الخميس، 17 أكتوبر 2019

الاحتواء المتبادل بين أقانيم الثالوث ( 4 )


                     

                      
                         
                        زبدة المقالات الثلاث
  

1-  إذا تحررنا من قيود انطباعاتنا الزمكانية عن مفردات اللغة البشرية، فاستطعنا أن نجرد مفردة " الاحتواء " من ماقد يصلنا من مدلول مكاني محدود، لها  - مثلما استطعنا ، بداية ، أن نجرد مفهوم " الولادة " و" الانبثاق " من مدلوليهما لدينا ،  منذ قبولنا الإيمان - إذا تحررنا من هذا الأمر بالإضافة إلى توفر قناعة بأن الاحتوائية المتبادلة هي مفهوم يعني المبادرة الديناميكية الفاعلة من قبل كل شخص نحو كل شخص من الشخصين الآخرين ، أي السببية المتبادلة؛ ففيما يؤقنم  الشخص الجوهر الإلهي مظهرا إياه من منظور هويته الشخصية - كطبيعة متأقنمة وليست مجرد طبيعة " عارية "( إذا جاز التعبير) - فهو يصنع أمرا آخرا من نحو الأقنومين الآخرين إذ يتضمنهما ويستوعبهما ويحتويهما ، لأنه  " هوموأووسيوس " بالنسبة لكل منهما ؛ فأبوة الآب تستوعب وتحتوي بنوة الابن، وتستوعب وتحتوي انبثاقية الروح القدس . والأمر ذاته قائم من المنظور المعاكس في تبادلية مدهشة ، أي من قبل الابن والروح نحو الآب ، فضلا عن مابين الابن والروح ، والروح والابن . تبادلية تتم في تواز وتزامن سرمدي ليس له إلا  ثمرة واحدة وهي تحقق الوجود الإلهي ذاته . إذا أدركنا ذلك، وحررنا أذهاننا من تلك، نكون قد أدركنا - على قدر استطاعتنا - مفهوم الاحتواء المتبادل بين الأقانيم الثلاثة التي للثالوث القدوس.
 2- ليست القضية هي الدوران في متاهة التفاصيل اللاهوتية، ولكن جماع القول وخلاصته هو أن علاقة الاحتواء المتبادل بمضامينها المختلفة- من الاستعلان والسببية والمحبة والحركة – هي علاقة وجودية، هي أعجوبة الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالاستعلان هو استعلان وجودي، أي اعتلان الله ذاته موجودا وجودا شخصيا. والسببية هي سببية وجودية، أي المبادرة المتبادلة بين شخوص الثالوث لتحقيق الوجود. والمحبة هي محبة وجودية، أي عطاء الوجود ( الذات ) المتبادل بين شخوص الثالوث. والحركة هي الحركة الوجودية المطلقة التي يتحقق بها وجود الله من الآب بالابن في الروح القدس. وخلاصة الخلاصة هي أنه إذا التزمنا بتحييد الخريستولوجيا والسوتريولوجيا فإن   شركة الثالوث القدوس تتجلى أمام عيون أذهاننا لا كنظرية فلسفية لاهوتية ولكن كشركة للفعل الوجودي الآني المطلق الذي فيه يخترق الله العدم اختراقا سرمديا في احتواء وجودي متبادل بين أقانيم هذه الشركة. فالله ليس فكرة والوجود الإلهي ليس فلسفة ، والله هو الله بالحقيقة لأن وجوده لايعود لآخر غيره فاستحقاق الألوهة عنده يعود إلى تلك الآخرية الذاتية العجيبة التي في السببية المتبادلة بين الأقانيم، فهو الكيان الحي الوحيد الذي يتمتع بآخرية ذاته ؛ فهو الموجود من ذاته وهو الموجد لذاته وهو النابع من ذاته ليصب في ذاته، أي الاحتواء الذاتي ( من قبل كل أقنوم تجاه الجوهر الإلهي ) المتلازم مع الاحتواء المتبادل بين كل أقنوم والأقنومين الآخرين، هذا هو مضمون مصطلح ال " perichoresis ".
   3- في سياق تضارب تعددية المفاهيم - من ناحية – واختزال المفهوم – من ناحية أخرى- ينشأ اللغط وتتعقد الرؤى، ومصطلح " perichoresis  ) نموذج لهذا الآمر . هل هو حلول أم احتواء؟ متاهة اللغة تنم عن افتقاد للمفهوم العميق الذي ليست الألفاظ كل جوهره. كان المفهوم جليا عند الآباء العظماء : أثناسيوس وهيلاري وكيرلس، ولم يكن قد نحت المصصلح بعد. المفهوم دائما يسبق اللفظ والحرف، إلى أن يستدعى الحرف واللفظ ليتبلور المصطلح. لذلك قد بات من الضروري تحرير وضبط المصطلح ، ولعل المدخل لهذه المهمة هو طبيعة مفهوم المصطلح ذاته، فهو يرصد فكرة "العلاقة"، والعلاقة دائما متعددة الأطراف، وإذا ولجنا أكثر إلى المناخ الذي يطبق فيه المصطلح لوجدنا أننا أمام نمطين من العلاقة: علاقة طبيعية متماثلة وهي العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، وعلاقة غير متماثلة بين طبيعتين مختلفتين . الأصل في النوع الأخير هو العلاقة بين الكلمة وناسوته القائمة في اتحاد أقنومي يحدث فيه تبادل للصفات بين الطبيعتين ، ثم العلاقة الناشئة كامتداد في الكنيسة أي التأله، علاقة أعضاء جسد المسيح بالرأس  الرب يسوع. لابد ومن دون شك أن يستخدم مصطلحان مختلفان لتوصيف هذين النمطين من العلاقة ، وفي اعتقادي أن العلاقة الطبيعية التي في احتواء المحبة المتبادل بين شخوص الثالوث -ونظرا لطبيعتها الديناميكية- يناسبها ال " perichoresis "؛ فالمفهوم الاصطلاحي واللغوي للكلمة يشع حركة، وفي اعتقادي – وهذا رأيي – لم يعرف اللاهوت كلمة تكمن فيها القدرة على شرح الثالوث مثل هذه الكلمة . أما النمط الآخر من العلاقة، أي مابين الطبائع المختلفة فيناسبها المصطلح الأحدث جدا " co-inherence " الذي يفيد نوعا من الحضور والحلول والتواجد المتبادل  "  co-indwelling" هذا المفهوم الذي بلغ ذروته بالاتحاد الأقنومي بين لاهوت الرب وناسوته، وأيضا بالنعمة يحدث للبشر هذا الحلول المتبادل في المسيح، أي التأله. إذن لدينا في الثيئولوجيا كلمة " perichoresis "، ولدينا في الخريستولوجيا والإيكونوميا كلمة " co-inherence ". هذا هو اقتراحي لفض الاشتباك. والخلط قد يحدث بسبب العلاقة العضوية - إذا جاز التعبير - بين المفهومين ، فدخول البشر في مظلة شركة الثالوث هو صورة العلاقة الثالوثية ذاتها؛ فعندما يستحضر البشر كأبناء للآب بالعضوية في جسد الكلمة في الروح القدس - وقد حدث بينهم وبين الابن المتجسد ذلك الحلول المتبادل - فهم يختبرون الصورة النعموية الأبدية للاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، وكما يعطي كل شخص  - من شخوص الثالوث - ذاته كاملة إلى الشخصين الآخرين دون أن ينتقص منه شيء بسبب وحدة الجوهر ، يعطي القديسون كل ذواتهم للكلمة المتجسد فيتكمل بهم جسده ، فالرب محتاج إليهم ( مر 11: 3) لأنه لارب بلا مربوبين ، ولاجسد بدون أعضاء إلا إذا ظل رأسا إلى الأبد ، وهو لم يتجسد إلا ليكون جسدا كاملا. وما أروع أن يبادر العتيدون أن يصيروا أعضاء في جسد الرب باغتنام فرصة سانحة أمامهم لتكميل كيان ربهم، مالئين ماقد أعد لهم فيه، فيبادلهم الرب العطاء تأليها. وهكذا فإن تألهنا (الذي يتحقق بحلولنا المتبادل مع الكلمة المتجسد ) هو الشركة النعموية الأبدية، في الوجود الإلهي ( الذي يتحقق بالاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ). والرب قد أعلنها جلية مخاطبا الآب :" أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد " ( يو17: 23 )، " ليكون الجميع واحدا ، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا "( يو17: 21 ).
 وأخيرا أدعي أن مصطلح الاحتواء المتبادل "  perichoresis " قد تعرض لظلم تاريخي باختزال مفهومه لحساب الخريستولوجيا والإيكونوميا، وقد حدث هذا في ظروف وملابسات يمكن تفهمها، أقصد الصراع المرير مع الهرطقات الكبرى : الآريوسية والنسطورية وفتنة خلقيدونية وغيرها. وفي هذا السياق تم الاكتفاء - تحت ضغط الصراع حول مساواة الابن المتجسد بالآب - بشرح الثالوث من منظور النعمة وهو بالطبع أمر جيد ولكنه ليس كافيا، وسيظل من المتوجب دائما بذل المجهود المضني في ابداع الكتابة اللاهوتية ، من كلمات وتعبيرات جديدة تسبر أعماق هذه العلاقة العجيبة في إطار الثيئولوجيا فقط لتعويض ذلك النقص الفادح الذي أخل بالتوازن بين شرح الثالوث  المستعلن في الألوهة الواحدة - التي من الآب بالابن في الروح القدس - وبين شرح الثالوث  المستعلن في النعمة الواحدة - التي من الآب بالابن في الروح القدس .

 مجدي داود

ليست هناك تعليقات: