السبت، 28 أبريل 2012

وكيل الظلم ( لو16: 1- 13 )



      الوكيل والوكالة
الوكيل ( oikonomos ) والوكالة ( oikonomia ) ، والكلمتان اليونانيتان تنتميان إلى الأصل   oikos ، الذي يعني " البيت "، وقديما استخدمت " الإيكونوميا " للتعبير عن إدارة ، أو تدبير ، شئون البيت ثم اتسع استخدام الكلمة للتعبير عن إدارة الدولة ، وحديثا نحتت منها كلمة تعني أحد العلوم الحديثة ،" economy  علم الإقتصاد .
استخدمت الإيكونوميا ، في العهد الجديد للتعبير عن الخدمة ، كإدارة لبيت الله ، الكنيسة ، كإستخدام الرسول بولس ، في :
 1 - " هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ، ووكلاء سرائر الله ، ثم يسأل في الوكلاء لكي يوجد الإنسان أمينا ."( 1كو 4 : 1 و 2 ).
2 - " لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله ... لكي يكون قادرا أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين ."( تي : 1 : 7 – 9) .
وأما الإستخدام الكتابي الأعمق للكلمة ، في العهد الجديد - وتحديدا عند بولس الرسول - فيأتي للتعبير عن تدبير سر الخلاص الذي ظهر في المسيح ، الكلمة المتجسد  :
 - " إذ عرفنا بسر مشيئته ، حسب مسرته التي قصدها في نفسه ، " لتدبير" ملء الأزمنة ، ليجمع كل شيء في المسيح ، ما في السماوات وما على الأرض ، في ذاك الذي فيه أيضا نلنا نصيبا ، معينين سابقا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته ، لنكون لمدح مجده ، نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح  " ( أفس 1 : 9 - 12  ).
- " بسبب هذا أنا بولس ، أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم ، إن كنتم قد سمعتم " بتدبير " نعمة الله المعطاة لي لأجلكم . أنه باعلان عرفني بالسر . كما سبقت فكتبت بالإيجاز . الذي بحسبه حينما تقرأونه ، تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح  "( أفس 3 : 1 - 4  ).
- " وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده ، الذي هو الكنيسة ، التي صرت أنا خادما لها ، حسب " تدبير " الله المعطى لي لأجلكم ، لتتميم كلمة الله . السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال ، لكنه الآن قد أظهر لقديسيه ، الذين أراد الله أن يعرفهم ما هو غنى مجد هذا السر في الأمم ، الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد "( كو 1 : 25 – 27) . وهكذا يتجلى المضمون اللاهوتي ، الحقيقي ، للوكيل وللوكالة  . فالمسيح هو الوكيل الحقيقي ، الأمين ، المدبر لشئون البيت ، وهو البيت في ذات الوقت . هو بيت الآب ، الذي به منازل كثيرة ، والذي قد أعد فيه مكانا لكنيسته ، حتى ما يأخذها إليه ( يو 14 : 2 و 3). هو الوكيل ، ووكالته هي على كنيسته التي هي جسده . هو الوكيل وهو مال الوكالة ، بآن واحد .
الوكيل والوكالة ، في المثل
الإنسان هو الوكيل ، في المثل ، ومال الوكالة هو وجوده الطبيعي . لم يكن الإنسان مستحقا لهذا الوجود ، بل هو قد دعي إليه ، من العدم ، وصار وكيلا عليه . وقد كان من المأمول أن يكون الإنسان وكيلا أمينا فيبقي الله في معرفته ، ويتدرج في هذه المعرفة إلى أن يصل إلى الشركة في الكلمة ، فيأكل من شجرة الحياة . ولكن الإنسان سقط وفقد الطريق الصحيح إلى إدارة وكالته ، فواجه طبيعته الفاسدة ، وانحدر إلى الموت . هكذا بذر الإنسان أموال وكالته .
  وكيل الظلم و مال الظلم
هل من وسيلة لإنقاذ الموقف ، بعد أن افتضح موقف الإنسان ، بعد فشله في وكالته ، وقد بات هلاكه مؤكدا ، وقد سمع صوت الصدمة : " أعط حساب وكالتك لأنك لا تقدر أن تكون وكيلا بعد " ؟ . "ماذا يصنع الإنسان ؟ إنه لا يستطيع أن ينقب ويستحي أن يستعطي "، أي أنه ليس هناك من وسيلة لاجتلاب وجود ، من موجود آخر ، ولابد أن يستثمر مديوني سيده . هذا هو الحل ! إذن ، إذا استثمر الوجود الطبيعي - العتيق ، الفاسد - في ظهور الوجود الجديد عديم الفساد ، فهذا هو استثمار لمال الظلم ، فها هو الرب يخاطب الكنيسة ، التي قبلت بشارة الإنجيل : " وأنا أقول لكم : اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم ، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية ". الوكيل ، في المثل هو وكيل الظلم ، لأنه أعطى ما لا يملكه إلى من لا يستحق . وهذا الوكيل ، الذي امتدحه الرب ، " إذ بحكمة فعل "، هو الإنسان المدعو للشركة في المسيح ، وما صنعه ، هو في الواقع عمل النعمة العجيب . فما عطية ، ما هو ليس مملوكا له ، وما أخذ ما هو ليس مستحقا ، إلا وجها عمل النعمة . ففي المسيح يعطي الإنسان كيان وجوده العتيق - الفاسد بالطبيعة ، وهو كيان لا يملكه ، إذ قد أعطي له من العدم - ليموت مع المسيح ، فيقبل - في المقابل - وجودا جديدا ، وهو لا يستحقه ، إلا بالنعمة . الإنسان ، بالنعمة ، يعطي وجوده البائد ، ليصلب مع المسيح ، فيأخذ وجوده الباقي إلى الأبد ، في المسيح . هو استثمار ، إذن ، لذلك الذي هو هالك ، بطبيعته ، لحساب البقاء ، ومن ضيع فرصة استثمار ، هذا الفاني ، واحتفظ به ، فهو قد احتفظ بفنائه ، لأن الرب ذاته يقول : " من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني . من وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ."( مت 10 : 38 و 39  )
  المديونية
صكوك الدين ، في المثل ، هي مستحقة لحساب البقاء والحياة الأبدية ، في المسيح : " حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية ." والمديونية هي مديونية الحياة الأبدية ، التي من المفترض ومن المتعين ، أن يتم استيفاؤها عوضا عن صكوك دين طبيعتنا العتيقة . في المسيح تستثمر أجسادنا الماتئة ، بأن تموت بالروح القدس ، مع المسيح ، فتحيا معه . هكذا يتم استيفاء المديونية لأنه " إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم ، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائت أيضا بروحه الساكن فيكم . فإذا أيها الإخوة نحن " مديونون " ليس للجسد لنعيش حسب الجسد . لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون . "( رو 8 : 11 – 13 )
 مئة بث زيت و مئة كر قمح
الرقم : مئة
كما تعرضنا من قبل وخصوصا في دراسة " لغة الأرقام في الكتاب المقدس " الموجودة في أرشيف هذه المدونة ، فإن الرقم " مئة " يشير إلى رافد من ثلاثة روافد تملأ الكنيسة ، جسد المسيح ، وهو رافد أبناء دعوة الكرازة الرسولية ، الذين قد قبلوا بشارة الإنجيل .
 الزيت والقمح
هما وجها المديونية ، التي يتم تسديدها، بالنعمة . الزيت هو زيت المسحة ، مسحة الروح القدس . بالشركة في الروح القدس بموت العتيق ، بواسطة الفعل الناري للروح . هذا هو مايتم في المسيح ، الكلمة المتجسد ، رأس المسحة ، الذي فيه قد مسح الجميع : "وأما عن الابن : كرسيك يا الله إلى دهر الدهور . قضيب استقامة قضيب ملكك . أحببت البر وأبغضت الإثم . من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الإبتهاج أكثر من شركائك  "( عب 1 : 8 و 9 ). القمح هو بنو الملكوت ( مت 13 : 38 ) ، هو الثمر . هو الوجود الجديد في المسيح . وإذا كان الزيت هو الوجه السلبي ، في تسديد المديونية ، أي موت العتيق ، فإن القمح هو الوجه الإيجابي ، أي ظهور الإنسان الجديد ، الروحاني ، عديم الموت .في عبارة يوحنا الصابغ ، التي يشهد فيها للرب يسوع المسيح ، نجد رؤية شاملة للوجهين ، إذ يقول ، مخاطبا مريديه : " أنا أعمدكم بماء للتوبة ، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني ، الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه. " هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" . الذي رفشه في يده ، وسينقي بيدره ، ويجمع " قمحه " إلى المخزن ، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ  "( مت 3 : 11 و 12).
الرقم : خمسون
هو حاصل ضرب خمسة وعشرة . والعدد " خمسة " يعني ، في لغة الكتاب ، فئة نوعية معينة . والرقم " عشرة " يعني " الكل " . وبالتالي فإن الرقم "خمسين " - الذي يشير إلى انتماء فئة معينة إلى الكل - يعني القسم أو الفرقة ، أو الجزء من الكل . ففي معجزة إكثار الخبز والسمك ، تم تقسيم الخمسة آلاف رجل ، فرقا خمسين خمسين ( لو 9 : 14 ) و ( مر 6: 40). وعليه فإن الرقم "خمسين" ، الذي كتب في صك الزيت ، بدلا من المئة ، يشير إلى الوجه السلبي لاستيفاء أحد وجهي مديونية الإنسان . صك الخمسين بث ، زيت ، هو ذلك الفريق ، من البشر الذي استثمر مال ظلم وجوده العتيق ، بأن مات مع المسيح ، بفعل الروح القدس ، أي الفريق الذي بالروح قد أمات أعمال الجسد - أي بذل مال الظلم - وليس مثل الفريق الآخر الذي عاش حسب الجسد ، فاستحق الهلاك وفقا لطبيعته الفاسدة .
الرقم : ثمانون
هو حاصل ضرب ثمانية وعشرة . والعدد " ثمانية " هو البداية الجديدة . فالذين كانوا بداية جديدة للوجود الإنساني ، قديما ، هم ثمانية ، كمثال للمعمودية ،كبداية للوجود الجديد ، في المسيح : " ... الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن ، إذ عصت قديما ، حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح ، إذ كان الفلك يبنى ، الذي فيه خلص قليلون ، أي ثماني أنفس بالماء . الذي مثاله يخلصنا نحن الآن ، أي المعمودية . " ( 1بط 3 : 19 - 21 ) . هو رقم المعمودية ، هو رقم البداية الجديدة . وحتى الرمز القديم الذي في الختان ، كان يتمم في اليوم الثامن ، إذ قد اختتن يسوع في اليوم الثامن ( لو 2 : 21 ) . أما الرقم " عشرة " ، فكما قلنا أنه يعني " الكل " ، أو الجميع ، أو الرقم الإجمالي . وعليه فان الرقم " ثمانين " ، الذي كتب في صك القمح ، بدلا من المئة ، يشير إلى الوجه الإيجابي لاستيفاء أحد وجهي مديونية الإنسان . صك الثمانين كر قمح ، هو ذلك الوجود الجديد ، هو تلك البداية الجديدة التي أعطيت لكل الذين في المسيح - عوضا عن عتيقهم الفاني بالطبيعة ، أي عوضا عن مال الظلم - بعد أن جمعت حنطتهم في مخزن ابن الانسان .
 أمانة وكيل الظلم
امتدح السيد ، في المثل ، وكيل الظلم . وأيضا طلب الرب يسوع من تلاميذه - وبالتالي من كنيسته - أن يتمثلوا بحكمة هذا الوكيل ، فيصنعوا لهم أصدقاء بمال الظلم ، أي يستثمروا ، بالنعمة ، وجودهم الطبيعي - الذي هو ليس لهم ، والذي هو فاسد بطبيعته - فيعطون وجودهم الجديد ، مقبولين في " المظال الأبدية " . هذه هي " الأمانة في القليل ، في مال الظلم ، والتي في مقابلها يؤتمنون على الكثير ، أي على الحق " . هذه الأمانة هي التي تجعلهم يستحقون سماع الصوت المفرح : " نعما أيها العبد الصالح والأمين ! كنت أمينا في القليل فأقيمك على الكثير . ادخل إلى فرح سيدك  " ( مت 25 : 21  ) .
مجدي داود

الخميس، 26 أبريل 2012

العيد المسيحي : رؤية لاهوتية

  العيد المسيحي هو احتفالية بشخص المسيح ، ولكن السؤال هو : هل الاحتفال بتلك الشخصية ينضوي تحت بند الاحتفال بالشخوص   التاريخية ، التي غيرت وجه التاريخ ؟. هل العيد المسيحي هو مجرد تكريم لشخصية تاريخية ، هي الرب يسوع ، التاريخي ؟المسيحيون حينما يحتفلون بالعيد ، فهم يحتفلون بالنعمة العظمى التي حصلوا عليها ، في المسيح . هم يحتفلون بالوجود الجديد عديم الفساد ، الذي نالوه في المسيح . هم لا يحتفلون بشخص ، بل يحتفلون بوجودهم في هذا الشخص . 
   1 -   في عيد البشارة ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي سمعت فيها العذراء كلمات المبشر : " ها أنت ستحبلين وتلدين  ابنا وتسمينه يسوع . هذا يكون عظيما ، وابن العلي يدعى ، ويعطيه الرب كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب  إلى الأبد ، ولا يكون لملكه نهاية " ( لو 1 : 31 -33 )  . ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، مع العذراء تسمع كلمات المبشر . لأن ذلك الملك الذي يبشر به الملاك ، لم يكن ملكا بلا رعية أو مملكة . الكنيسة هي مملكته ، هي حاضرة في كلمات المبشر ، هي كرسي داود ، هي بيت يعقوب ، هي الملكوت الذي بلا نهاية .  إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بعيد البشارة فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لتسمع ذات الكلمات التي سمعتها العذراء ، ولتقبل ، طائعة ، خاضعة ، ما قبلته العذراء ، لتجيب أيضا بما أجابته العذراء : " هوذا أنا أمة الرب . ليكن لي كقولك ."( لو 1 : 38 ) . هذا هو جوهر احتفالية عيد البشارة .
   2-  في عيد الميلاد ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي ظهر فيها الكلمة ، للتاريخ ، متجسدا ، في البشر . لحظة ولادة يسوع ، الابن البكر  بين  إخوة كثيرين . يسمع الرعاة صوت الملاك : " ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ."( لو 2 : 11 ). ويسمعون أيضا ترنيمة الجوقة السمائية :" المجد لله في الأعالي . وعلى الأرض السلام ، بأناس مسرته ." ( لو2 : 14  ) . ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، مع الرعاة تسمع صوت الملاك ، فالكنيسة لا وجود لها خارج ذلك الوليد ، المسيح الرب . فالاسم " المسيح " يتخطى الفرد التاريخي المقمط في بيت لحم . اسم " المسيح " يستوعب الكنيسة ، التي رأسها هو ذلك المولود . الكنيسة هي شعب الله الذي قد سر به على الأرض ، واهبا إياه السلام الأبدي الذي لاينزع ، بتخليصه من فساده الطبيعي ، مظهرا بذلك مجده العلوي ، في وجودهم الجديد ، في الابن المتجسد . إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بميلاد الرب يسوع ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لترصد ولادة رأسها وحجر زاويتها ، وبذلك فهي لا تحتفل بميلاد لشخص ، كأي ميلاد لأي شخص ، فهي تحتفل بميلاد يخص وجودها ، فقد ولدت الكنيسة بولادة الرب يسوع التاريخي . هذا هو جوهر احتفالية عيد الميلاد . 
    3-  في عيد الظهور الإلهي ( الثيوفانيا ) ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي نزل فيها الرب يسوع ، الابن المتجسد ، في نهر
 الأردن ، واستعلن الثالوث القدوس ، فيه ، للتاريخ البشري ، وسمعت شهادة الآب :" هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ." وظهر روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه :( مت 3 : 16 و 17 ) و ( مر 1 : 10و 11 ) و ( لو 3 : 22 ) و ( يو 1: 33 ). ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، في الأردن ، معه . فهي الوجود البشري الجديد ، الكائن إلى الأبد كصورة للثالوث الأقدس . هي موضوع مسرة الآب ، حينما صارت كائنة في الابن المتجسد ، فقد سر الآب أن يتبنى البشر حينما صاروا مشتركين في ابنه المتجسد . إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بعيد الظهور الإلهي ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لتغطس في الأردن ، معه ، وليظهر وجودها كصورة للثالوث القدوس . هذا هو جوهر احتفالية عيد الغطاس . 
   4- في عيد الشعانين ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي دخل فيها الرب أورشليم ، راكبا على جحش ، فاستقبل كملك ، رفعت  له الأغصان ، وفرشت له القمصان ، وتعالت صيحات أنشودة الخلاص :" أوصنا لابن داود ! مبارك الآتي باسم الرب ! أوصنا في الأعالي ." ( مت 21 : 9 و 10 ) . " مباركة مملكة أبينا داود الآتية ." ( مر 11 : 10 ) . فقال الفريسيون بعضهم لبعض : " انظروا ! إنكم لا تنفعون شيئا ! هوذا العالم قد ذهب وراءه ! ." ( يو :12 : 19 ) ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، ليملك عليها الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، ويدخل بها أورشليم السمائية . كانت هي مملكة أبينا داود الآتية . كانت كائنة كملء لذلك المبارك الآتي باسم الرب .إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بدخول الرب يسوع أوررشليم ، كملك ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لتختبر المواطنة الأبدية في مملكة أورشليم السمائية ، التي أدخلها الرب يسوع إليها . هذا هو جوهر احتفالية عيد دخول يسوع أورشليم . 
  5-  في عيد القيامة ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي أعلنت فيها نصرة الرب على الموت ، تاركا قبره فارغا ، مع دهشة  النسوة حاملات الحنوط وخطاب الملاكين : " لماذا تطلبن الحي بين الأموات ؟ ليس هو ههنا ، لكنه قام ! "  ( لو 24 : 5و6 ).ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، فهذا القائم ، المنتصر هو باكورتها . هو رأس قيامتها . هي قد قبلته كرأس لها ، وهو قال عن ذاته : " أنا هو القيامة والحياة . من آمن بي ولو مات فسيحيا ، وكل من كان حيا وآمن بي فلن يموت  إلى الأبد  . ( يو  11  : 25 ) إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بقيامة الرب يسوع من الأموات ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لتختبر القيامة معه ، وفيه . هذا هو جوهر احتفالية عيد القيامة . 
 6- في عيد الصعود ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي ارتفع فيها الرب عن تلاميذه بينما هم يشخصون إلى السماء وهو منطلق ، وملاكان يخاطبانهم : " إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا الى السماء. ( أع 1 : 11 )" ولكن ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة ، حاضرة هناك ، فهي البشرية الصاعدة إلى السماء ، والرب يسوع ، الكلمة المتجسد سيأتي صاعدا ، فيها ، بنفس الطريقة التي أصعد بها جسده الخاص . وهو كان قد سبق فوعد بذلك ، ونقلت المجدلية هذا الوعد :" إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ."( يو 20 : 17 ). وكأنه يريد أن يقول : كما أصعدت جسدي الخاص إلى الآب ، أبي ، أصعدكم أنتم أيضا إلى الآب ، الذي صار   بواسطتي ، أباكم . إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بعيد الصعود ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لترصد صعود رأسها وباكورتها ،إلى السماء ، الذي هو عربون صعودها ، كاملة . هذا هو جوهر احتفالية عيد الصعود. 
 7- في عيد الخمسين ، العنصرة ، تستعاد تلك اللحظة التاريخية ، التي كان فيها الجميع معا بنفس واحدة ، وحل عليهم الروح القدس مثل ألسنة نار وامتلأ الجميع من الروح القدس ، وابتدأوا يتكلمون بألسنة ، وانطلقت خدمة الكنيسة إلى العالم ، بعظة بطرس ( أع2 ).ليست القضية هي مجرد استعادة لتلك الذكرى ، فقد كانت الكنيسة - بمفهومها الشامل ، أي جسد المسيح الممتلئ - حاضرة هناك ، فهي المسكن الأبدي للروح القدس. إذن ، حينما تحتفل الكنيسة بالعنصرة ، فهي تدخل إلى تلك اللحظة التاريخية ، لتستقبل عنصرتها الأبدية ، التي امتلأ فيها البشر بالروح القدس ، في المسيح . هذا هو جوهر احتفالية عيد العنصرة . 
خلاصة
العيد المسيحي هو احتفالية المسيحيين باستحقاق وتفعيل سر التجسد ، فيهم : 
 1-  بتجسد الكلمة ، قد سمعوا تلك البشرى الرائعة ، أن إنسانا من طبيعتهم قد نال العتق من موتهم الطبيعي ، والأعظم من ذلك أنه لم يصنع ذلك كحدث منفرد ، ولكنه صنع ذلك لحساب كل البشر ، فهو الكلمة المتجسد ، الذي صار ربا للجميع ، وفي جسده يقبل الجميع إلى حياة عدم الفساد . هو فلك نجاتهم وخلاصهم من هلاكهم ، الطبيعي . 
 2-  بتجسد الكلمة ، قد ولدوا ، معه . فهو رأس خلقتهم الجديدة ، وميلاد الرأس يعني ميلاد كل الجسد ، لأنه لا رأس حي بدون جسد حي .
  3- بتجسد الكلمة ، قد صاروا ثيوفانيين ( إذا  جاز التعبير ) ،أي صار وجودهم صورة للثالوث القدوس. فيه قد اصطبغوا بالحياة وعدم الفساد .
4-  بتجسد الكلمة ، قد صاروا مملكة ورعية لملكهم ورأسهم الرب يسوع المسيح الذي جعل من جسده مملكة أبدية ، تضمهم . وبدخوله إلى العالم قد أدخلوا إلى أورشليم جسده ، فصاروا مملكة الأحياء الى الأبد  .
  5-  بتجسد الكلمة ، قد قاموا من موتهم الطبيعي ، باشتراكهم في حياة الكلمة ، الحاضر فيهم إلى الأبد .
  6- بتجسد الكلمة ، قد صعدوا إلى الآب ، باشتراكهم في جسد الابن الصاعد إلى الآب ، بفضل كونه جسد الابن ، الخاص .
  7- بتجسد الكلمة ، قد مسحوا بالروح القدس ، الذي أتى وسكن فيهم إلى الأبد ، حينما صاروا منتمين كأعضاء لرأس مسحتهم الرب يسوع ، الكلمة المتجسد . 
 مجدي داود

عطية الروح القدس


شهادة يسوع عن الروح  
  1- "  ذاك يمجدني ، لأنه يأخذ مما لي و يخبركم " . ( يو 16 : 14 )
  كان حلول الروح القدس ، قديما ، مجرد حلول وقتي ، أما الآن ، في المسيح ، فقد صار للروح  سكنى أبدية فى البشر . والسكنى تعني توفر المسكن ، والمسكن هو الكنيسة ، هيكل الله الذي يسكنه روح الله. وعندما نؤمن أن العنصرة هي عيد تأسيس الكنيسة ، فيجب أن يكون إيماننا من العمق بحيث لايكون تفكيرنا مقتصرا على صورة الكنيسة كمؤسسة زمنية في العالم ، أو حتى على مسار حركة الكرازة والدعوة الرسولية ، بل على الكنيسة فى مفهومها الأعمق كجسد للمسيح . الكنيسة ، بهذا المفهوم هي مايحتفى به فى عيد العنصرة . انطلق تأسيس هيكل الروح القدس ، بظهور حجر الزاوية الرب يسوع ، ومنه ينطلق بناء كل الهيكل بتحقق الوجود الإفخارستي لجميع البشر، المختارين من أجل أن يصيروا كنيسة. حجر الزاوية ، الرب يسوع هو رأس المسحة ؛ لأن فيه يحل كل ملء اللاهوت ، والكلمة بتجسده قد مسح الجسد ، جاعلا منه مصدرا لمسحة الجميع.
  إذن  بناء هيكل الروح القدس هو حدث تحقق الكنيسة ، هو حدث انتقال المسحة من رأس الجسد إلى الأعضاء ، هو حدث" العنصرة" بالنسبة " للكل " (كيان المسيح ، الممتلئ) ، وهو، فى نفس الوقت ، حدث العنصرة بالنسبة " للجزء "( على مستوى الأعضاء ).  من هذا المنطلق ، نستطيع أن نفهم قول الرب عن الروح القدس : " هو يشهد لي "( يو 15 : 26 ) ؛ فالشهادة ، هنا هي " شهادة يسوع " ( رؤ 19 : 10) ، التي تعنى انسياب النعمة من من كيان الرب يسوع ، كرأس ، لتصبغ باقي الأعضاء وتمسحهم بالمسحة التي نالها جسد يسوع بفضل كونه جسد الكلمة ؛ فيشهد كل عضو ، وبالتالي يشهد جميع الأعضاء بانتمائهم العضوي إلى الرب يسوع المسيح ( كما ثبتت فيكم شهادة المسيح ، حتى أنكم لستم ناقصين في موهبة ما، وأنتم متوقعون استعلان ربنا يسوع المسيح، الذي سيثبتكم أيضا إلى النهاية بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح . ( اكو 1 : 6 -8).  الروح القدس يشهد له ؛ لأن الروح هو الذي يحقق انتماء، أعضاء الكنيسة إلى رأسهم ، فتتحقق الشهادة في الجميع بتحقق الشركة في الجسد الواحد. الروح القدس هو الذي يحمل مسار المجد من الرأس إلى الأعضاء ( ذاك يمجدني)،( مجدت، وأمجد أيضا ) (يو12: 28  )  
   عبارة " يأخذ مما لي ويخبركم " تعني :  يأخذ من مسحتي ويمسحكم ؛ يأخذ مني كرأس ، ويخبركم كأعضاء .
       2- " سيرسله الآب باسمي ". ( يو 14 : 26  )
أولا: " سيرسله " 
 تبعا لمفهوم "الإرسالية " ، فإن الفعل يختلف ، في الأصل اليوناني للعهد الجديد ؛ فالإرسالية بمعنى حمل رسالة معينة - كما هو الحال بالنسبة للرسل الذين فتنوا المسكونة برسالة الخلاص - يستخدم لها الفعل  apostello ، والرسول هو     apostolos ، ومفهوم الإرسالية بهذا المعنى يتمركز حول "الرسالة" ذاتها ، وليس حول "الرسول". أما الفعل المستخدم ، هنا ليعبر عن إرسالية الروح القدس - ويستخدم أيضا فى مواضع مختلفة ليعبر عن إرسالية الابن - فهو الفعل  pempo  ، الذي يعطي مفهوما للإرسالية يتمركز حول الشخص المرسل.  
ثانيا : " باسمي "( في اسمي) ،" en to onomati mo "
   الاسم  فى لغة الكتاب المقدس هو الشخص ، والاسم المقصود هنا هو ، اسم " المسيح "  .وعندما يذكرالرب أن حدثا ما يتم باسمه ( في اسمه) ، فإن هذا يعني أن ذلك الحدث هو توصيف للنعمة الكائنة في اسم " المسيح" ، والسارية داخل كيانه ، من الرأس إلى الأعضاء، فتحقق الطلبة ،"باسمه " هو ذاته تحقق وجود الكنيسة ؛ أي تحقق الانضمام إلى الاسم ؛ أي الانضمام إلى جسد المسيح ( ليس أنتم اخترتموني ، بل أنا اخترتكم ، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم، لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي . ( يو 15 : 16 ) . و ( من يؤمن بي فالأعمال التى أنا أعملها يعملها هو أيضا، ويعمل أعظم منها ، لأني ماض إلى أبي. ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن . إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله . (يو 14 : 12 -14). فليس هناك شيئ ، يطلبه الذين في المسيح ، غير الكينونة داخل اسم المسيح. المبارك الآتي باسم ( في اسم ) الرب ، هو ذلك الكيان الجماعي ؛ الكنيسة ، الذي بمجيئه يتحقق مجيء الرب ؛ يتحقق امتلاء اسم " الرب" ؛ فلنتأمل هتاف الشعانين بحسب مرقس ( مبارك الآتي باسم الرب ، مباركة مملكة أبينا داود الآتية . ( مر 11 : 9 و 10 ). هكذا يضعنا النص اليوناني لإنجيل مرقس ، عند هذه النتيجة ، أن المضمون المستوعب داخل "اسم الرب" هو " مملكة أبينا داود " ، أي الكنيسة. اسم " المسيح" هو الاسم الذي حصل عليه الكلمة بتجسده ، وهو قد حصل على هذا الاسم لكي يستوعب فيه كنيسته ( احفظهم في اسمك  en to onomati sou  الذي أعطيتني ، ليكونوا واحدا كما نحن . يو 17: 11 )
إذن : الروح القدس المرسل من لدى الآب ، هو مرسل في اسم " المسيح " ، فشخص المسيح ، هو الشخص الذي فيه يمسح الجميع ، وخارج المسيح لاتوجد أي مسحة لأي أحد من البشر. اسم "المسيح" ، يخص كيانا تفيض فيه المسحة من الرأس إلى الأعضاء ؛ أي يتم هبوب الروح من الرأس إلى الأعضاء ؛ لذلك قال الرب عن نفسه، أنه هو من يرسل الروح ( ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب ، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق ، فهو يشهد لي .( يو 15 : 26 )     
          3- مصطلح " الباراقليط "
حتى لانتوه في الجدل ، حول مفهوم الكلمة ، فإننا نرى أن للكلمة معنيين أساسيين: 
أولا : المعنى اللغوي للكلمة
الفعل الأساسى في الكلمة هو فعل " kaleo "، الذي يعني " توجيه الدعوة إلى شخص ما " ، ويعني أيضا " إطلاق الاسم ، أو التسمية "؛ فالاسم في لغة الكتاب المقدس هو "دعوة " وليس مجرد كلمة تمييزية للفرد ؛ فالاسم هو جوهر دعوة الشخص وهو جوهر الدور المنوط به ؛ فقد دعي "يسوع " بهذا الاسم " لأنه يخلص شعبه من خطاياهم ".( مت 1 : 21)   
ولكن ، عندما يضاف الحرف ( para )، إلى الفعل ، فإن الفعل الجديد " parakaleo  "، الذي اشتقت منه كلمة الباراقليط   parakletos  paraclete،  ، يعطى مفهوما يتخطى مجرد توجيه الدعوة - التي تحتمل القبول وتحتمل الرفض ، في نفس الوقت - إلى مفهوم " الطلبة والالتماس ، والتضرع النابع عن احتياج ماس " ، كما في ( فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثيا وقائلا له : " إن أردت تقدر أن تطهرني".( مر 1 : 40  )
  الباراقليط ، من خلال هذا المنظور ، هو الشخص " الملتمس ، المعرب عن احتياج معين ، والمستميت في الحصول على مايشبع هذا الاحتياج .
 ثانيا : المعنى الاصطلاحى للكلمة
 وهو ما اصطلح عليه، منذ القرون الأولى ، أن مفهوم الكلمة هو " التعزية " والباراقليط هو " المعزي" ، ولكن من الأفضل لنا الآن أن نرى كيف يرصد العهد الجديد ، مفهوم "التعزية " ( paraklesis ). يضع الرسول بولس كلمة " التعزية " ، كوجه آخر، مواز، ومتلازم لمفهوم " الصليب " ؛ أي كوجه آخر" لشركة آلام المسيح" : ( مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح ، أبو الرأفة وإله كل " تعزية " . الذي " يعزينا " في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن " نعزي " الذين هم في كل ضيقة "بالتعزية " التي "نتعزى" نحن بها من الله. لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا ، كذلك بالمسيح تكثر " تعزيتنا " أيضا. فإن كنا نتضايق فلأجل " تعزيتكم " ، وخلاصكم ، العامل في احتمال نفس الآلآم التي نتألم بها نحن أيضا. أو" نتعزى "فلأجل " تعزيتكم " وخلاصكم. فرجاؤنا من أجلكم ثابت. عالمين أنكم كما أنتم شركاء في الآلآم،  كذلك في " التعزية" أيضا. ( 2 كو1: 3-7)    
مفهوم كلمة " الباراقليط"         
أن يحسم الجدل ، بتبني أحد المعنيين ، فهذا درب من المستحيل.  وتكمن المشكلة ، في أنه لاسبيل في سبر أغوار كلمة " الباراقيط " ، إلا بفهم طبيعة عمل الروح القدس في الكنيسة ؛ بمعنى أنه لاسبيل إلا الحسم اللاهوتي. الروح القدس هو الذي يؤسس الكنيسة ، هو الذي يحقق "العضوية "في جسد المسيح ، هو صانع المسكن وهو ساكن هذا المسكن، ولكن فيما يصنع الروح ذلك ، فهو يتمم عملا مزدوجا ؛ فبواسطة فعله الناري يموت العتيق ، لحساب الجديد . الروح القدس، هو الذي يكشف " الاحتياج " ، وهو الذي يملأ هذا الاحتياج . الروح القدس ، هو الذي يخلق " التضرع "، وهو الذي يجيب الطلبة ( وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها. ( رو 8: 26 ).   الباراقليط ، هو الشخص الذي فيه " يلتمس ويدرك - بآن واحد - وجود الكنيسة  . الباراقليط ، هو الشخص الذي فيه " تلتمس وتدرك - بآن واحد - المسحة "؛ لأنه هو روح المسحة وهو روح الصبغة الذي به يصطبغ الجميع . دعى الرب يسوع المسيح ، بالباراقليط ، لأنه شخص الكفارة ، الذي فيه تتغطى جميع احتياجات أعضائه ، للوجود ، بفضل فيض المسحة المنساب من الرأس إلى الأعضاء : " وإن أخطأ أحد فلنا شفيع ( parakleton ) عند الآب ، يسوع المسيح البار . وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضا ". ( 1 يو 2 : 1 و2 ).  المسكن و ساكنه " ، وجهان لعملة واحدة ، فالباراقليط هو الروح القدس الذي فيه يلتمس تحقيق وجود الكنيسة ، كجسد للمسيح وبدون وجوده ، لاتوجد كنيسة . والكنيسة ،كجسد للمسيح ، هي موطن المسحة و مسكن الروح . وخارجها لايوجد أى مدلول لكلمة " الباراقليط" . الباراقليط هو " الروح القدس المرسل إلى البشر في المسيح " ، وكما أن الكلمة بتجسده ، قد دعي " مسيحا " ، كذلك أيضا ، الروح القدس بسكناه الأبدية في البشر ( في المسيح ) ، قد دعي " الباراقيط " ؛ لأنه هو" ملتمس ومحقق" المسحة ، التي في المسيح.            
  إذن : كشف " الاحتياج الى المسحة " ، التي في المسيح ، واشباع هذا الاحتياج - بانسياب المسحة من الرأس الى الأعضاء - هما وجها العمل الواحد الذى يقوم به شخص " الباراقليط "
 خلاصة
  العمل الذي يستعلنه مصطلح " الباراقليط " ، له وجهان : الوجه السلبى هو" كشف الاحتياج" ؛ فالباراقيط هو الشخص " الملتمس" ( صيغة اسم الفاعل) ، الذي فيه تتم الشركة فى آلام وموت الرب. والوجه الإيجابى هو "إشباع الاحتياج" ؛ فالباراقليط هو الشخص " الملتمس " ( صيغة اسم المفعول ) ، الذي فيه تتم الشركة فى قيامة الرب.
مجدي داود

الأربعاء، 25 أبريل 2012

القيامة

 ( محاولة لاكتشاف آفاق لاهوتية جديدة )
  

          القيامة والتجسد 
يأتي على رأس الأمور الأساسية ، في الفكر الأرثوذكسي ، المفهوم المحوري للتجسد ، في ما يخص أي حديث عن النعمة ، لاسيما القيامة التي نالتها بشريتنا ، في المسيح ، الكلمة المتجسد. وبحسب العظيم أثناسيوس الرسولي ، في كتابه " تجسد الكلمة "، فإن طبيعتنا البشرية ، المائتة ، الفاسدة ، قد نالت القيامة وعدم الموت بفضل كونها قد صارت متحدة بالكلمة ، في الرب يسوع المسيح. إذن ،القيامة هي استعلان لحضور الكلمة في بشريتنا ؛ فحضور الكلمة فينا - في المسيح - قد أشركنا في حياة الكلمة . وإذا كان الكلمة هو الحياة ، الذي به قد كان كل شيء ، فإن الشركة فيه هي شركة في الحياة ، وبالتالي فهي قيامة من الموت والفساد الطبيعي إلى عدم الفساد الأبدي ، بالشركة في الكلمة المتجسد.
       قيامة جسد يسوع الخاص         
أقام الرب يسوع عديدا من الموتى ؛ فأقام ابنة يايرس ، فور موتها . وأقام ابن أرملة نايين ، في طريقه إلى القبر . وأقام لعازر- الذي أنتن في قبره - بعد أربعة أيام من موته. ولكن هناك فرقين جوهريين بين قيامة هؤلاء وقيامة يسوع : الفرق الأول هو طبيعة القيامة ذاتها ، فلم تكن قيامة هؤلاء - مثلما لم تكن قيامة آخرين ، ذكرهم  الكتاب ، بعهديه - سوى استعادة للحياة البيولوجية ، الحيوانية ، فقد بعثوا من موتهم ليواصلوا ذات الحياة الطبيعية التي فقدوها ، وبالتالي فإن قيامتهم لم تكن - واقعيا - إلا تأجيلا للموت ، الذي هو مصير الطبيعة ، التي استعادوها مجددا  .  أما قيامة يسوع فقد كانت استعلانا لطبيعة جديدة غير خاضعة للفساد ، طبيعة روحية غير بيولوجية . طبيعة متحررة من قيود الزمان والمكان. والفرق الثاني هو في مصدر القيامة ، فقد كانت قيامة هؤلاء مجرد قبول لقوة الحياة من خارجهم . هم قد قبلوا أن يبعثوا ثانية إلى ذات وجودهم العتيق  بفضل الأمر الإلهي الصادر من الرب ، أما قيامة يسوع فقد كانت استعلانا لحقيقة كونه جسد الحياة ، ذاته . فالكلمة بتجسده قد أقام جسده الخاص . قيامة يسوع هي قيامة ذاتية المنبع والمصدر .  إن الاتحاد الأقنومي الذي لشخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد - الكائن بين شخص الكلمة , وإنسانية يسوع - يضمن أن شخص الرب يسوع ، التاريخي ، بمجرد بداية ظهوره في أحشاء العذراء ، لم يكن إلا حجابا لإنسانيته الجديدة عديمة الموت ، بفضل اتحادها بحياة الكلمة . هذا هو مايدعى بالمصطلح الشهير" الجسد الممجد " ، الذي كشفه الر ب في فجر الأحد . ولكن النقطة الجوهرية ، التي ينبغي أن تخضع لمزيد من البحث اللاهوتي هي في أن قيامة يسوع من الموت لم تكن صادرة من فعل خارجي ، اقتحم القبر - تعسفيا - كما حدث في قيامة لعازر ، مثلا . ولكن فهما عميقا لمفهوم علاقة ، إدراكنا للزمن ، باستعلانات التدبير الخلاصي ، التي عاشها الرب يسوع التاريخي ، يقودنا إلى إدراك أن استعلان فجر الأحد ، لم يكن إلا كشفا لحقيقة وواقع إنسانية يسوع ، الجديدة عديمة الموت ، الكائنة كاستحقاق- متلازم ومتزامن -للاتحاد الأقنومي ، منذ أول لحظة له ، في أحشاء العذراء. وهذا يقودنا أيضا إلى إعادة التدقيق والتمحيص في مسألة موت يسوع . فلم يكن ذلك الموت إلا تكميلا لموت كل الخليقة ، أي العدم والفناء ؛ فقد اجتاز عتيق يسوع ، الظاهر استحقاقات فناء العالم الطبيعي . وعندئذ ، فقط استطاع أن يستعلن لنا في فجر الأحد كيانه الجديد ، الذي كان قد سبق أن استعلنه - عن استحياء - للخاصة من تلاميذه ، على الجبل ، في مشهد مصحوب بشهادة الآب : " هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت . له اسمعوا ."(مت 17 : 5 ). وهكذا تم حفظ السر لدى بطرس ويعقوب ويوحنا - كما أمرهم الرب - إلى أن استعلنه للجميع ، بذاته ، في فجر الأحد.عندما اجتاز الرب يسوع الموت فقد اجتازه في بيولوجيتنا ، التي أخذها بتجسده فينا . وعندما انهارت هذه البيولوجيا ، كما تنهار فينا ، أظهر طبيعته الإنسانية الجديدة ، عوضا عن تلك المنهارة . أظهر الإنسانية الروحانية ، التي كانت بمثابة التعبير الواقعي الوحيد عن الاتحاد الأقنومي بين الله والانسان في الكلمة المتجسد ، الرب يسوع .لم تنشأ قيامة يسوع في القبر ، كما نشأت قيامة لعازر ، بل قد كان القبر الفارغ بمثابة شاهد الاثبات الأول على القيامة . فقد كان قبر يسوع هو القبر الأول في الكون الذي شهد لحظة نهاية الكون ، في نهاية عتيق يسوع ، وبالتالي كان شاهدا على أن مصير عتيق يسوع الظاهر - الذي هو مصير كل الكون ، أي العدم - لم يستطع أن يقترب من كيانه الإنساني الجديد ، المستتر . شهد القبر بهزيمته إلى الأبد ، في يسوع القائم . خدع القبر، فلم يقتنص من كيان يسوع غير حجابه العتيق الظاهر ، مثلما لم تستطع امرأة فوطيفار أن تفوز بغير رداء يوسف.هكذا بموت يسوع قد مات الموت الذي كان - سابقا - قد أمات الجميع .
         قيامة الذين في المسيح 
 إن الكلمة بتجسده لم يكن يستهدف أن يتخذ من جبلتنا جسدا ليعطية القيامة ، فلم يكن هدف هذا التدبير سوى دس خميرة القيامة في عجين طبيعتنا ، حتى إذا ما اشتركنا فيه ، وقبلناها كرأس لإنسانيتنا الجديدة ، تكون قد اختمرت جبلتنا بخمير القيامة المستعلن بالحياة الأبدية المعطاة للكنيسة كجسد لذلك الرأس الذي هو منبع القيامة. الكنيسة ، إذن هي الوجود الإفخارستي الذي تسري فيه قوة القيامة منطلقة من الرب يسوع التاريخي نحو كل الأعضاء ، المشتتين في الزمان والمكان . هكذا تنطلق قوة القيامة من الكلمة المتجسد لتلملم أشلاء الكنيسة المبعثرة في أربعة رياح الأرض . القيامة هي قوة الإفخارستيا النابعة من الخبز الحي النازل من السماء ، نحو المعينين لأن يصيروا فيه خبزا واحدا. القيامة ، ليست مجرد قوة عارية ، بل القيامة هي شخص ، وهو قال عن نفسه : " أنا هو القيامة والحياة ". وشخص المسيح هو الشخص الكاثوليكي ( الجماعي ) ، الذي يمتلئ الآن ويتكمل بضم المتبقين من أفراد الكنيسة ، وحينما يكتمل مجيء الرب ، بتكميل الكنيسة ، تكون القيامة قد استعلنت في جميع المختارين كأعضاء لرأس قيامتهم الرب يسوع التاريخي . وفي عبارة الرب ، لمرثا ، يكشف الرب أن شخص القيامة إنما يمتلئ من رافدين ، على مستوى تاريخ البشر : الرافد الأول هو أولئك القادمين من زمن ماقبل التجسد ، و هؤلاء قد ماتوا وفنوا بحكم الطبيعة البشرية الفاسدة ، ولكن بمجرد أن ظهر الكلمة في الجسد ، قد تم استعادتهم من العدم ، إذ نزل الرب إلى الجحيم وكرز للذين في السجن وحررهم من موتهم ، فكانت لحظة تجسده بمثابة جرس التنبيه الذي يوقظ النائم من نومه . هؤلاء هم مقصد الرب من عبارة : " من آمن بي ولو مات فسيحيا ".أما الرافد الثاني فهو رافد القادمين إلى القيامة من حقبة مابعد تجسد الكلمة ، فهؤلاء هم الذين أطلق عليهم الكتاب - في هذا الصدد - تعبير " الأحياء " . وهؤلاء هم مقصد الرب من عبارة : " كل من كان حيا وامن بي فلن يموت الى الأبد ". ( يو 11 :26 ) . ويستعرض الرسول بولس ، في مشهد بانورامي ، حدث تجسد الكلمة ، ونزوله من السماء ، وموقف الرافدين ( الراقدين ، والأحياء ) ، فيقول : " لأن الرب نفسه بهتاف ، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله ، سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا . ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء ، وهكذا نكون كل حين مع الرب  "( 1تس 4: 16و17 ).  إذن ، القدماء الراقدون يبعثون من موتهم . وقيامتهم هي بمثابة إفاقة للنائم من غفوته ، وأما الذين عاشوا زمن التجسد ( الأحياء ) ، فلا يموتون ولا يرقدون ، كالآخرين بل يتغيرون إلى حياة عدم الفساد ، منضمين إلى شخص القيامة ، المسيح الرب ، وقيامتهم هي بمثابة التغير ، والاختطاف من طبيعة إلى طبيعة ومن وجود وهمي إلى الوجود الحقيقي ، في المسيح . ذلك السر يكشفه الرسول بولس ، قائلا : " هوذا سر أقوله لكم : لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير ، في لحظة في طرفة عين ، عند البوق الأخير . فإنه سيبوق ، فيقام الأموات عديمي فساد ، ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد ، وهذا المائت يلبس عدم موت "  ( 1كو15 : 51- 53 ). 
        مفهوم "التغير" الذي تكشفه القيامة     
  في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر يقدم الرسول بولس تنظيرا مفصلا بالروح لمفهوم قيامة البشر في المسيح كتغير من الطبيعة البشرية الفاسدة إلى الطبيعة الجديدة عديمة الموت والفساد . تغير من الترابي الحيواني إلى السماوي الروحاني . ولكن ماهو مضمون " التغير " ؟  التغير بالتعريف هو زوال وفناء وتلاشي وضع أو حالة ونشأة وضع أو حالة جديدة على أنقاض الأولى . للتغير وجه سلبي هو العدم ووجه إيجابي هو الوجود.  ويؤكد الرسول على حقيقة هذين الوجهين :" الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت "( 36 )، ويعود  فيؤكد على مسلمة الوجه الأول فيقرر بأن " لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ولا يرث الفساد عدم الفساد ".( 50)  ولكن ماهي علاقة العتيق ( البيولوجي ، من لحم ودم ) بالجديد ( الروحاني، الحي بشركة الروح القدس ) ؟ إجابة الرسول بولس تأتي من خلال نموذج عبقري يتجذر في خبرتنا البشرية وهو نموذج الزراعة :
"   هكذا أيضا قيامة الأموات:
 يزرع في فساد و يقام في عدم فساد.
  يزرع في هوان و يقام في مجد .
  يزرع في ضعف و يقام في قوة.
  يزرع جسما حيوانيا و يقام جسما روحانيا   "( 42- 44 )
النقطة الهامة في هذا السياق هي أن العتيق الفاسد الميت بطبيعته ليس أكثر من مجرد بذرة يتم استثمار موتها لحساب وجود جديد . ويقرر الرسول أن البذرة التي تدفن فتموت - لحساب الحياة – شيء ، والجسم المنتج شيء آخر : "  الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت . و الذي تزرعه، لست تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ،ربما من حنطة أو أحد البواقي. و لكن الله يعطيها جسما كما أراد. و لكل واحد من البزور جسمه"( 36- 38 ) .إذن القيامة هي الحدث الذي يجعل حالة الموت المحسوم للطبيعة البشرية - المتخذة صورة  اللحم والدم - تتحول إلى حالة الحياة في المسيح ، والتي تتخذ  صورة الروحانية  . تغير حالة الطبيعة البشرية من الصورة الأولى إلى الصورة الثانية هو فناء للأولى وإنشاء للثانية وليس مجرد "تجميل أوتحسين أو تغليف أو إعادة تلوين أو إعادة تركيب " للصورة الأولى على أي نحو . يقوم البشر من الموت حينما يقبلون الاستحقاق الذي ناله لأجلهم جسد الرب القائم ، بفضل كونه جسد الكلمة الخاص ، فيشتركون في قيامته لأنه لا يستطيع الموت أن يقترب ثانية من الذين قد اشتركوا في حياة الكلمة التي تفيض إليهم من صخرة هي رأسهم الرب يسوع القائم المنتصر أبدا .
  والآن، لنا بعض الأسئلة :
-  ماذا عن قيامة ذلك الذي قال عن نفسه :" أنا هو القيامة والحياة " ، وهو قد قالها من قبل أن يرفع على الخشبة وبالتالي من قبل قيامته ؟
- وإذا كانت قيامة البشر تحدث حينما يشتركون في حياة الكلمة التي تفيض إليهم من جسد يسوع ، الذي هو جسد الكلمة ، فهل كان يسوع نفسه محتاجا لأن يجتاز رحلة حياته كلها على الأرض إلى أن يدخل القبر بعد صلبه وموته وحينئذ فقط تنشأ القيامة كحدث طارئ على إنسانيته ؟
- أليست الترجمة الصحيحة الواقعية الوحيدة لطبيعة شخص يسوع -  المتحقق من خلال الاتحاد الأقنومي ( الاتحاد الشخصي ) بين إنسانية يسوع والكلمة - هي أن قيامة إنسانيته أو قل الطبيعة الجديدة ليسوع هي أمر واقع ومحقق منذ أول لحظة للاتحاد ، في داخل بطن أمنا العذراء مريم ؟
- هل يوجد هناك أي مضمون للاتحاد الأقنومي بين إنسانية يسوع ولاهوته إذا كانت هذه الإنسانية مجرد طبيعة فاسدة قابلة للألم والموت، من المزمع أن تتغير إلى طبيعة روحانية جديدة منتصرة أبدا على الموت والألم ؟
- ألا يعني ذلك أن "جديد " يسوع المنتصر على الموت بطبيعته ، هو واقع قد ظل أمرا سريا مستترا خلف حجاب " العتيق " منذ أول لحظة للحبل إلى لحظة دخول القبر وحينئذ فقط – إذ قد خلع العتيق – أظهر الجديد باستعلان القيامة في فجر الأحد ؟
- ألم تكن حالة السرية التي فرضها الرب على كيانه الجديد القائم - والمنتصر على الموت بطبيعته – قاعدة التزم بها طيلة حياته حتى الصليب ،إلا في استثناء واحد - والاستثناء دائما يؤكد القاعدة – هو كشفه لهذا السر أمام الخواص من تلاميذه على الجبل ، والعجيب أنه بعد أن أظهر لهم سره يعود ويحتوي الأمر فيوصيهم أن لايذيعوا الخبر حتى مايعلنه بذاته في الوقت الذي عينه لذلك  :
( مت17: 1-9 )، ( مر9: 1-9 ) و ( لو9: 28- 36 )  ؟
كانت هذه بعض الأسئلة التي تحتاج إلى التصدي لها بشجاعة وثورية ورغبة في اكتشاف أبعاد جديدة للحقيقة حتى ولو بالتجاوز الإيجابي الخلاق لما قد اكتفى الآباء برصده . فالحقيقة ليست نقطة يمكننا بلوغها هنا فنستريح ونركن لذلك ، ولكنها أفق لا يمكن بلوغه إلا في سعينا الأبدي نحوها ، في المسيح . ويبقى السؤال الأكثر تعقيدا : ماذا عن القبر الفارغ ؟ لماذا لم يترك الرب جثة تتحلل لتؤول في النهاية إلى حفنة من العظام ؟ أليس هكذا نموت ؟ أليس هذا هو موتنا نحن ، الذي اجتازه مثلنا ؟ إن القاعدة الآبائية - لاسيما عند أثناسيوس- هي أن الرب قد مات موتنا نحن. والموت ليس فقط مجرد انهيار صورة الوجود الحي ، المتبوع بتحلل الأجساد ،  ولكن الموت هو العدم . جميع الأموات من البشر بدءا من آدم وحتى نهاية الكون قد تركوا آثارا من أجسادهم المتحللة والتي ماتزال - بشكل أو بآخر - موجودة ، وأما يسوع فقد اجتاز الموت في أقصى تجليات حقيقته ، اجتاز العدم . لم يترك الرب جثة تتحلل لأنه قد أسلم عتيقه لمصيره الطبيعي ، فما أن أغلق القبر على اللحم والدم إلا وقد اجتاز لحظة نهاية الكون ، أي العدم .إن الرب بموته المحيي لم يدشن فقط زمن الحياة الأبدية للبشر ، بل قد أكمل موت الكون . قد أكمل موتنا الذي لم نجتزه بعد ، وعندما قال " قد أكمل " كان يعنيها بالفعل ، كان يعني أنه أكمل الحياة مثلما أكمل الموت .إن كان هناك ثمة أمر دراماتيكي قد حدث في قبر يسوع فهو ليس حدث القيامة بل حدث انهيار وفناء طبيعة المادة وتحولها إلى العدم  ، وأما القيامة فهي ليست بحدث طارئ بل هي حدث قد آن الكشف عنه بعد زوال الحجاب العتيق الذي كان يستره. 
                       خلاصة
 الفرق الجوهري بين قيامة يسوع وقيامة المؤمنين هو في أن قيامة الرب كانت حدثا متلازما لظهوره ، وكانت بمثابة التعبير " التلقائي الواقعي العملي الوحيد" عن الاتحاد الشخصي بين بشريته ولاهوته ، وكان من المنطقي أن يصر الرب على إخفائه وعدم إعلانه للبشر إلى حين اجتيازه موت عتيقه الظاهر الذي هو موتنا نحن ،أي العدم . أما قيامة المؤمنين فهي حدث النعمة الذي يطرأ عليهم دراماتيكيا حينما يشتركون في قيامة الرب.
 

الثلاثاء، 24 أبريل 2012

الحلقة المفقودة في مسار الفكر الخريستولوجي


    الشخصية الكونية للرب يسوع التاريخي هي الحلقة المفقودة في المسار التاريخي للفكر الخريستولوجي ، وإنني أعتقد بأن فقدان هذه الحلقة ، كان سببا رئيسيا ، خفيا وراء صناعة الهرطقات الكبرى ، التي تحدت الفكر الخريستولوجي في كل تاريخه . وليس لدينا مثل ، أكثر وضوحا ، من ذلك الجدل اللاهوتي - الذى اتخذ مسارا من الصراع المرير ، والعنيف ، أحيانا - بين المونوفيزيتيزم ( monophysitism = القول بطبيعة واحدة ، في المسيح ) والديوفيزيتيزم ( diophysitism = القول بطبيعتين ، في المسيح ) ، الذي هو في حقيقته صراع بين فريقين من الخائفين : الفريق الأول هو فريق المرعوبين من النسطورية والفريق الثاني هو فريق المرعوبين من الأوطيخية . وكل من الفريقين قد تشبث بالمصطلحات والتعبيرات ، حتى حروف الجر . وضاع المضمون وانقسمت الكنيسة الأرثوذكسية قرونا وقرونا وما زالت تعاني من هذه الشروخ حتى الآن . ولدينا ، تاريخيا ثلاثة من الهرطقات الكبرى ، التي أتعبت الكنيسة وقدمت أطروحات منحرفة خريستولوجيا ( إذا جاز التعبير)،  هذه الهرطقات هى : الأبولينارية ، النسطورية والأوطيخية . وما أعتقده - شخصيا - هو أن العامل المشترك ، الذي كان وراء بناء أي من هذه الهرطقات ، هو تلك الحلقة الخريستولوجية المفقودة ، أى غياب الاعتقاد بوجود الشخصية الكونية للرب يسوع ، التاريخي ؛ فقد اعتقد ثلاثتهم أن أنسانية يسوع هي فقط ذلك الكيان العتيق الذي يشبهنا نحن ، تماما ، كيان اللحم والدم . وقد اختزلت إنسانية يسوع في كيانه العتيق الظاهر ، المرصود تاريخيا ، والذي تقبل الألم والموت . هذا الاعتقاد ، لا شعوريا، قد رسخ نظرة دونية من نحو إنسانية يسوع ، مقارنة بلاهوته ، وهكذا قد كان واردا ، من أحدهم ( أبوليناريوس ) أن يربأ بشخص الكلمة المتجسد ، من أن يكون له عقل إنساني ( نفس إنسانية ). وقد كان حريا بآخر، وهو نسطور أن يربأ بالكلمة المتجسد ، من أن يكون قد ولد من العذراء ، ويربأ بالله من أن يقال ، أن العذراء هي ثيؤتوكوس . وقد كان حريا بالأخير أن ينزلق فى اتجاه ، أن كيانا قوامه ، اللحم والدم ( حسب معتقده ) ، غير جدير بأن يثبت في الكلمة الى الأبد . هكذا ، قد غاب عن جميعهم ، أن الرب يسوع التاريخي ، ليس هو فقط ذلك العتيق الظاهر المرصود تاريخيا . غاب عنهم ، جميعا أن ذلك الظاهر، هو فقط مجرد قمة جبل الجليد بالنسبة لإنسانية يسوع .  إن الكلمة ، حقا قد صار لحما ودما ( sarx)  ، ولكن هذه مجرد رؤية من زاوية واحدة ، فهناك زاوية أخرى وهي ، أنه فيما صار الكلمة لحما ودما ، فقد صار باكورتنا ، فيه ، روحا محييا . وفيما لبس ذاك صورة الترابي ، آدم الأول ، لبس باكورتنا ، فيه ، صورة آدم الثاني ، الجديد الرب الذي من السماء .والنقطة المحورية ، وحجر الزاوية ، هنا ، هي التزامن والتلازم المطلقان ، بين الصيغتين الإنسانيتين .   آدم الثاني ، الكيان الروحاني ، هو إنسانية يسوع الجديدة ، التي صارت حقيقة كونية منذ أول لحظة للحبل الإلهي . هذا هو نموذج الإنسان الكامل ، الذي نقصده ، ولابد أن نقصده ، حينما نقول بأن المسيح هو إنسان كامل وإله كامل . هذا الكيان هو الكيان الوحيد ، المنوط بالشركة في الاتحاد الأقنومي ، المفهوم الذي كرسه اللاهوت السكندري ، لدحض بدعة نسطور.لم يتحد الكلمة أقنوميا بلحم ودم ، لأن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله. هذا اللحم والدم هو نحن . هذا اللحم والدم ، هو الذي صرخ على الخشبة : " إلهي، إلهي، لماذا تركتني " ، فهو متروك بالطبيعة . هو عارنا الذي التحف به ، حتى إذا ما شقه وخلعه وهبنا مجده الذي كان مستورا خلف هذا الثوب العتيق . والثوب يظل ثوبا ولا يصير من طبيعة لابسه ، وإن بدا المشهد غير ذلك .وحينما ظهر الكلمة المتجسد في العالم العتيق فقد ظهر مرتديا ذات العالم العتيق .ولكن ما يجب أن نؤكده هو أن ذلك العتيق لم يكن آخرا بالنسبة للشخص ككل، فقمة جبل الجليد ليست جبلا آخرا غير ذلك الكيان العظيم المستتر في جوف المياه .لذلك فنحن نقول بأن الألم والموت الذين جازا في العتيق ، قد حسب أن الشخص كاملا ، قد اجتازهما فالكلمة المتجسد قد قبل الألم والموت . في شخصه الكامل بالرغم من أن الذي يتألم ويموت هو ظاهره العتيق وليس باطنه الجديد ، الذي هو حر من الألم والموت والزمان والمكان ، وهو كائن منذ أول لحظة للتجسد فى الكون كله لأنه قد أصبح كائنا في اتحاد أقنومي مع الكلمة الحاضر في الكون . حتى مفهوم " الإرادتين والفعلين " قد كان نبتا شرعيا لغياب مفهوم الشخصية الإنسانية الكونية ، التي هي الكيان الجديد ليسوع ونتيجة منطقية لاختزال إنسانيته في عتيقه الظاهر ، وبالتالى فمن المنطقي الاعتقاد بعدم أهلية الإرادة الإنسانية والفعل الإنساني ، ليسوع - للاتحاد الأقنومي مع الإرادة والفعل الخاصين بالكلمة . وهنا يجب أن ندرك أنه حتى الإرادة العتيقة الخاصة بحجاب الرب يسوع ، التاريخى ، كانت خاضعة لإرادة شخص الكلمة المتجسد فى كيانه الكامل والواحد ، فنرى يسوع في معاناته الأخيرة ، فى عشية قتله ، يقول : لتكن لا إرادتي بل إرادتك ، بالرغم أنه كان يريد أن ترفع عنه الكأس بحكم الطبيعة العتيقة ، التى هي طبيعتنا . إذن حتى الإرادة العتيقة - وإن كانت مخالفة لإرادة الجديد ، فقد تم تخطيها وتجاوزها ، لحساب الجديد ، لتكون الثمرة النهائية ، إرادة واحدة وفعل واحد لشخص مركزي واحد هو الكلمة المتجسد .  إذن : مفهوم التغير والتجديد ، الحادث للطبيعة البشرية في الرب يسوع التاريخي ، هو في حقيقته ، ما يمكن أن نطلق عليه " استحقاق الاتحاد الأقنومي، في شخص الرب يسوع ، التاريخي ". بمعنى أن الأمر الوحيد الكاشف ، لكون أن إنسانية يسوع كائنة في اتحاد أقنومي ، مع الكلمة - هو ظهور هذه الطبيعة البشرية ، متحررة من الألم والموت والزمان والمكان . هذا هو مجد الشركة في الكلمة ، هذا هو مجد الاتحاد الأقنومي . ما ينبغى أن نواجه به أنفسنا هو : إما أن نعتقد بأن الرب يسوع ، التاريخي ، هو شخص واحد ، يثمره اتحاد أقنومي بين الكلمة والانسان - وفي هذه الحالة لابد أن نعتقد بأن مجد الطبيعة الجديدة ، قائم كحقيقة واقعية ، منذ أول لحظة للتجسد ، في رحم العذراء - أو ننزلق إلى الهرطقة فنعتقد بأن الاتحاد الأقنومي ، قد تم بعد موت الرب ، وذلك حتى ما نستطيع تبرير نشأة القيامة وظهور الكيان الجديد ، بعد الصليب ، زمنيا . القضية ، ببساطة هي أن الرب يسوع ، التاريخي هو شخص الكلمة المتحد أقنوميا بالإنسان الكامل وهو باجتيازه الصليب والموت فقد اجتاز ما يمكن أن نطلق عليه : " اختبار التحدي "، الذي رسب فيه إنساننا الطبيعي - وباجتيازه هذا الاختبار لم يستطع الموت أن يأخذ منه غير حجابه الظاهر ، الذي - هو أيضا - طبيعتنا العتيقة - وهكذا خرج السيد من الاختبار منتصرا ومظهرا جديده ، في كل مجده ومعلنا إياه بالقيامة ، بعد أن تم خلع الحجاب . في اعتقادي أن علاقة اللاهوت بالناسوت ، في شخص المسيح ، لم تكن هي المعضلة الرئيسية، في الجدل الخريستولوجي المرير ، الذي اجتازته الكنيسة - وإن بدا ظاهر الأمر غير ذلك - ولكن المسألة الخفية هي علاقة مانظنه الناسوت بالناسوت الكامل!. هذه هي الحقيقة العجيبة ، التي هي السر الخفى وراء الحلقة المفقودة ، التي نتحدث عنها . إن طبيعتنا حينما صارت في الكلمة ، بالتجسد ، فقد حدث أمر جلل منذ أول لحظة للتجسد ، وهو أنه قد زرع فيها كيان إنسانيتنا الجديد وباكورته ، الرب يسوع التاريخي . وهنا لابد أن نفرق بين صيغتي وجدودنا في الرب يسوع التاريخي . الصيغة الأولى هي طبيعتنا نحن ، اللحم والدم ، الإنسان النفساني ، القابل للألم والموت . هذه هي صيغة المزرعة ، أو البيئة ( إذا جاز التعبير ) .أما الصيغة الثانية فهي الإنسانية الجديدة ، التي هي التعبير الوحيد ، العملي ، عن الاتحاد الأقنومي بين الناسوت واللاهوت ، هذه هي الصيغة الإنسانية ، الثمرة التي نبتت ، حينما زرع الكلمة ذاته في طبيعتنا . إذن ، في الرب يسوع ، التاريخي ، لابد أن نميز الفرق بين باكورة انسانيتنا الجديدة ، ورأسها - غير القابل للألم والموت ، لأنه شخص الكلمة المتحد أقنوميا بالانسان- وطبيعتنا العتيقة التي ظل ملتحفا بها كرداء ، وكمنبت لكيانه الجديد ، وفيها ، قد قبل كل استحقاقاتها ، من ألم وموت ، وحينما أسلمها لمصيرها الطبيعي ، كان له أن يعلن نصرة الجديد ، بإعلانه القيامة ، كحقيقة لإنسانيته الجديدة ، التي كانت مخفية خلف الحجاب العتيق ، والتي هي حقيقة ، وأمر واقع منذ أول لحظة للتجسد ، وكاستحقاق للاتحاد الأقنومي الحادث ، أيضا ، منذ أول لحظة للتجسد . المسلمة الأولى في الخريستولوجيا هي أن الرب يسوع ، التاريخي ، هو إنسان كامل ، وإله كامل بآن واحد . انسانية الرب يسوع هي فى حالة احتواء ( تواجد) متبادل مع لاهوته ، حتى أنه ينظر إليه فيرى الإنسان الكامل ، وأيضا ينظر إليه ثانية ، فيرى الإله الكامل . ولكن السؤال الجوهري هو : ما معنى تعبير" الإنسان الكامل " ؟ . هل الإنسان الكامل هو طبيعتنا البشرية العتيقة ، أي الإنسان النفساني ، اللحم والد م ؟ إذا كان تعبير الإنسان الكامل ، في سياقه الخريستولوجي يعني الكيان البيولوجي ، الحيواني ، النفساني ، الذي نحن إياه ، والذي تم تجديده في المسيح ، بالقيامة - فتكون النتيحة المنطقية ، لهذه الفرضية ، هي أن الكلمة بتجسده ، قد لبس إنسانية ناقصة ، مكملا إياها بالقيامة . ويكون الاتحاد الأقنومي كائنا بين عنصرين ، هما الكلمة والطبيعة الإنسانية الحيوانية ، العتيقة ، من لحم ودم . وتكون النتيجة الأكثر كارثية ، هي أن شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، قد ظل ناقصا، إلى أن اكتمل ، وتجدد ، ونال عدم الفساد ، بالقيامة . وبمعنى أكثر فجاجة ، يكون شخص الكلمة المتجسد ، قد تغير بالقيامة عن ما كان عليه   قبل القيامة .وعليه فيكون حدث التجسد هو غير كامل منذ أول لحظة للحبل ، ويكون أيضا أن الاتحاد الأقنومي هو غير كامل منذ أول لحظة للتجسد ؛ لأن ما كان الكلمة قد اتحد به أقنوميا منذ بداية الحبل ، قد تبدل وتغير بالقيامة . أي كفر ، وأى هرطقة ، من الممكن أن تكون أعظم من هذا ؟!، وأي مفهوم للاتحاد الأقنومي يكون هذا ؟!.  هناك ، إذن فرق جوهري ودقيق ، بين أن يقال أن الكلمة قد اتحد اقنوميا بالطبيعة البشرية ، الخاضعة للألم والموت ، مجددا إياها بالقيامة - وأن يقال أن الكلمة قد زرع ذاته فى الطبيعة البشرية الخاضعة للألم والموت ، فنبت فيها باكورة الطبيعة الجديدة ، غير القابلة للألم والموت ، هذا الذى أعلن لنا ، بإظهار القيامة في اليوم الثالث لموت الرب ، بعد أن خلع طبيعتنا العتيقة على الصليب .  فالقيامة هي حقيقة واستحقاق الاتحاد الأقنومي لشخص الرب يسوع ، منذ أن صار هناك اتحاد أقنومي ، مع أول لحظة للحبل فى رحم العذراء . وأما الألم والموت فهما حقيقيان ، وبكل تأكيد ، ينسبان إلى الشخص كاملا ، وسيظل الخروف المذبوح ، هو الخبرة الأبدية المنقوشة في وعي شخص الرب يسوع المسيح . واقع الحال هو أن إنساننا العتيق ليس بأي حال من الأحوال ، إنسانا كاملا . فالإنسان الكامل هو ذلك النموذج الذي جبل الإنسان عليه ، وقد صار هذا النموذج واقعا كونيا ، جديدا مع أول لحظة للتجسد .وبالرغم من ظهور ذلك الإنسان الكامل، فقد ظل لابسا نقصنا ، إلى أن اجتاز فيه موتنا ، فتمت إبادة النقص ، وتم موت الموت ، ووهب لنا الكامل ذاته ، كرأس لكمالنا وكمصدر لحياتنا وكبداية للكون الجديد . الإنسان الكامل ، كائن خلف الذبيح المعلق على الخشبة ، بل هو كائن في أعماق الكون كله منذ أول لحظة لحدث التجسد . الإنسان الكامل هو جسد الكلمة الخاص الذي اجتاز الموت في رداء ، هو طبيعتنا ، نحن . وحينما خلع هذا الرداء ، كان قد خلع الموت عنا ، معلنا عن جديده الكامل ، المستتر خلف طبيعتنا البيولوجية ، بل خلف الكون الطبيعي ، كله. 
مجدي داود

نزول المسيح إلى الجحيم

   مقدمة
لكي ندرك ، جيدا ، مفهوم نزول المسيح إلى الجحيم ، لابد لنا من أن نعي ثلاث قواعد أساسية حاكمة ، يؤكدها تراث الآباء ، لاسيما أثناسيوس :
1- قاعدة الموت : موت المسيح هو موتنا نحن .
2- قاعدة القيامة : القيامة هي النتيجة التلقائية الحتمية للاتحاد بين الكلمة والإنسان في المسيح .
3- قاعدة الشخص : مركز الشخص هو الكلمة الظاهر في الإنسان الجديد ، المنتصر على الموت ، وهو في نفس الوقت ينسب إليه كل ما يخص العتيق ؛ فيقال أن المسيح تألم ومات .
   وتطبيقا عمليا لهذه القواعد الثلاث  ، نقول بأنه بمجرد حلول الكلمة في أحشاء العذراء ، قد ظهر في كوننا إنسان جديد غير قابل للموت ، ولكن ذلك الجديد قد ظهر في عالمنا متسربلا بعتيقه - الذي هو عتيقنا - وظل حاملا إياه ، ومحتجبا فيه ، وظاهرا للعيان كواحد منا ، إلى أن اجتاز فيه الألم والموت . وبالرغم من أن كيان القيامة وعدم الموت هو حقيقة التجسد - وواقع " الجديد " الكائن منذ بداية الحدث - إلا أن ذلك الجديد قد ظل سرا مخفيا خلف الحجاب العتيق ، إلى أن أعلن في فجر الأحد بعد خلع العتيق .   عتيق يسوع هو فاسد بالطبيعة لأنه هو عتيقنا نحن ، وهو قد ظل لابسا إياه حتى ما أسلمه إلى مصيره الطبيعى ، الذي هو مصيرنا ، وعندما تم فيه ذلك ، أعلنت القيامة المحتجبة خلف الحجاب المخلوع .    موتنا ، هو انشطار صورتنا الإنسانية بمفارقة النفس للجسد . والنفس هي الطاقة المحركة الواعية ، المستعلنة في الجسد . الجسد هو جسد نفساني . و بمفارقة النفس للجسد يتهاوى الشطران نحو العدم ؛ فلا وجود لجسد بلا نفس ولا وجود لنفس بلا جسد . هذا هو موتنا الذي يكتمل بموت الكون كله وهبوطه إلى الجحيم،فتفنى حتى بقايا تحلل أجسادنا .هذا هو الموت الذي اجتازه المسيح . على أننا يجب أن ندرك أن الموت لم يستطع أن يلتهم من كيان يسوع غير ما يستطيع أن يلتهم من كياننا . والفرق الأساسي والجوهري هو أنه حينما نلتقى الموت - بطبيعتنا ، العارية من النعمة - فإنه لا يتبقى لنا شيء . يلتهم الموت كل شيء بخصوص الإنسان الطبيعي . أما في ما يخص يسوع فقد التهم الموت حجاب عتيقه ، ليتبقى الإنسان الجديد المنتصر على الموت ، ذلك المستتر خلف الحجاب.   إن إعلان قيامة الرب في فجر الأحد ليس إعلانا عن تحول العتيق إلى الجديد ، بل هو كشف للجديد بعد زوال الحجاب العتيق .  إن قيامة الرب لم تنشأ فى القبر لأن القيامة هي دليل الاتحاد وثمرته ، ولأن لاهوته لم يفارق ناسوته  لحظة واحده ولا طرفة عين،  فإن القيامة لم تكن إلا حدثا متلازما ومتزامنا للتجسد منذ أول لحظة له فى أحشاء العذراء .
    ماذا حدث لجسد يسوع فى القبر ؟
النظرية السائدة ، والتى تتبنى أن جسد يسوع قد تحول في القبر إلى كيان منتصر على الموت ، إلى جسد ممجد ( جسد القيامة) ، هي نظرية خاطئة تماما ؛ وذلك لأنها تفترض أن كيان الكلمة المتجسد قد ظل قابلا للموت إلى أن دخل القبر وهناك قد باغتته القيامة  . أيضا تفترض أن كيان الكلمة المتجسد قد ظل غير ممجد إلى أن دخل القبر ، وهناك - فقط - قد تمجد ! . فان لم يكن هذا الفكر هو عمق النسطورية ، فما هى النسطورية ، إذن ؟  ! ثم ، ماذا يعنى أن موت المسيح هو انشطار كيانه إلى نفس وجسد ، مع بقاء كل من الشطرين متحدا باللاهوت ، إلى أن يتحدا ثانية فتتم القيامة ؟ . أليس هذا أيضا هو مضمون النسطورية ، التي ادعت مفهوم مصاحبة اللاهوت للناسوت ، تلك المصاحبة التي تتطور إلى التدخل في مسار الأحداث لتعيد المسيح إلى النموذج الذي نعتقده ؟  ثم ، كيف نتخيل انشطار كيان يسوع ، كاملا ، إلى شطرين ؟ ماذا يعنى انقسام من توحد فيه الجميع ، حينما اتحد بطبيعتنا ؟ تنجم المشكلة التي تنبت مثل هذا الفكر ، من عثرتين أساسيتين :
 1- عثرة الزمن : كل شيء ، بخصوص التدبير الإلهي للخلاص ، قد تم في التجسد . وحدث التجسد- منذ أول لحظة له- قد تجاوز الزمن ، وما نراه من أحداث في حياة يسوع على الأرض - من الميلاد ، المعمودية ، الصليب ، الموت ، القيامة والصعود - ما هي إلا استعلانات لجوهر النعمة المعطاة للبشر في التجسد ؛ ففي التجسد ميلاد الإنسان الجديد . وفي التجسد تصطبغ الطبيعة البشرية المائتة، بالحياة الإلهية. وفي التجسد يمسح البشر بالروح القدس . وفي التجسد يصلب الوجود العتيق . وفي التجسد قام الإنسان من موته . وفي التجسد صعد الإنسان إلى الآب في ابنه .
2- عثرة الكيان : كيان الكلمة المتجسد لا يختزل في حجاب عتيقه الظاهر ، الذي قبل الألم والموت ودخل القبر . جوهر الكيان هو الإنسان الجديد ، الإنسان الداخلي ، رأس الانسانية الجديدة . هذا هو الذي قيل عنه : " لن تدع قدوسك يرى فسادا " . وهو حينما حل في طبيعتنا - محققا هذا الجديد - لم يهلك العتيق ، بل قد ظل محتجبا فيه كرداء ، وفيه قد قبل كل ما لنا من تعب وألم وموت . وهو حينما أسلمه للموت ، كان قد أسلمه لموتنا نحن ، في أفظع صوره ، أي العدم والهلاك لشطرى الكيان ( الجسد والنفس ).   إنني أشعر أن الوعي اللاهوتي لم يرق بعد إلى إدراك عمق حقيقة موت المسيح . هذا العمق يبدو صادما لروح القطيع السائدة من خلال لاهوت شعبي .  يجب علينا أن ندرك بدهشة بالغة أن المسيح ، ليس فقط ، مات موتنا الحاضر ، بل أنه قد أكمل موتنا . إن ما حدث في قبر يسوع - قبل إزاحة الحجر - هو موت الكون كله ، أي العدم . إن عتيق يسوع كان محرقة حقيقية ؛ فقد انفجرت كل ذرة فيه ، وانحل كل عنصر فيه ، وتم فيه ما سوف يتم في لحظة نهاية الكون . إنه حينما قال : " قد أكمل " ، قد كان يقصدها بالفعل . قد أكمل كل شيء ، وحتى مفهوم الموت ، قد أكمله ، فقد اجتازه كما لم تجتازه أي خليقة من قبله . ولكن ما أن تلاشى عتيق يسوع - كما سوف تتلاشى الخليقة كلها - حتى حان الوقت لاظهار الجديد الخفي.
     الجحيم
  عمق الجحيم هو العدم والفناء . الجحيم ليس مكان الموت بل هو مجال الموت . لذلك فإن مفهوم الجحيم يتسع ليشمل كل ما هو مبسوط عليه سلطان الجحيم ، أى كل ما هو منحدر نحو الجحيم . الكون كله منحدر نحو الجحيم ، لأن " السماوات والأرض الكائنة الآن ، مخزونة بتلك الكلمة عينها ، محفوظة للنار إلى يوم الدين و هلاك الناس الفجار." ( 2 بط 3 : 7 ) .لذلك فكل الخليقة مستوعبة في مجال الجحيم .  والآن ، كيف نستطيع أن نعبر عن الكلمة الذي بتجسده قد صار جزءا من الخليقة ؟ . أليس تجسد الكلمة هو اختراق لمجال الجحيم ؟ . أليس المسيح هو الكلمة المتجسد ، النازل إلى الجحيم ؟ . إن الكلمة حينما حل في جسد ينتمي إلى طبيعتنا ، هو بالفعل ، قد حل في مجال الجحيم . وبحلوله هذا قد أحدث اختراقا في هذا المجال ، بظهور جديده المنتصر على الموت ( المنتصر على الجحيم ) ، ولكنه بالرغم من ذلك ظل مرتديا ذلك الجزء من مجال الجحيم ، أي عتيقه ، إلى أن أسلمه لمصيره الطبيعي الذي هو مصيرنا ، أسلمه للعدم ، وحينئذ فقط تلامس الكلمة المتجسد مع قاع الجحيم ، ولم يستطع الجحيم أن يغتصب منه أكثر من ردائه العتيق ، مثلما لم تستطع امرأة فوطيفار أن تأخذ من يوسف أكثر من ثوبه . حينئذ فقط " بالموت ديس الموت " . حينئذ فقط تعالت في الكون صرخة انشودة النصر " الأشياء العتيقة قد مضت ، هوذا الكل قد صار جديدا ." ( 2 كو 5 : 17 ) . الأشياء العتيقة لم تتحول إلى جديدة لأنه " لا يقدر لحم ودم أن يرثا ملكوت الله ، ولا يرث الفساد عدم الفساد ." ( 1 كو 15 : 50 ). الأشياء العتيقة هي مقصية ومستبعدة ومتروكة من الشركة فى مجد الألوهة الأبدي ، وهذه هي ما عبرت عنها صرخة عتيق يسوع ، على الصليب :   إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني.       
 وحتى نظرية تحول العتيق إلى جديد هي التفاف حول المضمون الصحيح ، فتحول شيء ما إلى شيء آخر يعني، بالتأكيد ، فناء الصورة الأولى و إيجاد الصورة الثانية من العدم ، و تصبح محصلة ضم الصورتين ، معا ، ما نرصده من تحول أو تغير . إذن العتيق قد زال بالفعل . ولكن المأساة تصبح واقعنا ، حينما نحصر حدث التغير ، في داخل القبر المغلق ، بعيدا عن الحدث الجوهري ، الذي هو التجسد .               
    الكرازة للذين في السجن
بتجسد الكلمة قد زرعت باكورة إنسانيتنا الجديدة في طبيعتنا المنحدرة إلى الجحيم ، وفي هذا التدبير يجب أن نميز بين طريقين قد أعدا لتحرير كل الذين في مجال الجحيم : الطريق الأول هو الصليب المؤدي للقيامة ؛ فالصليب قد صار طريقنا - نحن الأحياء - إلى الشركة في الرب القائم ، المنتصر . الصليب هو أداة الموت التي أبادت الموت ؛ فقد كان لابد للمنحدرين إلى الجحيم أن يتوقف انحدارهم ،ثم تنعكس حركتهم صعودا إلى الآب في المسيح ،وهذا ما يتم بموتنا مع المسيح . شركة موته هي شركة قيامته ، وبإماتة العتيق ، مع المسيح تتكرس فينا حياته . والطريق الثانى هو القيامة المباشرة ، وهذا هو الطريق الخاص بالراقدين السابقين للتجسد ، أولئك الذين هيأهم الله - في فترة وجودهم على الأرض - ليكونوا شركاء فيه ، عند تجسده . هؤلاء قد ماتوا بالفعل وتلاشت صورة وجودهم وأسروا في الجحيم السفلي الذى هو مصير الكون كله . هم يحتاجون الرب المنتصر على الموت حتى ما يشركهم مباشرة فى نصرته الكائنة منذ أول لحظة لتجسده . هم لا يسلكون طريق موت الصليب - كما نسلك نحن- إذ لا معنى لموتهم ، فقد ماتوا بالفعل ويعوزهم أن يستحضروا من القاع ، عندما تستحضر الباكورة ، الرب يسوع ، وهذا ما حدث بالتجسد : " الراقدون سيحضرهم الله بيسوع أيضا معه ." ( 1تس 4 : 4)
  عبارة رسالة بطرس الأولى:    
  " فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا ، البار من أجل الأثمة ، لكي يقربنا إلى الله ، مماتا في الجسد ولكن محيى في الروح ، الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن "( 1بط 3 : 18 و 19 )
الكيان الجديد ليسوع ، الكائن بفضل اتحاد الكلمة بالبشر ، هو الذي قيل عنه " لن تدع قدوسك يرى فسادا ."( انظر أع 13: 33 -37 ) . وقيل عنه أيضا أنه " سمع له من أجل تقواه ." ( عب 5 : 7). هذا هو الذي يشير إليه الر سول ، هنا ، بتعبير : " محيى في الروح " . هذا هو آدم الأخير ، باكورة حياة الجميع ومصدرها ، الذي " صار روحا محييا ." ( 1كو 15 : 45 ) . هذا هو مضمون آخر كلمات الرب يسوع على الصليب ( بحسب لوقا ) ، حينما " نادى بصوت عظيم وقال :" يا أبتاه فى يديك أستودع روحى ." ( لو 23 : 46 ) ، فقد صار جديده ، الروحي أول كيان بشري يستودع لدى الآب ، وفيه يتم تبني الجميع.  أما الحجاب العتيق ، فيشير إليه بعبارة : " مماتا في الجسد .. الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن".  يجب أن نميز، في هذا النص بين طرفين : " من يكرز " و " في من ، تتم الكرازة " .  يجب أن ندرك جيدا مدلول الاشارة في تعبير " الذي فيه " ؛ فالكارز هو جديد يسوع ، المحييى في الروح . والذي تتم فيه الكرازة هو الحجاب العتيق ، الممات في الجسد . القضية ليست وهما أو أسطورة ، والجحيم ليس مكانا ولكنه الرداء العتيق ، الذي هو كياننا الطبيعي ، هذا هو الذي ارتدى فيه المسيح موتنا وفناءنا الطبيعي ، وفيه قد كان مخترقا للجحيم وحينما اجتازه -ولم يستطع الجحيم أن يقتنص منه غير ذلك االحجاب- أعلن عن جديده المستور ، فأعلن الانتصار ، ليس فقط لجديده الخاص به ، بل لكل المسبيين في الجحيم ، الذين هم على شاكلة ذلك العتيق . والنقطة الجوهرية ، هنا هي : إن كنا نؤمن بأن عتيق يسوع هو لحم ودم من طبيعتنا ، فعلينا أن نؤمن بأن مصيره هو نفس مصيرنا ، أي العدم .وبانشطار عتيقه إلى شطريه ( النفس والجسد ) - وبمواراة الجسد في القبر - تكون قد مضت الأشياء العتيقة ، ليبقى الكل جديدا.   فى القبر لم يتحلل عتيق يسوع ، كما نتحلل نحن الآن - ليس لأنه القدوس الذي لا يرى فسادا بل لأن تحلل الأجساد ما هو إلا مرحلة من مراحل الموت ، تلك التي تكتمل بالعدم والفناء ، وهذا هو ما اجتازه - منتصرا - جديد يسوع . ففي قبر يسوع نزل الكلمة المتجسد إلى قاع الجحيم حيث نهاية الخليقة بانحلال عناصرها وفنائها .   
                          خلاصة 
في القبر قد اجتاز الكلمة المتجسد أعماق الجحيم ، ليخرج منتصرا بجديده ، الكائن فيه منذ اول لحظة لتجسده . هذا هو رأس كياننا . هذا هو رأس الكنيسة ، والذي باختراقه لمجال الجحيم ، قد جذب إليه الجميع : أولا ، بانقاذه للأموات الهالكين الراقدين في الأعماق ، وثانيا ، باختطافه للأحياء المنحدرين نحو تلك الأعماق ، : " لأن الرب نفسه بهتاف ، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله ، سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا . ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء ، وهكذا نكون كل حين مع الرب ( 1تس 4 : 16 و 17 ). وبذلك يكون قد أكمل جسده . بذلك يكون قد أكمل الكنيسة
 ملحوظات لغوية
أولا : ثلاثة نصوص هامة 
1- "  الذى أقامه الله ناقضا أوجاع الموت ، اذ لم يكن ممكنا أن يمسك منه . لأن داود يقول فيه : كنت أرى الرب أمامي في كل حين ، أنه عن يمينى ، لكي لا أتزعزع . لذلك سر قلبي وتهلل لساني . حتى جسدى ( sarx ) أيضا سيسكن على رجاء . لأنك لن تترك نفسي ( psyche ) فى الهاوية  hades) ) ولا تدع قدوسك ( تقيك ) ، (hosios ) يرى فسادا .( أع 2 : 24 - 27 ).
2- "الذى في أيام جسده ( sarx ) ، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، و سمع له من أجل تقواه  (eulabeia )   ، مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به . وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه ، سبب خلاص أبدي ، مدعوا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق .( عب 5 : 7- 10)
3- فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا ، البار من أجل الأثمة ، لكي يقربنا إلى الله ، مماتا في الجسد ( sarx ) ولكن محيى في الروح(  (pneuma   ، الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح ( pneuma ) التي في السجن ،.( 1بط 3 :18 و 19)
ثانيا :  الملحوظات
1- الجحيم 
لدينا - في يونانية العهد الجديد – ثلاث  كلمات تخص المصير السلبى للإنسان ، وتحمل معنى ، عالم الموتى . ترد كلمتان من الثلاثة فى السبعينية وهما:   hades  و abyssos والكلمتان بمعنى الهاوية ، الجحيم . والكلمة الثالثة ، التي لا ترد فى السبعينية هي:  geenna بمعنى جهنم ،  وبحسب القاموس الموسوعي للعهد الجديد ( فيرلين د. فيربروج - نسخة الكترونية بموقع الكلمة ) ، تأتي الكلمة من الآرامية   gehinnam ، وفى العبرية  ge hinnom= وادي ابن (أبناء) هنوم ، وهو الوادي الذي كانت تقدم فيه الذبائح البشرية المتمثلة في التضحية بطفل ( 2 مل 16 : 3 ، 21 : 6 ) ، وقد فكر يوشيا في تنجيسه لكي لا يستخدم بعد في تقديم الأضاحي البشرية ( 2مل 23 : 10 ) ، وسيكون أيضا مكان قضاء الله ( أر 7 : 32 ، 19 :7 ) ، والكلمة بمرور الوقت أصبحت مكان العقاب لتتطابق مع الأفكار التي حول hades . والكلمات الثلاث  تحمل نفس المضمون ، في النهاية ، ولكن هناك بعدين ، من الممكن أن يطرحا تمييزا و حدا فاصلا لكل كلمة . البعد الأول هو المفهوم الواسع للجحيم ، الذي سبق أن تحدثنا عنه ، وفيه قلنا أن الكون الحاضر ، في جملته ، هو مجال للجحيم ؛ فالخليقة كلها منحدرة بطبيعتها نحو مصيرها العدمي ، أي الجحيم . والبعد الثانى هو مدلول الاستخدام الكتابي - لاسيما العهد الجديد - لهذه الكلمات . والأمر العجيب هو التطابق المدهش بين البعدين فى وضع الخطوط الفاصلة بين الكلمات الثلاثة : فالاسم   hades ( هادس )، هو اسم الجحيم في حالة الهبوط ( الانحدار ) : فكفر ناحوم المرتفعة ستهبط إلى "هادس "( مت 11 : 23 ) و ( لو 10 : 15 ) ، والكنيسة الحاضرة - في منحدر الكون - سوف لا تقوى عليها أبواب "هادس "( مت 6 : 18 ) ، والغني المنحدر إلى " هادس " رفع عينيه وهو في العذاب ورأى لعازر من بعيد في حضن ابراهيم ( لو 16 :23 ) . وحينما يلبس كياننا الفاسد - المنحدر نحو الجحيم - عدم الفساد ، ويلبس المائت عدم موت ، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة : " ابتلع الموت إلى غلبة " أين شوكتك ياموت ؟ أين غلبتك يا " هادس " .؟ ( 1كو 15 : 54, 55 ). والرب المنتصر على الموت - الذي يعطى نصرته إلى جميع المنضمين إليه ، محررا إياهم من انحدارهم نحو الجحيم - يقال ، أن له مفاتيح الهاوية ( هادس ) والموت ( رؤ 1 : 18 ).وعندما يعتق ، الذين في المسييح من انحدارهم نحو عمق الجحيم ، حيث الموت الأبدى ( الموت الثانى ) ، يقال أن الموت والهاوية ( هادس ) قد طرحا في بحيرة النار ( رؤ 20 : 14).  و الاسم ، abyssos  هو اسم الجحيم في حالة الصعود ، والافلات ، منه : ففي الرسالة إلى رومية : لا تقل في قلبك .. "من يهبط إلى abyssos ؟ أي ليصعد المسيح من الأموات . ( رو 10 : 7 ). وفي الرؤيا نجد : الوحش الصاعد ، من abyssos ، في : ( رؤ 11 : 7 ) و ( رؤ 17 : 8 ) ، وأيضا نجد الشيطان مقيدا ومطروحا في abyssos وقد أغلق عليه حتى لا يصعد ويضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف سنة ، في: ( رؤ 20 : 2و 3 ) ، ونجد أيضا االدخان ، الصاعد من abyssos ، في : ( رؤ 9 : 1و 2).  و الاسم  geenna  هو اسم الجحيم في حالة الاستقرار الأبدي ، في حالة الهلاك في النار الأبدية التي لا تطفأ : ( انظر : مت 5 : 22 ، 29 ، 30 )،( مت 10 : 28 )، ( مت 18 : 9 ) ، ( مت 23 : 15 ، 33 ) و ( مر 9 : 43 ، 45 ، 47 ) و ( لو 12 : 5 ) و ( يع 3 : 6 )
2- الجسد والنفس 
لا يعرف اللاهوت المسيحي تلك الثلاثية اليونانية القديمة : الجسد والروح والنفس ، والتي تفترض ، مسبقا ، وجود الروح البشرية الخالدة بالطبيعة ، بالاضافة إلى النفس والجسد . فالطبيعة البشرية لها وجهان ( شقان ) فقط : الجسد والنفس . وفي يونانية العهد الجديد نجد تمييزا دقيقا بين مستويين مختلفين لكل وجه من هذين الوجهين . إذن ، لدينا أربعة مفردات لتوصيف الكيان الإنساني ، من خلال مستويين        :
-  المستوى الأول : هو مستوى ، يحمل المفهوم العام للطبيعة البشرية ، ممثلا فى الكلمتين :
 1-sarx  ، ساركس ، وهي الطبيعة البشرية التي هي من لحم ودم ، والمفردة لا تعني الجسد الظاهر فقط ، بل تستوعب الطبيعة كاملة ، بدون شخصنة ؛ فالكلمة صار جسدا  ( sarx) يو 1 : 14 ) أي ، صار بشرا.  
 " ساركس " ، تعني الكيان البشرى كاملا : أسكب من روحي على كل " ساركس " ( أع 2 : 17 ) ، وحتى عندما يعطي الرب طبيعته ، الإنسانية الجديدة ، للبشر ، يعبر عن ذلك قائلا : جسدى ( ساركس ) مأكل حق .( يو 6 : 55 )
2-   psyche ،  النفس ، وتعني الحياة الإنسانية بصفة عامة ؛ فقد صار آدم نفسا حية ( 1كو 15 : 15 ) . وتستخدم الكلمة لتدل على الكيان البشري ، كاملا : لتخضع كل نفس للسلاطين ( رو 13 : 1 ) ، وعندما يحصى عدد البشر ، فنحن بصدد إحصاء للنفوس ، كما في ( أع 2 : 41 ) ، والحديث عن خلاص البشر هو حديث عن خلاص النفوس ، كما في ( 1بط 1 : 9 )
إذن : كل من المفردتين ، ( sarx , psyche) ، تعني الكيان الحي ، الظاهر ، كطبيعة بشرية .
- المستوى الثاني : مستوى الشخصنة ( الشخص البشري ) ، ممثلا في الكلمتين :
1- soma   الجسد ، وتعني الشخص ، كما في : - شركة جسد المسيح .( 1كو 10 : 16 ) .- ونحن الكثيرين جسد واحد في المسيح .( رو 12 : 5 ). الكنيسة التي هي جسده .( أف 2 : 16 ). وهو حينما أعطى ذاته ، لكي ما يجتمع فيه الكل ، في شخص واحد ، قال : خذوا ، كلوا . هذا هو جسدي ( سوما ) ( مت 26 : 26 ) . خبز واحد جسد ( سوما ) واحد .( 1كو 10 : 17 )
2-  pneuma   الروح ، وهي المعادل ، الشخصي ، لكلمة  soma   ؛ فالجسد ( سوما ) بدون روح ( pneuma ) ميت ( يع 2 : 26 )  والروح ليست مفهوما عاما مثل " psyche" فهي تحمل معنى الشخص والوعي والذات : فلا يفحص أعماق الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه ( 1كو 2 : 11 ) . والروح ( pneuma ) هي الشخص الإنساني المخاطب من قبل النعمة ، حيث القدرات الإنسانية الذاتية ؛ فالروح هي التي تخلص في يوم الرب ( 1كو 5 : 5 ) ، حتى الصلاة ، هي بالروح ( 1 كو 14 : 15 ) . والعبادة هي بالروح ( رو 1 : 9 ) . لذلك فإن النعمة تستهدف الروح ( pneuma ) لتجددها : تتجددوا بروح ذهنكم ( أف 4 : 23)
وهنا ، نستطيع أن نميز بين الكيان النفسي ، العتيق ، والكيان الروحي الجديد ، في المسيح . فالأول هو جسد نفساني ( soma psychikon) ، والثاني هو جسد روحاني  ( soma pneumatikon) انظر (1كو : 44 - 50) . نستطيع أن ندرك أن الإنسان الجديد ، في المسيح هو شخص  بالمفهوم الحقيقي لكلمة شخص ، لأنه الشخص الثابت في كيان شخص المسيح ذاته ، وذلك بخلاف الإنسان العتيق ، الشخص النفسي ، الزائل بحكم طبيعته ؛ فالمولود من " الساركس " هو " ساركس " والمولود من الروح ( الروح القدس ) هو روح  pneuma ( يو 3 : 6 ). المولود من " الساركس " هو مجرد طبيعة بشرية ، أما المولود من الروح القدس هو شخص لأنه مولود من شخص الروح القدس ، الذى يؤقنم ( يشخصن ) وجوده ، في المسيح . اذن : كل من المفردتين  soma ، pneuma  ، تعني الطبيعة البشرية المشخصة .
 3- التقوى 
المعنى العميق للكلمة ، من المنظور اللاهوتي ، هو الوقاية من الموت والهلاك الطبيعي ، ولدينا في يونانية العهد الجديد - بخصوص النصوص التي نحن بصددها - كلمتان لتوصيف هذا المعنى ، وذلك من خلال منظورين :
-  المنظور الأول : الوقاية السلبية ، أى الوقاية بالمنع والانفصال عن الهلاك ، والكلمة المستخدمة هي eulabeia والفعل هو eulabeomai  ويعني : يحترز أو يتحفظ ، والفعل استخدم في السبعينية كما في ( تث 2 : 4 ) . وفى العهد الجديد كما في : " بالإيمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تر بعد خاف ( احترز ) فبنى فلكا لخلاص بيته ، فيه دان العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الايمان ."( عب 11 : 7 ). وكما في " لذلك ونحن قابلون ملكوتا لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوى ( eulabeia ) لأن إلهنا نار آكلة ."( عب 12 : 28  )
-  المنظور الثاني : الوقاية الإيجابية ، الوقاية بالمنح ، بالتغطية ، بارتداء الإنسان الجديد ، غير القابل للموت ، بالقداسة والكلمة المستخدمة هي:hosiotes  ، تقوى ، و التقي هو " hosios " :
- "  ، أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور ، وتتجددوا بروح ذهنكم ، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة ( hosiotes) الحق ." ( أف 4 : 22-24)
- " وأما هذا فمن أجل أنه يبقى الى الأبد ، له كهنوت لا يزول . فمن ثم يقدر أن يخلص أيضا الى التمام الذين " يتقدمون به " الى الله ، …لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس ( hosios ) بلا شر ولا دنس ، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات ." ( عب7: 24- 26)    
ثالثا : التعليق على النصوص الثلاثة 
   عندما نجد أن الكلمتين المستخدمتين في النصوص - التي نحن بصددها – هما :  sarx , psyche  ، اللتان تشيران إلى الطبيعة البشرية في مفهومها العام ، فماذا يعني هذا ؟  .
 - عندما يقول : جسدى ( sarx ) يسكن على الرجاء لأنك لن تترك نفسي  psyche)  )في الهاوية ( hades ) ولا تدع تقيك " قدوسك "  (hosios ) يرى فسادا - فإن المقصود هو أن الطبيعة البشرية - في المسيح ( الكيان كله ، ظاهره وباطنه )- إنما تنسحب عليها النصرة على الموت ، وليس العتيق ( الظاهر )فقط، هو المقصود . فالكيان الإنساني ، التقي ، بفضل الشركة في حياة الكلمة هو مخترق للجحيم ، حتى وإن كان نازلا إليه ، محتجبا في الرداء العتيق . هذا الكيان هو ما عبر عنه الرسول قائلا : بفضل تقواه ( eulabeia ) ، قد سمع له .
 - هو إذن ، ممات في الجسد ( sarx) ، فقد افترش الموت على كيانه ، وقبله في طبيعته التي هي طبيعتنا . ولكن هذه هي نصف الحقيقة ، فالخبر السار هو أن الحياة ، التي له بفضل كونه جسد الكلمة ، قد أظهرته ك " محيى في الروح " ، قد أظهرته شخصا إنسانيا جديدا ، هو آدم الجديد ، وهذا ما انفرش على طبيعتنا ، مثلما انفرش موتنا على طبيعته . وهو عندما كان نازلا إلى الجحيم   (hades)، لم يستطع الجحيم أن يأخذ منه غير ما يأخذ منا ، أي الحجاب العتيق .
_ آدم الأخير ، المحيى في الروح ، هو الإنسان الروحاني ، الذي فيه نالت البشرية الوقاية من داء الموت ، وقد صار هذا الشخص رأسا للتقوى ، ومنه تنساب الوقاية ، من داء الموت ، إلى جميع الذين ينضمون إليه ليكملوا جسده ، أي الكنيسة . وحينما تنحل الأجساد العتيقة لهؤلاء المنضمين إلى الكيان الواقي ، المسيح ، فهي تترك أرواحا ، هي شخوص حقيقية ، هي أعضاء متمايزة في جسد  ( soma) المسيح . لن يصر الجميع مجرد طبائع بشرية حية  sarx  أو psyche ، بل شخوصا روحانية ( pneuma) تضمها علاقة عضوية داخل شخص روحاني كاثوليكي يجمع الكل . هذا هو هيكل الله الذي يسكنه روح الله . هذا هو الكنيسة ، التي رأسها هو رأس التقوى ، الرب يسوع الناصري ، الكلمة المتجسد .
 - عندما يقول : " لا تدع تقيك يرى فسادا "، فهو لم يكن يقصد الجسد الظاهر ، جسد ( soma) يسوع ( مت 27 : 58) ، بل كان يتحدث عن الكيان البشري كاملا  sarx أو psyche   ويجب أن نلاحظ أن مضمون عبارة " جسدي سيسكن على رجاء " ، يكافئ مضمون عبارة " لن تترك نفسي في الهاوية " ؛ فالطبيعة البشرية الساكنة على الرجاء هي الطبيعة البشرية غير المتروكة لهبوطها ، حتى لا تستقر في الجحيم .
مجدي داود