بنية الوحي
" يقول
القديس بولس الرسول بالروح " كل الكتاب
هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر ، لكي يكون
إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل صالح " (2تي 3 : 16و17) . ويقول القديس بطرس بالروح أيضا "
وعندنا الكلمة النبوية وهي اثبت التي تفعلون حسنا أن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير
في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم ، عالمين هذا أولا أن
كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص ، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس
الله القديسون مسوقين من الروح القدس " (2بط19:1-21)
وقد ورد النص الإلهي في قوله " كل الكتاب هو
موحى به من الله " في اليونانية هكذا " : pasa graphi theopneustos"
"، وكلمة " موحى به " كما وردت
في اليونانية " ? - theopneustos
- ثيؤبنوستوس " ، وتعنى حرفياً " نفس الله - divinely breathed " أو " الله تنفس -
God-breathed" . وتنفس الله هنا هو كلمته ويساوى قول الرب يسوع المسيح،
" مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " (مت4:4)
. وقد وردت أيضاً في سفر أيوب في العبرية " نسمه "، " نسمة القدير " ، " ولكن
في الناس روحاً ونسمة القدير تعقلهم
" (أى8:32) . وهذا يعنى أن كل ما تكلم ونطق به الأنبياء والرسل وكل ما دونوه في
الأسفار المقدسة ، كل أسفار الكتاب المقدس ، هو " نفس الله " ، " ما
تنفس به الله " ، " كلمة الله " التي تكلم بها بواسطة ، أو عن طريق
، أو من خلال أنبيائه القديسين . ومن ثم فقد ترجمت هكذا : All Scripture is God-breathed كل الكتاب المقدس هو ما تنفس
به الله
وقد وردت كلمة " مسوقين " في اليونانية في قوله " أن كل نبوة
الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأت نبوة
قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس " (2بط19:1-21)
، " pheromenoi -
فيرومينوى " وتعنى محمولين أو مسوقين ، من الفعل " phero - فيرو " والذي يعنى " يحمل ، أو يسوق
" وتؤكد في قوله " تكلم أناس الله القديسون مسوقين ( محمولين ) من الروح القدس " أن الروح القدس كان يحملهم ويسوقهم
ويتكلم على لسانهم وينطق بأفواههم ب " كلمة الله " ( القس عبد المسيح بسيط
- الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه).
والآن لنا أن نتساءل : ماذا يعني أن
" الوحي " هو " أنفاس الله " ، وماذا يعني أن كلمات الوحي قد كتبت
بواسطة قديسي الله " المحمولين بروح الله " ؟ الإجابة الوحيدة الصحيحة هي
أن بنية وطبيعة الوحي الإلهي هي " حضور الله ذاته في خليقته " ؛ فالله الحاضر
في خليقته ، والذي بحضوره يقيم الخليقة ، هو ذاته يخاطب خليقته معلنا لها ذاته . ليس
الوحي - في المسيحية - مفهوما انقطاعيا كأن
يتنزل على البشر كتاب من السماء ، كما في الإسلام مثلا ، بل أن الروح القدس الحامل
لكل شيء في العالم ، هو ذاته الذي يحمل كتبة الوحي في كتابتهم للوحي . وفي ذلك فإن
الروح يحمل الكاتب بتاريخه وثقافته وهويته
فتخرج كلمات الوحي المعجونة بالروح - والمعبرة عن ذهن الله - معبرة أيضا عن شخصية وأسلوب الكاتب ولكن في سياق
موحد يرسمه الروح من أول الكتاب المقدس لآخره
. التصور الفاسد - الذي يعود للثنائية القديمة - بأن الله منعزل عن الكون ،
وبينه وبين خليقته فجوة وهوة عظيمة لا يمكن عبورها ، هو الذي يفرض على الذهن نوعا من
الوحي " الإملائي ، أو حتى " التنزيلي " ، إذ أن الهوة المفترضة بين
وعي الكاتب ومصدر الوحي ( الله ) لا يمكن عبورها إلا تعسفيا من قبل الله . مثل هذا
الفكر لا يعرف أصحابه معنى أن يكون الإنسان " في الروح " ، ومعنى أن يكون
الإنسان مملوءا بروح الله فتتكشف أمامه الحقيقة الإلهية ، موضوع الوحي ، فيصوغها بكلماته
، التي تظل أيضا كلمات الله . ولم لا ، أليست منظومة الوحي هي : " إنسان الله
" يكتب " كلمات الله " محمولا
" بروح الله " ؟
مفهوم "هرم الوحي "
الروح القدس ، الذي يحمل كتبة الوحي هو ذاته الذي
كان حاضرا " يرف على وجه المياه " في بدء حدث الخلق ، وكان وجوده - هكذا
- هو المناسبة التي قال الله فيها " ليكن نور " ، فكان نور .( تك1 : 2و3
) .في الروح القدس ظهر الكون من العدم . وأنفاس
الله ، التي هي مضمون وجوهر كلمات الوحي ، كانت حاضرة في خلقة الإنسان الأول ، كانت
منفوخة في أنفه ، كنسمة حياة ، فصارآدم نفسا حية ( تك2 : 7 ) .
الخليقة
إذن بجملتها هي مجال لإعلان سر الله الحاضر فيها . الخليقة كلها عبارة عن "حالة متصلة من الوحي
الإلهي "(إذا جاز التعبير ). المسيح -
شخص الكلمة الكائن في الكون منذ أول لحظة لظهور الكون ، والمستمر في حضوره حتى
لحظة نهاية الكون - هو محور حركة تاريخ الكون ومحور - وهدف - تطوره . وما يثمره الكون
- في كل تاريخه - هو شخص المسيح الممتلئ بالكنيسة . هذا هو الكون الجديد ، الخليقة
الجديدة ، السماء الجديدة والأرض الجديدة . والأمر أشبه بهرم ، قاعدته هي الكون بكل مافيه من جمادات وحيوانات . ثم يأتي
الإنسان ويمثل طبقة أخرى - من الهرم - قد استعلن
فيها " كم " أعظم من الحضرة الإلهية بظهور العقل البشري ، " ظل الكلمة
" ( بحسب أثناسيوس ) . ثم يأتي
" الوحي الإلهي " ليمثل طبقة أكثر ارتفاعا ، من طبقات الهرم ، وقد
استعلن فيها لشريحة من البشر أعلان أكثر وضوحا
عن الله المتجسد في البشر . ثم يأتي ، كقمة للهرم ، نفر من البشر المدعوين - الذين
قبلوا كلمات الوحي - قد استعلن فيهم المسيح جاعلا منهم جسدا له ، مكملا بهم ذاته ،
ليصل الأمر هنا إلى قمة تجلي الإعلان الإلهي ، قمة هرم الوحي .
كلمة الله : " الشخص " ، و " الوحي "
والمسيح ، شخص الكلمة المتجسد ، هو
محور وهدف الكتاب المقدس ، محور وهدف " الوحي الإلهي " . الكتاب من أول كلمة
في سفر التكوين ، إلى آخر كلمة في سفر الرؤيا ، ليس له موضوع آخر يشير إليه غير شخص
المسيح . والقضية ليست مجرد إشارات أو نبوات
أو رموز ، فالموضوع أكبر من ذلك بكثير ، فكلمات الوحي هي " كلمة الله " هي
" المسيح ذاته " مجسدا في مايمكن أن يدركه وعينا ، في المسيح ، عن المسيح
. والمعنى المقصود هنا تحديدا وبوضوح هو أنه من المستحيل الوصول إلى تأويل أو شرح نهائي
لكلمات الوحي ، في هذا العالم وفي هذا الجسد . من المستحيل الوصول بالمعاني إلى حدها
الأقصى ، في هذا العالم وفي هذا الجسد . فالتأويل الصحيح النهائي للكتاب ، كل الكتاب
- بتاريخه وقصصه ورجالاته ، وأقواله - هو شخص المسيح ذاته . وفقط في المسيح ، حينما
نرتحل إلى الملكوت ، فقط هناك نستطيع أن نقول أننا أدركنا مضمون كلمات الوحي ، أدركنا
شخص المسيح وتموقعنا فيه . فقط في المسيح تتماهى
" كلمة الوحي" ، المكتوبة مع " كلمة الله " ، الشخص الواحد المستوعب
للكنيسة ، فيصبح شخص المسيح هو المضمون الحقيقي
النهائي للوحي ، الذي فيه قد كلمنا الله . يقول الرسول بولس : " الله بعد
ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة
" كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه " الذي جعله وارثا لكل شيء
الذي به أيضا عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته
( عب1 : 1- 3 ). وأيضا كما يقول الرسول بطرس ، في ( 2بط 1 :19 - 21 ) بأن الكلمة النبوية - كلمة الوحي
المكتوبة ، والمحمول كاتبها بالروح القدس - هي - الآن - بمثابة سراج منير في موضع مظلم
ولكن مصيرها ومستقبلها - وامتلاءها وتأويلها - هو
كوكب الصبح ( المسيح ) الذي ينفجر نوره
ونهاره في قلوب أعضاء الكنيسة .أي أن مستوى التأويل المتاح لنا الآن - في هذا العالم
- بخصوص كلمات الوحي لايتخطى مجرد سراج منير
في موضع مظلم أما في المسيح - الذي هو المضمون النهائي للوحي والتأويل الأمثل له
- يتكشف الكتاب نورا مبهرا ويتكشف المسيح ككوكب
للصبح ، يتجلى كل هذا في الكنيسة الكائنة في مسيحها .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق