1- الخلاص ، من ماذا ؟
لغويا واصطلاحيا ، تشير مفردة " الخلاص
" الى أزمة أو ورطة ، ويرجى الخروج منها . ومن هذا المنظور ، لنا أن نسأل : ماهي
الأزمة ، أو المشكة التي يتصدى لها اللاهوت المسيحي ؟. يعلمنا الاباء أن المسيحية لاتتصدى
الا الى مشكة الوجود الانساني . ويواجهنا اللاهوت الأورثوذكسي ، الأصيل ، من خلال كتابات
العظيم أثناسيوس ، لاسيما في رائعته " تجسد الكلمة " ، أن مشكة الانسان هي
أن " الانسان بالطبيعة فان " .البداية الحقيقية هي تشخيص المشكلة ، وقد فعلها
أثناسيوس ، فالواقع الانساني ، بعد السقوط هو الموت ، هو الفناء ، هو العدم . ولم يخلق
الله الانسان من أجل هذا المصير ، بل قد جبله ليشترك في حياته الأبدية ، بأن يأكل من
شجرة الحياة . ولكن الانسان قد اثر العزلة والنرجسية وفقد الطريق المؤدي الى الشركة
في الكلمة وانكفأ على ذاته فلم يجد سوى الموت الذي تستحقه طبيعته .وهنا ينبغي لنا أن
نعيد اكتشاف المعاني الأصيلة لمفرداتنا ، فالسقوط ، عند أثناسيوس هو فقدان البعد الديناميكي
لنعمة الخلقة على صورة الله . فقد كان من المفترض ومن المرجو أن تستثمر نعمة العقل
البشري - الذي هو بتعبير أثناسيوس " ظل الكلمة " - متنامية الى الشركة الأبدية
في الكلمة . ولكن الانسان أسلم عقله للضلالات وللأوهام وأفرغ ذهنه من التأمل في الله
، ففقد المسار المرسوم له والمؤدي لشجرة الحياة ، الرب يسوع المسيح . مصطلح " الخطية " ، اذن
، يعني التجاوز والتعدي والتخطي ، للشركة في الله . يعني الرضا بالعزلة والانفصال عن
الألوهة . يعني التقوقع النرجسي في الذات وحول الذات . هكذا بات العدم مصيرا لا فكاك
منه ، ينتظر الانسان ، بعد أن أصبح واقعه ، هو فقدان الوسيلة والطريق المؤديان الى
الشركة في حياة الكلمة .اذن ، المشكلة هي خضوع الطبيعة البشرية للعدم والفناء نتيجة
لعزلتها وعدم شركتها في الله الكلمة ، الذي هو الحياة . وأي مفهوم للخلاص لابد أن يعالج
، جذريا سبب المشكلة ، وهو العزلة ، نتيجة لعجز الانسان أن يأتي الى الله ويشترك فيه
.الخلاص ، في المفهوم الأورثوذكسي ، ليس نظرية فلسفية أو لاهوتية ، تنطلق من قناعات
فكرية مجردة ، بل هو مفهوم يغوص في الواقعية ، اذ يتعاطى مع الحقيقة الوحيدة ، التي
يجمع عليها كل البشر ، حقيقة موت الطبيعة البشرية وفنائها ، كطبيعة بيولوجية حيوانية
. وسؤال اللاهوت الأرثوذكسي ، الأساسي هو : أليس من طريق للخلاص من مصيرنا الذي هو
مصير البهائم ، غير العاقلة ؟.
2- الخلاص ، كيف ؟
اذا كان التشخيص الأرثوذكسي ، لمحنة
الانسان ، هو في انحداره للعدم ، بفقده الطريق للشركة في شخص الكلمة ، فان الحل والخلاص
هو في استعادة الشركة المفقودة . أو قل الشركة التي كان من المزمع قيامها بين الانسان
والله . ولكن لما كان الانسان عاجزا عن أن يشترك في الكلمة - فيشترك في الحياة والوجود
، ويعتق من فساده الطبيعي - فقد أظهر الله محبته ، في البشر بأن اشترك هو فيهم ، بتجسده
. وهكذا حينما صار الكلمة بشرا ، فان الطبيعة البشرية قد اعتقت من موتها الطبيعي ،
اذ تأسس لها رأس ومصدر للانسانية الجديدة ، الروحانية ، عوضا عن البيولوجية وهو المسيح
الرب الذي فيه يقبل البشر وجودهم الجديد عديم الفساد . وفيما يموت البشر وفقا لطبيعة
عتيقهم فان ذلك لم يعد ذات النهاية المأساوية ، التي يفنى فيها الكيان كاملا ، اذ لم
يعد الموت موتا للذين في المسيح ، بل هو خلع للعتيق واستعلان للجديد ، الذي هو عضو
في جسد المسيح ، في جسد القيامة وعدم الفساد. وأما الذين لانصيب لهم في خلاص المسيح
، فهم أولئك المكتفين بصيغة الوجود العتيق ، والمنكفئين على أنفسهم ، هم أولئك الذين
حينما يخلعون بيولوجيتهم ، وحينما يخلعون جسدهم النفساني ، فانهم بذلك يخلعون كل شيء
. اذا لايتبقى لهم شيء ، بعد انهيار كل شيء ، بالنسبة لهم .الخلاص من العدم هو مفهوم
ايجابي . اذ لاخلاص من الظلمة الا بحضور النور ، هكذا لاخلاص من الفناء الا بالشركة
في الحياة ،أي الشركة في شخص الكلمة المتجسد ، الذي هو القيامة والحياة.
شخص المسيح هو فلك نوح ، الذي كل من
تم استيعابه فيه ، خلص من طوفان بحرالعالم ومن الهلاك الأبدي . فالخلاص هو الكينونة
في شخص المسيح وليس في توليفة من الشرائع الناموسية ، اذ ليس بأحد غيره الخلاص ، وليس
بالشركة في اخر ، من الممكن أن نخلص .الخلاص هو قوة الافخارستيا النابعة من رأس الكيان
الرب يسوع ، الذي صرخ من أجل خلاص جسده الخاص ، وسمع له من أجل تقواه ( عب 5 : 7 )
، وحينما تتموقع كنيسته ، فيه - افخارستيا - فانه يسمع لها أيضا باشتراكها في سر التقوى
الذي ظهر في الجسد .
3- ماهو دور الصليب في الخلاص ؟
ماذا يعني أن المسيح قد صارلعنة لأجلنا
؟ . وماذا يعني أنه قد حمل خطايانا ؟. وماذا يعني ، أنه بالصليب قد غفرت خطايانا ،
وتمت مصالحتنا مع السماء ؟. الصليب هو موت التشهير ، هو موت اللعنة والعار ، ومكتوب
: " ملعون كل من علق على خشبة " . ويسوع بموته ، قد صار لعنة ، لأجلنا .
حمل عارنا ، المتأصل في طبيعتنا المنحدرة للعدم بسبب عزلتها وغربتها عن الله ، وهو
، على الصليب صرخ معلنا عن عزلتنا وغربتنا ، التي حملها - في حجابه الظاهر ، الذي اتخذه
من طبيعتنا - فصاح مخاطبا الله : " الهي الهي لماذا تركتني ".الصليب هو الاعدام
، في أطول مواجهة ممكنة مع الموت . فيعلق المصلوب ، ساكنا ، ثابتا ، لساعات طويلة ،
في انتظار للموت المحقق ، مصحوب بكيل اللعنات والسخريات من معظم حاضري المشهد . هذا
هو أحد وجهي الصليب ، أي الوجه الذي يخص موتنا ، الذي اجتازه السيد . أما الوجه الاخر
الذي يكشفه الصليب فهو وجه النصرة ، فلم تكن المواجهة الطويلة مع الموت - التي هي خصيصة
الموت صلبا ، تحديدا - الا منازلة قانونية التقى فيها الكلمة المتجسد بالموت ، تاركا
للموت أكبر فرصة ممكنة ، في أشرس حلبة ممكنة ، وهكذا حينما أظهر الموت أبشع مالديه
، في عتيق يسوع ، أظهر الرب نصرته الفائقه باظهار كيانه الجديد ، عديم الموت ، الذي
لم يستطع الموت أن يقترب منه . هكذا أباد الرب الموت ، بموته ، وأظهر الخلاص منه ،
بالقيامة .
كان الصليب هو موقعة تحدي الموت ،
التي اجتازها الكلمة المتجسد منتصرا ، باظهاره انسانيته الجديدة ، الكائنة بفضل الاتحاد
الأقنومي .دليل النصرة ، في منازلة الصليب كان
ظهور الطبيعة الانسانية الجديدة الكائنة في الكلمة ، أي الطبيعة المتسربلة بمجد اللاهوت
. وهكذا بالشركة في مجد القائم من الموت - والظافر في منازلة الصليب - يتغطى الجميع
بمجد اللاهوت ، فيستر عريهم ويباد موتهم ويسقط عنهم خزي العزلة ، الذي في الخطية .
هكذا بموت الصليب أظهر يسوع ، الكلمة المتجسد ، ذاته ، كفارة لأجلنا . وبصليبه أظهر
المغفرة والصلح مع السماء . أي الشركة في مجد الثالوث الأقدس ، بالنعمة ، للذين في
المسيح .في الصليب يتجلى استعلان مزدوج للنعمة المعطاة للبشر ، في الكلمة المتجسد
. فأولا ، تتجلى النعمة ، كغاية ، وذلك بالكشف عن انسانية يسوع ، الجديدة ، التي نالت
الخلاص من الموت بفضل كونها جسد الكلمة الخاص . هذه هي الانسانية المنتصرة التي أعلنت
للتاريخ البشري في فجر الأحد ، باظهار القيامة . وهي ذات الانسانية التي هي بمثابة
خمير قيامة كل البشر ، خمير قيامة الكنيسة كلها ، كجسد للمسيح . وثانيا ، تتجلى النعمة
كوسيلة ، وذلك بتكريس الطريق للشركة في المسيح القائم ، المنتصر بفعل الشركة في موت
المسيح ، فبالصليب توهب الكنيسة أن تقدم " الانسان العتيق " ، مصلوبا مع
عتيق يسوع ، لحساب تأسيس الكيان الجديد ، كيان الخلاص والنصرة . فالصليب هو قوة الخلاص
العاملة في المدعوين للشركة في جسد المسيح . الصليب هو قوة الله العاملة في الكنيسة
. فليس الصليب - في المفهوم الأورثوذكسي - مجرد نظرية أو فكرة أو معنى ، بل قوة الروح
القدس العاملة في صلب الجسد مع الأهواء والشهوات ، قوة الروح في صلب العتيق التي تستر-
خلفها - تحقق وجود " الانسان الجديد "، لأنه لاعتيق ان لم يعتقه اخر . وفيما
اتخذ الكلمة جسدا من البشر ، فقد أظهر عتيقه مصلوبا ومماتا ، حتى اذا ماشتركنا في صليبه
، باماتة عتيقنا ، معه ، أظهرنا كأعضاء في جديده ، الصائر رأسا لوجودنا الجديد .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق