الخميس، 24 أكتوبر 2019

مفهوم التدبير عند أثناسيوس ( 5 )





                         
                              زبدة المقالات الأربع 

 التدبير باختصار يعني كل الأعمال التي صنعها المسيح من أجل كنيسته . والأعمال تبدأ بخطته الأزلية من نحو وجود الإنسان وخلاصه من المصير الذي يهدد هذا الوجود من خلال " تدبير"  تجسد الكلمة واجتلابه لكنيسته حتى ماتتموقع في هذا الجسد كأعضاء.
                  المفردات الأساسية لتدبير الخلاص
   أولا: الواقع الإنساني ( المشكلة )
  " الإنسان فان بطبيعته " ، هذه هي العبارة المنطلق ، عبارة أول السطر في سفر تدبير الخلاص ( إذا جاز التعبير )، هي اللبنة الأولى وحجر الزاوية في البناء الذي شيده أثناسيوس في رائعته " تجسد الكلمة ". ليس المراد من قبل الخالق أن يجتلب الإنسان من العدم ليظل مهددا بالعودة إليه ولينتهي الأمر بفناء الإنسان فعلا ، بعدما انحرف عن مسار كان من الممكن أن يسير فيه قاصدا الخلود بالشركة في الطبيعة الإلهية ،أي التأله ، أي مشاركة الله في خصيصته الجوهرية - التي تميزه عما عداه - أي حياته الأبدية  .إذن الواقع المشكلة هو الانحدار نحو العدم وفناء الإنسان ، بتحييد العقل الإنساني من نحو معرفة الله ، وبالتالي فقدان أي رجاء في التواصل مع نبع الحياة ومصدرها الوحيد ، والسؤال الذي تطرحه المشكلة هو : مالحل ؟
  ثانيا : محورية حدث التجسد ( الحل )
    كانت المشكلة هي موت الإنسان وفناؤه بفقدانه السير في طريق الشركة في حياة الكلمة فالحل المنطقي الوحيد ، الممكن ، هو مبادرة الكلمة ذاته للشركة في حياة الإنسان بصيرورته إنسانا أي التجسد . وهنا يأتي مؤسس الحياة ذاته إلى الميت ويواجه الموت في عقر داره أي الجسد الإنساني ، فيبيده في جسده الخاص ، فأنى للموت أن يقدر على رب الحياة . حينئذ  يجذب الكلمة المتجسد ،الميت إلى شركته فيحيا حياته . وهذا هو كمال النعمة.
  ثالثا : تحرير تدبير التجسد من أسر التاريخ ( امتداده في الكنيسة )
   حدث التجسد ليس حدثا تاريخيا ، والكلمة المتجسد ليس مجرد شخص قد ظهر في التاريخ ، وما حدث بالضبط هو حدث دراماتيكي قد انطلق من تجسد الرب ، وهو نصرة الجميع على الموت بانضمامهم للباكورة جسد الرب المنتصر ، آدم الثاني الرب الذي من السماء. لم يتجسد الكلمة لمجرد أن يظهر في تاريخ البشر كفرد ينتمي لجنسهم ، لم يصنع هذا من أجل ذاته فهو لا يحتاج أن يصنع شيئا لأجل ذاته ، بل أتم العمل وأكمل التدبير من أجل أن ينقل كل ما عمله وكل ما أتمه إلى كنيسته الصائرة جسدا له ، بينما هو صائر رأسا لها ليكون الجميع واحدا فيه . لم يتجسد الكلمة ليصير مجرد رأس مقطوع ، بل بمجرد ظهوره في البشر قد بدأ يتصور باقي الجسد ، بامتداد استحقاق فعل التجسد ، وبظهور ثماره ، في الكنيسة . إذن حينما نتكلم بخصوص تدبير التجسد فنحن نرصد حدثا آنيا ممتدا يستهدف تكريس وجود الكنيسة الخالدة بكل أعضائها والتي يتحقق وجود أعضائها من خلال إيمانهم الحي بالكلمة المتجسد الذي قد نال جسده النصرة على الموت والخلود ، إذ هو جسد الكلمة الخاص ،وحينما يقبل المسيحيون الشركة العضوية في هذا الجسد فهم يحصلون على ذات النصرة فيتكرس وجودهم ككنيسة.
رابعا: أزلية خطة تدبير التجسد
      تدبير التجسد لم يكن أمرا اضطراريا فرض على الله في سياق إدارته لأزمة الإنسان الوجودية ، فالله لا يخضع لأي ضرورة ، بل العكس ، حينما تجسد الله الكلمة صائرا إنسانا فإنه قد حرر البشر من حكم الضرورة . وإذا كان القديس أثناسيوس – حينما ينظر للتدبير – يكتب ما يوحي بمثل هذه الانطباعات ، فهو هنا يبرئ ساحته من مثل هذا الأمر بتبنيه للطرح الإنجيلي القائل بأزلية خطة التدبير . إذن لم يكن الأمر مجرد رد فعل لأزمة ولكنه تدبير محفوظ في المسيح من قبل حدث الخلق ذاته . ونستطيع أن نستنتج أن أمر التدبير هو عملية خلق الإنسان في الصورة التي أراد الله للإنسان أن يكون إياها ، أي الشريك في الطبيعة الإلهية والذي يتم تبنيه من قبل الآب بالشركة في ابنه في الروح القدس ، وهي العملية التي وهب للإنسان أن يشترك بوعيه فيها مخالفا في ذلك سائر المخلوقات التي لا يتسنى لها إدراك مسار أمر خلقتها.
               السر العجيب وراء تعبير " بلا خطية "
   بتجسد الكلمة صار إنسانا من بني جلدتنا وأظهر كل مظاهر ضعفنا ونقصنا الذي بلغ ذروته بالآلام والموت ، ولكن أمرا واحدا لم يشبهنا فيه وهو الخطية . والأمر ليس تعسفيا أو مجرد صبغة رومانسية لما ينبغي أن يكون عليه حال المخلص الموعود به . فالخطية هي حالة تنجم من الصراع الداخلي لإنساننا العتيق ، الأمر الذي يكشف فجوة وجفوة وعزلة بين الإنسان والله . الخطية بتعبير آخر هي حالة انعدام الشركة في الطبيعة الإلهية . وإذا كان الرسول يوحنا يكتب " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله"( 1يو3: 9 ) ، فماذا عن الابن الوحيد المتجسد  ؟ هل يستطيع أن يخطئ ؟ بالتأكيد هو لا يستطيع ان يخطئ ، ليس لأنه قد خضع لضرورة ما ، بل لأنه لا يستطيع أن يتناقض مع نفسه ويتخلى عن عمله ويفسد التدبير حتى ما يعيد الإنسان إلى عزلته ،أي الخطية .وماذا عن جسد الكلمة الخاص ، أول باكورة بشرية ظاهرة في الله ؟ إذا كان الإنسان يسوع هو الإنسان الذي يحل فيه ملء اللاهوت ، فهل توجد أي عزلة أو فجوة بين ألوهيته وإنسانيته ؟ إذا كان يسوع شخصا تثمره وحدة أقنومية بين الإنسان والكلمة فهل يوجد أي جدوى بخصوص سؤال الخطية ؟ بتجسد الكلمة تجدد الإنسان وظهر يسوع باكورة للإنسان الجديد ، وهذا ما قد تكشف في منازلة الشيطان له . فقد جاء العدو رئيس العالم ، والذي عنده كل مفاتيح ودوافع الزرع القديم ، جاء ليبحث وليطمئن على ما كان يظنه أحد رعايا مملكته ، فإذ به يجد أن كل شيء قد صار جديدا ، وقد اختفت سطوة العتيق البالي ، فذهب ذليلا مهزوما . خلاصة  الأمر عند أثناسيوس هو أن الإنسان يسوع هو إنسان بلا خطية ولا يقدر أن يخطئ لأنه الإنسان الجديد " الروحاني ، آدم الثاني الرب الذي من السماء "( 1كو15 : 45 – 48 ) الذي بخميرة جدته تجدد الجميع.
