تجسده، وهو سوف يأتي بتكميل مجيئه في الكنيسة حتى نهاية التاريخ. حدث مجيء الرب لاشبيه له في الأحداث والأزمنة التي تعرفها اللغة ، أي لغة ؛ فلايوجد فعل يبتلع الماضي والحاضر والمستقبل في حدث واحد إلا فعل وحدث مجيء الرب.
مجدي داود 
         

الخميس، 24 أكتوبر 2019

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 5 )





                         
                              زبدة المقالات الأربع 

 التدبير باختصار يعني كل الأعمال التي صنعها المسيح من أجل كنيسته . والأعمال تبدأ بخطته الأزلية من نحو وجود الإنسان وخلاصه من المصير الذي يهدد هذا الوجود من خلال " تدبير"  تجسد الكلمة واجتلابه لكنيسته حتى ماتتموقع في هذا الجسد كأعضاء.
                  المفردات الأساسية لتدبير الخلاص
   أولا: الواقع الإنساني ( المشكلة )
  " الإنسان فان بطبيعته " ، هذه هي العبارة المنطلق ، عبارة أول السطر في سفر تدبير الخلاص ( إذا جاز التعبير )، هي اللبنة الأولى وحجر الزاوية في البناء الذي شيده أثناسيوس في رائعته " تجسد الكلمة ". ليس المراد من قبل الخالق أن يجتلب الإنسان من العدم ليظل مهددا بالعودة إليه ولينتهي الأمر بفناء الإنسان فعلا ، بعدما انحرف عن مسار كان من الممكن أن يسير فيه قاصدا الخلود بالشركة في الطبيعة الإلهية ،أي التأله ، أي مشاركة الله في خصيصته الجوهرية - التي تميزه عما عداه - أي حياته الأبدية  .إذن الواقع المشكلة هو الانحدار نحو العدم وفناء الإنسان ، بتحييد العقل الإنساني من نحو معرفة الله ، وبالتالي فقدان أي رجاء في التواصل مع نبع الحياة ومصدرها الوحيد ، والسؤال الذي تطرحه المشكلة هو : مالحل ؟
  ثانيا : محورية حدث التجسد ( الحل )
    كانت المشكلة هي موت الإنسان وفناؤه بفقدانه السير في طريق الشركة في حياة الكلمة فالحل المنطقي الوحيد ، الممكن ، هو مبادرة الكلمة ذاته للشركة في حياة الإنسان بصيرورته إنسانا أي التجسد . وهنا يأتي مؤسس الحياة ذاته إلى الميت ويواجه الموت في عقر داره أي الجسد الإنساني ، فيبيده في جسده الخاص ، فأنى للموت أن يقدر على رب الحياة . حينئذ  يجذب الكلمة المتجسد ،الميت إلى شركته فيحيا حياته . وهذا هو كمال النعمة.
  ثالثا : تحرير تدبير التجسد من أسر التاريخ ( امتداده في الكنيسة )
   حدث التجسد ليس حدثا تاريخيا ، والكلمة المتجسد ليس مجرد شخص قد ظهر في التاريخ ، وما حدث بالضبط هو حدث دراماتيكي قد انطلق من تجسد الرب ، وهو نصرة الجميع على الموت بانضمامهم للباكورة جسد الرب المنتصر ، آدم الثاني الرب الذي من السماء. لم يتجسد الكلمة لمجرد أن يظهر في تاريخ البشر كفرد ينتمي لجنسهم ، لم يصنع هذا من أجل ذاته فهو لا يحتاج أن يصنع شيئا لأجل ذاته ، بل أتم العمل وأكمل التدبير من أجل أن ينقل كل ما عمله وكل ما أتمه إلى كنيسته الصائرة جسدا له ، بينما هو صائر رأسا لها ليكون الجميع واحدا فيه . لم يتجسد الكلمة ليصير مجرد رأس مقطوع ، بل بمجرد ظهوره في البشر قد بدأ يتصور باقي الجسد ، بامتداد استحقاق فعل التجسد ، وبظهور ثماره ، في الكنيسة . إذن حينما نتكلم بخصوص تدبير التجسد فنحن نرصد حدثا آنيا ممتدا يستهدف تكريس وجود الكنيسة الخالدة بكل أعضائها والتي يتحقق وجود أعضائها من خلال إيمانهم الحي بالكلمة المتجسد الذي قد نال جسده النصرة على الموت والخلود ، إذ هو جسد الكلمة الخاص ،وحينما يقبل المسيحيون الشركة العضوية في هذا الجسد فهم يحصلون على ذات النصرة فيتكرس وجودهم ككنيسة.
رابعا: أزلية خطة تدبير التجسد
      تدبير التجسد لم يكن أمرا اضطراريا فرض على الله في سياق إدارته لأزمة الإنسان الوجودية ، فالله لا يخضع لأي ضرورة ، بل العكس ، حينما تجسد الله الكلمة صائرا إنسانا فإنه قد حرر البشر من حكم الضرورة . وإذا كان القديس أثناسيوس – حينما ينظر للتدبير – يكتب ما يوحي بمثل هذه الانطباعات ، فهو هنا يبرئ ساحته من مثل هذا الأمر بتبنيه للطرح الإنجيلي القائل بأزلية خطة التدبير . إذن لم يكن الأمر مجرد رد فعل لأزمة ولكنه تدبير محفوظ في المسيح من قبل حدث الخلق ذاته . ونستطيع أن نستنتج أن أمر التدبير هو عملية خلق الإنسان في الصورة التي أراد الله للإنسان أن يكون إياها ، أي الشريك في الطبيعة الإلهية والذي يتم تبنيه من قبل الآب بالشركة في ابنه في الروح القدس ، وهي العملية التي وهب للإنسان أن يشترك بوعيه فيها مخالفا في ذلك سائر المخلوقات التي لا يتسنى لها إدراك مسار أمر خلقتها.
               السر العجيب وراء تعبير " بلا خطية "
   بتجسد الكلمة صار إنسانا من بني جلدتنا وأظهر كل مظاهر ضعفنا ونقصنا الذي بلغ ذروته بالآلام والموت ، ولكن أمرا واحدا لم يشبهنا فيه وهو الخطية . والأمر ليس تعسفيا أو مجرد صبغة رومانسية لما ينبغي أن يكون عليه حال المخلص الموعود به . فالخطية هي حالة تنجم من الصراع الداخلي لإنساننا العتيق ، الأمر الذي يكشف فجوة وجفوة وعزلة بين الإنسان والله . الخطية بتعبير آخر هي حالة انعدام الشركة في الطبيعة الإلهية . وإذا كان الرسول يوحنا يكتب " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله"( 1يو3: 9 ) ، فماذا عن الابن الوحيد المتجسد  ؟ هل يستطيع أن يخطئ ؟ بالتأكيد هو لا يستطيع ان يخطئ ، ليس لأنه قد خضع لضرورة ما ، بل لأنه لا يستطيع أن يتناقض مع نفسه ويتخلى عن عمله ويفسد التدبير حتى ما يعيد الإنسان إلى عزلته ،أي الخطية .وماذا عن جسد الكلمة الخاص ، أول باكورة بشرية ظاهرة في الله ؟ إذا كان الإنسان يسوع هو الإنسان الذي يحل فيه ملء اللاهوت ، فهل توجد أي عزلة أو فجوة بين ألوهيته وإنسانيته ؟ إذا كان يسوع شخصا تثمره وحدة أقنومية بين الإنسان والكلمة فهل يوجد أي جدوى بخصوص سؤال الخطية ؟ بتجسد الكلمة تجدد الإنسان وظهر يسوع باكورة للإنسان الجديد ، وهذا ما قد تكشف في منازلة الشيطان له . فقد جاء العدو رئيس العالم ، والذي عنده كل مفاتيح ودوافع الزرع القديم ، جاء ليبحث وليطمئن على ما كان يظنه أحد رعايا مملكته ، فإذ به يجد أن كل شيء قد صار جديدا ، وقد اختفت سطوة العتيق البالي ، فذهب ذليلا مهزوما . خلاصة  الأمر عند أثناسيوس هو أن الإنسان يسوع هو إنسان بلا خطية ولا يقدر أن يخطئ لأنه الإنسان الجديد " الروحاني ، آدم الثاني الرب الذي من السماء "( 1كو15 : 45 – 48 ) الذي بخميرة جدته تجدد الجميع.
                   مشاهد ( إعلانات) تدبير التجسد
  أولا :   الترقي ( النمو )
  في إطار دفاع القديس أثناسيوس عن الإيمان المستقيم ضد الهراطقة القائلين بعدم أزلية الابن ، يقوم بالتفنيد المستميت لانحرافاتهم بخصوص تأويل وشرح بعض الآيات التي تحمل معنى النمو والتقدم والترقي، والتي يدعون بخصوصها أنها تشير إلى ترقي الكلمة إلى وضع لم يكنه قبل التجسد . ويحاجج أثناسيوس موضحا بأن المقصود من الترقي الذي تقصده الآيات هو ما حدث لجسد الكلمة الخاص حينما صار جسدا خاصا بالكلمة ، صائرا باكورة لترقية الجميع ، من الموت إلى الحياة ، ومن العار إلى المجد، ومن الطبيعة الحيوانية إلى الطبيعة الروحانية . باختصار،  نحن الذين ارتقينا وارتفعنا .والملحوظة شديدة الأهمية ، هنا ، هي أن القديس أثناسيوس- في سياق دحضه لهرطقة ترقي الكلمة – لم يشر بأي حال من الأحوال إلى أن الأمر يخص أي تقدم أو نمو تراكمي للإنسان يسوع في الروحانية والشركة في الطبيعة الإلهية أي التأله. وقد كانت الفرصة مواتية بل كان الأمر شديد الورود بل واجب الحديث فيه ، كأن يقول مثلا :" الكلمة لا ينمو ولا يرتقي لأنه لا يحتاج إلى ذلك بل إن إنسانه الداخلي ، جسده الخاص هو الذي ظل ينمو في النعمة وفي الروحانية وفي التأله ، يوما بعد يوم إلى أن وصل إلى المجد الذي أراده له الكلمة فظهر إنسانا جديدا منتصرا على الموت  ، بالقيامة ". ولكن أثناسيوس لم يقلها بل على  العكس فإننا لا نفهم من النصوص  إلا أنه لا يوجد في الكلمة المتجسد ما قد رفع ( بتشديد الفاء ) كمكافأة ولكن من قد رفع هو نحن  .إذن الترقي الحادث هو تغير نوعي ( كيفي ) قد حدث للإنسان ، بتغيير واقعه الوجودي من النقيض إلى النقيض حينما اتحد بالكلمة في شخص الرب يسوع المسيح.
  عند أثناسيوس: 1- الذي ترقى وحدثت له زيادة هو الجسد . 2- ترقي الجسد هو تحوله من الحيوانية إلى الروحانية . 3 – حدث الترقي حينما صار الجسد جسدا للكلمة ، أي حدث التجسد . وبخصوص الآية الأكثر التباسا في هذا السياق : " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة ، عند الله والناس "( لو2: 52 )، فيؤكد أثناسيوس أن ارتباط نمو يسوع الطبيعي في القامة كإنسان ، بتقدمه في الحكمة والنعمة إنما يشير إلى ازدياد ظهور وانكشاف اللاهوت فيه أمام الناس المحيطين به والمعاصرين له ، أي أنه كان يزداد نموا وتقدما " كإله " في أعين الناس ( إذا جاز التعبير )، أي أن التقدم في الحكمة كان ترقيا وتقدما لوعي الناس به كإله  ولم يكن ترقيا أوتقدما أو تطورا  باطنيا خاصا به. مدلول تدبير نمو يسوع في القامة والظهور التدريجي لألوهيته أمام الناس ، كإشارة إلى بدء زمن تكريس تأله البشر بالشركة في الكلمة المتجسد . ولعل ماوراء قناعة القديس أثناسيوس بعدم احتياج الإنسان يسوع إلي أي نمو باطني ، هو إدراكه لأن إنسانية يسوع هي جسد الكلمة الخاص ، أي الإنسان الظاهر في الكلمة منذ الحبل به.
   ثانيا : المسحة ( مسحة الرب في الأردن )
   أيضا في إطار تفنيده لانحراف الهراطقة في تفسير آيات المسحة بخصوص الكلمة المتجسد ، يؤكد القديس أثناسيوس الرسولي أن الكلمة هو الذي يمسح بالروح ، وهو الذي مسح جسده حينما لبسه صائرا إنسانا . والنقطة الحاكمة في هذا السياق هي أنه عندما نزل الرب إلى الأردن واعتمد ومسح ، فلم يكن من دلالة لهذا المشهد سوى أننا نحن الذين مسحنا. ومن ذلك الحين فإننا نتقبل الروح ليختمنا مصورا فينا المسيح ذاته .  ولم نرصد للقديس أثناسيوس أي عبارة أو إشارة تفيد بأن يسوع قد بدأ يمسح – على أساس أنه لم يكن ممسوحا من قبل – منذ أن نزل إلى الأردن ، فهو يسوع " المسيح " ، أي الممسوح ،  موضوع بشارة الملاك للرعاة " فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب "( لو2: 10و 11 ). إذن الرب منذ ظهوره هو ممسوح ولا يحتاج إلى مسحة بل هو الذي يهب المسحة لمن يحتاجها ، أي نحن . وهو حينما نزل إلى المياه فقد أسس لنا مسحتنا التي تجعلنا أعضاء فيه بواسطة الروح الذي يرسله من الآب.
ثالثا :  موت المسيح وقيامته
   لقد كان مشهد الصلبوت المأساوي مشهدا كاشفا لعمق أعماق التدبير؛ إذ قد تكشف بجلاء شديد أن الكلمة بتجسده قد أظهر إنسانيته الخاصة إنسانية جديدة خالدة عديمة الألم والموت . ينتهي المشهد الجلل بالصرخة المدوية للمعلق على الخشبة " إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟". تفارق نفسه جسده فيموت موتنا . يوضع جسده الظاهر في القبر . ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد المأساوي ، فالأمر كله تحت سيطرة التدبير،  إذ يتجلى أن صورته الإنسانية الباطنية غير قابلة للموت ، بل ومتحدية له ، ليس على مستواه الشخصي بل على مستوى الجميع ، فينزل الكلمة إلى الجحيم  محتجبا في هذه الصورة ، فيكرز للأروح الحبيسة ويحلها من أسرها مؤسسا القيامة . وهنا يتكشف وجه آخر لما يستعلنه المشهد ، إذ قد حدث تغير جذري دراماتيكي بالنسبة لنا ، فقد حدث تحول من مشهد صليب العار إلى حقيقة وواقع الصليب المحيي  ،إذ تكرس طريق خلاص الذين يؤمنون بالمسيح وذلك حينما يقبلون أن يشتركوا في صليب وموت المسيح بفعل مماتية الروح القدس فيقومون من موتهم لينضموا إلى بكرهم وبذلك يكونون قد استقبلوا  ثمر التجسد في أجسادهم ، ويكونون قد قبلوا استحقاق ما صنعه الكلمة لجسده الخاص – عندما صار جسدا خاصا به – في أجسادهم ، وتصبح إنسانية يسوع المنتصرة رأسا لوجودهم الإنساني الجديد ، أي الكنيسة.  يمثل مشهد الصليب ، المعقوب بالقيامة ، أفضل مثال لخاصية أخرى تضطلع بها علامات وإعلانات التدبير المختلفة ،وهي دلالة المشهد كلغة منطقية يخاطب بها العقل البشري ، حتى مايتم ضخ الحد الأدنى المعرفي بخصوص التدبير . لذلك نجد القديس أثناسيوس حينما يحاجج بخصوص موت الرب وقيامته فهو يستخدم  الألفاظ التي تتعامل مع منطقية العقل البشري مثل : الواضح والمعلن والدليل والبرهان والشك والظن وما هو لائق وما هو غير لائق وما هو معقول ..الخ
إذن أي مشهد من مشاهد التدبير يحمل رسالة ولغة خطاب معينة تتوافق مع العقل البشري وبالتالي توصل الحقيقة الإيمانية اللاهوتية في صيغة منطقية إنسانية تتوافق مع الحد الأدنى للإدراك البشري . هذا فضلا عن إظهار التطابق بين تفاصيل المشهد وبين النبوات القديمة . وفي حالة الصليب والقيامة نجد أن القديس أثناسيوس يتجاوز مجرد انحصار توجه الخطاب التدبيري ( إذا جاز التعبير) إلى المؤمنين بل يجده خطابا صالحا للكرازة ، أي الخطاب الذي يوجه لغير المؤمنين.
                        مدلول المشهد التدبيري
     كيف ندرك المدلول اللاهوتي لإعلانات ( مشاهد ) التدبير المختلفة ، من ميلاد الرب في مزود للبقر و نموه في القامة ومسحته في مياه الأردن وصلبه وقيامته وصعوده ؟ اعتقد أنه قد بات في استطاعتنا أن نرصد إشارات واضحة عند أثناسيوس بخصوص المدلول العميق لمشهد تدبيري ما ، من خلال النقاط الحاكمة الآتية :
  أولا: التجسد هو النقطة الحاكمة الأم؛ فمحورية التجسد أمر أساسي حاكم في أمر تدبير خلاصنا . ولا يوجد أي ثمر يرتجى أو نعمة تبتغى ، خارجا عن ما قد حدث لجسد الكلمة الخاص الصائر رأسا ومنبعا للنعمة .
  ثانيا : الإعلان التدبيري كاشف لواقع يسوع ، منشئ لواقع الكنيسة 
    فمشهد الولادة يكشف أن يسوع الإنسان مولود كرب للحياة الأبدية قبل أن يولد في المذود، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في حياة الكلمة بفضل الوحدة الأقنومية معه، وهذه هي شهادة أليصابات تؤكد هذ الأمر، إذ قد شهدت بأن العذراء- التي ماتزال حبلى ، في ذلك المشهد - هي أم الرب (  لو1: 43). وبالتأكيد لم تكن أليصابات تشيير إلى ربوبية الكلمة ، في لاهوته العاري ، بل إلى الكلمة المتجسد الذي بالفعل كان قد ظهر متجسدا مع ظهور الجنين في رحم العذراء ، فالكلمة لم يصر ربا،  في ذلك الحدث، إلا بظهوره متجسدا. أيضا لايمكن أن يطلق على العذراء أنها أم الرب إلا حينما صار الكلمة جسدا، وهو بالفعل قد حل بيننا ( فينا ) بمجرد ظهوره جنينا في رحم أمنا المطوبة . هذا بالإضافة إلى أن مشهد ولادته يكرس بدايتنا نحن للحياة الجديدة وولادتنا من فوق وتبنينا للآب السماوي بالشركة في ابنه المتجسد في الروح القدس. ولذلك نحن نستدعي كل عام مشهد ولادته كمناسبة للاحتفال والفرح بولادتنا الجديدة التي كشفها ميلاد الكلمة المتجسد في تاريخنا . ومشهد المسحة في الأردن يكشف أن يسوع الإنسان ممسوح بالروح قبل أن يدلف إلى مياه الأردن ، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في وحدة أقنومية مع من يهب روح المسحة . وإذا كان الإنسان يسوع واحدا مع الابن فهو في ذات الحدث واحد مع الآب ومع الروح ، لأن الشخص ( من شخوص الثالوث ) لايحضر منفردا بل في شركة مع الشخصين الآخرين ، وبينما الإنسان يسوع كائن في وحدة أقنومية مع الابن ، فهذا يعني أنه في وحدة مع من هو في ضمنية متبادلة مع الآب والروح . أيضا معمودية الأردن - وظهور الروح مثل حمامة ، وسماع صوت الآب " هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " - تكرس مسحتنا نحن ككنيسة ، وصيرورتنا موضوعا لمسرة الآب باجتماعنا كأعضاء في جسد ابنه . فلم يكن الآب - في الأردن - مخاطبا للابن - في لاهوته العاري ( naked )- بل كان مخاطبا الابن الظاهر في كنيسته المكتملة ، لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد معمودية الرب كمناسبة للاحتفال والفرح بمسحتنا فيه. ومشهد الصليب يكشف أن يسوع الإنسان مصلوب قبل أن يعلق على الخشبة، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي سمرت فيه كل أهواء البشرية وميولها الردية وإرادتها الضعيفة المنحرفة ، بفضل الكلمة الكائن معه ، في وحدة أقنومية لا تسمح  بأي عزلة أو خطية أو شر . هذا بالإضافة إلى أن مشهد الصلبوت المهيب يكرس لنا طريقا للخلاص بالشركة في آلام وموت الرب المحيي الذي نجتازه معه من خلال مماتية الروح القدس ، فنصلب الجسد مع الأهواء والشهوات   ، نصلب العتيق ، فيموت معه ،على حساب خلقة الجديد . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد آلامه وموته للاحتفال بصليبه المحيي الذي كشفه لنا في ذلك الزمان ، كطريق لفصحنا نحو الحياة وعدم الموت . ومشهد القيامة يكشف أن يسوع الإنسان منتصر على الموت قبل أن يعلن ذلك في اليوم الثالث لموته ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الشريك في حياة الكلمة ، بفضل الوحدة الأقنومية التي تجمعهما  في شخص واحد . هذا بالإضافة إلى أن مشهد القيامة يكرس ويدشن قيامتنا فيه وبه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد قيامته المظفرة للاحتفال بقيامتنا معه  بتدبير ظهور  باكورة قيامتنا وخلودنا ، الرب القائم ذاته . ومشهد الصعود يكشف أن يسوع الإنسان صاعد إلى السماء قبل أن يرتفع وسط دهشة تلاميذه الشاخصين إليه ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي كان ظهوره كاشفا لنزول الكلمة إلى عالمنا ، ونزول الكلمة إلى الإنسان يعني صعود الإنسان في الكلمة إلى الآب . إذن بالإضافة إلى أن مشهد الصعود يكرس بدء زمن صعودنا فيه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد صعوده لنحتفل بتكريس صعودنا فيه إلى الآب ، فهاهي بشارة المجدلية إلى التلاميذ ، والتي حملت إياها من قبل الرب القائم  " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"( يو20: 17 )، فهو يصعد مرتين ، مرة حينما صعد منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بينه وبين الكلمة ( إلى أبي ، إلى إلهي )، ومرة ثانية حينما يصعد كنيسته فيه إلى الآب ( إلى أبيكم ، إلى إلهكم ).  هكذا يكشف هذا المشهد  صعود إنسانيته بفضل التجسد ، ويدشن صعودنا بفضل إنضمامنا إليه.
  ثالثا : الإعلان التدبيري يشير إلى الحدث كاملا ، ولا مجال للرؤية التكاملية بين المشاهد المختلفة ؛ فلم نرصد أن أثناسيوس قال بتكامل مضامين المشاهد المختلفة ، مثل تكامل مضمون الصليب  مع مضمون مسحة الأردن ، مثلا ،  بل أن كل مشهد يكشف  مضمون تدبير التجسد كاملا . فالمسحة كشفت صيرورة الكلمة مسيحا حينما صار جسدا ، ولم يكن من الممكن أن يلقب بالمسيح مالم يكن قد ارتدى جسدنا . والصليب كشف عن الصورة الإنسانية عديمة الفساد التي صارت فيه منذ اول لحظة للتجسد . فلا يحتاج يسوع أن نحسب له رصيدا ما  قد حصل عليه بالمسحة ، ثم يضاف إليه ما قد حصل عليه بالصليب ، ثم القيامة والصعود إلى أن يبلغ ما ينبغي أن يبلغه . هذا وهم لا ينبغي أن ننزلق إليه ، والقديس أثناسيوس لا يعرف ترقيا حصل عليه يسوع ، الكلمة المتجسد ، غير نمو قامته بيولوجيا ، ونمو وعي معاصريه به كإله . ولقد كان من الضروري لأثناسيوس بحسب أسلوبه في الكتابة – في سياق دحضه لقول الهراطقة بأن الكلمة قد ارتقى كأجر فضيلة – أن يقرر صراحة بأن الذي ارتقى – بطريقة تدريجية تراكمية - هو جسد الكلمة الخاص ، وعليه تكون إنسانيته -وفقا لهذا الطرح -  قد ارتقت وتجددت صائرة عديمة الموت. ولكنه لم يقل بذلك ولم يشر من قريب أو بعيد إلى ذلك ، بل على العكس فقد قرر القديس أثناسيوس أن الترقي هو التحرر من الخطية ، إذن فكيف يستقيم هذا الأمر بخصوص من هو بلا خطية منذ بداية ظهوره بيننا ؟ الأمر الصحيح إذن هو أن الترقي والتطور الذي أحدثه الكلمة في جسده الخاص هو حدث نوعي ( كيفي ) وليس فعلا تراكميا ، وهو قد حدث بالفعل لجسد الكلمة الخاص ، منذ أن صار جسدا خاصا بالكلمة. 

                                    الخلاصة
 كل مشهد من مشاهد التدبير-  بمفرده -  هو مجرد لغة تخاطب البشر بقدر إدراك عقولهم، لتكشف عن الواقع النعموي الكامل الكائن في جسد يسوع ( كثمرة للتجسد ) منذ أول لحظة للتجسد، وتكشف عن ماسيكون كامتداد لهذه الثمرة ، انطلاقا من نبع النعمة ورأسها الرب يسوع إلى باقي أعضاء جسده أي الكنيسة. فالمشهد التدبيري كاشف لاستحقاق التجسد في يسوع التاريخي، منشئ لاستحقاق التجسد في الذين للمسيح عبر كل التاريخ.كل مشهد كاشف لتألهه الذي أصبح رأسا لتألهنا؛ فتجسد الله الكلمة وصيرورته إنسانا وجه لحدث وجهه الثاني تأله الإنسان؛ لذلك لم يكن جسده - للحظه واحدة ، منذ أول لحظة لتجسده - إلا مؤلها وممجدا ومنتصرا على الموت، بفضل كونه جسد الكلمة الخاص؛ أي الجسد الصائر في اتحاد أقنومي مع الله الابن. وأما تتدريجية - وتراكمية - إعلان هذه الحقيقة لتاريخ البشر- في مشاهد التدبير المختلفة من ولادة ومسحة وصليب وقيامة وصعود-  فهو أمر لا يعني بداية ونشاة مجد هذا الجسد في تلك اللحظات المرصودة تاريخيا في حياة الرب يسوع التاريخي، بل يعني احترام مشاهد التدبير المختلفة لطريقة إدراك وفهم البشر - المحدودة والمحكومة زمنيا - للأمور الإلهية؛ فمن المستحيل للبشر أن يدركوا ،مثلا ،أنه بفضل تجسد الكلمة وصيرورته إنسانا قد صار الإنسان منتصرا على الموت وقائما إلى الأبد منه،  من المستحيل إدراك هذا مالم يراه البشر معلقا على الخشبة حتى الموت، ويوارونه خلف الحجر المختوم ، ساعتئذ فقط يصبح حديث القيامة مقبولا. أن نؤمن أن القيامة حدث طارئ على جسد الرب المسجى في القبر- وليس أن عدم الفساد والحياة الأبدية هي حقيقة كائنة في إنسانية يسوع الكاملة ؛ لأنها شريكة في حياة الكلمة الحال، بكل ملئه، فيها - فهذا أمر يضرب الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان في مقتل؛ فلا معنى لذلك الاتحاد إذا لم تكن الخليقة الإنسانية الجديدة، عديمة الموت، كائنة منذ أول لحظة للاتحاد، كدليل عليه وكثمرة تلقائية له.   
مجدي داود
      

الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

البعد الإضافي للاسم في يونانية العهد الجديد ( 3 )





                           زبدة الدراسة

    للاسم في يونانية العهد الجديد خصوصية غير متاحة في اللغة العربية، على الأقل. فيتميز الاسم بإمكانية استخدام "أداة تعريف". ويلاحظ ورود الاسم أحياناً معرفاً وأحياناً أخرى في صيغة النكرة (بدون أداة للتعريف). والقضية ليست على ما قد تبدو عليه من الهامشية، فالملحوظة التي تم رصدها - في هذه الدراسة - هي أن هناك سياقاً محدداً لاستخدام صيغة "التعريف". وأيضا، هناك سياق آخر محدد لاستخدام صيغة "التنكير". 
وما تم رصده هو أن "الاسم المعرفة، المسبوق بأداة تعريف"، إنما يشير إلى الشخص بمفهومه المستقل كحالة مغلقة في مواجهة الآخر المتمايز عنه والذي لا تجمعه به علاقة آنية، حاضرة، أو فعل مشترك، يطرحه سياق النص، وإن كان الشخص بهذه الصيغة هو بمثابة دعوة للشركة، والدعوة بطبيعتها تطرح للمتلقي أن يختار بين خيارين: القبول والرفض. أما "الاسم النكرة، غير المسبوق بأداة تعريف"، فهو يشير إلى حالة مفتوحة من فعل آني، ديناميكي، هو فعل النعمة، الفعل الذي يكشف العلاقة مع الشخص وليس يقدم الشخص مستقلاً. تعريف الاسم يبرز الشخص كحالة مغلقة مكتملة، بينما تنكير الاسم يبرز الحدث النعموي الآني العامل في الكنيسة، في المسيح. الطرح السابق قد يبدو غامضا - وهو بالفعل كذلك ، وما نريد أن نؤكد عليه  هو أن أسماء الإلوهية والربوبية تحديدا ( مثل: الله، الرب، المسيح، أقانيم الثالوث، الخ ) إذا جاءت معرفة فالحديث يخص الشخص في صيغته المطلقة، أي خارج سياق رصد حدث النعمة، بينما مجيء الاسم بدون أداة تعريف، إنما يخص حالة مفتوحة من حدث النعمة الآني الذي تختبره الكنيسة، كعلاقة وكشركة مع الشخص الذي يشير إليه الاسم "النكرة". ويزداد الأمر تعقيدا بعض الشيء عند التعرض للأسماء المركبة، مثل: ابن الله، الروح القدس . وأهمية هذا الاكتشاف تتمثل في توفير قدرتين جديدتين: الأولى هي قدرة تفسيرية تأويلية، إضافية، للنص. وقد تعرضنا - في سياق الدراسة - لبعض الأمثلة التي قد يبدو فيها النص غامضاً، مشتبكاً، فتتدخل هذه الآلية في حسم، لتفض الاشتباك وتزيل الغموض. والثانية هي قدرة ترجيحية أكاديمية قد يستفيد منها أصحاب التخصص العالي من أساتذة الكتاب في ترجيح صيغة على أخرى في بعض النصوص التي حدث بينها اختلاف - في ورود أداة تعريف - أو حتى اسم ما - من عدمه - بين المخطوطات المرجعية للكتاب. وفي ما يلي بعض من أبرز الأمثلة – التي تطرقنا إليها - لاستخدام الأسماء، في بعدها الإضافي، في يونانية العهد الجديد :

                                 1- الله

 الصيغة المعرفة لاسم "الله" تشير إلى شخص الله في حيادية واستقلالية (في مقابل العالم)، ومن الناحية الموضوعية فالله اسم حيادي من نحو الجميع؛ فهو إله الإشرار مثلما هو إله الاخيار. والصيغة المعرفة تطرح في سياق نص يدعو للشركة في الله بواسطة ابنه المتجسد في البشر. والدعوة بطبيعتها تحتمل قبولا بنفس القدر الذي تحتمل به رفضاً، أما الصيغة غير المعرفة لاسم "الله" تشير إلى شخص الله المنفتح نحو العالم، تشير إلى حدث النعمة الآني في الله بالمسيح يسوع كاختيار محسوم بقبول الشركة في الله بواسطة ابنه المتجسد. التعريف دعوة  - تحتمل القبول كما تحتمل الرفض - بينما التنكير قبول للدعوة.

                                 2- الآب

1- الاسم في صيغة التعريف (o pater) يعني شخص الآب، الكائن في شركة الثالوث القدوس. وعندما يذكر هذا الاسم - بهذه الصيغة - فنحن بصدد سياق كاشف لعلاقة الشركة الديناميكية بين شخوص الثالوث (وفيها يتضمن الأقنوم كل أقنوم من الأقنومين الآخرين). ويصير كشف هذا السر العجيب "دعوة" للكنيسة لكي ما تصير شريكة فيه بالنعمة، أي تصير صورة للثالوث القدوس، وهذه هي النعمة التي من الآب بالابن في الروح القدس. 2- نسبة شخص الآب (اللفظة المعرفة) إلى الجمع المخاطب، إلى الكنيسة، تكشف تمايزاً لشعب الله عن الأشرار. هذا هو تمايز البنوة التي انتسب بها أفراد الكنيسة إلى الآب.3- الاسم غير المعرف (pater  )، تكشف حدث النعمة الحي الجاري في الكنيسة، الآن، في الكلمة المتجسد، الكلمة المرسل إلى العالم من قبل الآب. والإرسالية، هنا، هي حدث التجسد ذاته، الذي فيه استعلن الملء ومن ملئه تمتلئ الكنيسة، ونعمة فوق نعمة. الأمر هنا يختلف تماما عن ما تكشفه صيغة التعريف، فنحن هنا لا نتحدث عن مجرد دعوة للشركة في الثالوث – من المحتمل تلبيتها بالنعمة وأيضا من المحتمل عدم تلبيتها - بل نتحدث عن اختبار حي وفعال، اختبار آني، تحياه الكنيسة في الزمن الحاضر، وفيه تعلن قبول دعوة الشركة في الثالوث، وفيه يكتمل بنيانها كجسد للمسيح.
                                3-  الابن

1- الصيغة المعرفة (o huios) تعني شخص الابن، في إطار شركة الثالوث. وعندما يذكر اسم "الابن" معرفاً، فإن السياق يكشف بجلاء خطة وتدبير التجسد بإعطاء الابن إلى العالم. وخلاص البشر من الموت مشروط ومرهون بقبول هذه "الدعوة"، فمن يقبل شخص الابن له الحياة ومن يرفض يستمر في موته. فالابن بتجسده قد كشف مسرة الله بالبشر الذين قد أصبحوا شركاء فيه، وبالتالي قد أصبحوا شركاء في الثالوث القدوس بالنعمة، إذا قد نالوا التبني بانتمائهم للابن المتجسد الذي فيه قد تألهوا صائرين ورثة لله مع المسيح، في المسيح.2- الصيغة غير المعرفة (huios ) تعني شخص الكلمة المتجسد الذي يمتد بجسده الآن في الكنيسة. الحديث لا يشير فقط إلى خطة الله بخصوص التجسد، كدعوة للكنيسة -  تحتمل القبول والرفض - كما تشير الصيغة المعرفة - ولكنه يدخلنا إلى واقعية الحدث ذاته، حيث الكنيسة التي يكلمها الله في الابن والتي فيه تولد اليوم (أنا اليوم ولدتك)، والتي فيه جلست عن يمين العظمة في الأعالي، والتي فيه صارت أعظم من الملائكة، إذ صارت كائنة في اسم المسيح، وعليه فعندما يذكر اسم "الابن" بدون تعريف، فإن السياق يكشف بجلاء حدثا آنيا مفتوحا يمتد فيه الرب يسوع الكلمة المتجسد في كنيسته. وعبارة: "أنت ابني أنا اليوم ولدتك"، من المستحيل أن تشير إلى علاقة الآب بالابن على مستوى الثالوث وبمعزل عن النعمة، بل تشير إلى الابن المتجسد في البشر، تشير إلى ولادة الابن في الزمن، بتجسده. هذه واحدة مما يمكن أن تصنعه الآلية - موضوع الدراسة - من فك الاشتباك في بعض العبارات الملتبسة والتي لا يمكن أن تتكشف في الترجمة العربية، مثلا. وطبقا لمنطق هذه الدراسة، فبافتراض صحة تأويل العبارة على أنها خطاب الآب للابن (في المطلق، بمعزل عن الخليقة، خارج إطار النعمة)، فقد كان من اللازم أن يأتي اسم الابن في صيغة معرفة، وهذا لم يحدث.

                                 4- ابن الله

1- عندما تذكر الصيغة المعرفة (للشطرين) لاسم "ابن الله"(o" huios "tou" theou") فهي تعني  شخص الرب يسوع  التاريخي، الكلمة المتجسد. وليست تشير - بأي حال من الأحوال- إلى شخص "الابن" في علاقاته الثالوثية (أي خارج إطار النعمة). وعندما يذكر الاسم بهذه الصيغة فهو يقود سياقا "يدعو" إلى امتداد وافتراش استحقاقات سر التجسد، في كل الذين يقبلون الدعوة، فالرب يسوع "ابن الله" هو الأصل والباكورة وحجر الزاوية ورأس النعمة ومنبعها  التي تمتد في الكنيسة إلى حد الامتلاء  إلى قياس قامة ملء المسيح. 2- الصيغة غير المعرفة لشطري الاسم (huiou theou) تشير إلى حالة النعمة المفتوحة الآنية التي فيها تقبل الكنيسة تفعيل شهادة الرب يسوع التاريخي فيها، تقبل امتداد سر تجسده فيها فيها، تقبل ترأسه لها في حدث واقعي آني، وليس مجرد وعد أو دعوة أو خطة معلنة، بل حسم إيجابي لحساب قبول الكنيسة "دعوة" رأسها. 3- الصيغة التي تعتمد تعريف اسم "الله" فقط (huios "tou" theou) تشير إلى حالة من التشكك والظنية نحو شخص الرب يسوع التاريخي.
 ملحوظة مهمة
  من خلال تعرضنا للاسمين: "الابن"و "ابن الله" قد برزت أهمية البعد الإضافي للاسم في يونانية العهد الجديد، وقد تجلى ذلك في الإجابة على بعض الأسئلة بدون بذل أي مجهود في تأويل النص: فعندما يقول المبشر لمريم العذراء بأن وليدها يدعى "ابن الله" بسب حلول الروح القدس عليها، كيف نفهم هذا؟ هل كان لا يدعى ابنا قبل التجسد؟  وعندما يتقدم المجرب مستجوبا الرب: إن كنت "ابن الله" افعل كذا وكذا، كيف نفهم هذا؟ هل يتجاسر الشيطان ليجرب الله الكلمة، عن وعي؟ وعندما يقول الرسول بولس بأن "الابن" قد تعين "ابن الله" بقوة من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات، كيف نفهم هذا؟ ألم يكن ذاك معينا ابنا قبل القيامة؟   وعندما يخاطب الآب الابن: أنت ابني أنا اليوم ولدتك، كيف نفهم هذا؟ هل لم يكن مولودا منه قبل "اليوم"؟ وبالتأكيد الإجابة – على كل هذه التساؤلات - ببساطة هي  ماطرحته هذه الدراسة من أن " الابن ، ابن الله " الصيغة غير المعرفة تشير إلى النعمة الآنية التي في الابن المتجسد والتي انطلق حدوثها في الزمن ، وليس شخص الابن المستقل ، كما تشير إليه الصيغة المعرفة لشطري الاسم. أيضا يعطينا البعد الإضافي للاسم قدرة ترجيحية تساعدنا في الاختيار الحاسم في بعض الاختلافات الدقيقة بين الأصول والمخطوطات المرجعية للكتاب. فعلى سبيل المثال في بشارة الملاك للعذراء، وردت في بعض المخطوطات شبه الجملة: "منك: ek sou" (المولود منك)، وطبقا لمنطق هذه الدراسة تبدو هذه العبارة خارجة عن السياق، فصيغة "ابن الله" بدون تعريف للشطرين - الواردة في النص - لا تشير فقط إلى شخص يسوع، التاريخي، المولود من العذراء - مثل الصيغة التي تعتمد تعريف شطري الاسم - بل تشير إلى بدء زمن مجيء الكنيسة الكاملة. فلم تكن البشارة حدثا يخص العذراء وحدها، بل هي بشارة للبشرية كلها بظهور رأس وجودها الجديد، خارجا من رحم العذراء  ومعلنا بدء حدث مجيء الكل فيه.

                           5- الروح القدس

1- الصيغة المعرفة لشطري الاسم (to" pneuma "to" agion ") تشير إلى الشخص، والشخص - كما نقول دائما - "دعوة". شخص الروح القدس دعوة للإنضمام إلى شركة الثالوث القدوس  بالنعمة، دعوة إلى الشركة في الروح القدس كساكن أبدي في البشر.2- الصيغة التي تعتمد تعريفا لاسم "القدس" فقط (to" agion pneuma ") تشير إلى عطية الروح القدس كإمكانية وكقدرة متاحة وكمواهب، على مستوى الكل كما على مستوى الفرد. الحديث هنا ليس بخصوص وعد أو دعوة، بل بخصوص إمكانية وقوة وطاقة فاعلة تؤتي ثمارها في حالة قبولها.3- الصيغة غير المعرفة لشطري الاسم ( pneuma agion ) تأتي في سياق الحديث عن حدث النعمة الآني، فالأمر لم يعد مجرد دعوة (كما في حالة الاسم المعرف للشطرين) أو إمكانية أو قدرة معطاة (كما في حالة تعريف "القدس" فقط) بل قبول فعلي حي آني، من قبل الكنيسة لدعوة شخص الروح القدس.
ملحوظة مهمة
  في النص المزدوج الوارد في (أع 10: 45 و 46): عندما كان الحديث يشير إلى تمام قبول شخص الروح القدس كدعوة، جاءت الصيغة معرفة لشطري الاسم، بينما عندما أشار الحديث إلى انسكاب عطية الروح القدس على الأمم، التي ظهرت في التكلم بالألسنة والعظائم، جاءت الصيغة التي تعتمد تعريف اسم "القدس" فقط. وبخصوص ازدواج الصياغة بخصوص "التجديف على الروح القدس":- في النص الوارد في (مت 12: 24 - 32): عندما كان حديث الرب موجها إلى الفريسيين المرفوضين الذين تقولوا عليه بأنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين، جاءت صيغة "الروح القدس" معرفة الشطرين، فالتجديف هنا هو رفض مبدئي لشخص الروح القدس من قبل هؤلاء المرفوضين. وأما بخصوص النص الوارد في (لو12: 1- 12): عندما كان حديث الرب موجها إلى التلاميذ، جاءت الصيغة ذات التعريف الأحادي لاسم "القدس" والتي تشير إلى الروح القدس المعطى كإمكانية وكقدرة، وهذا أمر منطقي، فالتجديف هنا يعني رفض الانصياع للروح القدس المعطى لهم، رفض لعمل الروح القدس الحال في المدعوين كقدرة وكطاقة لتفعيل دعوتهم.

                                6- الرب

1- الصيغة المعرفة، o kyrios ، دائما، تعني الشخص المستقل المتمايز. وشخص الرب كيان عجيب مدهش يتميز عن أي شخص آخر، بل هو يتميز عن ما يعنيه اسم "الله". وإن كان دائما يحدث الخلط بين الاسمين فهذا لا يعني أن ذلك موقف صائب. فشخص الرب يأتي في سياق النعمة، فالله لم يصر ربا إلا عندما صار خالقا. الألوهة لا تعني الربوبية ولكن الربوبية وظيفة وعمل اضطلع الله به ليكشف محبته في خليقته بأن يرعاها ويتسيد عليها، وبالطبع، قبل الخليقة لم يكن هناك أي من المربوبين وبالتالي لم يكن الله ربا. مفهوم "شخص الرب" يأتي متوازيا مع مفهوم النعمة. وبالتأكيد كان الله، في العهد القديم، ربا لشعبه ولكن في العهد الجديد استعلنت النعمة بتجسد الكلمة وبظهور الرب يسوع، التاريخي لم تعد الربوبية مجرد عناية مادية لشعب مآله الموت الطبيعي، بل أصبحت الربوبية والعناية وجودا في شخص الرب ذاته، أي في المسيح. وصار الرب يسوع رأسا لكيان ضخم هو الكنيسة، جسد الرب. وهكذا نحن الآن نحيا في سياق تكميل مجيء الكيان الكامل لشخص الرب. فشخص الرب ليس فردا منعزلا بل هو كيان جامع، كاثوليكي يضم كل شعب الرب، كل أفراد الكنيسة، وبدون أي فرد من المختارين يبقى شخص الرب ناقصا. وبدون وجود الكنيسة يبقى شخص الرب مجرد رأس بلا جسد. وبالرجوع إلى النصوص نجد أن شخص الرب هو كيان ينضم إليه المؤمنون ويثبتون فيه ، وهو الوطن البديل، الباقي، للمؤمنين عوضا عن وطن غربتهم البائد، الجسد ، وهو ثمر الكون كله الذي يتحقق متراكما في أناة حتى ينال المطر المبكر والمتأخر، لكي يكتمل كل ملئه، يكتمل مجيء شخص الرب  .2- صيغة "شخص الرب يسوع المسيح" ( تعريف الرب فقط) تشير إلى ملء وكمال شخص الرب وإلى ملء وكمال مفهوم الربوبية بكمال الجسد بكل أعضائه وليس مجرد الرأس (الرب يسوع التاريخي).    بينما صيغة "شخص الرب يسوع "( تعريف الرب فقط ) تشير إلى رأس الكيان ومنبعه وحجر زاويته الممتد في الكنيسة، أي أنها لا تشير إلى الكيان الممتلئ بل إلى الكيان المتنامي، الممتد، المتعاظم، وهذا يعطينا قدرة وآلية نقدية نستطيع بها أن نرجح عدم صحة ورود اسم "المسيح" في بعض الأصول المرجعية للعهد الجديد. 2- صيغة "الرب" بدون تعريف ( kyrios ) تدخلنا في سياق حديث النعمة، الآني، حديث امتلاء كيان الرب بكنيسته، حديث قبول الكنيسة لولوج شخص الرب والتموقع والاستيطان والعضوية فيه. لذلك فإذا عدنا إلى الاقتباسات فإننا نجد أن سياق الحديث قد تغير من علاقة المعية بين الكنيسة وشخص الرب يسوع، رأس الكيان- في مجيئه - ومن علاقة الضمنية التي تكشفها صيغة "شخص الرب يسوع المسيح"، إلى علاقة الدخول الديناميكي الآني إلى شخص الرب:  فالآتي المبارك المنتظر، ملكوت الله (مملكة أبينا داود) هو جوهر ومضمون اسم الرب، هو آت الآن في اسم الرب . وهنا تجدر الإشارة أن إدراكنا الذي يمثله منطق هذه الدراسة يجعلنا نستبعد عبارة "باسم الرب" الملحقة بمملكة أبينا داود، الواردة في بعض الأصول المرجعية للعهد الجديد، فمضمون وجوهر "اسم الرب "هو مملكة داود، هو الكنيسة الآتية، الآن. الكنيسة هي الآتي  في اسم الرب، هي المملكة التي يكرسها – الآن - الرب يسوع الكلمة المتجسد - الذي أعطي له كرسي داود. . في الرب، تبنى الكنيسة، الآن، هيكلا مقدسا، مسكنا للروح، على حجر الزاوية الرب يسوع، الكلمة المتجسد . الكنيسة هي ربوات القديسين الذين يتحققون، الآن، مالئين شخص الرب ومحققين مجيئه وحضوره الكامل . الكنيسة تتحقق، الآن، في يوم الرب بطريقة مستيكية لا يدركها العالم الذي سيفاجأ بزوال العالم لحظة امتلاء الكنيسة، لحظة امتلاء يوم الرب. اللحظة التي تنتظرها الكنيسة لأنها لحظة كمالها وامتلائها، أما العالم فستكون هذه اللحظة بالنسبة له بمثابة يوم الله الذي حدده لنهاية العالم المباغتة. ويجب أن نلاحظ هنا أنه في سياق الحديث عن نهاية العالم بالنسبة للكنيسة، قد استخدم تعبير "يوم الرب "بينما بالنسبة لأهل العالم قد استخدم تعبير "يوم الله"، فشخص "الرب "يعني النعمة والإيجابية، أما شخص "الله "فهو شخص حيادي ( إذا  جاز التعبير) يتعاطى مع الجميع أشرارا وأخيارا، لذلك فالذي يباغت الأشرار هو "يوم الله "أما الذي ينتظره الأخيار فهو "يوم الرب".

                               7- المسيح

إذا أردنا أن نعبِّر عن المحددات التي تخص لقب "المسيح"- من خلال صياغاته المختلفة في النص اليوناني، لاسيما في رسائل بولس الرسول - نستطيع القول بأن المسيح هو:
1- الشخص الممتلئ، الكامل، المستوعب للكنيسة. هذا هو مدلول صيغة: "o Christos "، الصيغة المعرفة، وهي الصيغة المغلقة، المحسومة، الإسخاطولوجية، eschatos، إن جاز التعبير)، وحينما تذكر فهي دعوة لامتلاء الكل، بالذي يمتلئ بالكل، الذي هو شخص نهاية التاريخ، الذي يجتمع فيه الكل إلى إنسان كامل، إلى جسد واحد، هو رأسه.هو الشخص الذي فيه" رجاء الدعوة "التي دعيت إليها الكنيسة (مدلول عبارة "en tw Christw"، الصيغة الرجائية الإسخاطولوجية، إذا جاز التعبير).
2- الشخص الذي يمتلئ الآن، ويتحقق باستيعابه للكنيسة. هذا هو مدلول صيغة: "Christos"، الصيغة غير المعرفة. وهي الصيغة المفتوحة، "الآنية"،" الحاضرة "، إذا  جاز التعبير).  هو الشخص الذي يتعاظم ويتصور - الآن - في الكنيسة، في حدث النعمة الذي يختبره المؤمنون. يختبرون شركة موته وشركة قيامته. يختبرون "معيته". يتلبسونه كرداء عندما يصطبغون به في المعمودية .- هو الشخص الذي يتحقق ويحضر الآن، في "يوم الرب يسوع المسيح". هو الشخص الذي فيه "الدخول إلى تحقق الرجاء الحي الفعال"، فيه الدخول "الآني" إلى الخليقة الجديدة (مدلول عبارة "en Christw"، الصيغة الرجائية الحاضرة في حدث النعمة،إذا جاز التعبير .
3- الصيغة المركبة من " يسوع " و " المسيح" ، الاسمان بدون تعريف ، ولدينا هنا صيغتان: الأولى " يسوع المسيح" (Iesous Christos ) والثانية " المسيح يسوع " (Christos Iesous).  الأولى تشير إلى حركة استهدافه الآنية لنا- بامتداده فينا محققا انتماءه إلينا كرأس للكنيسة. والثانية تشير إلى حركة انتمائنا الآنية، إليه، به، والتموقع فيه كأعضاء في جسده الذي هو الكنيسة. الأولى هي كشف المسيح عن كنيسته بمجيئه فيها. والثانية هي شهادة الكنيسة ليسوع بتكميل جسده والعضوية فيه. الأولى هي اتجاه النعمة النازل من الرأس يسوع إلى باقي الجسد الكنيسة، والثانية هي اتجاه النعمة الصاعد باستحضار ولملمة الأعضاء إلى الرأس. الأولى هي صيغة مجيء المسيح في الكنيسة والثانية هي صيغة مجيء الكنيسة في المسيح. الأولى هي حركته إلينا. و الثانية هي حركتنا إليه . الصيغتان وجهان  لحدث واحد من منظورين ( اتجاهين ) متعاكسين.
  4- الشخص، موضوع الدعوة، والبشارة، والكرازة الإنجيلية الموجهة لكل العالم والتي قد قبلتها الكنيسة (مدلول صيغة: o Christos Iesous =  تعريف " المسيح" فقط ) وهي الصيغة الكرازية، التبشيرية، إذا جاز التعبير .
مجدي داود


الخميس، 17 أكتوبر 2019

الاحتواء المتبادل بين أقانيم الثالوث ( 4 )


                     

                      
                         
                        زبدة المقالات الثلاث
  

1-  إذا تحررنا من قيود انطباعاتنا الزمكانية عن مفردات اللغة البشرية، فاستطعنا أن نجرد مفردة " الاحتواء " من ماقد يصلنا من مدلول مكاني محدود، لها  - مثلما استطعنا ، بداية ، أن نجرد مفهوم " الولادة " و" الانبثاق " من مدلوليهما لدينا ،  منذ قبولنا الإيمان - إذا تحررنا من هذا الأمر بالإضافة إلى توفر قناعة بأن الاحتوائية المتبادلة هي مفهوم يعني المبادرة الديناميكية الفاعلة من قبل كل شخص نحو كل شخص من الشخصين الآخرين ، أي السببية المتبادلة؛ ففيما يؤقنم  الشخص الجوهر الإلهي مظهرا إياه من منظور هويته الشخصية - كطبيعة متأقنمة وليست مجرد طبيعة " عارية "( إذا جاز التعبير) - فهو يصنع أمرا آخرا من نحو الأقنومين الآخرين إذ يتضمنهما ويستوعبهما ويحتويهما ، لأنه  " هوموأووسيوس " بالنسبة لكل منهما ؛ فأبوة الآب تستوعب وتحتوي بنوة الابن، وتستوعب وتحتوي انبثاقية الروح القدس . والأمر ذاته قائم من المنظور المعاكس في تبادلية مدهشة ، أي من قبل الابن والروح نحو الآب ، فضلا عن مابين الابن والروح ، والروح والابن . تبادلية تتم في تواز وتزامن سرمدي ليس له إلا  ثمرة واحدة وهي تحقق الوجود الإلهي ذاته . إذا أدركنا ذلك، وحررنا أذهاننا من تلك، نكون قد أدركنا - على قدر استطاعتنا - مفهوم الاحتواء المتبادل بين الأقانيم الثلاثة التي للثالوث القدوس.
 2- ليست القضية هي الدوران في متاهة التفاصيل اللاهوتية، ولكن جماع القول وخلاصته هو أن علاقة الاحتواء المتبادل بمضامينها المختلفة- من الاستعلان والسببية والمحبة والحركة – هي علاقة وجودية، هي أعجوبة الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالاستعلان هو استعلان وجودي، أي اعتلان الله ذاته موجودا وجودا شخصيا. والسببية هي سببية وجودية، أي المبادرة المتبادلة بين شخوص الثالوث لتحقيق الوجود. والمحبة هي محبة وجودية، أي عطاء الوجود ( الذات ) المتبادل بين شخوص الثالوث. والحركة هي الحركة الوجودية المطلقة التي يتحقق بها وجود الله من الآب بالابن في الروح القدس. وخلاصة الخلاصة هي أنه إذا التزمنا بتحييد الخريستولوجيا والسوتريولوجيا فإن   شركة الثالوث القدوس تتجلى أمام عيون أذهاننا لا كنظرية فلسفية لاهوتية ولكن كشركة للفعل الوجودي الآني المطلق الذي فيه يخترق الله العدم اختراقا سرمديا في احتواء وجودي متبادل بين أقانيم هذه الشركة. فالله ليس فكرة والوجود الإلهي ليس فلسفة ، والله هو الله بالحقيقة لأن وجوده لايعود لآخر غيره فاستحقاق الألوهة عنده يعود إلى تلك الآخرية الذاتية العجيبة التي في السببية المتبادلة بين الأقانيم، فهو الكيان الحي الوحيد الذي يتمتع بآخرية ذاته ؛ فهو الموجود من ذاته وهو الموجد لذاته وهو النابع من ذاته ليصب في ذاته، أي الاحتواء الذاتي ( من قبل كل أقنوم تجاه الجوهر الإلهي ) المتلازم مع الاحتواء المتبادل بين كل أقنوم والأقنومين الآخرين، هذا هو مضمون مصطلح ال " perichoresis ".
   3- في سياق تضارب تعددية المفاهيم - من ناحية – واختزال المفهوم – من ناحية أخرى- ينشأ اللغط وتتعقد الرؤى، ومصطلح " perichoresis  ) نموذج لهذا الآمر . هل هو حلول أم احتواء؟ متاهة اللغة تنم عن افتقاد للمفهوم العميق الذي ليست الألفاظ كل جوهره. كان المفهوم جليا عند الآباء العظماء : أثناسيوس وهيلاري وكيرلس، ولم يكن قد نحت المصصلح بعد. المفهوم دائما يسبق اللفظ والحرف، إلى أن يستدعى الحرف واللفظ ليتبلور المصطلح. لذلك قد بات من الضروري تحرير وضبط المصطلح ، ولعل المدخل لهذه المهمة هو طبيعة مفهوم المصطلح ذاته، فهو يرصد فكرة "العلاقة"، والعلاقة دائما متعددة الأطراف، وإذا ولجنا أكثر إلى المناخ الذي يطبق فيه المصطلح لوجدنا أننا أمام نمطين من العلاقة: علاقة طبيعية متماثلة وهي العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، وعلاقة غير متماثلة بين طبيعتين مختلفتين . الأصل في النوع الأخير هو العلاقة بين الكلمة وناسوته القائمة في اتحاد أقنومي يحدث فيه تبادل للصفات بين الطبيعتين ، ثم العلاقة الناشئة كامتداد في الكنيسة أي التأله، علاقة أعضاء جسد المسيح بالرأس  الرب يسوع. لابد ومن دون شك أن يستخدم مصطلحان مختلفان لتوصيف هذين النمطين من العلاقة ، وفي اعتقادي أن العلاقة الطبيعية التي في احتواء المحبة المتبادل بين شخوص الثالوث -ونظرا لطبيعتها الديناميكية- يناسبها ال " perichoresis "؛ فالمفهوم الاصطلاحي واللغوي للكلمة يشع حركة، وفي اعتقادي – وهذا رأيي – لم يعرف اللاهوت كلمة تكمن فيها القدرة على شرح الثالوث مثل هذه الكلمة . أما النمط الآخر من العلاقة، أي مابين الطبائع المختلفة فيناسبها المصطلح الأحدث جدا " co-inherence " الذي يفيد نوعا من الحضور والحلول والتواجد المتبادل  "  co-indwelling" هذا المفهوم الذي بلغ ذروته بالاتحاد الأقنومي بين لاهوت الرب وناسوته، وأيضا بالنعمة يحدث للبشر هذا الحلول المتبادل في المسيح، أي التأله. إذن لدينا في الثيئولوجيا كلمة " perichoresis "، ولدينا في الخريستولوجيا والإيكونوميا كلمة " co-inherence ". هذا هو اقتراحي لفض الاشتباك. والخلط قد يحدث بسبب العلاقة العضوية - إذا جاز التعبير - بين المفهومين ، فدخول البشر في مظلة شركة الثالوث هو صورة العلاقة الثالوثية ذاتها؛ فعندما يستحضر البشر كأبناء للآب بالعضوية في جسد الكلمة في الروح القدس - وقد حدث بينهم وبين الابن المتجسد ذلك الحلول المتبادل - فهم يختبرون الصورة النعموية الأبدية للاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، وكما يعطي كل شخص  - من شخوص الثالوث - ذاته كاملة إلى الشخصين الآخرين دون أن ينتقص منه شيء بسبب وحدة الجوهر ، يعطي القديسون كل ذواتهم للكلمة المتجسد فيتكمل بهم جسده ، فالرب محتاج إليهم ( مر 11: 3) لأنه لارب بلا مربوبين ، ولاجسد بدون أعضاء إلا إذا ظل رأسا إلى الأبد ، وهو لم يتجسد إلا ليكون جسدا كاملا. وما أروع أن يبادر العتيدون أن يصيروا أعضاء في جسد الرب باغتنام فرصة سانحة أمامهم لتكميل كيان ربهم، مالئين ماقد أعد لهم فيه، فيبادلهم الرب العطاء تأليها. وهكذا فإن تألهنا (الذي يتحقق بحلولنا المتبادل مع الكلمة المتجسد ) هو الشركة النعموية الأبدية، في الوجود الإلهي ( الذي يتحقق بالاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ). والرب قد أعلنها جلية مخاطبا الآب :" أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد " ( يو17: 23 )، " ليكون الجميع واحدا ، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا "( يو17: 21 ).
 وأخيرا أدعي أن مصطلح الاحتواء المتبادل "  perichoresis " قد تعرض لظلم تاريخي باختزال مفهومه لحساب الخريستولوجيا والإيكونوميا، وقد حدث هذا في ظروف وملابسات يمكن تفهمها، أقصد الصراع المرير مع الهرطقات الكبرى : الآريوسية والنسطورية وفتنة خلقيدونية وغيرها. وفي هذا السياق تم الاكتفاء - تحت ضغط الصراع حول مساواة الابن المتجسد بالآب - بشرح الثالوث من منظور النعمة وهو بالطبع أمر جيد ولكنه ليس كافيا، وسيظل من المتوجب دائما بذل المجهود المضني في ابداع الكتابة اللاهوتية ، من كلمات وتعبيرات جديدة تسبر أعماق هذه العلاقة العجيبة في إطار الثيئولوجيا فقط لتعويض ذلك النقص الفادح الذي أخل بالتوازن بين شرح الثالوث  المستعلن في الألوهة الواحدة - التي من الآب بالابن في الروح القدس - وبين شرح الثالوث  المستعلن في النعمة الواحدة - التي من الآب بالابن في الروح القدس .

 مجدي داود