المشكلة
ما يعنيه مفهوم أن النعمة هي كشف للحضور الإلهي في
الخليقة هو أن أي صورة من صور الخليقة إنما تكشف قدرا من الملء بالله بحسب ما تستوعب
صورتها التي تظهر عليها ، كخليقة . ولأن تعبير " الملء " ، بطبيعته يشير
إلى مفهوم كمي تراكمي ، فمعنى ذلك أن للنعمة بعدا كميا يستهدف امتلاء الخليقة إلى القدر
الذي يكشفه النموذج المستعلن في تدبير الله ، في المسيح . وإذا عدنا إلى القديس أثناسيوس
لاسيما كتابه : تجسد الكلمة ، فإننا نرصد تمايز الخليقة ككاشف لذلك التمايز الكمي لحضور
الله ، ككاشف لقدر الملء الذي تعلنه كل صورة من صور الخليقة . فنرصد أن قدرا معينا
من حضور الله في الخليقة قد أظهرها كخليقة طبيعية واستحضرها من العدم . ثم نرصد ثانية
، أن قدرا أعظم ، من الملء ، من الحضور ، قد استعلن في خلقة الانسان ، وهذا القدر من
" النعمة الإضافية " ( بحسب تعبير أثناسيوس ) هو نعمة " مماثلة الصورة
الإلهية ، تلك النعمة التي أظهرت الوجود الإنساني ، العاقل ، الذي له قدر من
" ظل الكلمة " . ثم نرصد - مرة ثالثة - النعمة في تجليها الأعظم ، في تجلي
قمة الحضور الإلهي ، في ظهور الكلمة المتجسد حيث تجلى كل ملء اللاهوت ظاهرا كإنسان
ينتمي إلى الخليقة فظهرت الخليقة الجديدة متألهة فيه .لذلك فإننا نجد في الإنجيل تعبيرات
عديدة تؤكد هذا المفهوم الكمي للنعمة ، فنرصد أن النعمة : متزايدة ، متكاثرة ، متنامية
، متفاضلة ، فائضة ، مالئة . ويكشف النص الإنجيلي أن " كم " النعمة
"( قدر الملء ) يبلغ حده الأقصى في المسيح ، الذي هو الملء الحال في الجسد ، وفيه
يمتلئ الجميع صائرين إياه ، كأعضاء ، إذ هو قد سبق فصار إياهم،كرأس .
نعمة القيامة
مايعوق التوصل إلى تعريف أرثوذكسي صحيح للنعمة هو تلك النظرة الانقطاعية تجاه
مفهوم النعمة . فينظر إليها كما لو كانت هبة هابطة من السماء نحو الأرض . وتنبت هذه
النظرة الانقطاعية من اب شرعي ضارب في التاريخ هو داء الثنائية المقيتة التي تفترض
عزلة الله عن الخليقة وتعاليه عنها وبالتالي تتبنى وجود فجوة رهيبة لا يمكن عبورها
.
والأمر ليس ترفا فلسفيا أو لاهوتيا
، فالأمر جد خطير ، فقد أدى تصور هذه الفجوة إلى ظهور أشنع الهرطقات التي واجهت الكنيسة
. الآريوسية مثلا ، كانت تطبيقا مباشرا لهذا الفصل التعسفي وهذه الانقطاعية ، فقد بدا
الله - في النظرة الآريوسية - متعاليا ومن المستحيل أن يتعاطى مع الخليقة ، وبالتالي
فقد حدث الانحدار الرهيب إلى حد الكفر ، فقد خلق الله كائنا وسيطا هو الكلمة الذي بواسطته
خلق العالم . أما العاقبة الوخيمة التي تنجم عن هذه النظرة إلى النعمة فهي نسف مضمون
النعمة من جذوره ،إذ أصبحت النعمة شيئا إضافيا
غريبا غير منسجم مع طبيعة الخليقة ومرتبط بها ، فقط ، من الخارج ، فعن أي مفهوم للنعمة
نتحدث ؟ ! ، فما هو مرتبط من الخارج هو زائل بطبيعته ، فما بالنا إذا كان من طبيعة
غريبة لا علاقة لها بالخليقة .وتبلغ الطامة الكبرى ذروتها بالإجهاز على لاهوت الأسرار
وضربه في مقتل وذلك حينما ينظر إلى الأسرار كوسائط للنعمة . وهنا نكون قد أرتددنا ثانية
إلى أعمال الناموس العتيق . هنا نكون قد أعلنا التصفية النهائية لمفهوم النعمة .
بنية النعمة
بالتأكيد ، النعمة حدث إلهي ، ولكنها
ليست حدثا في الفراغ ، هي حدث في الخليقة ، هي حدث تكشفه الخليقة ، هي كشف واستعلان
للحضور الإلهي في الخليقة ، هي استعلان لحضور الثالوث القدوس في الخليقة ، وبحسب القديس
أثناسيوس فإن النعمة هي واحدة " من الآب بالابن في الروح القدس " . إذن غاية
النعمة هي كشف الخليقة كصورة للثالوث . وتعبير " الحضور " هو تعبير
في غاية الأهمية ، والقارئ المدقق لكتاب " تجسد الكلمة " للقديس أثناسيوس
الرسولي يكتشف أن خيط المسبحة الذي يضم كل لآلئ التعبيرات الخاصة بمفهوم النعمة هو
" حضور الكلمة" . للنعمة بنية ظاهرها الخليقة ، على ما تبدو عليه ،
وباطنها الحضور الإلهي ذاته . النعمة حالة من الاحتواء ( التواجد) المتبادل بين حضور
الله في الخليقة وظهور الخليقة ، كخليقة .
مستويات النعمة : البعد الكمي للنعمة
وفي ما يلي بعض الاقتباسات الإنجيلية التي لا تحتاج
إلى مزيد من التعليق ، ونوردها بحسب ترتيبها الكتابي :
- وأما يسوع فكان " يتقدم " في الحكمة والقامة
والنعمة، عند الله والناس"( لو :52 )
- والكلمة صار جسدا وحل بيننا ( فينا
) ، ورأينا مجده ، مجدا كما لوحيد من الآب ، " مملوءا " نعمة وحقا . . .
ومن " ملئه " نحن جميعا أخذنا ، " ونعمة فوق نعمة " . لأن الناموس
بموسى أعطي ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا . ( يو 1 : 14 - 17 ) .
- لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد
، فبالأولى كثيرا الذين ينالون " فيض " النعمة وعطية البر ، سيملكون في الحياة
بالواحد يسوع المسيح ! ... وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية . ولكن حيث كثرت الخطية
" ازدادت " النعمة جدا . حتى كما ملكت الخطية في الموت ، هكذا تملك النعمة
بالبر ، للحياة الأبدية ، بيسوع المسيح ربنا . ( رو 5 : 17 - 21 ) .
-لأن جميع الأشياء هي من أجلكم ، لكي تكون النعمة
وهي قد " كثرت بالأكثرين " ، تزيد الشكر لمجد الله . لذلك لا نفشل ، بل وإن
كان إنساننا الخارج يفنى ، " فالداخل يتجدد يوما فيوما " ( 2 كو 4 : 15
- 17 ).
- والله قادر أن " يزيدكم كل نعمة "، لكي
تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء ، تزدادون في كل عمل صالح . ( 2كو 9:
8 )
- وأخضع كل شيء تحت قدميه ، وإياه جعل رأسا فوق كل
شيء للكنيسة ، التي هي جسده ، " ملء الذي يملأ الكل في الكل " . ( أفس 1
: 22 و 23 ) .
- لكي يعطيكم بحسب غنى مجده ، أن تتأيدوا
بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم ، وانتم متأصلون
ومتأسسون في المحبة ، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ، ما هو العرض والطول
والعمق والعلو ، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة ، لكي " تمتلئوا إلى كل
ملء الله " . ( أفس 3 : 16 - 19 )
.
- الذي نزل هو الذي صعد أيضا فوق جميع
السماوات ، " لكي يملأ الكل " . وهو أعطى ... لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة
، لبنيان جسد المسيح ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله .
إلى إنسان كامل . " إلى قياس قامة ملء المسيح ". ( أفس 4 : 10 - 13
)
- فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه ، متأصلين
ومبنيين فيه ، وموطدين في الإيمان ، كما علمتم ، " متفاضلين فيه "بالشكر
... " فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا . وأنتم مملوؤون فيه " ، الذي هو
رأس كل رياسة وسلطان . ( كو 2 :6 - 10 ) .
التعبيرات المختلفة عن النعمة
المضمون الذي تكشفه وتعلنه النعمة
هو حدث وفعل واحد ، هو امتلاء الخليقة - ممثلة في الإنسان - بانتمائها العضوي لشخص
المسيح ، ليبقى الرب يسوع الكلمة المتجسد رأسا ومصدرا لهذا الكيان .
ولدينا في اللاهوت المسيحي ، كما في
الإنجيل ، بطبيعة الحال ، العديد من التعبيرات التي توصف النعمة التي نالتها البشرية
في المسيح، من زوايا مختلفة
وفي ما يلي بعض من التوصيفات المختلفة،
لحدث النعمة الواحد:
نعمة الحياة الأبدية
" اهتموا
بما فوق لا بما على الأرض ، لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله . متى أظهر
" المسيح حياتنا " ، فحينئذ تظهرون أنتم أيضا معه في المجد.( كو 3 : 3 و
4)
" ولكن الآن قد قام المسيح من
الأموات وصار باكورة الراقدين . فإنه إذ الموت بإنسان ، بإنسان أيضا قيامة الأموات
. لأنه كما في آدم يموت الجميع ، " هكذا في المسيح سيحيا الجميع " . ولكن
كل واحد في رتبته : المسيح باكورة ، ثم الذين " للمسيح " في مجيئه . ( 1كو15:
20- 23 )
نعمة التجديد والخليقة الجديدة
" إذا إن كان أحد " في المسيح
" فهو خليقة جديدة : الأشياء العتيقة قد مضت ، هوذا الكل قد صار جديدا . ولكن
الكل من الله ، " الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح " ... أي إن الله كان
" في المسيح " مصالحا العالم لنفسه . ..( 2كو 5 : 17 - 19 )
نعمة التبني
... إذ سبق فعيننا للتبني " بيسوع
المسيح لنفسه " ، حسب مسرة مشيئته ، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا
" في المحبوب ،...( أفس 1 : 5 و 6 )
نعمة
الخلاص
" لأنه لاق بذاك الذي من أجله
الكل وبه الكل ، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد ، أن يكمل " رئيس خلاصهم بالآلام"
. لأن المقدس والمقدسين " جميعهم من واحد " ، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم
إخوة ، قائلا : " أخبر باسمك إخوتي ، وفي وسط الكنيسة أسبحك " .( عب 2 :
10 – 12 )
نعمة الفداء وغفران الخطايا
... الذي " فيه" لنا الفداء
بدمه ، غفران الخطايا ، حسب غنى نعمته ، التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة ، إذ عرفنا
بسر مشيئته ، حسب مسرته التي قصدها " في نفسه " ، لتدبير ملء الأزمنة ، ليجمع
كل شيء " في المسيح " ، ... ( أفس 1 : 7 – 9 )
النعمة والسر الكنسي
السر الكنسي هو سر وجود وتحقق الكنيسة
، هو سر عبور الكنيسة من صورة الخليقة الطبيعية إلى ملء هذه الصورة ، إلى الخليقة الجديدة
بالتموقع في المسيح .وما تختبره الكنيسة في عبورها المستيكي إلى المسيح هو أن السر
الكنسي حدث تراكمي فيه تتعاظم وتتنامى وتتراكم النعمة حتى الملء ، حتى المسيح .في الإفخارستيا
يتجلى هذا الفعل التراكمي ، على مستويين في تواز وتلازم بيني : مستوى الفرد ومستوى
الجماعة . بمجيء الأعضاء يمتلئ شخص المسيح ، وتبلغ تراكمية النعمة قمتها في اكتمال
امتلاء المسيح بجميع أعضاء جسده ، بمجيء الرب في كنيسته المكتملة . ولعل أفضل توثيق
راصد لمستيكية هذا الحدث هو ماورد في عبارة الرسول بولس عن الإفخارستيا : " فإنكم
كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس ، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء ." (
1كو 11 : 26 )
تعبير " وسائط النعمة "
لعل من المفاهيم السيئة ، التي أعتورت
لاهوت الأسرار جراء تأثير لاهوت العصر الوسيط ، ذلك المفهوم الذي يتبنى أن الأسرار
هي وسائط للنعمة . وخطورة هذا المفهوم هي في تصفيته لمفهوم السر الكنسي من جذوره كما
في تضييع مفهوم النعمة ذاته .فالنعمة بطبيعتها هي وسائطية ، كما أن السر بطبيعته هو
نعموي . وسائطية النعمة هي في كونها كشفا لعلاقة احتواء متبادل بين حضور الله في الخليقة
وظهور الخليقة ، كخليقة . وتبلغ وسائطية النعمة قمة تجليها في شخص " الوسيط الواحد
بين الله والناس : الإنسان يسوع المسيح ." ( 1تي 2 : 5 ) ، الذي يحل فيه كل الملء
وفيه تتجلى قمة ورأس النعمة .ونعموية السر هي في كونه عبور ديناميكي حي فعال بقوة الروح
القدس ، إلى الملء ، إلى المسيح . لذلك فإن تبني مفهوم يقضي بأن الأسرار هي وسائط للنعمة
، إنما يختزل السر في طقوسيته ، في علامته الظاهرة وبالتالي يفرغ السر الكنسي من مضمونه
. كما أنه يفرغ النعمة من مضمونها بإقصائها عن الخليقة وجعلها تبدو كحدث خارجي يحدث
للخليقة بطريقة تعسفية ، ميتافيزيقية ، وليس كما هو مفترض ، أن تكون امتلاءا للخليقة
وظهورا لها في صورتها المثلى التى جبلت عليها ، والتي هي مطبوعة فيها وتتحرك نحو الملء
، نحو المسيح .
كنسية النعمة
الحدث الذي تكشفه النعمة للفرد الإنساني
ليس عملا من أعمال التقوى الفردية ، فلا ينمو الإنسان في النعمة ليصير شخصا مستقلا
يحيا إلى الأبد منعزلا ، بل ينمو ليصير عضوا في جسد المسيح ، وفيما يمتلئ كعضو يتكرس
له الإنتماء إلى سائر الأعضاء ويتكرس للجميع الإنتماء إلى الرأس ، الرب يسوع المسيح
، الكلمة المتجسد . وعليه فامتلاء العضو هو في سياق امتلاء الجسد ومجيء العضو هو في
سياق مجيء الكيان الكامل ، مجيء الرب في كنيسته .النعمة حدث ينطلق من الكلمة المتجسد
ليخترق الزمان والمكان اللذين للخليقة الطبيعية ، في مسار يستهدف تحقيق وإظهار الكنيسة
كمصير نهائي ممتلئ للكون .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق