الأحد، 22 أبريل 2012

تفرد شخص المسيح


  

         يمكننا أن نرصد تفرد شخص المسيح من جهة هويته كشخص يثمره الاتحاد الأقنومي بين عنصرين : الله والإنسان . وأيضا نستطيع أن نرصد تفرد كل عنصر من العنصرين ، على حدة ، كالآتي :
                   1- تفرده كشخص الكلمة المتجسد
     كلمة " شخص " - بالرغم من بساطتها الظاهرة - هي كلمة عميقة جدا ، ويكاد يكون عدم سبر أغوارها هو الباعث الأساسي لجميع الهرطقات التي شكلت تحديا للفكر الخريستولوجي على مر العصور . وليس أدل على ذلك من هرطقة نسطور ، التي كانت تعني بكل بساطة أن الرب يسوع المسيح ليس " شخصا " ؛ فما يعنيه أن للرب طبيعتين - حسب زعمه - هو أننا بصدد " مسيحين " لا مسيح واحد : مسيح اللاهوت ، ومسيح الناسوت .  ولكي ندرك عمق مفهوم " الشخص " وضلوعه في وجودنا أكثر مما نتخيل أو نتصور،  نعود بالقضية إلى أصولها فنناقش بعض الأمثلة :
     - هوية المادة  ،كمادة ، كما نختبرها في هذا العالم وكما كشفها  العلماء   هي ثمرة تواجد متبادل ( أو احتواء متبادل أو ضمنية متبادلة ) بين ظاهر المادة الذي نختبره وندركه بحواسنا وبين باطنها الذي هو منظومة معقدة من القوانين الطبيعية المفعلة بصور مختلفة من الطاقة . المادة والطاقة صورتان ووجهان لعملة واحدة ، وإمكانية تحول صورة إلى أخرى تبقى من أعظم الحقائق التي كشفها العلم ، بفضل عبقرية أينشتين ومعادلته الشهيرة. خلاصة القول هي أن هوية " المادة " - كمادة - هي في "الضمنية المتبادلة " بين ظاهر المادة المحسوس وباطنها الخفي ، وأما فض هذه العلاقة ،  فهو الطريق إلى انهيار المادة وفنائها .
    - أيضا ،هوية الوجود البيولوجي ( الحيواني ) هي ثمرة " ضمنية متبادلة " بين ظاهرمحسوس هو " اللحم والدم " وباطن خفي هو " الفسيولوجي " الذي يستعلن كل مظاهر الحياة البيولوجية ، في منظومة أكثر تعقيدا من القوانين الطبيعية  . وأما فض هذه العلاقة فمعناه الموت البيولوجي .
   - وأيضا هوية الوجود البشري هي ثمرة " ضمنية متبادلة " بين الجسد البشري الظاهر والنفس البشرية العاقلة ، التي تمثل قمة هرم الوعي الكوني ( كبنية معقدة من القوانين الطبيعية ) .الإنسان هو النفس البشرية المستعلنة جسدا بشريا . والإنسان ، أيضا ، هو الجسد البشري المستعلن نفسا بشرية . وأما فض هذه العلاقة من الإحتواء المتبادل بين النفس والجسد فهو " الموت " للنفس وللجسد في ذات الوقت .  إذن الهوية الشخصية هي سر وجود كل ما هو موجود . فالوجود هوية شخصية ، والعدم هواللاهوية واللاشخصية . أما هوية " شخص المسيح "، الكلمة المتجسد فهي قائمة ومحققة كثمرة للاتحاد الأقنومي ( الشخصي ) (  Hypostatic Union) بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوته . وأما قبل - أو بعد - الاتحاد (بالتجسد ) فلا وجود منعزل أو مستقل أو منفصل لأي عنصر من عنصري الاتحاد ، ويظل التعبير الوحيد الصحيح عن الاتحاد الأقنومي هو في قدرتنا أن نكتفي بالقول بأن الرب يسوع هو الله الكلمة ، وهو قدرتنا أيضا بأن نكتفي يالقول بأن الرب يسوع هو الإنسان الكامل ؛ فكلا العبارتين صحيحتان لأن إنسانية الكلمة المتجسد تستوعب لاهوته مثلما يستوعب لاهوت الكلمة المتجسد إنسانيته .وفقط في هذه الضمنية المتبادلة بين العنصرين يتجلى الاتحاد الأقنومي الذي يثمر شخصا هو شخص المسيح . والأمر بخصوص " شخص " المسيح ليس انقطاعيا - كما يبدو في ظاهره - بالنسبة للمفهوم العام الذي رصدناه للشخص في الوجود الطبيعي (الخليقة )، فحقيقة الأمر هي أن شخص المسيح يمثل قمة تجلي مفهوم هوية الشخصية الكونية . فالقضية تبدو مفهوما متصلا (  continuum ) يمكن رصده ؛ فما قصدناه بتعبير " الوعي " الكائن في أعماق المادة ، والمتمثل في منظومة القوانين الطبيعية - والذي يتطور ويتعقد ليبدو وعيا حيا ( في الوجود البيولوجي ) ، ويبلغ ذروة تطوره وتعقيده بظهور الوعي البشري ( النفس البشرية ) - هو ذلك الطيف من الاحتمالات المتصاعدة ، تعقيدا ، لمفهوم الهوية ( الشخص ) والذي يستعلن مستويات متصاعدة من كثافة حضور الكلمة في الخليقة ؛" فكل شيء به كان" وهو حاضر ، وحضوره مستعلن في كل موجود . ومن هنا نستطيع أن نقول بأن ظهور"  شخص " الكلمة المتجسد  في الكون ليس حدثا تعسفيا بل أن ذاك الذي هو حاضر في كل ما يمكن أن نرصده من " شخوص " ، هو ذاته قد ظهر بكل ملء لاهوته في إنسان ينتمي إلى الخليقة . وهنا نستطيع أن نرصد فرقا نوعيا هائلا في مفهوم حضورشخص المسيح، فلم يعد شخص الكلمة حاضرا بصفة مؤقتة في الكون - تدوم باستمرار الكون ، وفقا لاستمرارية حضوره فيه - بل أصبح حاضرا إلى الأبد في اتحاد شخصي لا ينحل لأن الجسد الذي أخذه بتجسده قد أصبح جسده الخاص الذي يتضمن ويستوعب ملء لاهوته . وهنا نستطيع أن نقول بأن شخص المسيح ، الكلمة المتجسد هو " شخص الشخوص " ( إذا جاز التعبير ) ، وهو مآل كل الشخوص والهويات . هو ملء السر الكوني ،الذي كانت كل الشخوص والهويات - التي نستطيع أن نرصدها، والتي لا نستطيع - رمزا له .
                    2- تفرده كشخص الابن  الذاتي
   هنا يحملنا حديث التفرد  إلى الثالوث القدوس لنرصد مفهوما آخرا للشخص . وتفرد شخص المسيح من منظور شركته في الثالوث ، كشخص الابن   ، هو في كونه الابن الوحيد ( monogenis ) ، الذي يقوم وجوده من خلال ضمنية متبادلة مع كل شخص من الشخصين الآخرين ، مع الوضع في الاعتبار أن كل شخص من هذين الشخصين له ذات الجوهر الذي للابن . بمعنى أن الوحدة المقيمة للشخص ليست وحدة بين عناصر متمايزة ، أو مختلفة في طبيعتها وجوهرها - كما في الوجود الطبيعي ، وكما في شخص الرب يسوع ، ذاته - بل هي وحدة وشركة بين من هم لهم ذات الجوهر الواحد ، أي أن كل شخص هو " هوموأوسيوس" بالنسبة لكل شخص من الشخصين الآخرين ، وبطبيعة الحال فإن الابن  "هوموأوسيوس" بالنسبة للآب (Homoousios tou Patri ) . ومن المنظور الإنجيلي هو الابن المونوجينيس لأنه يتفرد بكونه  الوحيد الكائن في حضن الآب ( يوحنا1: 18 ) ، وهو الوحيد الذي استطاع أن يقول عن نفسه :" أنا في الآب والآب في ( يوحنا14: 11 )، فهو لا يصدر من أب له جوهر غير جوهره ، فأبوه الذي يحتويه ويستوعبه، هو في ذات الحدث مستوعب به .  وفي تعريف جامع مانع نستطيع أن نقول بأن شخص الابن الذي تجسد في البشر صائرا مسيحا - وفيه قد مسح الجميع – هو الابن المونوجينيس ( الفريد من نوعه = unique  ) لأنه الوحيد من ضمن من قيل لهم أنهم " أبناء " الذي يقال له  أنه " الابن الذاتي "؛ فمصدره، الذي هو " الآب " كائن فيه ، بينما هو نفسه كائن في أبيه . وفي عبارة أكثر تفصيلا " علة وجود الابن ومصدره كائن فيه ، بالرغم من أن الابن مستوعب ( بفتح العين ) به . والابن كائن في علة وجوده ومصدره ، بالرغم من أن الابن مستوعب (بكسر العين ) له ،وبينما يستوعب الابن أباه ، كابن ذاتي ، يستوعب الآب ابنه ، كأب ذاتي  " .ياللعجب الذي من المستحيل إدراكه بعقولنا المتواضعة جدا ! وينبغي أن لايفوتنا في هذا السياق أن نؤكد على علاقات الابن الذاتي الثالوثية الكاملة ، وليس مجرد اقتصار الحديث على علاقته بالآب .فعلاقة الاحتواء المتبادل التي تجمع الابن بالآب ليست مجرد فكرة فلسفية محلقة في الفراغ ولكنها علاقة شركة شخصية يستعلن من خلالها وجود الجوهر الإلهي الحي ذو الهوية والطبيعة الروحية الفائقة . لذلك فبينما شخصا الآب والابن طرفان في ضمنية متبادلة فإن كل شخص منهما هو طرف في ذات النمط من العلاقة مع شخص الروح القدس ،الذي هو شركة ،لأنه روح الآب - لأن الآب هو علة وجود الروح مثلما هو علة وجود الابن  – وروح الابن ، لأن الابن مولود من الآب مثلما الروح منبثق من الآب  . هذا ، ولأن الآب بدون الابن ( الذي يقبل كل ملء الآب ) يصبح فراغا ، فالآب ،أيضا  بدون الروح القدس ( الذي هو فيض الشركة ونهرها )  يصبح نبعا ناضبا .وهذا يعني أيضا أن شخص الابن - بدون توفر علاقة الاحتواء المتبادل التي تجمعه بشخص الروح القدس- يفقد شركته مع شخص الآب لأن الروح القدس- الذي هو روح الآب - هو روح الابن في آن واحد . هكذا يتمايز كل شخص من شخوص الثالوث - في هويته- عن الشخصين الآخرين ؛ فبينما  هوية شخص الآب هي"  فعل إصدار الذات الإلهية "، وهوية شخص الروح القدس هي"  فعل استعلان الطبيعة الروحية الفائقة للذات الإلهية" ، فإن هوية شخص الابن الذاتي هي " فعل قبول الذات الإلهية ". وهكذا، أيضا يظل الجوهر الإلهي( الذات الإلهية ) واحدا ، يتحقق وجوده بفضل التمايز الشخصي الثالوثي المطلق . الشخوص الثلاثة- في علاقاتهم الضمنية المتبادلة ( Perichoresis  )- يستعلنون الذات الإلهية الواحدة. والسؤال الذي يفرض ذاته على الآخر ( غير المسيحي) هو " لماذا كل هذا التعقيد؟ ألا يكفي القول بأن الله هو جوهر حي متمايز - في طلاقة قدرته  ( Omnipotence) - عما عداه من سائر الأحياء ،فضلا على أنه خالق الكل ؟ والإجابة المسيحية هي أن "الثالوث " و"الواحد " وجهان لذات العملة الواحدة ، وأن " الجوهر الواحد " لامعنى ،ولا وجود له بدون الثالوث ؛ فالله جوهر روحي حي فائق ، يستعلنه شخص "الروح القدس " كشركة بين مصدر ذاتي  هو   "الآب "ومستقبل (بكسر الباء ) ذاتي هو" الابن ". الله الواحد هو شخص الآب لأنه الجوهر الحي الوحيد الذي يصدر ذاته .الله  الواحد هو شخص الابن لأنه الجوهر الحي الوحيد الصادر من ذاته  . الله الواحد هو شخص الروح القدس لأنه الجوهر الروحي الوحيد الموجود كشركة بين مصدره وملئه .خلاصة القول ، إن الابن الذاتي شخص ذو هوية ديناميكية حرة مريدة يتحقق بفضلها وجود الجوهر الإلهي الواحد " كموجود بذاته "، وهذا يعني أنه في ذات الحدث يتضمن الابن شخص الآب ذا الهوية الديناميكية الحرة المريدة التي يتحقق بفضلها وجود الجوهر الإلهي الواحد " كموجد لذاته" ، ويعني أيضا أن الابن يتضمن- في ذات الحدث- شخص الروح القدس ذا الهوية الديناميكية الحرة المريدة التي يتحقق بفضلها وجود الجوهر الإلهي الروحي الواحد  كشركة بين ديناميكية عطاء الآب وديناميكية قبول الابن.   
                     3- تفرده كشخص الإنسان الكامل
          هوية شخص المسيح كإنسان كامل قد طالها الكثير من عدم الوضوح ، بل عدم الفهم ؛ فالشائع هو أن إنسانية الرب الكاملة لا تعني أكثر من أن الكلمة بتجسده قد صار " فردا " إنسانيا ، كأي إنسان آخر . وأما واقع الحق الإنجيلي فهو أن إنسانيته الكاملة لاتعني أنه مجرد فرد إنساني ، بل تعني شخصا فريدا لامثيل له ، تعني شخصا " جماعيا " يستوعب شعبا في جسده ، ليس على سبيل مجازي أو بلاغي بل على سبيل " عضوي " ، تعني شخص المسيح الممتلئ والمتحقق بوجود جميع أفراد الكنيسة ( جميع أفراد الخليقة الإنسانية الجديدة )   في علاقة عضوية كيانية جسدية ، معه ، وفيه . فالرسول بولس يقرر ذلك في وضوح شديد ، إذ يقول :  " وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلا ، والبعض أنبياء ، والبعض مبشرين ، والبعض رعاة ومعلمين ، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله . إلى " إنسان كامل " ( andra teleion ) . إلى قياس قامة  " ملء المسيح "  ... بل صادقين في المحبة ، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس : المسيح ، الذي منه كل الجسد مركبا معا ، ومقترنا بمؤازرة كل مفصل ، حسب عمل ، على قياس كل جزء ، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة " . ( أفس 4 : 11 - 16 ) . الملحوظة الهامة - هنا - هي ما يأخذنا إليه النص اليوناني لهذا الاقتباس من عمق كاشف لحقيقة هوية المسيح كإنسان كامل ، فلم ترد كلمة " إنسان =  anthropos " بل وردت كلمة " رجل = andra "، وهذا يعود بنا إلى أصل الأشياء ، فالله خلق الإنسان - من البدء - رجلا وامرأة ، بمعنى أن كلمات الرسول تكشف أن حقيقة  شخص المسيح كإنسان كامل هي في كونه رجل واحد يحتوي امرأته ( الكنيسة ) داخل كيانه ؛ فهي قد صارت لحمه وعظامه وأعضاءه وقد أشار الرسول إلى هذا المعنى في موضع آخر إذ قال :
 " خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح " ( 2كو 11 : 2 ) . هذا هو " السر العظيم " ( أفس 5 : 32 ) ، سر شخص المسيح الإنسان المستوعب لكنيسته في داخله. والمسيح ، كشخص الإنسان الكامل ، يعبر عنه إنجيليا بلقب آخر - قد طاله ماطال " الإنسان الكامل " من عدم الفهم العميق - هو " ابن الإنسان " . وهو أيضا لا يعني أن الرب قد دعي - بتجسده - إبنا للإنسان لأنه صار فردا إنسانيا ، بل يعني أن شخص المسيح الممتلئ بكنيسته هو الوجود الحقيقي ، الجديد ، " للجنس البشري " . هو آدم الأخير ، هو موطن وجود كل البشر المعينين للخليقة الجديدة ، فيه . ولقب " ابن الإنسان " يمتد بجذوره في عمق الكتاب ، فهذه هي شهادة دانيال في رؤياه ( دا  : 13-19 ) ، إذ رأى "ابن الإنسان " كمعادل وكمكافئ " لقديسي العلي " ، بمعنى أنه كيان جماعي يضم  جميع القديسين الذين هم - جميعا ، معا - الإنسانية الجديدة . ومن هذا المنظور نستطيع أن نفهم فحوى ذلك المشهد الإنجيلي " الكلاسيكي " لمجيء " ابن الإنسان "، ، إذ يأتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ويرسل ملائكته فيجمعون المختارين من الأربع الرياح . إذن مجيء ابن الإنسان هو مناسبة وحدث تجميع المختارين في كيان عضوي واحد ، الحدث الذي يتحقق الآن في الكنيسة إلى أن يمتلئ ابن الإنسان بالمختارين ويتحقق حضوره ( parousia ) الكامل ،أي  يتحقق الإنسان الكامل . تفرد شخص المسيح كإنسان كامل هو في جماعيته ( كاثوليكيته ) ، فهو ليس ربا يعبده البشر من الخارج ، بل هو رب "جامع لشعبه في شخصه" ، في جسده ، في ذاته ،  حتى أن كماله كشخص إنساني لا يتحقق إلا بوجود الجميع فيه ، كملء له، وإلا فالفرض المستحيل هو أن يبقى البشر خارج كيانه فيبقى هو رأسا بلا أعضاء ، وتبقى الكنيسة جسدا مقطوع الرأس !     
  مجدي داود

ليست هناك تعليقات: