المصطلح : شكلا ومضمونا
أولا : من حيث الشكل
1- اشكالية الكتابة اللاهوتية
دائما ماتلتحف الكتابة اللاهوتية بالصعوبات والمشكلات
لاسيما الكتابة عن الثالوث القدوس وهذا أمر طبيعي ؛ فالكاتب اللاهوتي يحاول توصيف مالم
تره عين ومالم تسمع به أذن ومالم يخطر على بال إنسان ( 1كو2: 9 ). والعجيب أن هذه العبارة قيلت بخصوص ما أعده الله
للذين يحبونه، أي أن الرسول يتحدث عن الاستعلان النهائي للنعمة في حياة الدهر
الآتي، فما بالنا بحقيقة أصل النعمة ومصدرها، شركة الثالوث ؟! والأمر أشبه بمعصوب العينين
الذي زج به في غرفة مظلمة وقد تم تكليفه بتوصيف محتويات الغرفة، ولكن من حسن الحظ أن
غرفة البحث اللاهوتي ليست بهذا القدر من الظلمة الحالكة ؛ فهناك بصيص من الضوء الخافت
في جنبات الغرفة وهو الحد الأدنى المعرفي الذي تبلور لدينا ، ذلك الذي وصلنا من كلمة
الله المكتوبة وكتابات الآباء القديسين لاسيما آباء القرون الأربعة الأولى وعلى رأسهم أثناسيوس، بالإضافة إلى مارشح عن المجامع المسكونية الكبرى
وعلى رأسها نيقية. هذا الزخم قد وفر مايكفي لتوجيه اللاهوتي في الغرفة المظلمة لأن
يتلمس بحذر- دون أن يتعثر أو يصطدم – مايجب أن يتلمسه فيتوجه بذهنه في الاتجاه المعرفي
الصحيح نحو الحقيقة الإلهية، التي هي بالمناسبة أفق لايدرك بالنسبة لنا نظرا لأن مستوى
قدرات طبيعتنا لايسمح بذلك ، ولكنه السعي لفهم ماهو ضروري لصحيح الإيمان. وفي سياق
الحد الأدني المعرفي المشار إليه قد تأطرت فكرتنا عن الثالوث، في مفاهيم ومسلمات محددة
قد بات الخروج عنها دربا من الهرطقة، لذلك عندما يضطر الكاتب اللاهوتي – وهو يتناول
جزئية معينة - أن يقول بأنه بالضرورة وبالتعريف لابد أن يكون أمر الثالوث هكذا، فلايجب
أن نعثر فنظن أن الألوهة تخضع للضرورة أو للتعريف ولكنه خضوع العقل البشري للضرورة
المنطقية العلمية؛ فالعقل لايرى الحقيقة كحقيقة - حتى لو كانت حقيقة الوجود الإلهي
- إلا إذا كانت ممنطقة ومنسجمة مع ضروراتنا
المنطقية، أما الحقيقة في ذاتها فهي الحرية المطلقة التي نسعى لأن نتحرر من قيودنا
لننطلق نحوها وفي ظلها إلى الأبد، أي الحياة الأبدية في مظلة الثالوث. وبمناسبة الحديث
عن الحد الأدنى المعرفي اللاهوتي نقول بأنه ليس من المطلوب الاكتفاء بالدوران في فلك
ذات التعبيرات القديمة وإعادة انتاجها بال ( copy and paste
) ولكن مساحة عظيمة من الإبداع متاحة أمام
العقل لابتكار عبارات وأفكار جديدة لم ترد نصا في كتابات الآباء ولكن في ذات الوقت
لاتتناقض مع ماتوراثناه عنهم من ثوابت ومسلمات؛ فالكتابة اللاهوتية فن وإبداع بالإضافة
إلى كونها علما ذا مفاهيم محددة، بل بالأكثر أقول بأن الإبداع الفكري اللاهوتي ضرورة
لانطلاق أذهاننا في رحلة سعيها نحو الحقيقة الإلهية. وبالطبع كلمة الإبداع
لاتتماهى مع الابتداع الذي هو الهرطقة؛ فالإبداع هو محاولة الاستفادة القصوى
مما هو متاح من قدراتنا الذهنية المعطاة لنا كنعمة. فالعقل البشري هو " ظل الكلمة
" بحسب العظيم أثناسيوس ( تجسد الكلمة3 : 3) أي ظل اللانهائية المعرفية، وبالتالي
ليس من الحكمة ولا حتى من الإخلاص للتراث الآبائي أن نكتفي بعبارات الآباء فقط ،كسقف-
وليس كملهم - لكل مانكتب .
2- جدوى
التجريد
كان مدخل آباء الإسكندرية في شرح
الثالوث هو الانطلاق من أرضية النعمة ،
ولعل خير دليل على ذلك هو عبارة أثناسيوس الشهيرة ” النعمة واحدة من الآب بالابن
في الروح القدس “. ولكن ماينبغي العودة إليه لتفهم لماذا تبنى الآباء هذا المنحى هو السياق التاريخي لهذا الشرح الذي يتبنى ذلك المنطلق . لقد فرض صراع الآباء
مع الهرطقات الكبرى لاسيما الآريوسية والنسطورية سياقا ملزما لمنطلق شرح الثالوث ؛
فعندما يصبح لاهوت الكلمة المتجسد موضوعا للطعن فلابد أن تحدث إزاحة – في طريقة
شرح الثالوث – من منطقة المطلق الذي يخص الوجود الإلهي ذاته إلى منطقة النعمة التي
استعلن فيها حضور الثالوث في الخليقة . ويصبح من الأولويات القصوى دحض شبهة أن
النعمة المستعلنة في تدبير التجسد قد نالت من كمال ألوهية الكلمة الذي له ذات
الجوهر الواحد الذي للآب. ويصبح أيضا كأولوية قصوى إجلاء حقيقة شخص الرب يسوع المسيح الكائن في اتحاد إقنومي بين إنسانيته وألوهيته
. لم يجد آباء الإسكندرية – المرسخون لقواعد الإيمان – أريحية في سياق شرحهم
للثالوث بل كان معظم إنتاجهم إنتاج أزمة وصراع وحرب مع الهراطقة في إطار
الخريستولوجيا ولم يتسن لهم سياق الكتابة الهادئة في الثيئولوجيا وبالتالي لم يتسن
لهم تبني منطلقا آخرا لشرح الثالوث . ولكن
- وآه مما بعد لكن - الاكتفاء بشرح الثالوث انطلاقا من النعمة أو من الخريستولوجيا أمر
شديد الخطورة على عقيدة الثالوث ذاتها ؛ فليس أدل على ذلك من القول بأن " كل عقيدة ليس لها تأثير على البشر، ليست
عقيدة " والمأساة هنا أن العقيدة
أصبحت أسيرة للبشر وربما أصبحت منتوجا بشريا . هل احتاج الثالوث القدوس للبشر لكي يتحقق وجوده ، كعقيدة ؟ الثالوث هو حقيقة وجود الله ، وليس مجرد عقيدة
. والثالوث وجود يتجاوز ويتخطى الخليقة والنعمة والخريستولوجيا وكل وجود آخر .
ولابد من بذل المجهود اللاهوتي المستميت من أجل محاولة الاقتراب قدر المستطاع من
تصور بشري عن وجود الله في المطلق ، أي خارج أي شيء آخر غير ذاته .والواقع إن شرحا صحيحا ودقيقا
للثالوث خارجا عن إطار النعمة هو الوسيلة الوحيدة الصحيحة لشرح مفهوم النعمة ذاته .
وشرح صحيح ودقيق للثالوث خارجا عن إطار الخريستولوجيا هو الوسيلة الوحيدة الصحيحة
للتعاطي مع المفاهيم الخريستولوجية . النعمة تفهم من خلال الثالوث وليس الثالوث من
خلال النعمة ، والخريستولوجيا تدرك من خلال الثالوث وليس الثالوث من خلال
الخريستولوجيا . الأصل هو الثالوث وأما أي شيء آخر فهو مجرد ظل وصورة . وأما
الصبغة الفلسفية والتجريدية فهي حتمية لا فكاك منها في الحديث عن الثالوث في
المطلق ، أي خارجا عن إطار النعمة ؛
فالوجود الإلهي المستقل عن الخليقة لا يمكن أن تتعاطى معه أذهاننا إلا في إطار
تجريدي فلسفي ، ولكن على كل حال هذا مجهود
واجب واجتهاد لابد منه وإلا غرقنا في ذواتنا كصورة للثالوث وتجاهلنا الأصل الكائن
سرمديا ، من ذاته وبذاته وفي ذاته ، دون أدنى احتياج لاعتقادنا به .
3- الترجمة العربية للمصطلح
مصطلح " الاحتواء
المتبادل" ، في اعتقادي الشخصي، هو ترجمة عبقرية لمصطلح عبقري، ال ( perichoresis )، ولكن يستاء البعض
من هذه الترجمة مفضلين عليها مصطلح " الحلول المتبادل "، منطلقين من قول
الرب :" أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ
الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ
فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ." (يو 14: 10). واقع الأمر هو أن هذا هو
النص الوحيد _ ضمن أكثر من مئة نص _ الذي ورد في العهد الجديد وترجم فيه الفعل
" menw " إلى مايفيد"
الحلول" ، ولكن المفهوم العام للفعل في النصوص هو " البقاء
والاستقرار والمكوث والثبات ". ولعل أفضل تدليل على ذلك قول الرسول : "مَوْلُودِينَ
ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ
الْبَاقِيَةِ ( menontos ) إِلَى الأَبَدِ." (1 بط 1: 23). وأيضا
قد تكون مشكلة هؤلاء من نحو الاحتواء في عثرة المدلول المادي – الظاهر – للكلمة "، ولكن هذه عثرة قد تواجهنا أيضا
في كلمات مثل الحلول والبقاء والمكوث . بل الاكثر من ذلك نقول بأن هذه عثرة
الكتابة اللاهوتية بصفة عامة ؛ فلا فكاك من الاضطرار لاستخدام مفردات اللغة
البشرية ، التي هي بطبيعتها مادية ، هل نستطيع أن نعبر عن العلاقة بين أقانيم الثالوث فنستخدم كلمات غير الولادة
والأبوة والبنوة والانبثاق والملء ؟ اليست كلها كلمات من خبرتنا البشرية المادية ؟
المهم هو المفهوم الذي يتجاوز الكلمات ويخضعها في سياق معين وليس الانصياع وراء
الانطباع الذي تكرسه مادية الكلمات. وعليه
فعندما نحت الآباء مصطلح ال " perichoresis "_ من
كلمة قديمة تعني رقصة معينة _ لم يكن لهم
أن يختزلوا الثالوث في مجرد رقصة سرمدية ولكن كان لديهم ذلك المفهوم
الديناميكي لطبيعة شركة الثالوث كشركة
حركة ؛ أي الشركة التي يتحرك فيها كل أقنوم بالمحبة من نحو كل أقنوم من الأقنومين
الآخرين. وعلى كل حال تظل كلمة " الاحتواء " محتفظة بتفوقها الواضح كأفضل
تعبير عن مايتم تبادله في شركة الثالوث أي الحركة . فليست القضية هي أن كيانا ما
يستوعب كيانا آخرا أو يتضمنه استاتيكيا ليسكن
ذاك داخله ؛ فالاحتواء حركة وفعل إيجابي يصدر بمبادرة من قبل كل أقنوم نحو كل من الأقنومين
الآخرين.
ثانيا : من حيث المضمون
ثانيا : من حيث المضمون
1 -
المضمون الاستعلاني للاحتواء
أن يحتوي كيان كيانا آخرا أمر لا مضمون له سوى
أن الأول يحيط بالثاني حاجبا إياه ، هذا أمر طبيعي ندركه من خلال خبرتنا الطبيعية
المادية، ولكن العجب العجاب هو أمر شركة الثالوث؛ فالاحتواء المتبادل بين شخوص
الثالوث هو حالة من الاستعلان المتبادل بينهم. فالشخص بطبيعته -وبالضرورة وبالتعريف-
هو الكيان القائم في شركة ولاوجود للشخص منعزلا ، أي أن وجود الشخص يعني وجود
الشركة ، وهكذا فوجود الشخص يستعلن وجود
الشخصين الآخرين؛ بمعنى أن وجود الآب يستعلن وجود الابن ويستعلن وجود الروح القدس، لأنه
لاوجود للآب بدون الابن وبدون الروح، ووجود الابن يستعلن وجود الآب ويستعلن وجود
الروح؛ لأنه لاوجود للابن بدون الآب وبدون الروح، ووجود الروح يستعلن وجود الآب
ويستعلن وجود الابن؛ لأنه لاوجود للروح بدون الآب وبدون الابن . علينا هنا أن ندرك
وجود ما يمكن أن نطلق عليه جدلية الاستعلان والحجب في الثالوث؛ فبينما تحدث
هذه الحالة من الاحتواء الاستعلاني المتبادل بين شخوص الثالوث يحتجب الجوهر الإلهي
الواحد الذي هو جوهر كل شخص من شخوص الثالوث؛ لأن كل شخص هوموأووسيوس لكل من
الشخصين الآخرين ، أي له ذات الجوهر الذي
لكل شخص من الشخصين الآخرين. هذا هو الوجه الأول للجدلية ولكن لجدلية الاستعلان
والحجب وجه آخر غير ماذكرناه عن علاقة شركة الشخوص وهو مايخص علاقة الشخص الواحد بالجوهر،
والمقصود هنا حدث الشخصنة ( الأقنمة )، نفسه ، شخصنة ( أقنمة ) الجوهر الإلهي (
الذات الإلهية ). والجدلية - هنا - هي أنه
بينما يؤقنم الشخص الجوهر فهو يستعلن هذا الجوهر مظهرا إياه شخصا حرا مريدا ذا هوية متمايزة وليس مجرد
جوهر حي عار ، وأما الشطر الآخر من الجدلية فهو احتجاب الشخصين الآخرين ؛ فالله هو
الآب لأنه الكائن الحي الوحيد الذي يوجد ذاته، هنا تستعلن الذات شخصا هو الآب
ويحتجب الابن والروح خلف الذات. والله هو الابن لأنه الكائن الحي الوحيد الذي يوجد من ذاته ، هنا
تستعلن الذات شخصا هو الابن ويحتجب الآب والروح خلف الذات. والله هو الروح القدس
لأنه الكائن الروحي الوحيد الذي ينبثق من
ذاته ، هنا تستعلن الذات شخصا هو الروح ويحتجب الآب والابن خلف الذات. الابن هو
الألوهة الكاملة المولودة ذاتيا ( أي من أبيه
الذاتي )، لاليصير إلها آخرا بل ليصير ذاته لأنه هوموأووسيوس مع أبيه،
والروح هو الألوهة الكاملة المنبثقة ذاتيا ( أي من مصدره الذاتي ، الآب )، لاليصير
إلها آخرا بل ليصير ذاته لأنه هوموأووسيوس مع مصدره الآب؛ فهو روح الآب وروح الابن
بآن واحد.
في نهاية هذه الفقرة يلزم التأكيد على أن رؤية
" جدلية الاستعلان والحجب " هي رؤية عقولنا المحدودة ، التي من المستحيل
أن تحيط أو تستوعب الإلهيات ، والاستعلان هو الاستعلان الذاتي للألوهة وهوحدث
سرمدي متجدد وعندما نقول بالحجب فهذا لايعني توقفا للاستعلان بل يعني توقف عقولنا
عن أن ترى مافي الخلف. ولأننا محدودون زمكانيون فلنا مايخصنا من كلمات مثل "
الأمام والخلف والمحتجب " أما الألوهة فهي الكينونة المطلقة المستعلنة في
ذاتها سرمديا والتي لاخلف لها ولا أمام ولا زمكان، أما جدلية الاستعلان والحجب فهي
الحقيقة كما تراها عقولنا ، أي ظل الحقيقة. وبالإجمال نقول أنه إذا أمكننا أن
نتفهم الاحتواء الاستعلاني المتبادل بين شخوص الثالوث في إطار جدلية الاستعلان
والحجب فيمكننا أن نطلق على هذه الجدلية " دياليكتيكية الشركة " تمييزا
عن الجدلية الحادثة في علاقة الشخص بالجوهر والتي يمكننا أن نطلق عليها " دياليكتيكية
الأقنمة ". في الأولى يتم تبادل استعلاني بين الشخوص ليستتر الجوهر وفي
الثانية يتم استعلان الجوهر مشخصنا ليستتر الشخصان الآخران .
2 - المضمون السببي
للاحتواء
إذا أردنا أن نتدرج صعودا في بناء مصطلح
الاحتواء المتبادل فيجب أن ندرك أن الاستعلان كمضمون للاحتواء لايجعل منه مجرد فعل
الكشف والإخبار عن ماهو كائن، أي الفعل السلبي الذي لايضيف جديدا أو مجرد فعل
الاستنتاج المنطقي أن وجود شخص يعني وجود الشخصين الآخرين- نظرا لطبيعة مفهوم
الشخص ككيان قائم في شركة- ولكن القضية تتخطى ذلك. وقد يكون لدينا – من خلال مانفهمه
عن النعمة – مثل هذا الانطباع عن الاستعلان؛ فجوهر النعمة ومصدرها الابن الوحيد
الكائن في حضن الآب، الذي خبر عن الآب
الذي لم يره أحد ( )، هذا بتجسده في البشر
قد جعل من جسده موطنا لكل من صار لهم التبني للآب، وهكذا استعلنت لهم شركة الثالوث
كمظلة أبدية بالنعمة، أي بحسب أقصى مايمكن أن تتقبل طبيعتهم من شركة الطبيعة
الإلهية. هذا النمط من الاستعلان النعموي ( إذا جاز التعبير ) أمر والاستعلان
المتبادل في شركة الثالوث أمر آخر تماما ؛ فاستعلان شركة الثالوث فعل وحدث وجودي (
أنطولوجي ) ، بمعنى أن الاستعلان المتبادل هو نوع من السببية المتبادلة بين شخوص
الثالوث. فالابن سبب وجود الآب والروح، كما أن الروح سبب وجود الابن والآب. ومن
نافلة القول أن الآب سبب وجود الابن والروح.والسببية المتبادلة بين شخوص الثالوث
هي الملء الاقصى لمفهوم الاحتواء المتبادل، ومايتم تبادله في الشركة هو الاحتواء
السببي الوجودي. وهكذا يتجلى أمامنا هذا الفعل الديناميكي
السرمدي الذي للاحتواء المتبادل ، أو قل السببية المتبادلة بين شخوص الثالوث
؛ ففيما يختار الابن بإرادته الحرة أن يتقبل عطية أبيه الذاتي ، أي
كل ملئه، فهو يختار أن يكون سببا في وجود الآب لأنه لا آب بدون ابن. وفيما يختار
الروح بإرادته الحرة أن ينبثق من مصدره الذاتي الآب ، فهو يختار أن يكون سببا في
وجود الآب لأنه لاآب بدون الروح، الذي هو روح الآب، كما أنه روح الابن بآن واحد.
أما الواقع المر فهو أن هذا النوع من السببية - الذي يمكن أن نطلق عليه "
سببية الشركة "- يكاد يكون غائبا تماما في الكتابة اللاهوتية على مر
العصور ويتم اختزال مفهوم السببية - في الثالوث -
في نوع آخر وهو مايمكن أن نطلق عليه " سببية الهوية " ،
والمقصود الهوية الأقنومية لأحد شخوص الثالوث وهو الآب؛ فشخص الآب هو مصدر وعلة
وجود الابن بالولادة ومصدر وعلة وجود الروح القدس بالانبثاق، ولكن هذه السببية
الوظيفية - كهوية لشخص الآب - لاتجعل منه كيانا أكثر تفوقا من الابن والروح؛
فالتفوق كائن على نفس المستوى بين الشخوص الثلاثة مقارنة بما هو خارج عن الكيان
الإلهي ؛ فالله يتفوق على كل ماهو كائن غيره تفوقا لايمكن الوصول إليه بفضل السببية الذاتية لكونه شخص الآب، والله
يتفوق على ما عداه تفوقا لايمكن الوصول إليه بفضل المولودية الذاتية لكونه شخص
الابن ، والله يتفوق على ما عداه تفوقا لايمكن الوصول إليه بفضل الانبثاقية
الذاتية لكونه شخص الروح القدس.
3 - المحبة كمضمون
للاحتواء
إذا كان المضمون السببي للاحتواء
قد بلغ بمفهوم الاحتواء المتبادل أوج نضجه فقد بات حريا بنا أن أن نبرئ السببية من
شبهة القهر فلانتخيل أن شخصا من شخوص الثالوث من الممكن أن يقهر الشخصين الآخرين
على الوجود لمجرد وجوده هو. وهنا يتجلى الوجه المشرق للسببية – وليست من قبيل
المصادفة أن هذا هو الوجه الذي اختاره الوحي
كتعريف للألوهة – والمقصود بهذا الوجه هو المحبة ، وحينما قال الوحي بأن
" الله محبة"( ) فقد أوجز وأنجز؛
فعلاقة الشركة الثالوثية تتألق أيما تألق وتتجلى أيما تجلي من منظور كونها
شركة محبة. والمحبة في أبسط تعريف لها هي عطاء الذات للآخر وهذا هو جوهر السببية
المتبادلة في شركة الثالوث؛ فالآب الذي يحب الابن - وهو كائن كمصدر وكعلة له - يوفر هذه السبية بإعطائه كل ملئه ، كل ذاته ، للابن
دون أن يفقد شيئا من ذاته ومن دون أن ينفصل الابن عنه كذات أخرى. والابن الذي يحب
الآب يوفر سببية وجود الآب حال كونه يقبل عطية الآب التي هي كل ملء الآب ، كل ذات
الآب ، دون أن يقتطع من الآب شيئا ودون أن ينفصل عنه كذات أخرى ، مستعلنا في هذا
الفعل الوجودي للمحبة شرعنة أبوة الآب له؛ لأنه لو لم يكن الابن قد قبل عطاء
المحبة من أبيه الذاتي ماكان لائقا بذاك
أن يطلق عليه " الآب "، بل ماكان لائقا بالآب أن يكون موجودا أصلا. لو
لم يعط الآب – بالمحبة – كل ذاته للابن ، ولو لم يتقبل الابن - بالمحبة- عطية الآب لانتفى وجود الآب والابن
بآن واحد . أيضا الآب الذي يحب الروح القدس ، وهو كائن كمصدر للروح يوفر هذه
السببية بأن يعطي الروح كل ذاته لأن الروح هو روح الآب ، وفيما يقبل الروح عطية
المحبة من مصدره الذاتي الآب فهو يشرعن أبوة الآب لأنه لا آب بدون روح الآب، مثلما
لا ابن بدون روح الابن. مايتم تبادله في الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث هو
عطاء الذات للآخر، أو قل احتواء المحبة المتبادل. ولأن كل شخص هوموأووسيوس للآخر ،
أي له نفس الجوهر ( الذات) الذي للآخر ، فإن - بالتعريف وبالضرورة -كلمة " شخص " تعني الكيان القائم في
شركة المحبة ، في تبادلية المحبة السرمدية .
4 - الحركة كمضمون
للاحتواء
في كل ماسبق من محاولة لسبر أغوار مفهوم
الاحتواء المتبادل- بأقصى مايمكن أن تجتهد عقولنا المحدودة – فإننا نرصد مضمونا
ديناميكيا في خلفية المعزوفة اللاهوتية التي لل ( perichoresis )،
فعلاقة الاحتواء المتبادل علاقة حركية ، والحركة هنا ليست كما ندركها من خبرتنا
البشرية ؛ فهي ليست حركتنا النسبية التي لاترصد إلا من خارجها ولكنها الحركة المطلقة (
إذا جاز التعبير ) التي لايمكن رصدها إلا من داخلها والراصد هو الروح القدس الذي
يفحص حتى أعماق الله . الحركة المطلقة التي للاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث هي
فعل سرمدي متجدد في اللازمكان ( أي خارج الزمان والمكان ) فيه تتجلى أنطولوجيا
الوجود الإلهي؛ فالله هو الآب لأنه الكائن الحي الذي يلد ذاته سرمديا في فعل
إيجابي نشط متجدد . والله هو الابن لأنه الكائن الحي المولود من ذاته في فعل وحركة
إيجابية نشطة متجددة سرمديا . والله هو الروح القدس لأنه الكائن الذي ينبثق من
ذاته سرمديا في فعل وحركة نشطة متجددة كفيض وسط ( meso
)
الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن بآن واحد . هذه هي الحركة التي انطلقنا في
فهمها من منطلق كونها حركة الاستعلان المتبادل ثم أصبحنا أكثر نضجا فأدركنا أنها حركة السببية المتبادلة ، لأن الاستعلان
ليس سلبيا بل هو فعل إيجابي، فعل وجودي. ثم اكتمل نضجنا لندرك أنها حركة المحبة
المتبادلة بين شخوص الثالوث، لأن السببية ليست واقعا قهريا بل هي سببية عطاء الذات
الذي للمحبة. هكذا نستطيع أن نقترب قدرا يسيرا من الحد الأدنى لفهم الاحتواء
المتبادل في شركة الثالوث .
الخلاصة
ليست القضية هي الدوران في متاهة
التفاصيل اللاهوتية، ولكن جماع القول وخلاصته هو أن علاقة الاحتواء المتبادل بمضامينها
المختلفة- من الاستعلان والسببية والمحبة والحركة – هي علاقة وجودية، هي أعجوبة الأنطولوجيا
الإلهية ؛ فالاستعلان هو استعلان وجودي، أي اعتلان الله ذاته موجودا وجودا شخصيا.
والسببية هي سببية وجودية، أي المبادرة المتبادلة بين شخوص الثالوث لتحقيق الوجود.
والمحبة هي محبة وجودية، أي عطاء الوجود ( الذات ) المتبادل بين شخوص الثالوث.
والحركة هي الحركة الوجودية المطلقة التي يتحقق بها وجود الله من الآب بالابن في
الروح القدس. وخلاصة الخلاصة هي أنه إذا التزمنا بتحييد الخريستولوجيا والسوتريولوجيا فإن شركة
الثالوث القدوس تتجلى أمام عيون أذهاننا لا كنظرية فلسفية لاهوتية ولكن كشركة للفعل
الوجودي الآني المطلق الذي فيه يخترق الله العدم اختراقا سرمديا في احتواء وجودي متبادل
بين أقانيم هذه الشركة. فالله ليس فكرة والوجود الإلهي ليس فلسفة ، والله هو الله بالحقيقة لأن وجوده لايعود لآخر غيره فاستحقاق الألوهة عنده يعود إلى تلك الآخرية الذاتية العجيبة التي في السببية المتبادلة بين الأقانيم، فهو الكيان الحي الوحيد الذي يتمتع بآخرية ذاته ؛ فهو الموجود من ذاته وهو الموجد لذاته وهو النابع من ذاته ليصب في ذاته، أي الاحتواء الذاتي ( من قبل كل أقنوم تجاه الجوهر الإلهي ) المتلازم مع الاحتواء المتبادل بين كل أقنوم والأقنومين الآخرين، هذا هو مضمون مصطلح ال " perichoresis ".
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق