( على خلفية كتاب : وهم الإله - ريتشارد دوكينز )
مقدمة صريحة ، صادمة ، لابد منها
الإلحاد صنيعة - بنسبة عالية - لفشل
التيار الغالب من المتدينين . هذا هو الإنطباع الأولي الذي خرجت به من قراءة كتاب
" وهم الإله - The God delusion " لعالم البيولوجيا المرموق : " ريتشارد
دوكنز - Richard
Dawkins
". وللكتاب ترجمة عربية متاحة على
شبكة الإنترنت .
إنني أعتقد بأن الإلحاد سؤال لم تتم
الإجابة عليه ، وقد كان المتدينون هم المنوطون بتلك الإجابة ، التي لم تتم . وعدم الإجابة
هو نتيجة طبيعية لفشل ثلاثي ( إن جاز التعبير ) . أولا ، فقد فشل التيار الغالب من
المتدينين في أن يكونوا نموذجا صحيحا وحقيقيا لما هو مفترض أن يكون مضمون الدين . وإنني
أشتم بين صفحات الكتاب رائحة المرارة الكريهة تجاه صورة المتدين ، التي يصر على أن
يصدرها للآخر ( الملحد ) . العنصرية والتعصب والمظهرية والفكر الخرافي ، كل هذه ليست
الا مبتدأ الأوجاع ، فقد يصل الأمر - في إقصاء الآخر - إلى حد العنف الذي يتم فيه تصفية
الآخر المغاير ، جسديا ، أو إلى حد الإرهاب الجماعي والتطهير العرقي . ثانيا ، فقد
فشل التيار الغالب من المتدينين ، في فهم وتكوين صورة حقيقية عن الله ، ويرجع فشلهم
، في هذا ، إلى فشل أعمق ، وهو الفشل في تأويل النص المقدس تأويلا صحيحا ، يستلهم منه
أقصى ما يمكن أن يدركه البشر ، بماديتهم ومحدوديتهم ، وفي ذات الوقت يأخذ بهم إلى آفاق
تتخطى تلك المحدودية وتلك المادية . وهذه هي المعضلة ، فبدلا من أن يختطف النص المقدس
البشرإلى السماء ، فقد اختطفوه تعسفيا إلى الأرض ، ولذلك فلم يكن النص المقدس ، بالنسبة
لهم ، إلا بمثابة إعادة إنتاج لصورة ذاتهم ، ولم يكن الإله بالنسبة لهم ، إلا تعظيما
نرجسيا مريضا لذواتهم . ثالثا ، فقد فشل التيار الغالب من المتدينين في الخروج من قوقعة
ذاتهم إلى العالم ، فقد تملكتهم تلك النظرة المتعالية ، المكتفية بذاتها ، والمعادية
، أحيانا ، إلى العلم الطبيعي . لم يجدوا أنه من الواجب عليهم أن يتبنوا الجديد من
الطروحات العلمية ، ومن المنجزات المعرفية المذهلة للعقل ، في سبيل تسكينها في سياق
معرفي لاهوتي شامل ، يستوعبها ، ليقدم شرحا صحيحا للكون لا يتجاهل العلم ولا يصطدم
معه ، بل يستوعبه كعباءة أرحب وأوسع ، أفلا يليق ذلك باللاهوت وباللاهوتيين ، وبالدين
وبالمتدينين ؟! .
مأزق الملحدين
يقدم دوكنز في كتابه اقتراحا بطيف
للإحتمالات - في سلم ، من سبع درجات - بخصوص الاعتقاد بوجود الله :
1- مؤمن تماما ( إيمان بنسبة 100%
) .
2- مؤمن واقعي ( إحتمال عالي ، إيمان
بنسبة أقل من 100 % ) .
3- لا أدريون يميلون للإيمان ( إيمان
بنسبة أكثر من 50 % ) .
4- لا أدريون تماما ( إيمان بنسبة
50% ) .
5- لا أدريون يميلون للإلحاد ( إيمان
بنسبة أقل من 50 % ) .
6- ملحد واقعي ( إحتمال ضعيف جدا ،
ولكن بنسبة أكبر من الصفر % ) .
7- ملحد تماما ( ليس هناك إله بالمطلق
، إيمان بنسبة صفر % ) .
والشيء العجيب هو أن دوكنز يعتبر أن
الخانة السابعة هي ، واقعيا ، فارغة ، وأنه ليس من الواقعي أن يجد أناسا ملحدين ينتمون
إلى تلك الفئة . دوكينز ، ذاته يصنف نفسه تحت الفئة السادسة . وهنا تكمن المفارقة المأساوية
، فالملحد لا يستطيع أن ينفي إحتمال وجود الله ، بالمطلق .
إنني أعتقد بأن مأذق الملحد هو في
كونه عقلية مطحونة بين مطرقة وسندان يمثلان بندين من المستحيلات : استحالة البرهان
على وجود الله بواسطة المعطيات العلمية ( وهذا ما سوف أتطرق إليه لاحقا ) ، واستحالة
البرهان على عدم وجود الله ، بنفس الطريقة . وبالتالي فقد سجن الملحد ذاته في سجن الشك
الأبدي ، فهو يفتقد القدرة على التيقن والإيمان ، بعكس من ينتمون ، مثلا ، إلى الفئة
الأولى- بصرف النظر عن صحة ما يعتقدون ، من عدم صحته - فهم يستطيعون أن يؤمنوا بوجود
، يتخطى ذواتهم ، بل ويستطيعون أن يفقدوا حيواتهم دفاعا عن انتمائهم لهذا المعتقد
.
أعتقد أن مسألة القدرة على الإيمان
ليست على ما تبدو عليه من قلة الأهمية ، في هذا السياق . فلننظر إلى هذه العبارة لدوكنز
التي يعبر فيها عن رؤيته للحسم النهائي لمسألة وجود الإله ، الذي يكفر به : "
وجود الله وعدم وجوده هو حقيقة علمية عن الكون ، وقابلة للإكتشاف من حيث المبدأ على
الأقل ، إن لم يكن عمليا . لو كان موجودا وكشف عن نفسه لوضع حكما نهائيا للجدال وبشكل
لا يقبل مجالا للشك في صالحه ." ( ص : 29 ) . وعليه ، فإن غرض هذه المقالة ليس
محاججة الملحدين ، بأي حال من الأحوال ، فقد أدركنا من عبارة دوكنز أن طريق الجدال
والمحاججة هو طريق عقيم بالنسبة لهم ، والأمر يحتاج أكثر من ذلك بكثير . الأمر يحتاج
إلى خطاب شخصي مباشر، موجه لهم ، من ذلك الإله .
أما غرض مثل هذه المقالة فهو تصحيح
صورة فاسدة عن الله ، قد صدرها المتدينون - لفشلهم في فهم حقيقة صورة الله ، كما هي
مخبوءة في النص المقدس - إلى الملحدين ، وبالتالي يتم إعفاء المتدينين من مسئولية ضلوعهم
في تشكيل صورة الإله الذي يكفر به الملحدون .
الإله الشخصي ، المرفوض من الملحدين
أريد أولا أن أقتبس بعض العبارات ، التي يتبناها دوكينز في كتابه :
- " الدين أقنع الناس فعلا بأن
هناك شخصا خفيا - يعيش في السماء ويراقب كل ما تفعل في كل لحظة من كل يوم . وهذا الشخص
الخفي لديه لائحة بعشرة أشياء لا يريدك أن تفعلها . وان فعلت أيا منها ، فإن لديه مكانا
خاصا ، مليئا بالنار والدخان والحريق والتعذيب والألم ، وسيرسلك إلى هناك حيث تعيش
وتعاني وتحترق وتختنق وتصيح وتصرخ إلى أبد الابدين وإلى نهاية الزمن ... ولكنه يحبك
" . جورج كارلتن .( ص : 131 ) .
- كتب كارل ساجان في كتابه ، النقطة
الزرقاء الفاتحة : أعجب أنه لم يحصل قط أن نظر دين ما إلى العالم واستنتج أن
" ذلك أفضل مما ظننا . الكون أكبر وأعظم كثيرا ، بل وأدهى وأشد أناقة بكثير مما
أخبرنا عنه الأنبياء " . وبدلا من ذلك يقولون : " لا ، إلهي هو ذلك الإله
الصغير ، وأريد أن يكون كذلك . لو أن دينا ما ، قديما أو حديثا قد أصر بشدة على الدهشة
بعظمة الكون كما كشفه العلم الحديث لحصل ربما على احتياطي كبير من التقديس وبدون أي
ضرورة لوجود أي نوع من الإيمان التقليدي المتعارف عليه ." .( ص : 10 ) .
- وعن أينشتين ينقل الكتاب :
" أنا لا اومن بالإله الشخصي ... لو كان في داخلي شيء من الممكن دعوته بالدين
فهو الإعجاب الغير محدود ببناء الكون بقدر ما أمكننا الكشف عنه بالعلم حتى الآن
." و " ما أراه في الطبيعة هو بناء مدهش ونحن نفهمه بشكل ناقص على أحسن الأحوال
، هذا ما يملأ المفكر بالتواضع . هذا بشكل عام شعور تدين بدون أن يكون له علاقة بالروحانيات
. فكرة الإله الشخصي فكرة غريبة تماما عني ، بل وأعتبرها ساذجة أيضا ." ( ص :
12 ) .
وإذا أردنا أن نرسم صورة واضحة المعالم لذلك الإله
، المرفوض ، إلحاديا - كما تشير العبارات السالفة - فستكون ملامحها كالاتي :
1- إله شخصي ، غيبي ، ميتافيزيقي
. له طبيعة لا تنتمي لطبيعة الكون .
2- إله شخصي ، منعزل عن الكون ، وبالرغم
من كونه خالق الكون ، والمتدخل في تغيير مساره ، في كثير من الأحيان ، إلا أن تدخلاته
- سواء في نقطة بداية الخليقة ، أو أثناء مسار الخليقة - لا يمكن فهمها إلا في سياق
طلاقة قدرته ( omnipotence ) ، فهو يستطيع أن يصنع أي شي بكلمة " كن فيكون " ، دون
إحتياج لإظهار منطقية تدرج وتطور حدوث الأشياء .
و كلمة " شخص " ، التي يصطبغ
بها الإله - في هذا السياق - تأتي من منظور اقتران الشخص بالآخر . فهو بالنسبة للكون
آخر ، والكون بالنسبة له آخر ، في ذات الوقت . الآخرية تعني العزلة والتميز والإستقلالية
، ومن المستحيل الجمع بين الوجودين في وجود واحد .العزلة ، هنا ، هي ذات طابع مزدوج
. فبقدر كون الخالق في عزلة واستقلالية ، فالخليقة ( الكون ) ، هي أيضا في عزلة واستقلالية
.
3- إله شخصي ، يتسم بكل ما هو تضخيم
لنرجسية الإنسان وعزلته وأوهامه بل وأمراضه النفسية . فهو الشخص الحلم ، أو- إن شئت
- الكابوس ، الذي يملي إرادته على البشر ، ومن أطاعه نال ثوابه ، أما من عصاه فقد نال
عقابه . للأسف الشديد ، أجدني مضطرا للإعتراف بأن هذه الصورة الفاسدة عن الله قد تم
انباتها و تغذيتها وازدهارها في أحضان فكر ديني عقيم يفتقد القدرة ، تماما على التعاطي
مع النص المقدس ، بغية تأويله تأويلا صحيحا ، من منظور كلي شامل ، يتعامل بحكمة مع
الصور والإشارات والرموز ، ليستطيع تسكين كل مفردات النص ، في الفسيفسائية الرائعة
، التي تظهر صورة الله ، كما ينبغي أن يكون ، وكما أعلن هو عن ذاته ، في كلمته .
في اعتقادي أن هناك ثلاث نقاط مترابطة
ومتداخلة ، في هذا السياق :
1- علاقة الخالق بالخليقة
لا يعرف اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي
الشرقي - وتحديدا جيل الأساتذة ، وعلى رأسهم القديس أثناسيوس - ذلك الفصل المأساوي
بين الخالق والخليقة ، الذي تتبناه نظرية الإله الشخصي الغيبي ، الذي يتعاطى معه الملحدون
. فالخالق في هذه الصورة البائسة هو كيان خارق لا يدير خليقته إلا من بعيد ، دون أدنى
شركة معها ، أما الخالق في اللاهوت المسيحي فهو كائن في خليقته ، وخليقته كائنة فيه
. لا وجود للكون بمعزل عن حضور الله ، فيه . وأما ذلك الفصل المأساوي ، فلا يعني -
في لغة اللاهوت المسيحي - إلا العدم والفناء . ولمن يريد المصطلحات ، فنحن لدينا تعبيران
مهمان في هذا الصدد ، يمثلان وجهين لعملة واحدة : 1- " panentheism "، أي أن الكل موجود في الله
. الكون بجملته ، بكل أجزائه ، قائم في الله . 2- " omnipresence
" ، أي أن الله حاضر في الكون بجملته ، بكل أجزائه .
2- ماهية الوجود الإلهي
لا يعرف اللاهوت المسيحي ذلك الوجود
المغلق ، الذي للإله الشخصي الغيبي ، الذي يتعاطى معه الملحدون . فالله في اللاهوت
المسيحي ليس وجودا مبهما معزولا بل هو وجود شخصي قائم في شركة الثالوث . قائم في شركة
الحب التي يتحقق فيها وجوده ، سرمديا .
- وجود الله حقيقة ، في الفكر المسيحي
، لأنه يصدر ذاته في حركة مطلقة وفعل سرمدي ، ولا يوجد له مصدر آخر ، من خارجه . وهذا
ما يعنيه أن الله " آب " .
- وجود الله حقيقة ، في الفكر المسيحي
لأنه يتقبل من ذاته كل ملئه ، وليس من آخر ، سواه ، في حركة مطلقة وفعل سرمدي ، وهذا
ما يعنيه أن الله " ابن " .
- وجود الله حقيقة في الفكر المسيحي
، لأنه شركة حياة روحية ، ذاتية ، بين عطاء الآب وقبول الابن ، في حركة مطلقة وفعل
سرمدي ، وهذا ما يعنيه أن الله هو " الروح القدس " .
.عقيدة الثالوث المسيحي لا تعني تعددا
للآلهة ، بل تعني كشفا لما يليق أن يكون الله إياه ، فهو كيان ديناميكي ، يكتفي ، في
ذاته ، بذاته ، في شركة حركة عطاء الحب المطلق ، التي فيها يحقق وجوده الذاتي .
. وجود الكون - في اللاهوت المسيحي
، هو مستوى معين لتجلي الله ، فالكون كشف لصورة للثالوث الحاضر فيه . فالحب الإلهي
الكائن في شركة الثالوث قد استعلن حينما صار الله خالقا ، أي حينما أعطي ( بضم الهمزة
) الابن - الكلمة ، اللوغوس - إلى الكون ، فظهر الكون موجودا بحضور الكلمة فيه . الكون
بروعته ، تلك السيمفونية المبهرة التي تدهش العلماء أمثال أينشتين وداروين ، ما هو
إلا ظهور ، وكشف ، وتجلي لحضور اللوغوس ، الابن الوحيد . لا يدرك أينشتين وداروين أنهما
لا يندهشان من كيان مستقل عن جابله ، بل من شخص كوني يتجلى في كل مفردات السيمفونية
الكونية ، ذلك الشخص الذي هو بمثابة المعزوفة والمايسترو ، بآن واحد . منظومة القوانين
الطبيعية التي تحكم حركة الكون ، منذ ظهوره وحتى تلاشيه ، هي كشف وتجلي لحضور شخص اللوغوس
، العقل والمنطق الإلهي ، المعطى إلى الكون - من الاب - ليصير كونا ، بحضوره فيه ،
وحينما ينهي الكلمة حضوره في الكون ، يتلاشى الكون .
. حينما أعطى الآب كلمته إلى الكون
، ليصير ذلك الكون الذي نعرفه ، فقد كان ذلك بمثابة تدبير مرحلي يستهدف غاية أعظم وهي
أن يصير اللوغوس عطية أبدية ، بأن يصير الكون موجودا الى الأبد في شركة الثالوث . وهذا
ما يعني ، في لغة الفكر المسيحي ، نعمة تبني الإنسان من قبل الاب ، أي صيرورة الإنسان
إبنا للاب باتحاده بالابن في الروح القدس .
الكون في الفكر المسيحي هو مجال لحضور
الله ، وفصل الكون عن الله ، هو أشبه بفصل النفس الإنسانية ، الشخصية ، عن الجسد الإنساني
، الأمر الذي يعني الموت . فكما أن الجسد الإنساني ، البيولوجي هو التعبير المادي عن
النفس ، ذات الوجود الشخصي ، فإن الكون المنظور هو التعبير المادي عن حضور الله ، وفصل
الكون عن الله هو انهيار ، وعودة الكون إلى العدم
استحالة البرهان العلمي على وجود الإله الشخصي
الغيبي
1- منطقيا
بالرغم من أن لفظة " الإله
" في الفكر الإلحادي لا تعني أكثر من " الخالق ذو الوجود الشخصي " ،
إلا أن الإله الذي يكفر بوجوده الملحدون هو غائب تماما عن الكون ، هو من طبيعة أخرى
غير قابلة للحضور - أو الانسجام - في الخليقة . هو الخالق المتعالي والمنعزل عن خليقته
. هو الخالق الخارق الذي أوجد الكون من العدم ، من بعد ، وهو ليس ظاهرا- بأي حال من
الأحوال - في هذا الكون.والآن ، لنا أن نسأل : هل يستطيع أي بحث علمي - في إطار العلوم
الطبيعية - أن يرصد وجود هذا الشخص الخفي ؟ إن أي بحث ، في أي مكان في الكون ، بأي
وسيلة علمية مادية - عن وجود الله - هو بحث في المكان الخطأ ، بالوسيلة الخطأ . أنت
قد حكمت مسبقا - وافترضت - بأن الغرفة مظلمة تماما ، فبخصوص أي نور تحاول اقناعي ،
أن نبحث فيها ؟!.
يعتقد دوكنز بأن مسألة وجود الله هي
مسألة علمية ، كأي مسألة أخرى ، ويضعها تحت بند " اللاأدرية المؤقتة عمليا
" . أي أنها مسألة لا يمكن الحسم - علميا وعمليا - فيها ، الآن ، ولكن يوما ما
- حسب إعتقاده - سوف يتم حسم الأمر . ولكنني أعتقد بأن على دوكنز أن يعيد تقييم موقفه
فالأجدر هو تبني موقف " اللاأدرية الدائمة بالمبدأ " أي المسائل التي من
المستحيل حسمها علميا . هذا ليس تعسفا ، فبخصوص أي مسألة أخرى فإن " جزء من الكون
" وهو العلماء ، يقوم بالبحث عن " جزء آخر في الكون" - أي ضالتهم المنشودة
، التي يسعون لرصدها ، عمليا وعلميا - بواسطة آليات وتقنيات هي " أجزاء أخرى من
الكون " . أما في ما يخص مسألة وجود الإله الشخصي الغيبي - المنعزل عن الكون
- فالأمر أشبه بالبحث عن جهاز " الريموت كونترول "، داخل الجهاز نفسه الذي
يتم تشغيله بواسطة ذلك الريموت كونترول . . محاولة إثبات وجود الإله المستقل عن الخليقة
، ببراهين وطرق تنتمي للخليقة ، هي محاولة غير منطقية ، ومن المستحيل أن تصيب نجاحا
.
يحاجج دوكنز بأن القول باستحالة البرهان
على وجود الله ، هي بمثابة إلقاء عبء إثبات عدم وجود الله ، على المتشككين ، بدلا من
إلقاء عبء البرهان - على وجوده - على العقائديين ، وفي هذا قد تبنى دوكنز التشبيه الذي
أتى به برتراند راسل ، إذ يدعي بأن الأمر أشبه بالإدعاء بأن هناك إبريقا صينيا ، للشاي
، يقع بين الأرض والمريخ ، ويدور في مدار إهليجي حول الشمس . وبالطبع سوف يستميت المدعي
في القول بصغر هذا الإبريق ، إلى الحد الذي لا يمكن رصده بأي من التلسكوبات . الأمر
الذي يؤدي بالمتشككين ، في النهاية ، إلى أن يعلنوا أنهم " لا إبريقيين
"! .
ولكنني أعتقد بعدم صحة تطبيق هذه الصورة
على مسألة " إستحالة البرهان العلمي على وجود الله " ، فالإبريق - كما افترضه
راسل - هو جزء من المنظومة الكونية ، ومن حيث المبدأ فإنه من الممكن أن تظهر تقنية
علمية - يوما ما - تستطيع أن ترصد وجوده . أما شخص الإله - الذي يرفضه الملحد - فهو
شخص مستقل تماما عن الكون ، وليس هناك أي إحتمال للعثور عليه - من حيث المبدأ- في أي
مكان بالكون أو في أي مدار إهليجي ، كما هو محتمل بالنسبة لإبريق راسل !.
.الإستحالة المنطقية في البرهان على
وجود الإله الشخصي ، المرفوض من الملحدين ، هي بكل بساطة أنك من المفترض أنك لن تعثر
على إله قد إفترضت الإنقطاعية بينه وبين الكون ، فعلاقته بالكون هي علاقة إختراق ،
غير منطقية . هذه هي الفجوة التي لا يمكن عبورها في مسار البرهان على وجود الله الشخصي
.
2- لاهوتيا
عندما يعتبر البرهان العلمي على وجود
الله أمرا مستحيلا من منظور اللاهوت المسيحي ، فإن هذا الطرح يعتبر واقعيا بالنسبة
لصورة الله كما يرسمها اللاهوت . فبحث الإنسان عن الله ، في الكون - من منظور الطرح
اللاهوتي السابق - هو رصد للحركة التي تحمل الكون ، من قبل عنصر من عناصر الكون ، المتحرك
، أي الإنسان . والسؤال هو : هل يجوز علميا أن يكون راصد الحركة مستوعبا في الحركة
؟ والإجابة هي : بالتأكيد لابد أن يستقل راصد الحركة عن مسار الحركة . ومن هنا فرصد
الخليقة للخالق ، كشخص مستقل عنها ، هو أمر غير ذي معنى ، وعلى الأقل هو درب من المستحيل
.
نجاعة حل اللاهوت المسيحي
1- المؤمنون : الذين يؤمنون بالإله
الشخصي الغيبي ، خالق الكون ، الخارق ، الذي يدير الكون ويدير البشر ويتعامل معهم من
خلال ما قد أوحى إليهم به بواسطة رسله .
2- الإلوهيون : الذين يؤمنون بوجود
الإله الشخصي الغيبي ، خالق الكون ، الخارق ، الذكي ، الذي يدير الكون ، ولكن لا علاقة
- دينية - له بالبشر .
3- الخلوقيون : الذين يعتقدون بوجود
تصميم رائع للكون ، بمعنى الوجود الكوني الذكي . ولكنهم لا يؤمنون بوجود الإله الشخصي
الغيبي ، خالق الكون ، الخارق، الذكي . وهم يستعملون لفظة " الإله " للإشارة
إلى الكون بقوانينه الطبيعية المدهشة لعقولهم . كأينشتين ، مثلا .
4- الملحدون : الذين لا يعتقدون بوجود
الإله الشخصي الغيبي ، خالق الكون ، الخارق . ولا يعتقدون أن هناك تصميما ذكيا ، مسبقا
- أصلا - للكون . ويعتبر دوكنز أن الإلوهيين هم نوع مخفف من المؤمنين ، بينما يعتبر
أن الخلوقيين هم من مشتقات الملحدين . وإنني أعتقد بأن كل صنف من الأصناف الأربعة هو
لقطة مقتطعة من الصورة الحقيقية ، ولكن عبقرية صورة " الإله " التي يرسمها
اللاهوت المسيحي - كما سبق أن تعرضنا لها - هي في كونها تتمتع بتلك القدرة العجيبة
على استيعاب الجميع ، فاللاهوت - الذي يتعاطى مع الديناميكية الإلهية المطلقة ، التي
للثالوث - قادر أن يتخطى كل الصور الجزئية الإستاتيكية التي تسيطر على أطياف القناعات
البشرية ، التي لكل منها - بلا شك - منطقها ، الذي يجب أن يتم التعاطي معه باحترام
، كسؤال معلق ،يبحث عن إجابة . واللاهوت المسيحي أهل للاضطلاع بذلك :
1- المؤمنون ، بهذه الصيغة البائسة
للإيمان ، لابد أن يمتنون كثيرا للصورة - التي أعتقد بصحتها - التي رسمناها عن الله
في اللاهوت المسيحي . يجب عليهم أن يصححوا اعتقادهم بالإله الذي يؤمنون به ، وللأسف
قد ساهموا - بتصديرهم لهذه الصورة - في إلحاد الملحدين . فالله ليس كيانا شخصيا غيبيا
خارقا ، يدير الكون بأعاجيبه عن بعد ، ولكن الله هو خالق الكون الحاضر في الكون ، والذي
مجرد تخيل عزلته عن الكون هو تخيل انهيار للكون . الخليقة هي مجال إعلان سر الله ،
فالله قد أحب العالم ( cosmos
) إلى الدرجة التي أعطاه فيها ، ابنه الوحيد
، كلمته ، ومنطقه وعقله . هكذا يقول الإنجيل . اذن ، الكلمة خالق الكون ، الذي به كان
كل شيء ، هو معطى ( بضم الميم ) للكون وظهور الكون موجودا لا يعني إلا دوام هذه العطية
. لا يعني إلا أن الخالق حاضر في خليقته ، ومن المستحيل فصله - كخالق - عن خليقته ،
كخليقة . فهو حاضر فيها وهي حاضرة فيه .
2- على الإلوهيين - ذلك الصنف المخفف
من المؤمنين ، بتعبير دوكنز- أن يصححوا تلك الصورة البائسة ، التي صدرها لهم المؤمنون
. فحسنا يؤمن هؤلاء أن الكون مخلوق بواسطة خالق ذكي ، ولكن هذا الخالق ليس كيانا غيبيا
يمكن فصله عن الكون ، فيظل الخالق خالقا ويظل الكون كونا . إن طرح اللاهوت المسيحي
يستوعب اعتقاد الإلوهيين بأن الكون مخلوق بواسطة الإله الذكي - الذي في لغة اللاهوت
، هو المسيح كلمة الله - والطرح اللاهوتي - بأن اللوغوس الخالق هو حاضر في الكون -
بكل أجزائه وبكل تفصيلات حركته ، منذ نشأته وحتى زواله - لا يشكل تناقضا مع ما يعتقدون
بل يمثل اضافة تنويرية تفسيرية . هم قد آمنوا بوجود خالق الكون الذكي ، ولكن ما يعلمهم
إياه اللاهوت المسيحي هو أن هذا الخالق لا يمسك بالريموت كونترول ليبث ذكاءه إلى الكون
، بل هو موجود وحاضر في الكون ، لذلك صار الكون موجودا وحاضرا . أما غيبة تعاطي الله
مع البشر ، كما يرفضها الإلوهيون ، فهي انعكاس لرفضهم لصورة التدين المقيتة التي صدرها
لهم المتدينون ، فالقضية ليست ثواب وعقاب ، ولكنها قصة خلق الإنسان في صورته المثلى
كشريك في الطبيعة الإلهية ، كشخص حي إلى الأبد ، هكذا تبدو البانوراما الكونية الرائعة
، كما يرسمها المبدأ الإنساني الذي يتبناه الطرح اللاهوتي ، وفي ذات الوقت لا يتناقض
إلا مع مفهوم فاسد عن التدين ، أوحى به لهم المتدينون .
3- الخلوقيون ، أيضا ، مستوعبون داخل
الصورة - الصحيحة - التي يرسمها اللاهوت المسيحي ، ويتفق الطرح اللاهوتي معهم في أن
" الإله الشخصي الغيبي المنعزل عن الكون " ، لاوجود له ، فهو حاضر في الكون
بالطريقة التي تعني أن انفصاله عن الكون هو اختفاء له كخالق ، واختفاء للكون كخليقة
. وما ذلك الوجود الكوني الذكي إلا تجليا لحضور اللوغوس ، الخالق ، الشخصي ، غير المستقل
وغير المنعزل - كخالق - عن خليقته . ويتفق الطرح اللاهوتي ، أيضا بأن ذلك الوجود الكوني
الذكي ، من المستحيل رصده ، كشخص مستقل .
4- الملحدون ينكرون وجود خالق- شخصي
غيبي - للكون ، وينكر وجوده - أيضا -اللاهوت المسيحي . فالخالق ليس شخصا مستقلا عن
خليقته ، يدير الكون من بعد بواسطة اختراقات طلاقة قدرته .
الكون هو مستوى معين لتجسد الله ، الأمر الذي يتكمل
في تحقق الهدف من خلقة الكون بظهور الكون الجديد ، الكائن جسدا أبديا للمسيح ، الكلمة
المتجسد . هذا هو الطرح البانورامي للكون ، الذي يقدمه اللاهوت المسيحي .
. رفض الملحدين - وعلى رأسهم دوكنز
- لوجود خالق شخصي غيبي ، كان سببا منطقيا لرفضهم وجود تصميم ذكي مسبق للكون . وفي
هذا الصدد فإن دوكنز لا يعتبر التصميم الذكي للكون هو البديل الصحيح للصدفة ، ولكن
ذلك البديل هو الإنتخاب الطبيعي ( natural selection )، الذي أتى به داروين . ويحتفل دوكنز ، بشدة
، بآلية الإنتخاب الطبيعي ويعتبرها أنها تمثل المبدأ الذي رفع مستوى الوعي البشري ،
ليدرك أمورا تتخطى مجرد تطور الحياة البيولوجية فقط . تطور الكون مثلا ، منذ انطلاقه
وحتى ظهور الإنسان ، أي المبدأ الإنساني ( anthropic principle )
. بل يبلغ في تحليقه إلى ذروة ، هي : المبدأ الإنساني ( الأنثروبي ) الفلكي ، أي أنه
حتى لوكان هناك العديد من الأكوان ، فقد قامت آلية الإنتخاب الطبيعي بانتخاب كوننا
، لتتواصل فيه عملية الإنتخاب إلى أرضنا ، لتنتهي إلى الإنسان . ولنا هنا أن نسأل
: هل هل الإنتخاب الطبيعي هو عملية عشوائية ؟ . أليس ما أنتجته تلك الآلية هو هذه الروعة
المدهشة ، في انسجامها واتساقها ، التي تتجلى فى بانوراما شجرة الحياة ، على الأرض
؟
ان آلية الإنتخاب الطبيعي ، الدارويني ، ليست آلية
عشوائية ، فالواقع يصرخ بأنها كانت تستهدف تصميما ذكيا رائعا . إن إنكار وجود التصميم
ليس هو المسألة ، ولكن بأي تصور ينبغي أن ندرك مفهوم هذا التصميم ؟ هذا هو السؤال
. التصميم الذكي للكون ليس مجرد ورقة ، بخطة عمل ظهرت في لحظة بداية خلق الكون ، في
يد الخالق الشخصي الغيبي ، ولكنه كشف وتجلي للخالق الذكي ، اللوغوس الحاضر منذ أول
لحظة في الكون . هو حاضر ، بخطته وتصميمه في كل جزء ، في كل زمان ، في الكون . السيمفونية
الكونية ، قد وضع نوتتها المايسترو الذي يقود الأوركسترا ، بذاته ، فهي ليست عملا عشوائيا
، وليست عملا لموسيقي آخر ، بل هي عمله ، الذي يجسد رؤيته وفكره والذي يتم عزفه بحضوره
، بل بقيادته ، شخصيا
الله الكلمة ، اللوغوس حاضر في الكون ، منذ انطلاقه
في مفردة الإنفجار الكبير ( big bang ) ، وكل مسار حركة الكون - منذ هذه اللحظة مرورا بظهور آلية الإنتخاب
الطبيعي ، حتى ظهور الإنسان ، وحتى الآن - هو مجال لله الحاضر فيه والفاعل بقوانينه
الطبيعية والكاشف لإرادته .
الله الكلمة ، اللوغوس ، الخالق ،
هو المنطق الإلهي الحاضر في الكون ، ومن المستحيل رصده منعزلا عن الكون ، وهو حاضر
في الكون ، حاملا تطوره وتدرجه وتراكمه ومنطقه ، الذي يدهش العلماء .
خلاصة
الإله الذي يكفر به الملحدون هو شخص
غيبي ، مبهم ، مغلق ، خارق ، مستقل عن الكون ، أوجد الكون في لحظة بواسطة طلاقة قدرته
، بطريقة تفتقر إلى المنطق ، وظل منذ هذه اللحظة يدير الكون - من بعد - وفقا لإرادته
، في رسم مساره ، ويدير البشر وفقا لنظرية الثواب والعقاب .هذا الإله مرفوض أيضا من قبل اللاهوت
المسيحي ، ورؤيته في ذلك ، أن الله هو وجود شخصي ، ولكن ليس بمفهوم الشخص ذي الوجود
المغلق ، المبهم ،الغيبي ؛ فهو كائن في شركة عطاء الحب ، الذاتي ، الذي للثالوث . فهو
الذي يعطي ذاته ، لذاته ، في ذاته ، في ديناميكية مطلقة ، وبذلك يحقق وجوده الشخصي
، كما يليق بالله أن يكون . وهو حينما أراد أن يصير خالقا ، فقد أراد بذلك أن يستعلن
مجده الذاتي ، في الخليقة . فأعطى ذاته للكون فصار الكون موجودا ، بحضوره فيه . وما
الكون الطبيعي - الذي ، نحن جزء منه - إلا مرحلة تطورية ، يعقبها تطور أعظم - لا يعرفه
داروين - فيه تتحقق الديمومة الأبدية ، لتلك العطية ، بأن يصير الكون - ممثلا في قمة
هرم وعيه ، الإنسان - موجودا في الله ، والله موجود فيه ، فيستقي الإنسان المخلوق وجوده
ذا الطبيعة غير قابلة للموت وغير القابلة للألم وغير القابلة إلا إلى الشركة ، بالنعمة
، في مجد الألوهة . وفي هذا السياق ، فإن إمكانية رصد
وجود الخالق - مستقلا ومنعزلا عن الكون - من قبل الإنسان - من منظور اللاهوت المسيحي
- هي نوع من الفكر الخرافي .. صورة الإله - المرفوض من الملحدين - هي خرافة قد قام
بترسيمها الفاشلون من المؤمنين .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق