التأصيل الإنجيلي
للمفهوم
بداية ، لابد أن نفرق ، لاهوتيا ، بين اسمين يحدث بينهما خلط شبه كامل ، وهما : " الله " و " الرب " . فالاسم " الرب " لايتماهى ، في مدلوله ، مع الاسم " الله " ؛ فهو لايعني اللاهوت في صورته المجرده ، أو الصورة العارية ( naked ) ، بل يعني اللاهوت الحاضر في الخليقة . الله الكلمة لم يصر" ربا " إلا عندما صار خالقا ، ولم تستعلن ربوبيته ، في كمالها إلا بالتجسد ، الذي فيه صار الإنسان خليقة جديدة ، محفوظة إلى الأبد في الكلمة ، وهكذا بالتجسد صار الكلمة " ربا ومسيحا " ( أع 2 : 36 ) ؛ فالكلمة بتجسده قبل أن يمسح لأجلنا ، قبل أن يصير" مسيحا "، وقبل أن يصير " ربا "حافظا ومستوعبا لخليقتنا الجديدة الكائنة أبدا، فيه. الربوبية تعني النعمة وهذا يختلف تماما عن مفهوم الألوهة ، بالمطلق ، الذي يشير إلى الوجود الالهي الكائن في شركة الثالوث ، خارجا عن إطار النعمة، ومن هذا المنطلق ، نستطيع أن ندخل إلى مفهوم " مجيء الرب " ؛ فالمجيء ، أو " الحضور" ( parousia )، ليس حضورا ، مطلقا ، للاهوت ( المجرد ) ؛ إذ أن الحضور المجرد المطلق ، لله ، لامعنى له خارج " الثالوث القدوس " . الله لايحضر بطريقة مطلقة إلا في ذاته ؛ لأن مصطلح " الحضور " أو " المجيء " ، من الوجهة العملية ، هو مرادف لحدث " تحقق الوجود " . أما التجسد ، فهو ليس " حضورا للاهوت العاري " ، ولكنه "حضور للاهوت الظاهر في الجسد "، "حضور للكلمة المتجسد " ؛ أي " حضور شخص الرب ". الأمر الذي يعني ، عمليا ، استعلان النعمة التي نالتها البشرية بفضل اشتراكها في الكلمة . وباختصار شديد ، إن مايتحقق حضوره ووجوده ، هو الوجود البشري الجديد الكائن في الكلمة. وقد كان الرب يسوع التاريخي ، هو أول كيان بشري ، قد استعلن فيه هذا الحضور، وفي شخص يسوع تحقق وجود حجر زاوية مفهوم " الربوبية " . فيه انطلق حدث " مجيء الرب " بتحقق وجود رأس الوجود البشري الجديد ، ومن قبل الرأس يستمد وجود باقي الأعضاء ، الذين فيهم يتكمل ويمتلئ حدث " مجيء الرب " . الرب يسوع التاريخي هو مركز دائرة الربوبية ومنبعها ، وما أن تبلغ هذه الدائرة أقصى اتساع لها ، باستيعاب كل أفراد الكنيسة ، حتى ويستعلن كمال مفهوم " الربوبية "، أي " اكتمال مجيء الرب" . لذلك ينبغى أن ندرك أن لمفهوم " مجيء الرب " بعدا كميا ؛ فإذا كان " البعد الكيفي " قد بلغ قمته وسقفه ، في الرب يسوع التاريخي ، فإن البعد الكمي لمجيء الرب ، إنما يتم استيفاؤه الآن ، في الزمن المقرر له والذي يبدأ منذ لحظة التجسد وحتى لحظة نهاية العالم . مجيء الرب هو حدث تراكمي ، فيه ينضم الإخوة الكثيرون إلى بكرهم ، فيه ينضم الأعضاء إلى رأسهم ، فيه يتحقق وجود الكنيسة كجسد للمسيح . وخارج هذا الكيان ( الكنيسة) ، لايوجد أي مدلول أبدي - من الممكن للإنسان أن يدركه - بخصوص مفهوم " الربوبية " . في الإفخارستيا تعمل الحركة التراكمية لحساب رصيد " مجيء الرب" ، وكما يقول الرسول بولس : " كلما أكلتم … وكلما شربتم … ( أي كلما انضم منكم " كم "معين من الأعضاء ، إلى الشركة في الكلمة ) ، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء " .( أى يظل هذا الحدث التراكمي ساريا حتى اكتمال كيان الرب ، الممتلئ بكل أفراد الكنيسة) .( 1 كو 11 : 26 ). ولنا ملحوظتان ، بخصوص عبارة بولس الرسول : - الأولى ، هى أن الفعل ، في " تخبرون " لايعني - في الأصل اليوناني - مجرد إذاعة لخبر معين ، بل يعني المناداة الذاتية بهذا الخبر ، أي التطبيق الذاتي له ؛ بمعنى أن المقصود بعبارة " تخبرون بموت الرب" ، هو " تشتركون في موت الرب المحيي. والملحوظة الثانية ، هي أن التعبير" إلى أن " ، الوارد في الأصل اليوناني ، ليس هو التعبير الذي يشير إلى" توقيت معين " ، بل هو تعبير يفيد " الوصول إلى حد معين " ، يفيد معنى الوصول إلى " الكتلة الحرجة "( إن جاز التعبير ) ، وهكذا فالمعنى االمقصود هو: ( إنكم ستظلون تشتركون في موت الرب المحيي ، فتشتركون في قيامته ، ستظلون تتراكمون داخل كيانه ، كأعضاء إلى الحد الذي يكتمل فيه كيانه ، إلى الحد الذي يجيء فيه ، كاملا ).
التمايز
الكمي داخل مفهوم " مجيء الرب "
هناك مستويان - في لغة العهد الجديد
- لمفهوم مجيء الرب :
1- المستوى الأول : وهو مجيء رأس الكيان
، ذلك المستوى الذي تحقق بظهور الرب يسوع التاريخي ، وهذا المستوى هو نبع الحدث الذي
منه يتكمل مجيء الرب ، ككيان ممتلئ ، ككيان مكتمل بكل أعضاء جسد المسيح.
2- المستوى الثاني: ويعني مجيء الكيان
المكتمل ، بضم كل الأعضاء إلى المسيح .
ولكي ندرك الفرق بين المستويين الكميين
لمجيء الر ب ، فلنقارن بين هذين الاقتباسين :
1- ( لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة
، أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع مع جميع قديسيه . ( اتس3 : 13 ).
2- ( ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة
بلا لوم في مجيء ربنا يسوع المسيح .( 1 تس 5 : 23 ).
الملحوظة المهمة ، جدا ، هنا هي أن
مدلول عبارة " مجيء ربنا يسوع مع جميع قديسيه " هو ذاته نفس المدلول المكافئ
لعبارة " مجيء ربنا يسوع المسيح " . والفرق بين العبارتين هو أن الأولى ترصد
مجيء الرب كحالة من " المعية " بين الرأس والأعضاء ، بينما الثانية ترصد
الحدث من منظور الشخص الواحد ، الذي فيه يجتمع الكل في جسد واحد ونفس واحدة لأنهم قد
أصبحوا شركاء في الروح الواحد . ما نريد أن نؤكده هو أن " المعية " في عبارة
" مجيء الرب يسوع " ، هي معية يسوع ، وأما عندما يذكر العهد الجديد مصطلح
" مجيء الرب يسوع المسيح " ، فهذا يعني ولوج الجميع داخل الحدث ؛ فالمعية
كائنة بين الرب يسوع التاريخي وجميع القديسين داخل الكيان الواحد " الرب يسوع
المسيح " ، داخل الشخص الواحد الممتلئ بالكنيسة .
مجيء الرب ، بين رافدين : " الراقدين"
و "الأحياء "
المؤمنون بالمسيح قسمان ، وهذا مايقول به السيد
، نفسه : " «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ
وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا
وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ . ( يو11 : 25، 26 ) . إذن ، لدينا قسم
قد آمن بالمسيح ، ولكنه مات ، وقسم آخر، آمن بالمسيح ولن يموت إلى الأبد . القسم الأول
هو مايطلق عليه العهد الجديد مصطلح " الراقدين " ، أو " الراقدين في
المسيح " ، والقسم الثاني هو " نحن " ، أبناء الكرازة الرسولية ، أبناء
الدعوة ، الذين " رأيناه وسمعناه ولمسته أيدينا "(1يو 1 : 1) ، هو الأحياء
في مرحلة مابعد التجسد . القسم الأول يخص أولئك الذين " لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ،
بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ
غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ "( عب 11 : 13). وهم ماتوا بحكم طبيعتهم
وبحكم فسادهم الطبيعي ، ولكنهم ماتوا على رجاء مجيء الرب ، وما أن اخترق الكلمة زماننا
وتجسد فينا ، إلا وقد بعثوا من موتهم وتحرروا من جحيمهم ، لذلك أطلق عليهم العهد الجديد
، مصطلح " الراقدين " ، أي " النائمين "؛ فلم يكن موتهم هو نهايتهم
الأبدية ، بل قد افتقدهم يسوع ، القائم من الموت ، وأقامهم معه . والإنجيل ، ذاته يشهد
بذلك ، في سياق أحداث يوم الصلبوت العظيم ، إذ " القبور تفتحت ، وقام كثير من
أجساد القديسين " الراقدين " وخرجوا من القبور بعد قيامته ، ودخلوا المدينة
المقدسة، وظهروا لكثيرين " ( مت 27: 52 ، 53 ).
في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكى ، يكشف الرسول
بولس حدث مجيء الرب ، كالتئام لهذين القسمين ، الذين آمنا بالمسيح ، ويقدم لنا التسلسل
الزمني الذي فيه يستحضر الراقدون أولا ، ويبعثوا من موتهم ، بفضل بكرهم الرب يسوع التاريخي
، ثم بعد ذلك يسري الحدث (التراكمي ) الذي يخص أبناء الكرازة ، أبناء النور ، الذين
لن يرقدوا ، ولن يذوقوا فناء الموت وعدميته ، بل سيكون انحلالهم الطبيعي، مجرد إيذان
باختطافهم لكي يلتحقوا بالراقدين ، الذين أقيموا قبلهم : " لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا
نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ
اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا
نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ.
لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ
نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ
الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ " .( 1تس4
: 14- 17 ).
ولنا عدة تعليقات على عبارة الرسول
بولس :
1- كلمات الرسول ترصد لحظة التجسد
. تلك اللحظة التي استحضر فيها يسوع كباكورة قيامة البشر ، وكبداية انطلاق حدث مجيء
الرب في البشر. ويجب أن لانفقد الرؤية الصحيحة ، بسبب الصيغة المستقبلية التي يتحدث
بها الرسول ؛ فهذه الصيغة تبدو منطقية بالنسبة لرصد حدث مجيء الرب منذ لحظة انطلاقه
(التجسد ) ، ومن البديهي أن يبدو كل مايلي تلك اللحظة من زمن ، حتى نهاية العالم -
مستقبلا ، فضلا عن أن حدث مجيء الرب ، بصفة عامة هو غاية وهدف البشر، - التي من الممكن
أن يحققها لهم أي مضمون للمستقبل؛ ولذلك فعندما يتحدث عن التجسد بصيغة المستقبل ، فهو
يقرر حقيقة أن التجسد هو بداية تحقيق كل مايأتي به المستقبل من نعمة . بالتجسد أصبح
" المستقبل"، هو "الآن ".
2- بالرغم من أن يسوع هو باكورة الأحياء
، من البشر ، إلا أنه هو أيضا رب الحياة ، الذي منه ينطلق مجيء الرب في الجميع ، وبه
، ومعه بدأ وصول أول رافد ، وهو " الراقدين "، الذين " سيحضرهم الله
بيسوع أيضا معه " .
3- بوق الله : هو نفسه الذي أطلق عليه
الرسول بولس " البوق الأخير " ، وذلك حينما كان يرصد نفس الحدث ، ولكن بكلمات
أخرى : " هوذا سر أقوله لكم : لانرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير، في لحظة في طرفة
عين ، عند البوق الأخير . فإنه سيبوق ، فيقام الأموات عديمي فساد ، ونحن نتغير. لأن
هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد ، وهذا المائت عدم موت. ( 1كو 15 : 51- 53). اذن،
الأموات ( الراقدون) ، يقومون عديمي فساد ، ونحن (القسم الآخر) نتغير ؛ لأن السر هو
:" لانرقد كلنا " ، كما رقد القدماء ، ولكن " كلنا نتغير ". البوق
الأخير هو البوق السابع ، في " استعلان يوحنا = apokalepsis
"، هو ملء زمن التجسد ، الذي فيه "صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك
إلى أبد الابدين " .( رؤ 11 :15) . هو زمن مجيء " الكائن والذي كان والذي
يأتي ".( رؤ 11 :17 ) . هو الزمن الذي فيه قد" انفتح هيكل الله في السماء
وظهر تابوت عهده في هيكله ". ( رؤ 11 :19). هو الزمن الذي فيه رزقت خليقتنا
" بابن ذكر عتيد أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد ". (رؤ 12 : 5).
4- الرب "سوف ينزل من السماء
" ، وهو قد نزل فعلا ، في التجسد.
5- " الأموات في المسيح
" ، هم الراقدون المنتظرون على رجاء مجيء القائم الذي سيقيمهم معه ، ورجاؤهم لم
يكن مجرد أمل خادع ، توهموه في زمانهم الخاص ، بل قد كان حقيقة وجودهم الجديد المحفوظ
لهم في المسيح ، المنتظر بالنسبة لهم ( وإن لم يكن المسيح قد قام ، فباطل إيمانكم أنتمم
بعد في خطاياكم ! إذا الذين رقدوا في المسيح أيضا هلكوا ! إن كان لنا في هذه الحياة
فقط رجاء في المسيح ، فإننا أشقى جميع الناس ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار
باكورة الراقدين ( 1 كو : 17- 20 ).
6- " نقول لكم بكلمة الرب
" ، والترجمة الأدق للنص اليوناني : نقول لكم " في كلمة الرب " : أي
نقول لكم الآتي ، بخصوص ماتعنيه كلمة " الرب " . بمعنى أن الرسول بولس يقدم
هنا رؤية بانورامية لحدث تحقق واكتمال مجيء وحضور شخص الرب الممتلئ بكنيسته .
7- تعبير: " الباقين إلى مجيء
الرب " .
يضيع معناه تماما مع الترجمة ؛ فالفعل
" يبقى " ، هنا ، يشير الى " الشيء المتبقي من رصيد محدد " ، ولا
يعني البقاء والاستمرار الزمني ، والحرف "إلى "، ليس هو الحرف " ews " ، الذي يشير إلى لحظة زمنية
معينة ، بل هو الحرف " eis " ، الذي يعني توجها معينا ، وبالتالي فإن
تعبير " الباقين إلى مجيء الرب " ، يعني ، لغويا ، " الرصيد المتبقي
حتى مايكتمل مجيء الرب ". المعنى العام للعبارة هو أن لحظة التجسد هي لحظة انطلاق
مجيء الرب ، التي شطرت تاريخ البشر ، المؤمنين بالمسيح إلى قسمين : الأول هو ، الراقدون
في المسيح الذين استحضروا ، بمجرد تجسده وظهوره كبكر لهم . والقسم الثاني ، المكمل
لرصيد مجيء الرب ، هو الأحياء ، أبناء الدعوة المسيحية ، الذين لايرقدون كأسلافهم ،
ولكن في لحظة ، تنحل أجسادهم فيختطفون ، كل واحد فى زمانه الخاص ، تاركين خلفهم ، عتيقهم
الفاسد ،خالعين إياه كرداء بال. و مجيء كل فرد من أفراد القسم الثاني هو بمثابة انتقاص
للرصيد المتبقى من مجيء الرب ، إلى أن ينضم آخر عضو من أفراد هذا القسم إلى الرب ،
فيكون ذلك تلاشيا لهذا الرصيد - المتآكل مع الزمن - أي اكتمالا لمجيئه.
يوم الرب
يوم الرب هو زمن مجيء الرب ، هو زمن امتلاء كيان
الرب بكنيسته ، هو زمن تحقق وجود الكنيسة . ينبلج فجر يوم الرب من لحظة التجسد - تلك
اللحظة التي صاح فيها المبشر : " لاتخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع
الشعب : إنه ولد لكم " اليوم " في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب . ( لو
2 : 11 ) ، وفي تلك اللحظة ظهر أساس الكنيسة وحجر زاويتها ، الذي يشيد فوقه باقي البناء
، في يوم الرب (فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ
الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي
عَلَى هذَا الأَسَاسِ: ذَهَبًا، فِضَّةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً، خَشَبًا، عُشْبًا، قَشًّا،
فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا
لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ
عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ
أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ،
وَلكِنْ كَمَا بِنَارٍ ( 1 كو 3 : 11 - 15 ).
يوم الرب هو ذلك اليوم الممتد منذ لحظة ظهور " الخبز الحي النازل من السماء
" ، الرب يسوع . وفي خلال هذا اليوم الممتد يتكمل وجود الكنيسة بالشركة في الخبز
الواحد ، كاستجابة لصلاتها المرفوعة : " خبزنا كفافنا ( الجوهري والضرورى لاقامة
وجودنا - بحسب المعنى الدقيق للكلمة اليونانية ) أعطنا " اليوم " ( مت 6
: 11 ). يوم الرب هو زمن تبني البشر ، في الكلمة المتجسد ، وبحسب كلمات بولس في مجمع
انطاكية بيسيدية : " إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم ، إذ أقام يسوع كما
هو مكتوب أيضا في المزمور الثاني : أنت ابني ( الكلمتان بدون تعريف = الحديث هنا عن
تبني البشر بالشركة في الكلمة المتجسد وليس عن شخص الكلمة ، بالمطلق ) أنا اليوم ولدتك
. أنه أقامه من الأموات ، غير عتيد أن يعود أيضا إلى فساد ، فهكذا قال : إني سأعطيكم
مراحم داود الصادقة . ولذلك قال أيضا في مزمور آخر: لن تدع قدوسك يرى فسادا . ( أع
13 : 33 - 35 ). وأيضا : ( صائرا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث إسما أفضل منهم .
لأنه لمن من الملائكة قال قط :" أنت ابني أنا اليوم ولدتك " ؟ وأيضا :
" أنا أكون له أبا ( بدون تعريف ) وهو يكون لي ابنا "( بدون تعريف) ؟ ( عب
1 : 4، 5 ). يوم الرب ليس يوما بحساب الزمن
، لأن يوما واحدا عند الرب كألف سنة ، وألف سنة كيوم واحد .( 2 بط 3 : 8 ). لذلك فإن
ذلك اليوم ، الذي ، كألف سنة ، هو زمن الملكوت ، زمن الملك مع المسيح ، زمن احتفالية
قيامة الحياة بالنسبة لأولئك الذين اشتركوا في القيامة الأولى ، قيامة البكر ، الرب
يسوع : ( وَرَأَيْتُ عُرُوشًا فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْمًا. وَرَأَيْتُ
نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ
اللهِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْوَحْشِ وَلاَ لِصُورَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا
السِّمَةَ عَلَى جِبَاهِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ الْمَسِيحِ
أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الأَمْوَاتِ فَلَمْ تَعِشْ حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ
السَّنَةِ. هذِهِ هِيَ الْقِيَامَةُ الأُولَى. مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ
فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى. هؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ الثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ،
بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً للهِ وَالْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَةٍ
( رؤ 20 : 4 - 6 ). يوم الرب هو الحاضر ،
هو " الآن " اللامنتهي ، الذي فيه يستعلن الخلاص المعطى في المسيح : ( فإذ
نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلا . لأنه يقول : " في وقت مقبول
سمعتك ، وفي يوم خلاص أعنتك " . هوذا الآن وقت مقبول . هوذا الآن يوم خلاص .(
2 كو 6 : 1،2) . . يوم الرب هو النهار المشرق في الكنيسة بفضل رأسها ، نجمة الصبح
: " كما إلى سراج منير في موضع مظلم ، إلى أن ينفجر النهار ، ويطلع كوكب الصبح
في قلوبكم ". ( 2 بط 1 : 19 ). لذلك ، فأبناء الكرازة والدعوة الرسولية ، هم
" أبناء النهار " ، هم أبناء النور ، هم الساهرون، وذلك بخلاف القدماء ،
الراقدين ، النائمين ، الذين استيقظوا وبعثوا ، وأتوا مع يسوع ، في مشرق نهار
" يوم الرب " : ( جميعكم أبناء نور وأبناء نهار . لسنا من ليل ولا من ظلمة
. فلا ننم إذا كالباقين ، بل لنسهر ونصح . لأن الذين ينامون فباليل ينامون ، والذين
يسكرون فباليل يسكرون . وأما نحن الذين من نهار ، فلنصح لابسين درع الايمان والمحبة
، وخوذة هي رجاء الخلاص . لأن الله لم يجعلنا للغضب ، بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع
المسيح ، الذي مات لأجلنا ، حتى إذا سهرنا ( نحن الأحياء ) أو نمنا ( الراقدون ) نحيا
جميعا معه . ( 1 تس 5 : 5 - 10 ).
لمصطلح " يوم الرب " ، أو " يوم المسيح
"، مضمون إيجابي ؛ فهو يعني النعمة المعطاة ، بالشركة في شخص المسيح الممتلئ بكنيسته
. أما بخصوص التعبير عن المصير السلبي ، الذي يخص العالم العتيق ويخص الأشرار ، فيستخدم
الكتاب مصطلحات أخرى مثل : "يوم الغضب " ، كما في ( رو 2 : 5 ) ، "
يوم الغضب العظيم " ، كما في ( رؤ 6 : 17 ) ، " يوم الدين " ، كما في
( وأما السموات والأرض الكائنة الآن ، فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها ، محفوظة للنار
إلى "يوم الدين " وهلاك الناس الفجار ( 2 بط 3 : 7 ). وأيضا كما في : ( الملائكة
الذين لم يحفظوا رئاستهم ، بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية
تحت الظلام ( يه 6 ) . لذلك ، وبسبب المضمون الإيجابى لمفهوم " يوم الرب
" - كزمن مجيء الرب في كنيسته - فإن الأشرار لايشعرون به ، فهو ، بالنسبة لهم
يأتي خفية ، كلص في الليل ؛ وهذا منطقى جدا فكيف يشعر الأشرار بحدث النعمة الذي يستعلنه
يوم الرب ؟! : ( يوم الرب ( الاسمان بدون تعريف
= حدث النعمة الحاضر ) كلص فى الليل هكذا يجيء … وأما أنتم أيها الاخوة فلستم فى ظلمة
حتى يدرككم ذلك اليوم كلص ( 1 تس 5 : 2 - 4 )
، ( ولكن سيأتى كلص فى الليل ، يوم الرب ( 2 بط 3
: 10 ). بالنسبة للوجود العتيق وللأشرار ، فان المفاجأة ليست هي في مقدم يوم الرب
- فهو حدث خفي عنهم وهم محرومون من الشركة فيه - ولكن في الحدث المصاحب لامتلاء يوم
الرب ، أى حدث النهاية العدمية للوجود . . يحدث الخلط دائما ، بين مفهومين لمصطلح
" اليوم " : - الأول ، ايجابي ، وهو مايخص "يوم الرب " ، و يعنى
" زمن الملء " ، الذي فيه يجيء الرب فى كنيسته ، جاعلا منها جسدا له . والثاني
، سلبى وهو مايخص "يوم نهاية العالم "، وهو المصير المحتوم والمؤجل ، للعالم
، وحدوثه مرهون باكتمال استحقاقات يوم الرب ؛ أى مرهون بامتلاء جسد المسيح بجميع الأعضاء
، المختارين. الأول ، مستيكي ، لايدرك الأشرار وجوده إلا في لحظة اكتماله ، المصحوبة
بالنهاية المحتومة ، المفاجئة ، والثاني يترقبه الذين في المسيح وينتظرونه ، لأن قدومه
يعني أمرا وحدا ، هو اكتمال بنيان الكنيسة : ( وَلكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ، يَوْمُ
الرَّبِّ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ
مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا. فَبِمَا أَنَّ
هذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ
مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ
( يوم الله بحسب الأصل اليوناني )، الَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ السَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً،
وَالْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ. وَلكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ
جَدِيدَةً، وَأَرْضًا جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ . ( 2 بط 3 : 10 - 13
). زمن مجئ الرب هو اليوم ، الحاضر ، الآن . وإذا كان لنا أن نتضرع إليه كي مايذكرنا
في مجيئه ، جاعلا لنا نصيبا مع اللص اليمين ، فعلينا أن نصدق بالحقيقة ، مضمون الإجابة
المتوقعة ،أن مجيء الرب هو اليوم : ( إنك اليوم تكون معي في الفردوس . ( لو 23 : 42 ، 43 ). هذا هو يوم الرب، الذي بدأ بالتجسد ولاينتهي بنهاية
العالم لأنه الزمن الممتلئ، النهار الأبدي الذي يستمد نوره من الرب يسوع .
الرب ( الذي يجيء ) هو المسيح ( الشخص الآتي
)
المدلول الذي تظهره الأناجيل للقب
المسيح يشير إلى شخص يظهر رأسه في التاريخ، ليمتد جسده مفترشا التاريخ بالكامل. هذا
الرأس هو يسوع التاريخي الذي يبدو من خلال الأناجيل كإمكانية ( potentiality ) لتحقيق الشخص الكامل الكاثوليكي
"المسيح"، الذي يجتمع فيه الكل.
ولنا في هذا السياق برهانان:
1 - البرهان الإيجابي
فتظهر الأناجيل اسم "المسيح"
في سياق الشهادة ليسوع كمنطلق وكبداية لتكميل شخص المسيح، فتتعدد الشهادات، من الأصدقاء
والأعداء، من حوارييه ومن صالبيه، وحتى من الشياطين. ولكننا نرصد في هذا المجال عدة
شهادات ، نعتقد أنهما تبلور المضمون الذي نحن بصدده:
1 - شهادة مرثا (يو11:
23-27)
انطلقت مرثا في حديثها مع الرب - عن
القيامة - من منطلقاتنا، الانطباعية، عن الزمان والمكان ؛ فلعازر سوف "يقوم في
اليوم الأخير" .. ولكن الرب، برده عليها قد أنارها وأنارنا معها: فالقيامة هي
شخص يتخطى الزمان والمكان ليجمع في ذاته الأقدمين، الموتى الذين آمنوا به قبل التجسد،
ويجمع أيضا، في ذاته، الذين عاشوا زمن ما بعد التجسد. وهنا جاءت الشهادة المستنيرة
لمرثا: فهذا الشخص الجامع لكل القائمين من الموت - في ذاته - هو شخص المسيح، الآتي
إلى العالم (الكون، cosmos)، ولم تقل مرثا: أنت هو المسيح الذي أتى إلى
العالم، بل شهدت بأنه المسيح الآتي، الآن . وهكذا فشهادة مرثا قد أضاءت المفهوم العميق
للقب "المسيح "، الذي لم يعد، فقط مجرد الشخص الذي تخاطبه، في هذه اللحظة
الزمانية وفي ذلك المكان، بل هو الشخص الذي أتى ماسحا ذاته وظل حاضرا في التاريخ، وآتيا
إلى منتهى التاريخ ليمسح الجميع، في ذاته .
2 - شهادة بطرس (مت 16:16-18)
وهي الشهادة العظمى، التي طوبها الرب:
"طوباك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لم يعلن لك هذا ... ولكن أعظم ما يخص هذه
الشهادة هو تعليق الرب، الكاشف لعمق لقب "المسيح": "على هذه الصخرة
أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها".كانت شهادة بطرس: "أنت هو المسيح
ابن الله الحي"، ومدلول تعليق الرب على هذه الشهادة هو أن لقب "المسيح"،
في أعماقه، يتخطى ويتجاوز - كميا - شخص الرب يسوع التاريخي. وإن كان يسوع هو الصخرة
وحجر الزاوية بالنسبة للشخص الجماعي الذي يشير إليه لقب "المسيح "، فعلى
هذه الصخرة يستكمل البناء، فيكتمل ويمتلئ شخص المسيح، بمجيء كل أعضاء الكنيسة .لم يقبل
الرب شهادة بطرس، من منطلق أنها تخص يسوع التاريخي، ولم يقبل التماهي بين اسم
"يسوع "و ملء لقب "المسيح "، بل أظهر "يسوع "كحجر زاوية
بالنسبة لبناء هائل يستوعب الكنيسة في داخله، هو المسيح.
في يونانية العهد الجديد – كما نؤكد
دائما - عندما يذكر الاسم العلم معرفا، فإن ذلك يشير إلى شخص ممتلئ، كامل، محدد الملامح
والهوية. وفي هاتين الشهادتين قد جاء اسم "المسيح" معرفا: (o Christos)
ولكن هذا لا يعني أن يسوع، المخاطب هو ذلك الشخص الممتلئ الذي يعنيه لقب "المسيح"،
فدقة الوحي الإلهي قد ألحقت هذا الشخص، المحدد الهوية بشرط تحفظي جعل الشخص ممتدا وعابرا
للزمان والمكان، وليس مجرد شخص متماه مع يسوع التاريخي ؛ ففي شهادة مرثا جاء شخص المسيح
"آتيا" في زمن المضارعة والحاضر الدائم. إذن قد تخطينا - بهذه الشهادة -
زمكانية الشخص، وإن كانت مرثا تخاطب يسوع كرأس، فهو كائن معها في هذه اللحظة، ولكنه
ممتد في الزمان والمكان وهو آت في الكون كله. وفي شهادة بطرس، فإن الذي يخاطبه بطرس
في هذه اللحظة هو الصخرة، هو حجر الزاوية الذي تبنى عليه الكنيسة، هو الصخرة الممتدة
في الكون كله والتي لن تقوى عليها بوابات الجحيم.
إذن،
هوية شخص المسيح هي:
1- هوية مركبة من شخص الرب يسوع، التاريخي
- كرأس - وجميع الشخوص التي هي أعضاء جسد المسيح، الذين يكملون ويملأون كيانه.
2- هوية ممتدة عبر الزمان والمكان،
فتمتد من زمان ومكان الرب يسوع التاريخي إلى كل الأزمنة والأمكنة، التي لجميع الأعضاء
الذين يكملون ويملأون كيان المسيح. وإن كان رأس الكيان، يسوع قد ظهر في لحظة تاريخية
محددة وفي مكان محدد، فإن هذا الرأس، بمجرد ظهوره، ما يلبث أن يخترق الزمان والمكان
ليلملم شتات الأعضاء المنتمين إليه، فيتصور شخص المسيح في الجميع، وبهذا المخاض الكوني
يولد الكون الجديد ويتحقق المسيح الكوني. الشهادة الإنجيلية، بأن يسوع التاريخي هو
المسيح، هي شهادة مفتوحة، تخترق اللحظة التاريخية وتتجاوزها وتمتد فى كل الكنيسة، بامتداد
شهادة يسوع في الجميع، أي امتداد الحياة وعدم الفساد الذين نالهما جديد يسوع -بفضل
كونه جسد الكلمة الخاص - إلى باقي الأعضاء الذين يشهدون له كأعضاء كما سبق هو أن شهد
لهم كرأس.
3- شهادة دليل الاتهام ( مت26: 63
– 68 )
أدين يسوع وأهين وضرب وصلب ومات من
أجل مظنة ادعائه أنه المسيح: " وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ
رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ
لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ!
وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ
يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ
حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلًا: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟
هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا : «إِنَّهُ
مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ». حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ
لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا
الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟».
والاقتباس يعطينا مصطلحا معادلا للمسيح
هو " ابن الإنسان" ، الشخص الجالس عن يمين القوة، والآتي - من الآن وإلى
نهاية الزمن - على سحاب السماء.
4- شهادة المعمدان ( مت11 : 2و 3 )
بسماع المعمدان – في محبسه – خبر المسيح - أرسل إليه ليتيقن من صحة الخبر وبدلا
من الاستفسار عن ما إذا كان هو المسيح كانت صيغة السؤال عجيبة جدا : " أَمَّا
يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ
مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» . لم
يسأل يوحنا : هل أنت المسيح ؟ بل تساءل : هل
أنت هو الآتي ؟ هكذا لخص المعمدان القضية ؛ فالمسيح هو الشخص الآتي في التاريخ وليس
مجرد شخص قد أتى في التاريخ. المسيح هو الشخص الوحيد الذي بظهوره انبطح التاريخ صائرا
آنا وحاضرا دائما حتى نهايته ، فالمسيح هو شخص التاريخ كله وهو منتج كل التاريخ ، وهو
إن قد كان قد ولد في ذلك الزمان فهو قد أخضع كل التاريخ لحساب تكميله كشخص فريد من
نوعه. هكذا ومن خلال هذه الشهادات نجد أنفسنا أمام هذا الرصد الإنجيلي العجيب لكون
أن المسيح شخص ليس قد أتى أو يأتي إلى التاريخ بل هو شخص طبيعته وهويته الإتيان والمجيء
نفسه؛ فهو الآتي، وحسب .
البرهان السلبي
الشخص الذي يتحرك تاريخيا في الأناجيل طابعا بصمته
في الزمان والمكان لثلاثة عقود ونيف من الزمان
هو " يسوع "، أما شخص المسيح فبخلاف كونه موضوعا للحوار والنقاش والشهادة
بين يسوع وكثيرين- مثل : بطرس، ومرثا، والفريسيين ( مت22 :42 )، وحتى الشياطين ( لو4:
41 ) - فلم يرد ذكره مرتبطا بحدث أو بفعل في لحظة تاريخية معينة، كأن يشير الوحي بأن
" المسيح" - وليس "يسوع" - قال كذا أو فعل كذا. وقد ظل اللقب مطروحا بقوة من بيت لحم وحتى الجلجثة. هذه هي القاعدة الإنجيلية في التعامل
التاريخي مع شخص"المسيح " أما الاستثناء الذي يثبت القاعدة، الحدث التاريخي
الوحيد الذي ارتبط به هو حدث مولده. ميلاد شخص المسيح هو الحدث التاريخي الوحيد الذي
يخصه في التاريخ المرصود إنجيليا، ويأتي في عدة صيغ :
1- الشخص الكامل الممتلئ، الاسم المعرف
:
" فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ
الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ
وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟ ( مت2: 3و4 )
2- الاسم منسوبا ليسوع ، والاسمين
بدون تعريف:
- " كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ" ( مت1: 1 ).
- " أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا" ( مت1: 18 ).
3- الاسم منسوبا للرب، والاسمين بدون تعريف :
" أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ
فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ "(لو2 :11).
ومايجب أن نلاحظه هو أن صيغة
" ولادة يسوع المسيح "( الاسمين بدون تعريف ) هي الصيغة النعموية "
لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ
الْمَسِيحِ صَارَا "(يو 1: 17) ، ودلالة الصيغة هي ذلك الشخص العجيب الذي اخترق
التاريخ بظهور رأسه يسوع الذي منه تفيض حركة
النعمة لتخترق كل التاريخ في آنية ممتدة إلى أن يتكمل كيان المسيح الممتلئ بكنيسته
الرب ( الذي يجيء )
هو ابن الإنسان ( الآتي على سحاب السماء )
" مجيء ابن الإنسان" صيغة إنجيلية أخرى لمفهوم مجيء الرب وتتجلى الرؤية البانورامية للحدث في ذلك المشهد الكلاسيكي لمجيء ابن الإنسان على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ثم يرسل ملائكته فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح : ( مت24 : 30, 31) ، ( مر13: 26و 27 ) ، ( مر 14: 62 ) ، ( لو21: 27 ) . والمشهد يذكرنا على نحو ما بالتبادلية الظهورية العجيبة بين ابن الإنسان وبني العلي في رؤيا دانيال ، فيبدو حدث مجيء الشخص معادلا لحدث تجميع المختارين ، فمجيء شخص ابن الإنسان كاملا وممتلئا يعني مجيء ملء هذا الشخص أي كنيسته ( مختاريه ) . سحاب السماء بطبيعة الحال هو الروح القدس الذي يحقق وجود الكنيسة مصورا المسيح فيها ، ناقلا إلى كل أعضائها ثمر استحقاق سر التجسد من رأس الكيان يسوع :" ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي و يخبركم "( يو16 : 14) . يمتد كيان جسد الرب يسوع في مسار يهيمن عليه الروح القدس ، هو مسار الكنيسة في زمن مابعد التجسد ، إلى أن يكتمل بناؤها . هكذا يكتمل مجيء ابن الإنسان بقوة الروح القدس هكذا يجيء على السحاب . ولقد بات واضحا أن ابن الإنسان ليس مجرد فرد مستقل منعزل بل شخص جماعي ، الشخص الملك والمملكة بآن واحد ( إذا جاز التعبير )، لذلك فإن زمن مجيء ابن الإنسان ( يوم الرب ) ليس مجرد لحظة تاريخية يمكن تسجيلها ( حتى ولو كانت لحظة نهاية العالم ) بل هو مجال زمني يستوعب زمن مابعد التجسد كاملا ،حتى لحظة نهاية الكون لا يستطيع أي فرد من أفراد الكنيسة المبعثرين في زمن مابعد التجسد أن يرصد مجيء شخص ابن الإنسان في لحظة تاريخية معينة ، والسبب بسيط ومنطقي ، فكل فرد من أفراد الكنيسة ضالع في الحدث ، هو جزء من حركة بناء الشخص الكامل ، ولأن الذي يرصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة فلا تستطيع الكنيسة ( على مستوى الشخص أو الجماعة ) التي هي قلب الحدث وقلب الشخص الآتي ،أن ترقب ذاتها وهي آتية ، في ابن الإنسان الآتي ، فعندما : " سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ؟» أَجَابَهُمْ وَقَالَ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا، أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ». وَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ. وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا ههُنَا! أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا، لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا ابْنُ الإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ " ( لو17: 20- 24 ). هذا هو ابن الإنسان الذي يأتي مخترقا صفحة التاريخ كاملة كما تخترق مسارات البرق صفحة السماء، الأمر الذي لايمكن ترقبه أو رصده تاريخيا لأنه مسار وهدف ومنتج كل التاريخ. هذا هو ابن الإنسان الذي بمجيئه يأتي ملكوت الله؛ فهو الملك والمملكة بآن واحد. يقودنا هذا إلى أحد أعجب مشاهد مجيء ابن الإنسان ، ماذكره إنجيل متى في الإصحاح الخامس والعشرين بداية من الآية الواحدة والثلاثين وحتى نهاية الإصحاح فيستعرض النص ذلك المشهد العجيب المهيب : مجيء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه ، يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب ، فيميز بعضهم من بعض ، كما يميز الراعي الخراف من الجداء ، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار . وهنا - تحديدا - تشير كلمات الوحي إشارة عجيبة ذات مغزى ، فيستكمل السرد هكذا : " ثم يقول الملك للذين عن يمينه : تعالوا يامباركي أبي ، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ." والملحوظة العجيبة هي الإقحام - الظاهر - لمفردة " الملك " ، على النص ، فقد كان السياق الطبيعي هو : " ثم يقول ابن الإنسان للذين عن يمينه ..." ! . وهنا يختبئ مفتاح فهم النص كله ، فنحن الآن بصدد حديث الملك إلى شعب مملكته ، أي خرافه الذين عن يمينه . فابن الإنسان هو المملكة كاملة ، بما فيها الملك ذاته . إنه حوار من نوع خاص ، حوار الذات مع الذات ، حوار الرأس مع الأعضاء . الحوار الذي يرصده هذا النص هو مونولوج داخلي ( monologue ) يحتفل فيه رأس الإنسانية الجديدة بمقدم أعضائه ، يحتفل بتكميل كيانه . وليس ابن الإنسان هو الرب يسوع التاريخي فقط ، بل هو الكيان الذي فيه يجتمع الرأس ، الرب يسوع ، التاريخي ، مع الأعضاء ، أي جميع أفراد الكنيسة . وهنا تجدر بنا هذه الإشارة ، إذ أنه طيلة سرد سيرة الرب يسوع ، التاريخي - في الأناجيل - لم يرد لقب ابن الإنسان منسوبا إلى فعل زمني معين ، كأن تذكر الأناجيل ، مثلا ، أن ابن الإنسان قال كذا أو ذهب الى كذا أو فعل كذا . بمعنى أن الأناجيل لم تضع شخص ابن إنسان كمعادل لشخص الرب يسوع التاريخي ، المنعزل عن كنيسته . لم تضع الأناجيل لقب ابن الإنسان معادلا للرأس فقط ، بل هو الكيان بكامله ، أي الرأس المجتمع مع الأعضاء . وعندما كان الرب يسوع يذكر فعلا منسوبا لابن الإنسان ، فقد كان الحديث دائما في صيغة الغائب ، غير المحصور في لحظة محددة . ولم يأت شخص ابن الإنسان منسوبا الى حدث - في الأناجيل - إلا في سياق حدث النعمة ، الخلاصي ، وهو بطبيعة الحال حدث آني مستمر يبتلع التاريخ كله . وهذا هو نفس تعاطي الأناجيل مع لقب " المسيح " ، فكلا الاسمين مترادفان ، ويعنيان ذات الكيان الذي يتعاظم الآن منطلقا من الرب يسوع التاريخي إلي حيثما يوجد شتات الكنيسة في الزمان والمكان.
" مجيء ابن الإنسان" صيغة إنجيلية أخرى لمفهوم مجيء الرب وتتجلى الرؤية البانورامية للحدث في ذلك المشهد الكلاسيكي لمجيء ابن الإنسان على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ثم يرسل ملائكته فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح : ( مت24 : 30, 31) ، ( مر13: 26و 27 ) ، ( مر 14: 62 ) ، ( لو21: 27 ) . والمشهد يذكرنا على نحو ما بالتبادلية الظهورية العجيبة بين ابن الإنسان وبني العلي في رؤيا دانيال ، فيبدو حدث مجيء الشخص معادلا لحدث تجميع المختارين ، فمجيء شخص ابن الإنسان كاملا وممتلئا يعني مجيء ملء هذا الشخص أي كنيسته ( مختاريه ) . سحاب السماء بطبيعة الحال هو الروح القدس الذي يحقق وجود الكنيسة مصورا المسيح فيها ، ناقلا إلى كل أعضائها ثمر استحقاق سر التجسد من رأس الكيان يسوع :" ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي و يخبركم "( يو16 : 14) . يمتد كيان جسد الرب يسوع في مسار يهيمن عليه الروح القدس ، هو مسار الكنيسة في زمن مابعد التجسد ، إلى أن يكتمل بناؤها . هكذا يكتمل مجيء ابن الإنسان بقوة الروح القدس هكذا يجيء على السحاب . ولقد بات واضحا أن ابن الإنسان ليس مجرد فرد مستقل منعزل بل شخص جماعي ، الشخص الملك والمملكة بآن واحد ( إذا جاز التعبير )، لذلك فإن زمن مجيء ابن الإنسان ( يوم الرب ) ليس مجرد لحظة تاريخية يمكن تسجيلها ( حتى ولو كانت لحظة نهاية العالم ) بل هو مجال زمني يستوعب زمن مابعد التجسد كاملا ،حتى لحظة نهاية الكون لا يستطيع أي فرد من أفراد الكنيسة المبعثرين في زمن مابعد التجسد أن يرصد مجيء شخص ابن الإنسان في لحظة تاريخية معينة ، والسبب بسيط ومنطقي ، فكل فرد من أفراد الكنيسة ضالع في الحدث ، هو جزء من حركة بناء الشخص الكامل ، ولأن الذي يرصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة فلا تستطيع الكنيسة ( على مستوى الشخص أو الجماعة ) التي هي قلب الحدث وقلب الشخص الآتي ،أن ترقب ذاتها وهي آتية ، في ابن الإنسان الآتي ، فعندما : " سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ؟» أَجَابَهُمْ وَقَالَ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا، أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ». وَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ. وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا ههُنَا! أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا، لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا ابْنُ الإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ " ( لو17: 20- 24 ). هذا هو ابن الإنسان الذي يأتي مخترقا صفحة التاريخ كاملة كما تخترق مسارات البرق صفحة السماء، الأمر الذي لايمكن ترقبه أو رصده تاريخيا لأنه مسار وهدف ومنتج كل التاريخ. هذا هو ابن الإنسان الذي بمجيئه يأتي ملكوت الله؛ فهو الملك والمملكة بآن واحد. يقودنا هذا إلى أحد أعجب مشاهد مجيء ابن الإنسان ، ماذكره إنجيل متى في الإصحاح الخامس والعشرين بداية من الآية الواحدة والثلاثين وحتى نهاية الإصحاح فيستعرض النص ذلك المشهد العجيب المهيب : مجيء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه ، يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب ، فيميز بعضهم من بعض ، كما يميز الراعي الخراف من الجداء ، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار . وهنا - تحديدا - تشير كلمات الوحي إشارة عجيبة ذات مغزى ، فيستكمل السرد هكذا : " ثم يقول الملك للذين عن يمينه : تعالوا يامباركي أبي ، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ." والملحوظة العجيبة هي الإقحام - الظاهر - لمفردة " الملك " ، على النص ، فقد كان السياق الطبيعي هو : " ثم يقول ابن الإنسان للذين عن يمينه ..." ! . وهنا يختبئ مفتاح فهم النص كله ، فنحن الآن بصدد حديث الملك إلى شعب مملكته ، أي خرافه الذين عن يمينه . فابن الإنسان هو المملكة كاملة ، بما فيها الملك ذاته . إنه حوار من نوع خاص ، حوار الذات مع الذات ، حوار الرأس مع الأعضاء . الحوار الذي يرصده هذا النص هو مونولوج داخلي ( monologue ) يحتفل فيه رأس الإنسانية الجديدة بمقدم أعضائه ، يحتفل بتكميل كيانه . وليس ابن الإنسان هو الرب يسوع التاريخي فقط ، بل هو الكيان الذي فيه يجتمع الرأس ، الرب يسوع ، التاريخي ، مع الأعضاء ، أي جميع أفراد الكنيسة . وهنا تجدر بنا هذه الإشارة ، إذ أنه طيلة سرد سيرة الرب يسوع ، التاريخي - في الأناجيل - لم يرد لقب ابن الإنسان منسوبا إلى فعل زمني معين ، كأن تذكر الأناجيل ، مثلا ، أن ابن الإنسان قال كذا أو ذهب الى كذا أو فعل كذا . بمعنى أن الأناجيل لم تضع شخص ابن إنسان كمعادل لشخص الرب يسوع التاريخي ، المنعزل عن كنيسته . لم تضع الأناجيل لقب ابن الإنسان معادلا للرأس فقط ، بل هو الكيان بكامله ، أي الرأس المجتمع مع الأعضاء . وعندما كان الرب يسوع يذكر فعلا منسوبا لابن الإنسان ، فقد كان الحديث دائما في صيغة الغائب ، غير المحصور في لحظة محددة . ولم يأت شخص ابن الإنسان منسوبا الى حدث - في الأناجيل - إلا في سياق حدث النعمة ، الخلاصي ، وهو بطبيعة الحال حدث آني مستمر يبتلع التاريخ كله . وهذا هو نفس تعاطي الأناجيل مع لقب " المسيح " ، فكلا الاسمين مترادفان ، ويعنيان ذات الكيان الذي يتعاظم الآن منطلقا من الرب يسوع التاريخي إلي حيثما يوجد شتات الكنيسة في الزمان والمكان.
خلاصة
الرب ( الذي يجيء )
هو المسيح ( الشخص الآتي )، هو ابن الإنسان ( الآتي على سحاب السماء )، هو الكيان
الذي يتكمل ويمتلئ الآن، انطلاقا من لحظة ظهور يسوع التاريخي وحتى لحظة نهاية التاريخ. ومتى اكتمل وامتلأ هذا الكيان بكل المستهدفين في كل التاريخ يكون قد تم مجيء الرب ، تم إتيان المسيح ، تم مجيء ابن الإنسان على سحاب السماء. ولأن شخض الرب الذي يجيء هو شخص كل الزمان وكل
المكان فحدث مجيئه لايمكن رصده وبحسب قول الرب : " لايأتي بمراقبة " وهو
شخص لايمكن أن ينطبق عليه القول : " هوذا ههنا أو هوذا هناك " ؛ فهو شخص
لا يمكن لعين طبيعية أن تراه ولا لمكان طبيعي أن يحتويه ولا للحظة تاريخية أن تسجل
اكتمال مجيئه. وحدث مجيء الرب لا يمكن رصده لعدة أمور : الأمر الأول طبيعة زمن الحدث ؛
فهو الزمن الآني الذي يفترش كل التاريخ حتى نهايته، وبالتالي إذا افترضنا جدلا
وجود لحظة تاريخية من الممكن أن يرصد من خلالها اكتمال مجيء الرب فلابد أن تكون
لحظة مابعد نهاية التاريخ ونهاية الزمان والمكان ، وهذا تناقض وعبث غير مقبول.
ولكن حل اللغز قد يكون في رصد الحدث من خلال لحظة غير تاريخية ، أي لحظة مابعد انهيار
الزمكان ، لحظة اسخاطولوجية ، وهذا ماكشفه
الرائي حينما كتب : " هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ
عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ
" ( رؤ1: 7 ). والرصدية المستحيلة - التي
نتحدث عنها - هي مايخص الشطر الأول "
يأتي مع السحاب "، حيث زمن المضارعة والآنية المستمرة للحدث الواحد الذي يستوعب كل التاريخ، أما الشطر الثاني - حيث الزمن المستقبلي ( ستنظره كل عين )- فيخص
الرصدية الاسخاطولوجية ، رصدية مابعد التاريخ .
والأمر الثاني الذي يؤدي إلى عدم إمكانية رصد حدث مجيء الرب هو طبيعة الراصد ؛ فالمفترض أن يتمثل الراصد في أعضاء الكنيسة الذين ينتظرون مجيء الرب، ولكن هذا أيضا مستحيل فهم ضالعون في الحدث وفي الحركة؛ إذ أن " ملكوت الله داخلهم " ، وراصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة، أما هم فكل منهم جزء من كل بالنسبة للشخص الآتي فيهم، ومن غير الوارد أن أيا منهم يستطيع في وجوده الطبيعي الآني أن يرصد مجيئا لشخص لم يكتمل بعد خصوصا أن مايخص كل عضو في الكنيسة ليس أكثر من نصيبه في الرب. هذا وضع الذين للرب هنا في هذا العالم أما في مايخص حياة الدهر الآتي فالوضع إذذاك لايقبل المقارنة، حيث الجميع ملكوتا واحدا ، مسيحا واحدا ، إدراكا واحدا ورؤيه واحدة للشخص الواحد الذي يضمهم .وأما الأمر الثالث الذي يمنع إمكانية رصد الحدث فهو طبيعة الشخص؛ فالرب الآتي ليس فردا مستقلا، من الممكن أن يأتي ويذهب في المكان، أو يرصد حضوره في لحظة تاريحية معينة ، فهو كيان جماعي، كاثوليكي ، يتكمل ويمتلئ عبر التاريخ كله، هو منتج كل التاريخ، منتج كل الزمان وكل المكان. وأما اللحظة التي ينضم فيه آخر عضو إلى كيان الرب فهي اللحظة التي يكتمل فيها كل ماهو مرجو من التاريخ، فيتخلى الكلمة عن الكون ليعود ثانية إلى أصله أي العدم. ولذلك فإن الرصد الافتراضي- المستحيل - لمجيء الرب في لحظة تاريخية معينة هو رصد لحدث ناقص ولكيان لم يكتمل ولنهاية لم تأت بعد؛ فلارصد لتمام حدث مجيء الرب إلا في حياة الدهر الآتي .
والأمر الثاني الذي يؤدي إلى عدم إمكانية رصد حدث مجيء الرب هو طبيعة الراصد ؛ فالمفترض أن يتمثل الراصد في أعضاء الكنيسة الذين ينتظرون مجيء الرب، ولكن هذا أيضا مستحيل فهم ضالعون في الحدث وفي الحركة؛ إذ أن " ملكوت الله داخلهم " ، وراصد الحركة لابد أن يكون مستقلا عن الحركة، أما هم فكل منهم جزء من كل بالنسبة للشخص الآتي فيهم، ومن غير الوارد أن أيا منهم يستطيع في وجوده الطبيعي الآني أن يرصد مجيئا لشخص لم يكتمل بعد خصوصا أن مايخص كل عضو في الكنيسة ليس أكثر من نصيبه في الرب. هذا وضع الذين للرب هنا في هذا العالم أما في مايخص حياة الدهر الآتي فالوضع إذذاك لايقبل المقارنة، حيث الجميع ملكوتا واحدا ، مسيحا واحدا ، إدراكا واحدا ورؤيه واحدة للشخص الواحد الذي يضمهم .وأما الأمر الثالث الذي يمنع إمكانية رصد الحدث فهو طبيعة الشخص؛ فالرب الآتي ليس فردا مستقلا، من الممكن أن يأتي ويذهب في المكان، أو يرصد حضوره في لحظة تاريحية معينة ، فهو كيان جماعي، كاثوليكي ، يتكمل ويمتلئ عبر التاريخ كله، هو منتج كل التاريخ، منتج كل الزمان وكل المكان. وأما اللحظة التي ينضم فيه آخر عضو إلى كيان الرب فهي اللحظة التي يكتمل فيها كل ماهو مرجو من التاريخ، فيتخلى الكلمة عن الكون ليعود ثانية إلى أصله أي العدم. ولذلك فإن الرصد الافتراضي- المستحيل - لمجيء الرب في لحظة تاريخية معينة هو رصد لحدث ناقص ولكيان لم يكتمل ولنهاية لم تأت بعد؛ فلارصد لتمام حدث مجيء الرب إلا في حياة الدهر الآتي .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق