الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

الاحتواء المتبادل بين أقانيم الثالوث ( 3 )




                             اعتراضات وردود

  في سياق الحوار غير المباشر الدائر على صفحات موقع الدراسات القبطية   بخصوص " الحلول والاحتواء "، وقد بدأ بعدة تعليقات لي على مقال للدكتور جورج ، كان قد نشر منذ عدة سنوات - تحت عنوان " الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث ( 1و2 ) "، وفي أثناء تلك السنوات ، وفي مواضع عديدة على الموقع ، أشار أستاذنا إلى كثير مما ورد في تعليقاتي على المقالين. وفي هذه المقالة أحاول أن أعقب على بعض هذه الإشارات من باب  إثراء حوار لاهوتي راقي وليس من باب المبارزة أو المناظرة.
المشكلة في الاختزال 
جوهر المشكلة – بخصوص مصطلح " perichoresis  " – هو اختزال المفهوم  إلى مايخص التدبير ويتم تهميش - بل تجاهل – أي شرح لاستعلان   الألوهة خارج  التجسد.    .   
اقتباسات
- "  الآب يحل في الابن والابن في الآب. الروح يحل في الابن وفي الآب. هي حركة حياة الثالوث عندما تجسد ابن الآب الوحيد  " الكائن في حضن الآب "(يوحنا 1: 18) ( الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث -1)
- والحقيقة أن التمييز الذي يتجاوز التدبير المستعلَن بتجسد الابن، هو تمييزٌ لغويٌ لا أساس له في الواقع، أي في الحياة الالهية. فمن تجسد الرب الابن الوحيد، عرفنا الآب، وقبلناه بالروح القدس بالابن، وخارج التدبير لا يوجد استعلان قائم بذاته للثالوث. ( الحلول المتبادل - التجسد والثالوث )  
- ومن تدبير الخلاص نعرف أننا لانحتاج إلى شرح الثالوث خارج تدبير الخلاص ( رسائل الأب صفرونيوس، ج3، الثالوث القدوس توحيد وشركة وحياة ص: 27، موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية )
تعليق
بالتأكيد كان الاتجاه الغالب عند الآباء هو شرح الثالوث من منظور خلاصي خريستولوجي، ولما لا فالنعمة هي استعلان حضور الثالوث في الخليقة، الأمر الذي بلغ ذروته في التجسد، ليمتد في الكنيسة. لكن هذا لايبرر اجهاض أي محاولة لفهم الثالوث في ذاته. أليس استعلان شركة الثالوث هو استعلان ذاتي سرمدي قبل أن يصير استعلانا نعمويا زمنيا، في الخليقة؟ أليس الاستعلان يعني الوجود، وإلا يصبح الله محتاجا إلى الخليقة كي يعتلن فيها ذاته وليس يعلن ذاته فيها كتعبير عن صلاحه ومحبته ؟ هل العجز في فصل الإيكونوميا عن الثيئولوجيا سيظل دائما أمرا يدعو للفخر ؟
والآن قد بات من حقي أن أسأل أستاذنا الدكتور جورج بخصوص المعزوفة اللاهوتية الآتية:
" الروح القدس هو روح الآب الذي من عند الآب أي أنه ليس الآب، ولكنه العطاء المتبادل بين الآب والابن . وعندما يعطي الآب ذاته للابن في الروح القدس، فهو عطاء من واحد للاثنين، وهذا يجعل العطاء مطلقا.. وكذلك عندما يولد الابن من الآب، فهو يحمل كل صفات الآب وقدراته ويعطي ذاته للآب في الروح القدس، أي عطاء الابن للآب والروح. وعندما ينبثق الروح القدس من الآب فهو يستقر في الابن، ويعطي ذاته للابن والآب، ولذلك العطاء دائما من أقنوم إلى أقنومين.من الآب للابن والروح، أو من الابن للآب والروح، أو  من الروح للآب والابن. وهذا يجعل العطاء كاملا ومطلقا، فهو لايعطي ذاته لواحد دون الآخر، بل يعطي ذاته للاثنين معا.وهذا يجعل صورة  المحبة ليست ثنائية بين اثنين ، بل ثلاثية بين ثلاثة، وهذا هو المثال المطلق الذي ينزه المحبة عن الأنانية ويجعلها عطاء لايتوقف"  ( حوار عن الثالوث مع دراسة لعقيدة الثالوث في الكتاب المقدس والآباء، موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية ، ص65 )
ماهذه الروعة أستاذنا ، إنني لا أطمع في مستوى للكتابة  - عن الثالوث - أفضل من هذا المستوى، ولكن دعني أتساءل : أين الخريستولوجيا والإيكونوميا والنعمة من هذه القطعة اللاهوتية الفائقة الجمال؟ هذا حديث خارج الزمكان، حديث السرمدية الذي يشرئب   ليطل على مالايمكن إدراكه في وجودنا المادي هذا. فلماذا نتناقض مع أنفسنا فنعطل سعينا المعرفي مكبلين أنفسنا بفرضية أنه لاشرح للثالوث خارج التدبير ؟  
  النتائج المنطقية للاختزال
1- رفض الاحتواء
 إذا اختزل مفهوم المصطلح إلى العلاقة بين الطبيعتين في الرب يسوع؛ أي  الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الابن وناسوته ، أو إلى العلاقة بين الابن والبشر في المسيح ؛ أي التأله، وتناسينا تماما أي مدلول للمصطلح بخصوص شرح الثالوث كشرح للوجود الإلهي ذاته ، إذ كان هذا صحيحا فإننا من المنطقي أن نخلص إلى نتيجة مفادها أنه لايليق بنا استخدام كلمة " احتواء " بالمرة لما توحي به من انطباع مادي سلبي ، انطباع عن القهر الصادر من طبيعة نحو أخرى، والمنطقي أن الإلهي هو الذي يقهر البشري ويسلبه حريته.
اقتباسات
- " لعل الحافز الأساسي لكتابة هذا المقال هو ترجمة الكلمة اليونانية Perichoresis إلى  "احتواء "، وهو ما لا نوافق عليه.." ( الحلول المتبادل  لأقانيم الثالوث-2، موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية )
- " نحن لانحتوي الثالوث، ولايحتوينا الثالوث لأن الاحتواء اغتصاب " rape " ، بل يحفظ الثالوث حريتنا ، لأنه عندما تنعدم الحرية تنعدم المحبة " ( لماذا تعذر شرح الثالوث القدوس ، موقع الدراسات القبطية ، ص: 14 )
- " خطورة الاحتواء تبدو في أنه ينفي ديناميكية حرية وحركة المحبة. لأن اللاهوت يعمل بواسطة الناسوت، وهو ليس عملاً آلياً تنعدم فيه الإرادة والمحبة الإنسانية، أو أنها تحتوى، بل تتحد بالإرادة الإلهية وتصبح إرادة واحدة من إرادتين". ( الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث-2 )
تعليق
هكذا يقودنا اختزال المفهوم إلى هذه النتيجة المنطقية ، صورة بشعة للاحتواء لطالما كان المفهوم بمثابة علاقة بين طبيعتين غير متكافئتين وغير متماثلتين، أما إذا عدنا إلى الأصوب وهو أن الاحتواء المتبادل - في الأصل -  ينطبق أكثر على العلاقة الثالوثية حيث الاحتواء هو احتواء سببي ، احتواء المحبة المتبادل؛ كل شخص يحتوي - سببيا - الشخصين الآخرين، بمبادرة حرة منه. وكل شخص يقبل احتوائية الشخصين الآخرين له . لايوجد من يقهر الآخر، في علاقة متماثلة كاملة، وكل شخص يعطي كل جوهره للشخصين الآخرين دون أن يفقد شيئا من جوهره لأنه هوموأوسيوس مع الشخصين الآخرين.
  2- رفض مناقشة مفهوم الوجود الإلهي
إذا تم اختزال تطبيق مفهوم المصطلح في مجال النعمة فقط، يصبح الحديث عن الوجود الإلهي أمرا لامعنى له، بل يصبح أمرا مرفوضا.
اقتباسات
  - " الله غير موجود؛ لأن الموجود اسم مفعول، ويعني أن هناك آخر أوجد الله. كلمة الوجود قاصرة على المخلوقات فقط" .
- " ولأن الأسفار المقدسة والآباء لم يستخدموا كلتا الكلمتين ( الوجود والموجود ) في شرح الإيمان بالله، صار الوجود المتبادَل تعبيراً غير مقبول لاهوتياً؛ لأن الآب في الابن حياة واحدة، ومحبة واحدة ".( الحلول المتبادل- التجسد والثالوث – موقع الدراسات )
تعليق
إذا رفضنا كلمة " موجود " لانها اسم مفعول فقد بات واجبا علينا أن نرفض كلمة " مولود " لأنها أيضا اسم مفعول. أما أن اسم المفعول يوحي "بالآخر" الذي يحقق الوجود الإلهي فهذا لايعني مشكلة بالنسبة  للوجود  الإلهي القائم بطبعته على الآخرية، " الآخرية الذاتية "؛ فالله هو الكائن الحي الوحيد المولود ( الموجود ) ذاتيا. الفاعل والمفعول كلاهما في علاقة ضمنية ، في احتوائية سببية، الأمر الذي لايعني أن آخرا قد تدخل في الفعل الوجودي الإلهي؛ فالله هو الموجد لذاته ( كآب )، وهو الموجود بذاته ( كابن )، وهو المنبثق من ذاته ليستقر في ذاته ( كشخص الروح القدس ). الوجود الإلهي يتحقق كثمرة  لعلاقة الاحتواء المتبادل ( perichoresis  ) بين شخوص الثالوث القدوس ـ وأما ولوجنا النعموي إلى هذه العلاقة، فهو سر وجودنا نحن. هو يوجد بذاته ونحن نوجد به.    
     الإنجيل يدحض فكرة الاختزال
يبدأ الإعلان الإنجيلي اللاهوتي حديث النعمة بعبارة " كل شيء به كان.." ( يو1: 3 ) ، ويبدأ حديث الإيكونوميا بعبارة " والكلمة صار جسدا وحل بيننا "( يو1 : 14) ، فإذا كان الأمر هو أن خارج التدبير والخلاص لايوجد استعلان للألوهة فإين نضع استهلالية انجيل يوحنا "  فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ.( يو1: 1و2 ) ؟ هل بدأ الإنجيل بعبارة " كل شيء به كان " ؟ لو كانت بداية الإنجيل تنطلق من  استعلان الكلمة الخالق لكان من حقنا أن نتساءل : مالجديد الذي أضيف لنا في المسيح لنتميز عن  بدء العهد القديم 
،" في البدء خلق الله السموات والأرض ( تك1:1 ) ، فنتنازل عن ما أعطي لنا من معرفة شركة الثالوث، أم يجب أن لانهدر معرفة البدء الأزلي فلا نرتد إلى بدء القدماء الذي هو بدء الخليقة  ؟ وبالتأكيد إن استهلالية انجيل يوحنا هي عبارات لاعلاقة لها من قريب أو من بعيد بالخريستولوجيا أو الإيكونوميا أو السوتريولوجيا أو النعمة بصفة عامة، فهي المعزوفة الافتتاحية للإنجيل التي تفتح عيون أذهاننا أمام الأنطولوجيا الإلهية التي هي أصل وجذر أنطولوجيتنا التي سيبدأ الحديث عنها بعد الافتتاحية. وبالرغم من أن إنجيل يوحنا  يضم بين دفتيه  جوهرة التاج في حديث الإيكونوميا ، أقصد " يو 17"، إلا أن الرسول يوحنا قد آثر أن يستهل إنجيله بحديث الأنطولوجيا الإلهية الخالص كمنطلق لأي شيء يتم الحديث عنه فيما بعد .
 الآباء يدحضون فكرة الاختزال
   يعلمنا التاريخ اللاهوتي أن احتياجا ضاغطا لمفهوم ما قد يشكل بيئة مواتية لاصطكاك مصطلح أو نحت تعبير معين يكون كافيا لفض الاشتباك ولبلورة الفكرة العظيمة في مصطلح حاسم قابل للبناء عليه. حدث هذا مع مصطلح مثل :  الهوموأوسيوس، وحدث أيضا مع المصطلح موضوع احتفاليتنا ، ال " perichoresis " . وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نصوص آبائية ،لاأروع ولاأقوى، تشرح أيما شرح وتؤطر أيما تأطر لمفهوم الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث القدوس، في تحييد كامل للخريستولوجيا والإيكونوميا والسوتريولوجيا؛ أي مناقشة الموضوع على أرضية الوجود الإلهي ذاته وليس على أرضية النعمة ، ويحدث هذا دون أدنى ذكر لل" perichoresis  "، الذي ظهر فيما بعد عند غريغوريوس النيزينزي في صيغة الفعل ثم عند مكسيموس المعترف - لأول مرة في صيغة الاسم المتعارف عليها، ولكن - وهذا هو المدهش – لن نجد أساسا يمكن البناء عليه لاكتشاف أعماق منحوتنا العبقرية أفضل مما كتب هؤلاء الآباء مهيئين البيئة الفكرية اللاهوتية لظهور المصطلح :
1- في المقالة الثالثة ضد الآريوسيين ( 23: 1 ) يستخدم القديس أثناسيوس الرسولي مفهوم " الاحتواء المتبادل" كسلاح بتار يجهز به على تلك الأذهان المنحرفة التي أنكرت مساواة الابن للآب، وهم لأنهم ينكرون مساواة الابن بالآب ، فمن المنطقي أن ينكروا الاحتواء المتبادل  بينهما ليتم اختزال الأمر  في علاقة أشبه  بعلاقة النعمة كقول الآية " به نحيا ونتحرك ونوجد ". ويرفض أثناسيوس سؤال الآريوسيين الاستنكاري : " كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ و رفض الاستنكار هو الإقرار بعينه .  ويرفض أيضا أن العلاقة الثالوثية  علاقة " امتلاء متبادل " ، كأن يفرغ الشخص ذاته في الآخر ليملأه ، لأن الشخص كامل وتام في ذاته . ويرفض أثناسيوس أيضا كون أن  العلاقة الثالوثية  يمكن أن تعبر عنها عبارة " به نحيا ونتحرك ونوجد"، لأن الأخيرة تخص النعمة ومن المستحيل أن تنطبق على هؤلاء المتساوين في الألوهة الواحدة التي لكل منهم. وعليه فالعلاقة التي فيها يعطي الشخص كل كيانه للآخر لكي يتم احتواؤه فيه - دون أن يفقد كيانه الكامل الدائم  ، بينما هو ذاته يتقبل كل كيان الأول محتويا إياه - دون أن يفقده كيانه الكامل الدائم  - مثل هذه العلاقة هي عين علاقة الاحتواء المتبادل. هل لذي عين تبصر أن ينكر أن مايتحدث عنه أثناسيوس هنا هو الصيغة النقية "pure " من "trinitarian perichoresis   " دون أن يكون مضطرا لأن يتطرق في ذات السياق إلى الخريستولوجيا أو الإيكونوميا بل العكس هو الصحيح فقد آثر أن يستبعد خلط مفهوم النعمة بمفهوم العلاقة الثالوثية في الآية التي استشهد بها الآريوسيون ؟.  
2- في كتابه " الكنوز في الثالوث "يسلك القديس كيرلس السكندري مسلك أستاذه أثناسيوس، وفي المقالة الثانية عشرة ينطلق من منطلق الأستاذ في شرح عبارة " أنا في الآب والآب في " ( يو14: 11 ) ليدحض فكر الآريوسيين المنادي بعدم مساواة الابن بالآب مستخدما نفس السلاح ، الاحتواء المتبادل بين الآب والابن ، ومستنكرا خلط الهرطقة للأوراق الذي   جعلهم يستخدمون عبارة " به نحيا ونتحرك ونوجد " لجعل الابن مساويا لنا، وهكذا يفرق بين مفهوم النعمة الذي لنا و مفهوم الألوهة الكاملة الذي له. ويستفيض الرجل كثيرا ليتطرق إلى حديث الاتحاد في "يوحنا 17" ، وفي شرحه ل: " ليكونوا واحدا كما نحن "( يو17: 11 )  ول " أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد "( يو17: 23 )، في هذا المشهد المختلط للوجود المتبادل - بين الآب والابن، من ناحية ، وبين البشر والابن من ناحية أخرى – يضع كيرلس خطا فاصلا وتحديدا واضحا بين اتحاد الابن بالآب واتحادنا نحن بالابن؛ فالأول اتحاد بالطبيعة نظرا لواحدية الجوهر والثاني اتحاد بالنعمة ، وشتان الفرق بين الأمرين . وفي نهاية المقالة يبلور قديسنا الخلاصة فيكتب : " إذن حينما نعترف أن يسوع هو من الله ، نسكن في الله، وعندما نرفضه نتغرب عنه، بينما الابن لاينال هذا الأمر كعطية بالتالي فهو لايوجد في الآب بالطريقة التي يوجد فينا بواسطتها، ولكنه يوجد في الآب بالتأكيد، لأنه بطريقة طبيعية وغير متغيرة مولود منه، بينما نحن مولودون منه بحسب النعمة والمشاركة. إذن مثلما هو ابن الله بحسب الطبيعة ، هكذا أيضا نحن بطريقة مشابهة به نصير بحسب النعمة أبناء وآلهة ".( الكنوز في الثالوث القدوس والمساوي- ترجمة د/ جورج عوض ابراهيم- الطبعة الأولى، مؤسسة القديس أنطونيوس، مركز دراسات الآباء ) .  هكذا يقدم كيرلس - وتحديدا في الفقرة الأخيرة - تفريقا واضحا بين مفهومين باتا يعرفان فيما بعد ( بعد ظهور المصطلح ) ب : 1-Trinitarian perichoresis و  2- deification perichoresis  . الأول هو علاقة  الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث، تلك العلاقة التي يتحقق بها الوجود الإلهي، والثاني هو علاقة التواجد المتبادل بين الابن والبشر ، تلك العلاقة النعموية التي يتأله البشر بواسطتها .
3- في الفقرة الأولى من الكتاب الثالث من "de trinitate"  يتصدى القديس هيلاري أسقف بواتييه لذات المعضلة، العصية على الفهم البشري ، العلاقة المستحيلة، فيكتب : " إن كلمات الرب : " أنا في الآب والآب في" تشوش الكثير من العقول، وهذا أمر طبيعي لأن قدرات العقل البشري لا يمكنها إمداد تلك العقول بأي معنى يمكن أن يدرك بالعقل. من المستحيل أن يكون شيء ما داخل وخارج شيء آخر في نفس الوقت، إذ أن تلك الشخصيات يمكن أن تحتوي بعضها البعض تبادليا، كي يمكن للواحد أن يغلف بدوره- بما أنه قد تم تقنين فكرة أن الشخصيات التي نتعامل معها، رغم عدم استقلال كل منها في الوجود، إلا أنها تحتفظ بوجودها وحالتها الخاصتين. هذه مشكلة لايمكن لعقل إنسان أن يحلها أبدا، ولايمكن أبدا لبحث الإنسان أن يجد تشابها جزئيا لتلك الحالة التي للوجود الإلهي. لكن غير المفهوم للإنسان مفهوم عند الله ".
ولكن الجديد الذي يضيفه هيلاري هو أنه بالرغم من الصعوبة التعجيزية لمفهوم الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث، بالنسبة للعقل البشري فإن   هناك مساحة لحركة العقل البشري ومن المطلوب بل ومن الواجب أن يتحرك ويجتهد فيها إزاء هذه الأمور الفائقة غير الواردة بالنسبة له، فيكتب في نهاية الفقرة : " يجب أن نفهم بأنفسنا ، ونصل لمعرفة معنى قوله :" أنا في الآب والآب في" . لكن هذا سوف يعتمد على نجاحنا في التمسك بحقيقة أن البرهان القائم على أساس الحقائق الإلهية يمكن أن يرسخ استنتاجاته، بالرغم من أنها تبدو مناقضة لقوانين الكون ".( عن الثالوث للقديس هيلاري أسقف بواتييه، أثناسيوس الغرب - ترجمة راهب من دير الأنبا أنطونيوس -الطبعة الثانية ،  2017م ). هذه رسالة تأتينا من ذلك الزمان لتدفعنا لأن نتخلى عن استسهالنا غير مكتفين بالاستعلان النعموي للثالوث القدوس الذي في تدبير خلاصنا، بل يجب أن تنطلق عقولنا لتقتحم تخوم مانتخيله المستحيل واللامعقول، في سعينا نحو أقصى إدراك ممكن للثيؤلوجيا.   
  هذا، وبالإضافة إلى أثناسيوس وكيرلس وهيلاري، فقد كانت فكرة لاحتواء المتبادل موجودة بشدة أيضا عند أبيفانيوس وارينيئوس وديونيسيوس السكندري ، قبل الاقتراب من المصطلح ( صيغة الفعل ) على يد غريغوريوس النيزينزي. ".( المرجع السابق، هامش ص:273 ). كل هذا الزخم كان بمثابة البيئة المشبعة بمفهوم الاحتواء المتبادل التي ضغطت لبلورة مصطلح ال " perichoresis ".
الحل في تحرير وضبط المصطلحات
في سياق تضارب تعددية المفاهيم - من ناحية – واختزال المفهوم – من ناحية أخرى- ينشأ اللغط وتتعقد الرؤى، ومصطلح " perichoresis  ) نموذج لهذا الآمر . هل هو حلول أم احتواء؟ متاهة اللغة تنم عن افتقاد للمفهوم العميق الذي ليست الألفاظ كل جوهره. كان المفهوم جليا عند الآباء العظماء : أثناسيوس وهيلاري وكيرلس، ولم يكن قد نحت المصصلح بعد. المفهوم دائما يسبق اللفظ والحرف، إلى أن يستدعى الحرف واللفظ ليتبلور المصطلح. لذلك قد بات من الضروري تحرير وضبط المصطلح ، ولعل المدخل لهذه المهمة هو طبيعة مفهوم المصطلح ذاته، فهو يرصد فكرة "العلاقة"، والعلاقة دائما متعددة الأطراف، وإذا ولجنا أكثر إلى المناخ الذي يطبق فيه المصطلح لوجدنا أننا أمام نمطين من العلاقة: علاقة طبيعية متماثلة وهي العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، وعلاقة غير متماثلة بين طبيعتين مختلفتين . الأصل في النوع الأخير هو العلاقة الخريستولوجية بين الكلمة وناسوته القائمة في اتحاد أقنومي يحدث فيه تبادل للصفات " idiomatum communicatio " ، ثم العلاقة الناشئة كامتداد في الكنيسة أي التأله، علاقة أعضاء جسد المسيح بالرأس  الرب يسوع. لابد ومن دون شك أن يستخدم مصطلحان مختلفان لتوصيف هذين النمطين من العلاقة ، وفي اعتقادي أن العلاقة الطبيعية التي في احتواء المحبة المتبادل بين شخوص الثالوث – ونظرا لطبيعتها الديناميكية- يناسبها ال " perichoresis "؛ فالمفهوم الاصطلاحي واللغوي للكلمة يشع حركة، وفي اعتقادي – وهذا رأيي – لم يعرف اللاهوت كلمة تكمن فيها القدرة على شرح الثالوث مثل هذه الكلمة . أما النمط الآخر من العلاقة، أي مابين الطبائع المختلفة فيناسبها المصطلح الأحدث جدا " co-inherence " الذي يفيد نوعا من الحضور والحلول والتواجد المتبادل  "  co-indwelling" هذا المفهوم الذي بلغ ذروته بالاتحاد الأقنومي بين لاهوت الرب وناسوته، وأيضا بالنعمة يحدث للبشر هذا الحلول المتبادل في المسيح، أي التأله. إذن لدينا في الثيئولوجيا كلمة " perichoresis "، ولدينا في الخريستولوجيا والإيكونوميا كلمة " co-inherence ". هذا هو اقتراحي لفض الاشتباك. والخلط قد يحدث بسبب العلاقة العضوية - إذا جاز التعبير - بين المفهومين ، فدخول البشر في مظلة شركة الثالوث هو صورة العلاقة الثالوثية ذاتها؛ فعندما يستحضر البشر كأبناء للآب بالعضوية في جسد الكلمة في الروح القدس - وقد حدث بينهم وبين الابن المتجسد ذلك الحلول المتبادل - فهم يختبرون الصورة النعموية الأبدية للاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، وكما يعطي كل شخص  - من شخوص الثالوث - ذاته كاملة إلى الشخصين الآخرين دون أن ينتقص منه شيء بسبب وحدة الجوهر ، يعطي القديسون كل ذواتهم للكلمة المتجسد فيتكمل بهم جسده ، فالرب محتاج إليهم ( مر 11: 3) لأنه لارب بلا مربوبين ، ولاجسد بدون أعضاء إلا إذا ظل رأسا إلى الأبد ، وهو لم يتجسد إلا ليكون جسدا كاملا. وما أروع أن يبادر العتيدون أن يصيروا أعضاء في جسد الرب باغتنام فرصة سانحة أمامهم لتكميل كيان ربهم، مالئين ماقد أعد لهم فيه، فيبادلهم الرب العطاء تأليها. وهكذا فإن تألهنا (الذي يتحقق بحلولنا المتبادل مع الكلمة المتجسد ) هو الشركة النعموية الأبدية، في الوجود الإلهي ( الذي يتحقق بالاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ). والرب قد أعلنها جلية مخاطبا الآب :" أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد " ( يو17: 23 )، " ليكون الجميع واحدا ، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا "( يو17: 21 ).
مجدي داود

ليست هناك تعليقات: