مانقصده بمفهوم الحتمية يختلف تماما
عن ذلك الفكر الذي كان نتاجا للاهوت العصر الوسيط ، المتغرب عن الأصول الآبائية - والذي
يجعل من الصليب فكرة نظرية فلسفية - فقد أصبح الصليب - وفقا لهذا الفكر- حدثا حتميا
يحدث فيه التصالح والوفاق - وانهاء الصراع - بين عدل الله ورحمته ، بخصوص سقوط الإنسان
، وبالتالي تتم المغفرة ويتم الصفح عن الإنسان ويتم خلاصه من حكم الموت . هكذا أصبح
الرب يسوع ، الكلمة المتجسد - وفقا لهذا الفكر - بديلا عقابيا عن الإنسان . ولكن لحتمية
موت الصليب مضمونا واقعيا عمليا ، يتعاطى مع الوجود البشري الخاضع لحتمية الموت ، محررا
إياه بالقيامة المعطاة له بفضل التجسد . وهنا تتجلى العبارة الخالدة " بالموت
داس الموت " أي بحتمية موته تحررنا من حتمية موتنا . فبالتجسد صار الرب حاملا
لحتمية موتنا الطبيعي ، في عتيقه الظاهر ، وبإعلان قيامته أظهر حرية ومجد الحياة التي
لجديده الذي كان مستترا خلف الحجاب العتيق . ومن هنا يبرز موت الصليب كرباط مفصلي بين
التجسد والنعمة . ومن أجل كشف المفهوم العميق للصليب فقد بات علينا أن نفهم الصليب
من خلال علاقتين : علاقة الصليب بالتجسد و علاقة الصليب بالنعمة .
أولا : موت الصليب حتمية تجسدية
موت الصليب هو اختبار التحدي ( challange test
) الذي اجتازه الرب يسوع التاريخي الكلمة المتجسد . فما كان له أن يعلن نصرته الأبدية
على الموت لحساب البشر إلا إذا اجناز موتهم الطبيعي مظهرا الطبيعة البشرية الجديدة
المنتصرة على الموت وعلى الألم ، بالقيامة . فمنذ أن حل الكلمة في البشر ومع أول لحظة
للتجسد ، في رحم العذراء ، ظهر في الكون أول كيان بشري له عدم الموت ، ظهر باكورة الأحياء
من البشر . ولكن ظل الكلمة المتجسد حاملا رداءنا العتيق واجتاز فيه رحلته على الأرض
بدءا من ميلاده وحتى موت الصليب . وعلى الصليب أسلم الرب عتيقه الذي هو طبيعتنا الفاسدة
إلى مصيره الطبيعي . ولكن الفرق بينه وبيننا هو أن ذلك المصير لم يكن نقطة النهاية
في تاريخ الكلمة المتجسد ، بل على العكس كان نقطة بداية لإعلان الحياة الجديدة عديمة
الفساد بعد أن لم يستطع الموت الطبيعي أن يأخذ من يسوع غير عتيقه الظاهر ، والأمر الأكثر
عجبا هو أن موت الصليب كان الأداة التي كشف بواسطتها عن الجديد القائم والمنتصر على
الموت ، إذ أصبحت أداة الموت ، أداة لكشف الحياة بشق الحجاب الذي كان يسترها . ولكن
، لماذا موت الصليب تحديدا ؟ هل كان من الممكن أن يموت يسوع بأي وسيلة أخرى ، أم أن
موت الصليب حتمية لا مفرمنها ؟ وللإجابة نقول : بالطبع كانت وسيلة الصلب هي أعظم صورة
لإعلان النصرة على الموت . فقد كان الصليب هو أفضل اختبار للتحدي ؛ فهو ليس مجرد وسيلة
للموت بل وسيلة للتشهير ، وسيلة للفضيحة والعار واللعنة كما هو مكتوب " ملعون
كل من علق على خشبة " ومن هنا لنا أن نتخيل قيمة الصليب كإعلان للنصرة حينما يتحول
العار والفضيحة إلى دحر للموت وانتصار عليه ، والأكثر من ذلك يتحول العار والتشهير
إلى نصيب الشيطان " إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ، ظافرا بهم فيه
" ( كو 2 : 15 ) . ولكن لموت الصليب بعد آخر يتجاوز مشهد يوم الجمعة العظيمة المأساوي
،كاختبار لتحدي الموت فلم يكن مشهد الصلب إلا قمة جبل الجليد بالنسبة للمفهوم العميق
لموت الصليب ، فقد كان الصليب واقعا متلازما ومتزامنا لحدث التجسد بكامله وليس لمشهد
الصلبوت فقط .فإذا كان صلب الرب هو تثبيت جسده العتيق وتسميره ، وتسكين كل حركة له
، معلقا في الهواء ضد جاذبية الأرض ، فإن لهذا المشهد دلالة مستيكية تشير إلى ماهو
كائن كحقيقة كيانية في جسد الكلمة المتأنس منذ أول لحظة لتجسده وحتى مشهد يوم الجمعة
العظيمة . فالكلمة بتجسده قد أظهر طبيعته الإنسانية الجديدة المنتصرة غير القابلة للموت
بفضل الكلمة الحال فيها ، ولكنه - في تلازم وتزامن مطلقين ، مع ظهور الجديد - قد أظهر
عتيقه - الذي هو طبيعتنا - مصلوبا ، مثبتة أهواؤه وشهواته ، خاضعة إرادته لإرادة شخص
الكلمة اللابس الطبيعة الجديدة ولسان حاله دائما " ليس كما أريد أنا بل كما تريد
أنت " ( مت 26 : 39 ) .كانت هوية شخص الرب يسوع التاريخي هي شخص الكلمة المتحد
أقنوميا بالطبيعة الجديدة عديمة الفساد ، بينما ظل الرداء العتيق مصلوبا ، خاضعة إرادته
لإرادة الجديد الكائن في الكلمة .حمل شخص الرب الصليب وعاشه في كيانه
طيلة زمن وجوده على الأرض . فقد حمل - وهو الجديد المنتصر - حجابا بيولوجيا ، عتيقا
، مصلوبا ، معلقا ، غير قادر أن يميل به للانجذاب نحو الأرض . حمل ذاك منذ أول لحظة
لتجسده إلى أن اعتلى الجلجثة وهناك اجتاز فيه قمة مفهوم موت الصليب حينما أسلمه لكي
يثبت معلقا حتى الموت ، ومتى خلعه كان له أن يعلن الجديد القائم والمنتصر ، الذي كان
مستترا قبل مشهد الصلبوت .
هل التجسد من أجل الصليب ، أم أن الصليب من أجل التجسد ؟
سؤال قد يبدو غريبا ، ولكن واقع الحال
هو أن الإجابة الصحيحة عليه تمثل خطا فاصلا بين الخاطئ والصحيح حول مفهوم موت الصليب
، حول مفهوم الفداء والفدية ، حول مفهوم الكفارة والمغفرة . إن الحق الإنجيلي هو أن
الله قد " أحب العالم إلى درجة أنه أعطى ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن
به ، بل تكون له الحياة الأبدية " .( يو 3 : 16) . أي أن غاية التجسد هي حياتنا
، وليس مجرد موته . ولما كانت حياتنا ، ولما كان عتقنا من الفساد الطبيعي ، هو بظهوره
فينا في الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، ولما كان تجسده يعني أن يلبس ماهو بالضرورة حتمي
الموت ، وتحديدا موت الصليب ، فقد قبل - من أجل أن يظهر فينا بحياته - أن يتجرع كأس
موتنا . وهو عوضا عن القانون المنطقي الطبيعي ، أن من يعطي يأخذ المقابل أو الثمن ،
هو - وياللعجب - قد دفع ثمنا هو موت الصليب في مقابل إعطائه ذاته لنا ، في التجسد ،
فأي حب أعظم من هذا ؟! كان موت الصليب " حتمية تجسدية " ( إن جاز التعبير
) ، وهو من أجل أن يظهر تدبير تجسده فينا ، قبل أن يجتاز هذه الحتمية . وفي هذا السياق
- فقط - نستطيع أن نفهم بحق ، معنى الفداء . حقا هومات ليفتدينا من الموت ، صار فدية
لأجلنا . ولكن ليست القضية هي " الموت للموت " ، ليست القضية ترفا فلسفيا
لاهوتيا فحواه أن الرب كان بديلا عقابيا لامحدود عن الإنسان الذي أخطأ في حق الإله
غير المحدود ، وبالتالي يكون موته ترضية لعدل الله وحينئذ تجوز رحمة الله على الإنسان
فيعتق من موته الطبيعي . ليست القضية هكذا .هو قد صار فدية لأجلنا لأنه من أجل أن يهبنا
الحياة ، تجسد فينا - جاعلا من جسده الخاص رأسا لحياتنا ووجودنا الجديد - وتجسده يعني
قبوله أن يموت موت الصليب ، قبل أن يموت مرة من أجل أن يجمع الكثيرين في بشريته الجديدة
، عاتقا إياهم من الهلاك الأبدي . لذلك هو فدية لنا ، ولذلك نقول أنه بموت صليبه قد
افتدانا ، لأن موت صليبه - الذي كان حتمية تجسدية - يكشف استحقاق سر تجسده ، أي حياتنا
. وفي هذا السياق - فقط - نستطيع أن نفهم بحق ، معنى الكفارة . حقا هو مات ليصير كفارة
وليغفر لنا . ولكن في أي سياق نستطيع أن نفهم العمل الكفاري الذي لموت الصليب ؟ والإجابة
ببساطة هي أن الكلمة بتجسده قد أعطى ذاته لبشريتنا فتسربلت طبيعتنا ، فيه ، بمجد الكلمة
. صار مجد حضوره فينا - المستعلن في انسانيتنا الجديدة النابعة من جسده الخاص ، كرأس
لنا - هو التعبير الحقيقي عن التغطية ، عن التكفير ، عن المغفرة ، عن ستر عري الخطية
، عن زوال العزلة .فيه قد صارت البشرية متسربلة بمجد حياة الكلمة ، فتغطى عري عزلتها
عنه . هذه هي الكفارة التي صارت واقعا ، في حدث التجسد ، ومن أجلها قد تجسد ، ومن أجلها
قبل أن يجتاز موتا حتميا - بالصليب - لذلك فقد كشف موت صليبه ذلك الحدث الكفاري الذي
كان استحقاقا لتجسده . هكذا نستطيع - وبهذا التفكير العملي ، الواقعي ، الإنحيلي ،
الآبائي - أن نفهم مضمون العمل الكفاري الذي استعلن يوم الصلبوت العظيم .الصليب ليس
مجرد علامة أو شعار ، بل يدعوه الرسول بولس " قوة الله " ( 1كو1 : 18 ) ،
هو قوة الله المحيية . ولكن كيف نفهم هذا ؟ أليس الموت ، بصفة عامة ، هو قمة الضعف
؟ فكيف يكون موت الصليب ، تحديدا ، هو قوة الله ؟ وللإجابة نقول : كان موت الصليب كاشفا
لحضور الكلمة ، المحيي لبشريتنا الكائنة في يسوع ، والتي من أجل أن يظهرها بقوة سر
تجسده ، قبل أن يجتاز استحقاق تجسده فينا ، أي الموت الطبيعي ، وتحديدا موت الصليب
. لذلك كان يوم الصلبوت العظيم كاشفا لقوة الحياة الكائنة بفضل التجسد ، وعليه فقد
أظهر موت الصليب نوعا فريدا من الموت ، أظهر موتا محييا .
ماذا حدث في التجسد ؟
عندما زرعت بذرة طبيعتنا العتيقة في
الكلمة بالتجسد أنبتت شخص الإنسان الجديد عديم الفساد ، وليس لدينا في هذا السياق أفضل
من عبارات الرسول بولس ، وفيها مايكفينا ، هنا : " لكن يقول قائل : " كيف
يقام الأموات ؟ وبأي جسم يأتون ؟ " ياغبي ! الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت . والذي
تزرعه ، لست تزرع الجسم الذي سوف يصير ، بل حبة مجردة ، ربما من حنطة أو أحد البواقي
. ولكن الله يعطيها جسما كما أراد... هكذا أيضا قيامة الأموات : يزرع في فساد ويقام
في عدم فساد . يزرع في هوان ويقام في مجد . يزرع في ضعف ويقام في قوة . يزرع جسما حيوانيا
ويقام جسما روحانيا . يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني . هكذا مكتوب أيضا :
" صار آدم ، الإنسان الأول ، نفسا حية ، وآدم الأخير روحا محييا ". لكن ليس
الروحاني أولا بل الحيواني ، وبعد ذلك الروحاني . الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان
الثاني الرب من السماء . كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضا ، وكما هو السماوي هكذا
السماويون أيضا . وكما لبسنا صورة الترابي ، سنلبس أيضا صورة السماوي . فأقول هذا أيها
الإخوة : إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ، ولا يرث الفساد عدم الفساد
. " ( 1كو 15 : 35-50 ) .إذن : الرب يسوع التاريخي ، الإنسان الثاني ، آدم الأخير
، الروحاني ، السماوي ، هو النبت الجديد الذي ظهر بزراعة بذرة بشريته الخاصة ، في الكلمة
، في حدث التجسد . وهو ليس مجرد طبيعة روحانية بل روحا محييا ، هو حجر زاوية ، وأصل
وجود الكنيسة ، الجنس البشري الجديد والخليقة الجديدة . ولكن ، ماذا يعني ظهور الإنسان الجديد
عديم الفساد ، في الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ؟ لظهور إنسانية يسوع الجديدة عديمة الفساد
وجهان ، وجه إيجابي وآخر سلبي . الوجه الإيجابي هو أن هذا الكيان هو الصيغة الجديدة
الكاملة الممتلئة لبشرية يسوع . والتي تحمل ذات الهوية الشخصية التي لبذرة طبيعته العتيقة
( الصيغة العتيقة ) . والوجه السلبي هو أن قوة الفعل التي للشخص العتيق - من أنانية
ونرجسية وعزلة وتمحور حول الذات والدوران في دائرة الأهواء والشهوات ، المغلقة - قد
أبطلت ، قد صلبت . وعندما نقول بأن شخص الرب يسوع هو
إنسان كامل ولاهوت كامل في اتحاد أقنومي ، فإن ذلك يعني أن إنسانية يسوع هي جديدة ومنتصرة
على الموت ، على الفساد الطبيعي ، منذ أول لحظة للتجسد - منذ لحظة زراعة بذرة بشريته
في لاهوت الكلمة - إلى الأبد . ويعني ذلك ايضا أن يسوع قد " شابهنا في كل شيء
ما خلا الخطية وحدها " ، إذ أن الخطية هي العزلة والاستقلال عن الله ، ولأن الرب
هو الكلمة الظاهر إنسانا جديدا ، فلا مجال لحديث العزلة ، حديث الخطية ، فجديده هو
جسد الكلمة الخاص ، وأما كيانه الظاهر فقد تجرد من أي قوة ، أو إرادة فاعلة في اتجاه
العزلة أو الأنانية ، لحساب قوة الجديد وإرادته الفاعلة في اتجاه الشركة في حياة الكلمة.
ماذا عن موت بذرة طبيعتنا
العتيقة ، في شخص الرب يسوع ؟
الشخص الإنساني الطبيعي ، الشخص النفساني
، قد صلب ومات فيه ، وماتت هويته النفسانية البيولوجية ، موتا إيجابيا ( إن جاز التعبير
) ، موتا مستثمرا في ظهور الشخص الإنساني الروحاني الجديد ، عديم الفساد ، الكائن في
اتحاد شخصي أبدي مع الكلمة . " فالأشياء العتيقة قد مضت ، هوذا الكل قد صار جديدا
". ( 2كو5 : 17) .
ماذا عن الموت البيولوجي
في يوم الصلبوت العظيم ؟
لم يكن أمام الهيكل البيولوجي الظاهر
، الإنسان النفساني ، من مصير ، سوى مصيره الطبيعي الذي هو مصير طبيعتنا . وفي مشهد
الصلبوت العظيم تم تثبيت وتسكين حركة هذا الكيان العتيق إلى الأبد . في عتيقه الظاهر
نزل الرب إلى الجحيم وصعد منه منتصرا ، ليس لذاته فقط بل للكل ، فقد أصعد معه القدماء
المأسورين هناك . ولم يستطع الجحيم أن يقتنص منه غير ذلك الظاهر ، المائت بالطبيعة
.في القبر قد أتم الرب موت الكون كله بتسليم كيانه البيولوجي إلى العدم والفناء ،
" فإن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ، ولا يرث الفساد عدم الفساد
" .( 1كو 15 : 50 ) . هذا هو المصير النهائي المحتوم للكون الطبيعي ، في نهاية
الزمان .اجتاز الرب في عتيقه لحظة نهاية الكون وحينما قال " قد أكمل " (
يو19 : 30) ، كان يعنيها ويقصدها بالفعل ، فقد أكمل موت الكل ليظهر حياة الكل بالقيامة
، تاركا قبره فارغا .
ثانيا : شركة موت الصليب حتمية نعموية
كيف لنا أن ننظر إلى موت الصليب من
خلال مفهوم متصل ( contniuum
) ، يجمع حدث التجسد - الذي أظهر الرب يسوع
التاريخي - مع حدث النعمة ، الذي يؤسس ويحقق وجود الكنيسة ؟ الإجابة الصحيحة لابد أن تتبنى ماسبق
أن قلناه بخصوص " الطبيعة المفصلية " لموت الصليب . والأمر يبدو كما لو كنا
ننظر في مرآة ، فما أعلنه الرب بموت صليبه من استحقاق لتجسده ، في جسده الخاص ، تتقبله
الكنيسة بالنعمة من خلال شركة موت الصليب . فإذا كان موت الصليب هو البوابة الحتمية
التي خرج منها الكيان الإنساني الجديد عديم الفساد إلى العالم ، إلى الكنيسة ، كرأس
، فهو ذات البوابة الجتمية التي تدخل منها الكنيسة بجميع أعضائها إلى كيان المسيح ،
كأعضاء . وإذا كان موت الصليب كاشفا لحقيقة وجود رأس الكنيسة ، فإنه من الجانب الآخر
يبدو منشئا ، ومؤسسا ، ومحققا لوجود باقي الأعضاء ولضمهم إلى رأسهم . موت الصليب بالنسبة
إلى رأس الكنيسة كان آخر حاجز قد تجاوزه قبل أن يظهر حقيقة قيامته ونصرته ، الكائنة
بفضل التجسد . بينما بالنسبة إلى أعضاء الكنيسة ، هو مبادرة قبول الألم والموت ، المؤدية
- بالنعمة - إلى الإنتماء إلى الخليقة الجديدة ، في المسيح .
الفعل الناري للروح القدس
وشركة موت الصليب
باجتياز الرب لمشهد يوم الصلبوت المأساوي
، وخروجه ظافرا ، معلنا قيامته ، ظهرت في الكون حقيقة جديدة متمثلة في رأس الخليقة
الإنسانية الجديدة ، عديمة الفساد . وقد بات من المؤكد ووفقا لاستحقاق هذا الواقع الجديد
أن يمتد كيان الرب في الكنيسة ، محققا وجود الجسد الكامل الممتلئ بجميع الأعضاء . هذا
الحدث هو ما يضطلع به الروح القدس ، وواقع الحال هو أن الروح القدس هو الفاعل منذ أول
لحظة للحدث ، أي منذ أول لحظة للتجسد . فبحلول ملء اللاهوت في جسد الكلمة الخاص ، الرب
يسوع التاريخي ، قد انطلق حدث تكريس وبناء الكنيسة بظهور حجر زاويتها . وبامتلاء شخص
المسيح بكنيسته يتحقق وجود هيكل الله الواحد الذي يسكنه روح الله . فالروح القدس هو
ساكن الهيكل وهو مؤسسه ومحقق وجوده ، في ذات الوقت . هذا هو الوجه الإيجابي لعمل الروح
القدس في الكنيسة ككل وعلى مستوى جميع الأفراد بآن واحد ، ولكن ، لعمل الروح القدس
وجه آخر يبدو سلبيا من منظور طبيعتنا المائتة ، ويحدث في تواز وتلازم وتزامن مع الوجه
الإيجابي ، وهو شركة موت الصليب . فبينما يتحقق بالروح القدس تخليق وتصوير أعضاء المسيح
، في أفراد الكنيسة المزمعين ، فإن كيانهم العتيق يصلب ويموت مع المسيح ، فهم
" بالروح يميتون أعمال الجسد فيحيون " . ( رو 8 : 14 ) . فإذا كان الروح
القدس قد سبق فجعل من باكورتهم رأسا لهم - إذ هو جسد الكلمة الخاص - عابرا به ومجتازا
موت الصليب ، ظافرا ، فإن ذات الروح ، الفاعل الوحيد - ومن خلال النعمة - يعبر بهم
حاجز موت عتيقهم ، جاعلا إياهم يشتركون في موت ربهم فيستحقون الشركة في قيامته . وهم
بدونه ماكانوا ليستطيعوا أن يجتازوا شركة موت الصليب المحيي ، بل فقط هم يموتون وفقا
لطبيعتهم فيفنون . هذا هو الفعل الناري للروح القدس وهو ما قد تنبأ عنه يوحنا الصابغ
قائلا : " هو يعمدكم بالروح القدس ونار" ( مت3 : 11) . و" النار
" في لغة الكتاب هي " الموت " ، فالروح ينقل إلى المؤمنين شركة موت
الصليب المحيي ، وحينما يخاطب الرسول ، الكنيسة قائلا : " لا تطفئوا الروح
"( 1تس5 : 19 ) ، فهو يوصى بقبول ذلك الفعل الناري للروح الذي ينقل إليهم
" إماتة الرب يسوع ، لكي تظهر( فيهم ) حياة يسوع أيضا " ( 2كو 4 : 10) ،
فشركة موت الصليب تتضمن ، وتحتوي ، وتستوعب - في ذات الحدث - شركة حياة المصلوب ، شركة
النصرة ، شركة القيامة . وهذا هو ما يتحقق في الكنيسة بشركة الروح القدس وبقبوله كساكن
فاعل ، أبدي ، في المؤمنين . وليس من قبيل المصادفة أنه في يوم الخمسين ، يوم تأسيس
الكنيسة ، قد حل الروح القدس على جميع المجتمعين في شكل ألسنة من نار ( أع 2 : 3 )
. عندما ظهر الكلمة في طبيعتنا بالتجسد ، مظهرا طبيعة جسده الخاص عديم الموت ، ظهرت
طبيعتنا مصلوبة فيه . وعندما نصطبغ بمعموديته ، نقبل أن نموت معه موت صليبه فنقبل في
ذات الحدث أن نشترك في كيانه الجديد القائم المنتصر، " أم تجهلون أننا كل من اعتمد
ليسوع المسيح اعتمدنا لموته ، فدفنا معه بالمعمودية للموت ، حتى كما أقيم المسيح من
الأموات ، بمجد الآب ، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة ؟ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين
معه بشبه موته ، نصير أيضا بقيامته . عالمين هذا : أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل
جسد الخطية ، كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية . لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية . فإن
كنا قد متنا مع المسيح ، نؤمن أننا سنحيا أيضا معه ". ( رو6 : 3-9 ) .موت الصليب
لم يكن ، فقط ، حدثا خاصا بالكلمة المتجسد ، بل هو بالدرجة الأولى طريق قد صنعه المصلوب
لخلاص الذين ينضمون إليه ، لخلاص الذين هم للمسيح ، الذين " قد صلبوا الجسد مع
الأهواء والشهوات " ( غل 5 : 24 ). موت الصليب هو الموت الإستثماري ( إن جاز التعبير
) ، فنحن لاننتحر بموتنا مع المسيح ، بل نسلم أنفسنا لحدث النعمة العجيب الذي فيه ينشأ
كياننا الجديد على أنقاض خيمة طبيعتنا العتيقة فنحن " لا نريد أن نخلعها بل أن
نلبس فوقها ، لكي يبتلع المائت من الحياة " .( 2كو 5 : 4 ) . فليست شركة موت صليب
المسيح حدثا سلبيا بل هي كشف للحدث النعموي الإيجابي الموازي ، حدث ظهور الكيان الإنساني
الجديد عديم الموت ، فالجديد يشير إلى ذاك الذي عتق آخرا ، والذي صار عتيقا هو الذي
أبطل ، هو الذي صلب حتى الموت ، هو البذرة التي دفنت وجاز فيها طقس الموت ولكن حياة
النبتة الجديدة قد ظهرت وترعرعت بفضل دفن البذرة العتيقة ، الأمرالذي كان بمثابة حدث
استثمارها ، هذا هو موت الصليب المحيي ، طريق الخلاص .إنه - وبحق - قد قدم الرسول بولس
تعريفا رائعا لكلمة الصليب ، إذ قال بأن " الصليب هو قوة الله "( 1كو1 :
18 ) ، فشركة موت الصليب المحيي هي شركة في الروح القدس ، الذي هو " روح القوة
" .
في ضوء ماسبق أن قلناه بخصوص تحقق
وجود الكنيسة ، كهيكل لروح الله ، بقوة الصليب ، كيف نستطيع أن نرصد علاقة السر الكنسي
بشركة موت الصليب ؟ أليست المسحة ، هي شركة في موت المسيح ، الذي كشف عن وجود رأس المسحة
، ذلك الذي يتم فيه مسحة الجميع صائرين هيكلا واحدا أبديا للروح القدس ، صائرين مسيحا
واحدا ؟ أليست المعمودية ، هي شركة في موت المسيح ، الذي كشف عن وجود رأس الخليقة الجديدة
المولودة من فوق ، ذلك الذي يتم فيه ولادة الجميع من فوق ، فتصطبغ طبيعتهم بصبغة الحياة
الأبدية ، بصبغة المسيح ؟ أليست الإفخارستيا ، هي شركة في موت المسيح ، الذي كشف عن
وجود رأس الكيان الإفخارستي ، كيان الشركة ، ذلك الذي ، إذ يشترك فيه الجميع ،
" يخبرون بموت الرب إلى أن يجيئ "، جسدا كاملا ممتلئا بجميع الأعضاء ، جسد
المسيح ؟ أليس السر الكنسي - بصفة عامة - هو شركة في موت المسيح ، الذي كشف عن وجود
رأس الكنيسة ، الرب يسوع المسيح ، الذي يمتد في البشر محققا فيهم ، عضويتهم فيه ، وانتماءهم
إليه ؟
خلاصة
لحتمية الصليب وجهان :
1-حتمية تجسدية :
إذ بحضور الكلمة في البشر كان من الضروري والحتمي بالنسبة لكيانه العتيق أن يصلب ويموت
لحساب كيانه الجديد القائم والمنتصر ، وباجتياز الرب وعبوره باب موت الصليب ، كشف عن
قيامته التي هي رأس قيامة البشر وباكورتها .
2- حتمية نعموية :
إذ لا توجد وسيلة لقبول النعمة الفائضة من سر التجسد ، لقبول الانتماء إلى رأس الحياة
الخارج من باب الصليب المحيي ، إلا بقبول الشركة في موت المسيح - بالروح القدس - والعبور
والدخول من ذات الباب ، إلى الرب و الاستيطان فيه . هكذا يتحقق وجود الكنيسة ، هكذا
يمتلئ جسد المسيح .
مجدي داود
هناك تعليق واحد:
مجهود عظيم لتحرير اللاهوت المسيحي من اثار العصور الوسطي
إرسال تعليق