                   مشاهد ( إعلانات) تدبير التجسد
  أولا :   الترقي ( النمو )
  في إطار دفاع القديس أثناسيوس عن الإيمان المستقيم ضد الهراطقة القائلين بعدم أزلية الابن ، يقوم بالتفنيد المستميت لانحرافاتهم بخصوص تأويل وشرح بعض الآيات التي تحمل معنى النمو والتقدم والترقي، والتي يدعون بخصوصها أنها تشير إلى ترقي الكلمة إلى وضع لم يكنه قبل التجسد . ويحاجج أثناسيوس موضحا بأن المقصود من الترقي الذي تقصده الآيات هو ما حدث لجسد الكلمة الخاص حينما صار جسدا خاصا بالكلمة ، صائرا باكورة لترقية الجميع ، من الموت إلى الحياة ، ومن العار إلى المجد، ومن الطبيعة الحيوانية إلى الطبيعة الروحانية . باختصار،  نحن الذين ارتقينا وارتفعنا .والملحوظة شديدة الأهمية ، هنا ، هي أن القديس أثناسيوس- في سياق دحضه لهرطقة ترقي الكلمة – لم يشر بأي حال من الأحوال إلى أن الأمر يخص أي تقدم أو نمو تراكمي للإنسان يسوع في الروحانية والشركة في الطبيعة الإلهية أي التأله. وقد كانت الفرصة مواتية بل كان الأمر شديد الورود بل واجب الحديث فيه ، كأن يقول مثلا :" الكلمة لا ينمو ولا يرتقي لأنه لا يحتاج إلى ذلك بل إن إنسانه الداخلي ، جسده الخاص هو الذي ظل ينمو في النعمة وفي الروحانية وفي التأله ، يوما بعد يوم إلى أن وصل إلى المجد الذي أراده له الكلمة فظهر إنسانا جديدا منتصرا على الموت  ، بالقيامة ". ولكن أثناسيوس لم يقلها بل على  العكس فإننا لا نفهم من النصوص  إلا أنه لا يوجد في الكلمة المتجسد ما قد رفع ( بتشديد الفاء ) كمكافأة ولكن من قد رفع هو نحن  .إذن الترقي الحادث هو تغير نوعي ( كيفي ) قد حدث للإنسان ، بتغيير واقعه الوجودي من النقيض إلى النقيض حينما اتحد بالكلمة في شخص الرب يسوع المسيح.
  عند أثناسيوس: 1- الذي ترقى وحدثت له زيادة هو الجسد . 2- ترقي الجسد هو تحوله من الحيوانية إلى الروحانية . 3 – حدث الترقي حينما صار الجسد جسدا للكلمة ، أي حدث التجسد . وبخصوص الآية الأكثر التباسا في هذا السياق : " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة ، عند الله والناس "( لو2: 52 )، فيؤكد أثناسيوس أن ارتباط نمو يسوع الطبيعي في القامة كإنسان ، بتقدمه في الحكمة والنعمة إنما يشير إلى ازدياد ظهور وانكشاف اللاهوت فيه أمام الناس المحيطين به والمعاصرين له ، أي أنه كان يزداد نموا وتقدما " كإله " في أعين الناس ( إذا جاز التعبير )، أي أن التقدم في الحكمة كان ترقيا وتقدما لوعي الناس به كإله  ولم يكن ترقيا أوتقدما أو تطورا  باطنيا خاصا به. مدلول تدبير نمو يسوع في القامة والظهور التدريجي لألوهيته أمام الناس ، كإشارة إلى بدء زمن تكريس تأله البشر بالشركة في الكلمة المتجسد . ولعل ماوراء قناعة القديس أثناسيوس بعدم احتياج الإنسان يسوع إلي أي نمو باطني ، هو إدراكه لأن إنسانية يسوع هي جسد الكلمة الخاص ، أي الإنسان الظاهر في الكلمة منذ الحبل به.
   ثانيا : المسحة ( مسحة الرب في الأردن )
   أيضا في إطار تفنيده لانحراف الهراطقة في تفسير آيات المسحة بخصوص الكلمة المتجسد ، يؤكد القديس أثناسيوس الرسولي أن الكلمة هو الذي يمسح بالروح ، وهو الذي مسح جسده حينما لبسه صائرا إنسانا . والنقطة الحاكمة في هذا السياق هي أنه عندما نزل الرب إلى الأردن واعتمد ومسح ، فلم يكن من دلالة لهذا المشهد سوى أننا نحن الذين مسحنا. ومن ذلك الحين فإننا نتقبل الروح ليختمنا مصورا فينا المسيح ذاته .  ولم نرصد للقديس أثناسيوس أي عبارة أو إشارة تفيد بأن يسوع قد بدأ يمسح – على أساس أنه لم يكن ممسوحا من قبل – منذ أن نزل إلى الأردن ، فهو يسوع " المسيح " ، أي الممسوح ،  موضوع بشارة الملاك للرعاة " فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب "( لو2: 10و 11 ). إذن الرب منذ ظهوره هو ممسوح ولا يحتاج إلى مسحة بل هو الذي يهب المسحة لمن يحتاجها ، أي نحن . وهو حينما نزل إلى المياه فقد أسس لنا مسحتنا التي تجعلنا أعضاء فيه بواسطة الروح الذي يرسله من الآب.
ثالثا :  موت المسيح وقيامته
   لقد كان مشهد الصلبوت المأساوي مشهدا كاشفا لعمق أعماق التدبير؛ إذ قد تكشف بجلاء شديد أن الكلمة بتجسده قد أظهر إنسانيته الخاصة إنسانية جديدة خالدة عديمة الألم والموت . ينتهي المشهد الجلل بالصرخة المدوية للمعلق على الخشبة " إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟". تفارق نفسه جسده فيموت موتنا . يوضع جسده الظاهر في القبر . ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد المأساوي ، فالأمر كله تحت سيطرة التدبير،  إذ يتجلى أن صورته الإنسانية الباطنية غير قابلة للموت ، بل ومتحدية له ، ليس على مستواه الشخصي بل على مستوى الجميع ، فينزل الكلمة إلى الجحيم  محتجبا في هذه الصورة ، فيكرز للأروح الحبيسة ويحلها من أسرها مؤسسا القيامة . وهنا يتكشف وجه آخر لما يستعلنه المشهد ، إذ قد حدث تغير جذري دراماتيكي بالنسبة لنا ، فقد حدث تحول من مشهد صليب العار إلى حقيقة وواقع الصليب المحيي  ،إذ تكرس طريق خلاص الذين يؤمنون بالمسيح وذلك حينما يقبلون أن يشتركوا في صليب وموت المسيح بفعل مماتية الروح القدس فيقومون من موتهم لينضموا إلى بكرهم وبذلك يكونون قد استقبلوا  ثمر التجسد في أجسادهم ، ويكونون قد قبلوا استحقاق ما صنعه الكلمة لجسده الخاص – عندما صار جسدا خاصا به – في أجسادهم ، وتصبح إنسانية يسوع المنتصرة رأسا لوجودهم الإنساني الجديد ، أي الكنيسة.  يمثل مشهد الصليب ، المعقوب بالقيامة ، أفضل مثال لخاصية أخرى تضطلع بها علامات وإعلانات التدبير المختلفة ،وهي دلالة المشهد كلغة منطقية يخاطب بها العقل البشري ، حتى مايتم ضخ الحد الأدنى المعرفي بخصوص التدبير . لذلك نجد القديس أثناسيوس حينما يحاجج بخصوص موت الرب وقيامته فهو يستخدم  الألفاظ التي تتعامل مع منطقية العقل البشري مثل : الواضح والمعلن والدليل والبرهان والشك والظن وما هو لائق وما هو غير لائق وما هو معقول ..الخ
إذن أي مشهد من مشاهد التدبير يحمل رسالة ولغة خطاب معينة تتوافق مع العقل البشري وبالتالي توصل الحقيقة الإيمانية اللاهوتية في صيغة منطقية إنسانية تتوافق مع الحد الأدنى للإدراك البشري . هذا فضلا عن إظهار التطابق بين تفاصيل المشهد وبين النبوات القديمة . وفي حالة الصليب والقيامة نجد أن القديس أثناسيوس يتجاوز مجرد انحصار توجه الخطاب التدبيري ( إذا جاز التعبير) إلى المؤمنين بل يجده خطابا صالحا للكرازة ، أي الخطاب الذي يوجه لغير المؤمنين.
                        مدلول المشهد التدبيري
     كيف ندرك المدلول اللاهوتي لإعلانات ( مشاهد ) التدبير المختلفة ، من ميلاد الرب في مزود للبقر و نموه في القامة ومسحته في مياه الأردن وصلبه وقيامته وصعوده ؟ اعتقد أنه قد بات في استطاعتنا أن نرصد إشارات واضحة عند أثناسيوس بخصوص المدلول العميق لمشهد تدبيري ما ، من خلال النقاط الحاكمة الآتية :
  أولا: التجسد هو النقطة الحاكمة الأم؛ فمحورية التجسد أمر أساسي حاكم في أمر تدبير خلاصنا . ولا يوجد أي ثمر يرتجى أو نعمة تبتغى ، خارجا عن ما قد حدث لجسد الكلمة الخاص الصائر رأسا ومنبعا للنعمة .
  ثانيا : الإعلان التدبيري كاشف لواقع يسوع ، منشئ لواقع الكنيسة 
    فمشهد الولادة يكشف أن يسوع الإنسان مولود كرب للحياة الأبدية قبل أن يولد في المذود، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في حياة الكلمة بفضل الوحدة الأقنومية معه، وهذه هي شهادة أليصابات تؤكد هذ الأمر، إذ قد شهدت بأن العذراء- التي ماتزال حبلى ، في ذلك المشهد - هي أم الرب (  لو1: 43). وبالتأكيد لم تكن أليصابات تشيير إلى ربوبية الكلمة ، في لاهوته العاري ، بل إلى الكلمة المتجسد الذي بالفعل كان قد ظهر متجسدا مع ظهور الجنين في رحم العذراء ، فالكلمة لم يصر ربا،  في ذلك الحدث، إلا بظهوره متجسدا. أيضا لايمكن أن يطلق على العذراء أنها أم الرب إلا حينما صار الكلمة جسدا، وهو بالفعل قد حل بيننا ( فينا ) بمجرد ظهوره جنينا في رحم أمنا المطوبة . هذا بالإضافة إلى أن مشهد ولادته يكرس بدايتنا نحن للحياة الجديدة وولادتنا من فوق وتبنينا للآب السماوي بالشركة في ابنه المتجسد في الروح القدس. ولذلك نحن نستدعي كل عام مشهد ولادته كمناسبة للاحتفال والفرح بولادتنا الجديدة التي كشفها ميلاد الكلمة المتجسد في تاريخنا . ومشهد المسحة في الأردن يكشف أن يسوع الإنسان ممسوح بالروح قبل أن يدلف إلى مياه الأردن ، إذ هو جسد الكلمة الخاص، أي الشريك في وحدة أقنومية مع من يهب روح المسحة . وإذا كان الإنسان يسوع واحدا مع الابن فهو في ذات الحدث واحد مع الآب ومع الروح ، لأن الشخص ( من شخوص الثالوث ) لايحضر منفردا بل في شركة مع الشخصين الآخرين ، وبينما الإنسان يسوع كائن في وحدة أقنومية مع الابن ، فهذا يعني أنه في وحدة مع من هو في ضمنية متبادلة مع الآب والروح . أيضا معمودية الأردن - وظهور الروح مثل حمامة ، وسماع صوت الآب " هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " - تكرس مسحتنا نحن ككنيسة ، وصيرورتنا موضوعا لمسرة الآب باجتماعنا كأعضاء في جسد ابنه . فلم يكن الآب - في الأردن - مخاطبا للابن - في لاهوته العاري ( naked )- بل كان مخاطبا الابن الظاهر في كنيسته المكتملة ، لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد معمودية الرب كمناسبة للاحتفال والفرح بمسحتنا فيه. ومشهد الصليب يكشف أن يسوع الإنسان مصلوب قبل أن يعلق على الخشبة، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي سمرت فيه كل أهواء البشرية وميولها الردية وإرادتها الضعيفة المنحرفة ، بفضل الكلمة الكائن معه ، في وحدة أقنومية لا تسمح  بأي عزلة أو خطية أو شر . هذا بالإضافة إلى أن مشهد الصلبوت المهيب يكرس لنا طريقا للخلاص بالشركة في آلام وموت الرب المحيي الذي نجتازه معه من خلال مماتية الروح القدس ، فنصلب الجسد مع الأهواء والشهوات   ، نصلب العتيق ، فيموت معه ،على حساب خلقة الجديد . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد آلامه وموته للاحتفال بصليبه المحيي الذي كشفه لنا في ذلك الزمان ، كطريق لفصحنا نحو الحياة وعدم الموت . ومشهد القيامة يكشف أن يسوع الإنسان منتصر على الموت قبل أن يعلن ذلك في اليوم الثالث لموته ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الشريك في حياة الكلمة ، بفضل الوحدة الأقنومية التي تجمعهما  في شخص واحد . هذا بالإضافة إلى أن مشهد القيامة يكرس ويدشن قيامتنا فيه وبه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد قيامته المظفرة للاحتفال بقيامتنا معه  بتدبير ظهور  باكورة قيامتنا وخلودنا ، الرب القائم ذاته . ومشهد الصعود يكشف أن يسوع الإنسان صاعد إلى السماء قبل أن يرتفع وسط دهشة تلاميذه الشاخصين إليه ، إذ هو جسد الكلمة الخاص الذي كان ظهوره كاشفا لنزول الكلمة إلى عالمنا ، ونزول الكلمة إلى الإنسان يعني صعود الإنسان في الكلمة إلى الآب . إذن بالإضافة إلى أن مشهد الصعود يكرس بدء زمن صعودنا فيه . لذلك نحن نستدعي كل عام مشهد صعوده لنحتفل بتكريس صعودنا فيه إلى الآب ، فهاهي بشارة المجدلية إلى التلاميذ ، والتي حملت إياها من قبل الرب القائم  " إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"( يو20: 17 )، فهو يصعد مرتين ، مرة حينما صعد منذ أن صارت هناك وحدة أقنومية بينه وبين الكلمة ( إلى أبي ، إلى إلهي )، ومرة ثانية حينما يصعد كنيسته فيه إلى الآب ( إلى أبيكم ، إلى إلهكم ).  هكذا يكشف هذا المشهد  صعود إنسانيته بفضل التجسد ، ويدشن صعودنا بفضل إنضمامنا إليه.
  ثالثا : الإعلان التدبيري يشير إلى الحدث كاملا ، ولا مجال للرؤية التكاملية بين المشاهد المختلفة ؛ فلم نرصد أن أثناسيوس قال بتكامل مضامين المشاهد المختلفة ، مثل تكامل مضمون الصليب  مع مضمون مسحة الأردن ، مثلا ،  بل أن كل مشهد يكشف  مضمون تدبير التجسد كاملا . فالمسحة كشفت صيرورة الكلمة مسيحا حينما صار جسدا ، ولم يكن من الممكن أن يلقب بالمسيح مالم يكن قد ارتدى جسدنا . والصليب كشف عن الصورة الإنسانية عديمة الفساد التي صارت فيه منذ اول لحظة للتجسد . فلا يحتاج يسوع أن نحسب له رصيدا ما  قد حصل عليه بالمسحة ، ثم يضاف إليه ما قد حصل عليه بالصليب ، ثم القيامة والصعود إلى أن يبلغ ما ينبغي أن يبلغه . هذا وهم لا ينبغي أن ننزلق إليه ، والقديس أثناسيوس لا يعرف ترقيا حصل عليه يسوع ، الكلمة المتجسد ، غير نمو قامته بيولوجيا ، ونمو وعي معاصريه به كإله . ولقد كان من الضروري لأثناسيوس بحسب أسلوبه في الكتابة – في سياق دحضه لقول الهراطقة بأن الكلمة قد ارتقى كأجر فضيلة – أن يقرر صراحة بأن الذي ارتقى – بطريقة تدريجية تراكمية - هو جسد الكلمة الخاص ، وعليه تكون إنسانيته -وفقا لهذا الطرح -  قد ارتقت وتجددت صائرة عديمة الموت. ولكنه لم يقل بذلك ولم يشر من قريب أو بعيد إلى ذلك ، بل على العكس فقد قرر القديس أثناسيوس أن الترقي هو التحرر من الخطية ، إذن فكيف يستقيم هذا الأمر بخصوص من هو بلا خطية منذ بداية ظهوره بيننا ؟ الأمر الصحيح إذن هو أن الترقي والتطور الذي أحدثه الكلمة في جسده الخاص هو حدث نوعي ( كيفي ) وليس فعلا تراكميا ، وهو قد حدث بالفعل لجسد الكلمة الخاص ، منذ أن صار جسدا خاصا بالكلمة. 

                                    الخلاصة
 كل مشهد من مشاهد التدبير-  بمفرده -  هو مجرد لغة تخاطب البشر بقدر إدراك عقولهم، لتكشف عن الواقع النعموي الكامل الكائن في جسد يسوع ( كثمرة للتجسد ) منذ أول لحظة للتجسد، وتكشف عن ماسيكون كامتداد لهذه الثمرة ، انطلاقا من نبع النعمة ورأسها الرب يسوع إلى باقي أعضاء جسده أي الكنيسة. فالمشهد التدبيري كاشف لاستحقاق التجسد في يسوع التاريخي، منشئ لاستحقاق التجسد في الذين للمسيح عبر كل التاريخ.كل مشهد كاشف لتألهه الذي أصبح رأسا لتألهنا؛ فتجسد الله الكلمة وصيرورته إنسانا وجه لحدث وجهه الثاني تأله الإنسان؛ لذلك لم يكن جسده - للحظه واحدة ، منذ أول لحظة لتجسده - إلا مؤلها وممجدا ومنتصرا على الموت، بفضل كونه جسد الكلمة الخاص؛ أي الجسد الصائر في اتحاد أقنومي مع الله الابن. وأما تتدريجية - وتراكمية - إعلان هذه الحقيقة لتاريخ البشر- في مشاهد التدبير المختلفة من ولادة ومسحة وصليب وقيامة وصعود-  فهو أمر لا يعني بداية ونشاة مجد هذا الجسد في تلك اللحظات المرصودة تاريخيا في حياة الرب يسوع التاريخي، بل يعني احترام مشاهد التدبير المختلفة لطريقة إدراك وفهم البشر - المحدودة والمحكومة زمنيا - للأمور الإلهية؛ فمن المستحيل للبشر أن يدركوا ،مثلا ،أنه بفضل تجسد الكلمة وصيرورته إنسانا قد صار الإنسان منتصرا على الموت وقائما إلى الأبد منه،  من المستحيل إدراك هذا مالم يراه البشر معلقا على الخشبة حتى الموت، ويوارونه خلف الحجر المختوم ، ساعتئذ فقط يصبح حديث القيامة مقبولا. أن نؤمن أن القيامة حدث طارئ على جسد الرب المسجى في القبر- وليس أن عدم الفساد والحياة الأبدية هي حقيقة كائنة في إنسانية يسوع الكاملة ؛ لأنها شريكة في حياة الكلمة الحال، بكل ملئه، فيها - فهذا أمر يضرب الاتحاد الأقنومي بين الكلمة والإنسان في مقتل؛ فلا معنى لذلك الاتحاد إذا لم تكن الخليقة الإنسانية الجديدة، عديمة الموت، كائنة منذ أول لحظة للاتحاد، كدليل عليه وكثمرة تلقائية له.   
مجدي داود
      

ليست هناك تعليقات: