السبت، 21 أبريل 2012

الجوهر الواحد للأسرار السبعة


مقدمة
 لا يعرف العهد الجديد سراً، من الممكن أن يُكشف بالنعمة غير سر المسيح؛ فالسر الكنسي هو سر واحد وهو سر تحقق وجود الكنيسة كجسد للمسيح، ويتضح هذا المعنى بجلاء شديد في كتابات الرسول بولس:  "أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ.  الَّذِي  بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ، تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ. الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ. لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ". (أفسس 3 : 3 - 9). وأيضا : "السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ.  الَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". (كو 1: 26 - 28).
السر الكنسي، إذن هو الكشف لحقيقة صيرورة المؤمنين مسيحاً واحداً، ولا معنى لفردية السر وعزلته، لأنه في المسيح لا وجود للجزء بمعزل عن الكل ولا وجود للعضو ما لم يكن أن ذلك يعني تحقق وجود الكيان كله، هذا عن الجدلية بين الفرد والجماعة في السر الكنسي، ولكن هناك جدلية أخرى بين الوحدة والتعدد، فبالرغم من أن الغاية التي يكشفها السر هي الخليقة الجديدة، أي الكنيسة الواحدة الكائنة في كيان المسيح الواحد إلاَّ أن هذا لا يتناقض مع التعددية التي يكشفها السر. وما الاعتقاد بوجود سبعة أسرار إلاَّ كشف لسبعة إشباعات تملأ سبعة احتياجات وجودنا العتيق، عندما يقبل "سبعة أرواح الله المرسلة إلى العالم". وإذا افترضنا "فرضا فاسداً" بأن الروح القدس ينقسم إلى سبعة أرواح، يكون من الجائز حينئذ أن نقسم السر الكنسي إلى سبعة أسرار منفصلة ومنعزلة كل عن الآخر !!!.
         السر الكنسي وجدلية "الوحدة والتعدد"
 أولاً: الواحدية
سر المسيح هو واحد، وهو تحقيق وجود الخليقة الجديدة الكائنة في الكلمة؛ لذلك فإن أي محاولة لفهم حقيقة السر الكنسي بمعزل عن سر التجسد سوف تبوء، بالتأكيد، إلى الفشل.
إن الكلمة حينما لبس جسداً من طبيعتنا جاعلاً منه رأساً للخليقة الجديدة، فهو لم يعلن لنا أن غاية سر التجسد هي تحقيق لكيان، هو مجرد "رأس" فقط، بل أعلن فينا كمال النعمة بضمنا كأعضاء تنتمي لذلك الرأس.
إن البعد الكيفي (النوعي) لسر التجسد قد بلغ قمته في ظهور شخص الرب يسوع التاريخي، الذي هو قمة حضور الكلمة في البشر، كرأس، ولكن هناك بعداً "كمياً" للتجسد هو تكميل الكيان الجديد بتحقيق وجود باقي أعضاء الجسد المنتمين لهذا الرأس والمستمدين لوجودهم منه. لذلك نقول بأن السر الكنسي هو حركة سريان سر المسيح من الرأس إلى الأعضاء. وبالتالي فهناك علاقة عضوية بين سر التجسد والسر الكنسي. في سر التجسد ظهر حجر زاوية الكنيسة، البناء الذي يتكمل ويتكشف الآن في السر الكنسي.
ثانيا: التعددية
التعدد دائماً هو موقف دفاعي يتخذه وجودنا العتيق للتغلب على فشله في البقاء وذلك باستنساخ المزيد من صورة ذاته البائسة.
التعدد أيضا يتجلى في وجود عدة صور، كل صورة منها هي رسالة محفورة في طبيعتنا وفحواها هو كشف لآلية تعتمدها طبيعتنا من أجل تحقيق الوجود الدائم.
توصيف وجودنا العتيق
أولاً: من حيث طبيعته، هو:
1- وجود ينشأ من العدم بفضل إرادة خارجة عنه.
2- وجود متغير غير ثابت، فيه ننمو وننضج.
3- وجود ينحدر نحو العدم في نهاية المطاف.
ثانياً: من حيث دوافعه، هو:
وجود يسيطر عليه دافعان أساسيان، وهما وجهان لعملة واحدة:
1- الرغبة.
2- الخوف.
للرغبة مستويان: المستوى الغريزي، ومستوى الطموح والحلم بالمستقبل.
هناك غريزتان أساسيتان، بدون أي منهما ينهار الوجود:
1- غريزة الجوع (الرغبة في الأكل).
2- غريزة الجنس.
   إذن، سباعية احتياجاتنا الوجودية هي:
1- الاحتياج إلى بداية من الخارج، وهذا ما تعلنه ولادتنا في هذا العالم.
2- الاحتياج إلى الثبات والبقاء، وهذا ما تعلنه طبيعتنا من خلال رحلة النمو والنضج.
3- الاحتياج إلى العودة إلى الوجود، وهذا ما تعلنه طبيعتنا بانحدارها الحتمي نحو الموت.
4- الاحتياج إلى الشركة في الآخر، وهذا ما تعلنه غريزة الجوع؛ فمن خلال الشركة في الطعام من المفترض أن لا نموت.
5- الاحتياج إلى تجاوز الذات إلى الآخر، وهذا ما تكشفه غريزة الجنس.
6- الاحتياج إلى الأخذ الدائم، وهذا ما يعلنه الطموح الإنساني اللانهائي.
7- الاحتياج إلى دفع الموت، وهذا ما تعلنه غريزة الخوف.
هذه الاحتياجات الوجودية، هي التي يتم إشباعها في المسيح، في الأسرار:
1- فالاحتياج إلى البداية، من الخارج هو ما يتم إشباعه في المسيح حينما يصير الإنسان مولوداً من الآب بالتبني. هذا ما يكشفه سر المسيح، سر المعمودية.
2- والاحتياج إلى التثبيت والبقاء في الوجود هو ما يتم إشباعه في المسيح حينما يصير الإنسان هيكلاً للروح القدس. هذا ما يكشفه سر المسيح؛ سر المسحة، التثبيت.
3- والاحتياج إلى العودة إلى النموذج الأصلي للوجود هو ما يتم إشباعه في المسيح، وحينئذ يدرك ويقر بفساد طبيعته. وهذا ما يكشفه سر المسيح؛ سر العودة، سر التوبة.
4- والاحتياج إلى الشركة في الآخر هو ما يتم إشباعه في المسيح حينما يصير الإنسان عضواً في جسد الكلمة. وهذا ما يكشفه سر المسيح، سر الإفخارستيا.
5- والاحتياج إلى تجاوز الذات وتحقيق الوجود، في الآخر هو ما يتم إشباعه في المسيح حينما يتخلى الإنسان عن ذاته العتيقة لابسا الذات البديلة (المسيح). وهذا ما يكشفه سر المسيح، سر الحب (الزيجة).
6- والاحتياج إلى الأخذ الدائم هو ما يتم إشباعه في المسيح، فتتبدل الطبيعة البشرية إلى العطاء حينما يعطي الإنسان ذاته ذبيحةً مرفوعةً للآب وهذا ما يكشفه سر المسيح، سر الكهنوت.
7- والاحتياج إلى دفع الموت والشفاء من دائه هو ما يتم إشباعه في المسيح حينما تنتقل إلى الإنسان حياة المسيح وهذا ما يكشفه سر المسيح، سر الشفاء.
سبعة أرواح الله، وسباعية السر الكنسي
سر المسيح المخفي في الكون، والمعلن في المسيح هو تحقيق وجود الكنيسة كهيكل أبدي للروح القدس. ولأن الكنيسة هي الوجود الإنساني الجديد عديم الفساد فإنه في الكنيسة يستعلن إشباع كل احتياجات وجودنا العتيق فتستعلن مسحة كل أركان وجودنا بالروح القدس؛ لذلك فإن كل ركن من أركان عتيقنا (السبعة) إنما يستعلن تجدده بالشركة في الروح القدس على مستوى النعمة.
- كل أيقونة من أيقونات طبيعتنا العتيقة تمثل حلماً مطبوعاً في هذه الطبيعة وهو لا يتحقق أبداً إلاَّ بالشركة في الروح القدس، لذلك فقد أطلق الكتاب على كمال النعمة - التي فيها يتكشف تحقيق جميع احتمالات وجودنا – تعبير سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض. (رؤ 5: 6).
- كان النبي أشعياء هو أول من تنبأ عن هذا السر: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الله روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب". (أش 11: 1).
"πνεῦμα τοῦ θεοῦ πνεῦμα σοφίας καὶ συνέσεως πνεῦμα βουλῆς καὶ ἰσχύος πνεῦμα γνώσεως καὶ εὐσεβείας "
هذا هو الرب يسوع التاريخي، الكلمة المتجسد، الغصن الذي نبت من القضيب الخارج من جذع يسى، والذي في جسده الخاص - الذي نبتت فيه الطبيعة البشرية الجديدة عديمة الموت - قد قبل استعلان "سباعية" الامتلاء بالروح القدس، صائرا منبعا لامتلاء كل الأعضاء المشتركين في جسده. إذن هذه هي سبعة استعلانات شركة الروح القدس، في وجودنا الجديد، في المسيح، فالروح القدس هو:
1- روح المشورة "βουλῆς" المستعلن في "المعمودية" الذي يكرس الولادة الجديدة: "وجميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا. وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله  من جهة أنفسهم، غير معتمدين منه". (لو 7 : 29 و 30).
2- روح القوة "ἰσχύος" المستعلن في"المسحة" الذي يكرس تثبيت الوجود: "أخيرا يا إخوتي تقووا في الرب وفي شدة قوته . البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس. ( أفس 6: 10 و 11).
3- روح الفهم " συνέσεως" المستعلن في التوبة الذي يكرس إدراك حقيقة الوجود العتيق ويكرس العودة للجديد الذي في المسيح، بينما فقدان "الفهم" يعني الضلال والفساد: "ليس من يفهم ". ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد". (رو3 : 11و12).
4- روح الله "τοῦ θεοῦ" المستعلن في" الإفخارستيا،  " الذي يكرس شركة الكنيسة في المسيح :  "  بل كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضا مبتهجين. إن عيرتم باسم المسيح، فطوبى لكم، لأن ما للمجد وما لروح الله " يحل عليكم. أما من جهتهم فيجدف عليه وأما من جهتكم فيمجد". (1 بط 4: 13 و 14).
5- روح المعرفة "γνώσεως " المستعلن في "الزيجة"، سر الحب، الذي يكرس معرفتنا للآب في المسيح: "أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أرسلتني. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" .(يو 17: 25 و26).
6- روح الحكمة "σοφίας" المستعلن في "الكهنوت" الذي يكرس انعتاق العقل الإنساني من سبي الزمن- سبي ديمومة الأخذ والخضوع لسطوة المستقبل - جاعلا من الإنسان كاهنا يعطي ويرفع تقدمة ذاته للآب في المسيح: "لأن حكمة  " sofia"هذا العالم هي جهالة عند الله، ….إذا لا يفتخرن أحد بالناس! فإن كل شيء لكم: أبولس، أم أبولس، أم صفا، أم العالم، أم الحياة، أم الموت، أم الأشياء الحاضرة، أم المستقبلة. كل شيء لكم. وأما أنتم فللمسيح، والمسيح لله". (1 كو 3: 19 – 23).
7- روح التقوى "εὐσεβείας" المستعلن في " الشفاء" الذي يكرس انعتاق الإنسان من عبودية الخوف إلى مخافة الله: "ولكن إن تألمتم من أجل البر، فطوباكم. وأما خوفهم فلا تخافوه  ولا تضطربوا، بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم، مستعدين دائما لمجاوبة من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم، بوداعة وخوف". (1 بط 3 : 13 – 15).
       الاستعلان السباعي للروح القدس في سفر الرؤيا
      1- روح الفهم، المرسل إلى كنيسة أفسس: "لكن عندي عليك: أنك تركت محبتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتب، واعمل الأعمال الأولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك مكانها، إن لم تتب.(2 :4 و 5).
2- روح التقوى، المرسل إلى كنيسة سميرنا: "لا تخف البتة فما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا ابليس مزمع أن يلقي بعضا منكم في السجن لكي تجربوا، و يكون لكم ضيق عشرة أيام. كن أمينا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة …من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني ". (2 : 10 و11).
 3- روح الحكمة، المرسل إلى كنيسة برغامس: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفي، وأعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ". ( 2:  17).
  4- روح المعرفة، المرسل إلى كنيسة ثياتيرا: "لكن عندي عليك قليل: أنك تسيب المرأة ايزابل التي تقول أنها نبية، حتى تعلم وتغوي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان. وأعطيتها زمانا لكي تتوب ولم تتب. ها أنا ألقيها في فراش، والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة، إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم". (2: 20 - 22).
- "ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانا على الأمم، فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أنا أيضا من عند أبي، وأعطيه كوكب الصبح. (2 :26- 28).
  5- روح القوة، المرسل إلى كنيسة ساردس: "أنا عارف أعمالك، أن لك اسما أنك حي وأنت ميت. كن ساهرا وشدد ما بقى، الذي هو عتيد أن يموت". (3: 1و2).
- "من يغلب فذلك سيلبس ثيابا بيضا، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة". (3: 5).
  6- روح الله، المرسل إلى كنيسة فيلادلفيا: "من يغلب فسأجعله عمودا في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد. (3: 12).
  7- روح المشورة، المرسل إلى كنيسة لاودكية: "أشير عليك أن تشتري مني ذهبا مصفى بالنار لكي تستغني، وثيابا بيضا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك. وكحل عينيك بكحل لكي تبصر" (3: 18).
- " من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضا وجلست مع أبي في عرشه. ( 3: 21).
         رموز وجودنا هي :
 1- رمزية "الولادة، والمشورة".
نخرج إلى الوجود كأبناء ينتمون إلى أصل هو جيل الآباء، هكذا يفصح وجودنا البيولوجي عن أنه وجود يبدأ بمبادرة خارجة عنه، ولكن الواقع المأساوي هو أن كل من الآباء والأبناء يموتون، ليبدو وجودنا في النهاية عبثياً، ولكن في المسيح فقط تبدو الصورة غير ذلك، فالأصل يظل أصلا إلى الأبد لأنه شخص الآب، والأبناء يظلون أحياءا إلى الأبد لأن تلك هي مشورة الآب وإرادته أن يشركهم فيه ( بالتبني )، بالابن في الروح القدس.
وهكذا يستعلن سر المعمودية القراءة الصحيحة لامتلاء رمزية وجودنا بمشيئة خارجة عنا، وذلك حينما نقبل استعلان "روح المشورة"، الروح القدس، فينا. بقبول شركة الروح القدس تتم فينا "مشورة الله " الصالحة تجاهنا، أي أن نولد من الآب، بالعضوية في ابنه المتجسد.
2- رمزية "النمو، والقوة".
بعد أن نولد نخرج إلى الوجود في حالة ضعف. نتغير في مسيرة نمو لنزداد قوة ويزداد ترسيخ وجودنا ولكن ذلك يتبدد في النهاية. ولكن في المسيح فقط يتحقق الثبات في الوجود الأبدي بقوة الروح القدس. وهكذا يستعلن "سر التثبيت" (سر المسحة)، القراءة الصحيحة لامتلاء رمزية "احتياجنا إلى وجود ثابت غير متغير"، وذلك حينما نقبل استعلان "روح القوة" الروح القدس، فينا. بقبول شركة الروح القدس، يثبت (ويتقوى) وجودنا إلى الأبد، كهيكل للروح الساكن فيه.
3- رمزية "وهم الوجود، والفهم".
يظل الإنسان طيلة حياته لا يتخيل أن الموت حقيقة بالنسبة له، بل يظن أن ذاك يزور الآخرين وحدهم، وأما بالنسبة له فهو خالد في هذا الوجود. وحتى على المستوى الغريزي تستجيب طبيعتنا دائما لأي خطر بردود أفعال رافضة للموت حتى ولو كان هذا الموت اختيارا، أقدم عليه منتحر. ولكن في المسيح فقط يدرك ويفهم البشر بشاعة حقيقة وجودهم العتيق. في المسيح فقط يدركون أنهم كانوا وهما. وهكذا يستعلن سر التوبة القراءة الصحيحة لرمزية احتياجنا إلى "ترك"هذا الوجود الوهمي، إلى "ترك الموت"، والعودة إلى النموذج الأصلي للوجود، العودة إلى المسيح، وذلك حينما نقبل استعلان "روح الفهم"، الروح القدس، فينا. بقبول شركة الروح القدس "نفهم وندرك" بشاعة عتيقنا، فنتركه ونعود للالتحاق بنموذجنا الأصلي الرب يسوع المسيح.
4- رمزية "الأكل، والشركة".
نحن نأكل لنعيش وبدون الأكل نهلك جوعا؛ أي أننا باشتراكنا في "الآخر"، الطعام، يتحقق وجودنا ولكن مأساة أيقونتنا هي أننا نأكل ولكننا نموت أيضا. هذا، فضلا عن أن الطعام – كما توحي أيقونتنا – هو مظهر احتفالي، هو شركة مع الأخر الجالس معنا على المائدة. في المسيح فقط يتحقق لنا المأكل الحق بالشركة في الحياة الأبدية التي وهبها لنا عندما جعلنا أعضاء في جسده. وهكذا تستعلن الإفخارستيا القراءة الصحيحة لرمزية "احتياجنا إلى الشركة مع الآخر واحتياجنا أيضا إلى أن نشكر على الشبع الأبدي. وذلك حينما نقبل استعلان "روح الله"، الروح القدس، فينا.
بقبول الروح القدس تتأله طبيعتنا بالشركة العضوية في جسد ابن الله.
5- رمزية "العشق، والمعرفة".
في الحب يحاول الإنسان تحقيق وجود ذاته من خلال معرفة الآخر. وفي الحب يتخطى ويتجاوز العاشق ذاته بغرض الاتحاد بالآخر والبقاء فيه. والمعرفة هي بنية الرغبة الجنسية وما التعري والرغبة في كشف المستور إلاَّ التعبير الحقيقي عن الدافع المعرفي للجنس. ولكن (وآه من لكن) للأسف تؤول الملحمة في النهاية إلى لحظة من اللذة وتختزل القضية في مجرد آلية لإنتاج مزيد البشر الرازحين تحت هول المأساة. أما في المسيح فقط فالصورة مغايرة تماما حيث يصبح للبشر واقع معرفي صادق وحقيقي، إذ يحققون وجودهم من خلال معرفة الآب الذي منه ينبع وجودهم الجديد، الذي فيه قد تجاوزوا عتيقهم. وهكذا يستعلن سر الحب "الزيجة" القراءة الصحيحة لرمزية شبقنا المعرفي. وهكذا أيضا نستطيع أن نفهم لماذا يؤثم الزنا كتابياً إلى الحد الذي يتساوى فيه مع السحر وعبادة الأوثان (رؤ 22 :15)، إذ يصبح الأداة التي يتفسخ بها الرمز؛ بإعلانه تعدد النبع المعرفي، وهكذا يصبح الزنا من المنظور المسيحي مرادفا لإنكار المسيح؛ فإذا كانت الكنيسة هي عروس المسيح ففي الخارج لا يوجد إلا الزناة. وهكذا يستعلن "سر الحب الزيجي" القراءة الصحيحة لرمزية "احتياجنا إلى معرفة الآخر" (المخالف جنسياً) فنعرف حق المعرفة، معرفة الآب، في ابنه المتجسد "وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته". (يو 17: 3). وذلك حينما نقبل استعلان "روح المعرفة" الروح القدس، فينا.بقبول شركة الروح القدس "نعرف" الآب، حينما نصير عروسا، هي الكنيسة التي تزف إلى عريسها المسيح، الابن المتجسد في البشر.
6- رمزية "الحلم، والحكمة".
الحلم بالمجد الآتي هو صورة تمثل سبي العقل البشري وعبوديته تحت نير سطوة المستقبل أي سطوة الانتظار الدائم للحلم المستحيل، وهكذا يفشل ما قد تحقق بالفعل من أحلام في تحقيق الإحساس بالشبع والوفرة ويظل الإنسان دائما في حالة من الاحتياج والرغبة في الأخذ. ولكن في المسيح فقط يصير للإنسان وجود آني أبدي متحرر من سطوة المستقبل وانتظاره؛ إذ لا يوجد، بعد، مستقبل من الممكن أن يأتي بجديد آخر يتفوق على ذلك الذي في المسيح؛ فيتحرر العقل من عبودية الانتظار، بالشركة في الحكمة (الكلمة).
وهكذا يستعلن "سر الكهنوت" القراء الصحيحة لرمزية حاجتنا إلى أن تتحرر عقولنا من عبودية انتظار الأخذ، إلى اختيارية العطاء إذ يتم تقديم الذات ورفعها كذبيحة مقبولة لدى الآب.وذلك حينما نقبل استعلان "روح الحكمة"، الروح القدس، فينا. بقبول شركة الروح القدس نصير حكماء، إذ نتخلص من جهالة هذا العالم الذي لا يستطيع أن يقدم ما يشبع طموحنا اللانهائي.
7- رمزية "الخوف، والتقوى".
في لحظة الخطر يخاف الإنسان، يهرب لينجو من الموت ولكنه في النهاية يموت، ويفشل الخوف في دفع الموت. ولكن في المسيح فقط ينجو الإنسان من الموت، وهو يدفع الموت ويهزمه ليس بالخوف العتيق بل بخوف الله أي التقوى (انظر أع 10: 1و2) وذلك حينما يصير الإنسان شريكا في الطبيعة الإلهية هاربا من الفساد الذي في العالم بالشهوة (انظر 2بط 1: 3و4). وهكذا يستعلن "سر الشفاء" القراءة الصحيحة لرمزية حاجتنا إلى أن نتحرر من عبودية الخوف، بمواجهة الموت والانتصار عليه والخلاص منه في المسيح، وذلك حينما نقبل استعلان "روح التقوى"، الروح القدس، فينا.
بقبول شركة الروح القدس يصير لبشريتنا "الوقاية"من داء الموت.
        احتمالات وجودنا
 أولاً: من منظور الشركة في الوجود الإلهي:
1- الوجود كمضمون لتبني الآب للإنسان : هذا ما يستعلنه سر المعمودية.
2- الوجود كمضمون للشركة في الروح القدس: هذا ما يستعلنه "سر المسحة" (التثبيت).
3- الوجود كمضمون للشركة في جسد الابن: هذا ما يستعلنه "سر الإفخارستيا".
ثانياً: من منظور الخلاص من الوجود العتيق:
4- الوجود كمضمون للترك والعودة: هذا ما يستعلنه "سر التوبة".
5- الوجود كمضمون لتجاوز الذات إلى الآخر: هذا ما يستعلنه "سر الحب الزيجي".
6- الوجود كمضمون لمواجهة الموت وهزيمته: هذا ما يستعلنه "سر الشفاء".
7- الوجود كمضمون لتقديم الذات، كمحرقة وكذبيحة: هذا ما يستعلنه "سر الكهنوت".
       كمال السر الكنسي
سر المسيح هو سر كامل فيه يتم تكريس الوجود الإنساني عديم الموت، ذلك الوجود الذي يمثل صورة (أيقونة) للثالوث القدوس؛ أي صورة للوجود الإلهي؛ فكما يحقق الله وجود ذاته بأن ينبع وجوده من الآب، بالابن في الروح القدس، الذي هو روح الآب وروح الابن، هكذا أيضا ينبع الوجود الإنساني، بالنعمة من الآب بالعضوية في جسد الابن في شركة الروح القدس. هذا هو إذن سر المسيح الذي يتحقق فيه استعلان سر الثالوث القدوس في الخليقة.
لذلك، فإننا نقول بأن سر المسيح هو سر واحد وهو سر كامل.
- سر المسيح (كياننا الجديد المتحقق في المسيح) هو جوهر واحد في عدة صور. كيان واحد في سبع أيقونات هي سبعة امتلاءات لسبعة "رموز احتمالات" وجودنا العتيق.
- كل أيقونة هي كشف كامل لسر المسيح؛ بمعنى أنها استعلان كامل للوجود الجديد ولا تتكامل الأيقونات فيما بينها، بل أن كل أيقونة هي كل سر المسيح، هي كل الوجود الجديد، هي كل الحدث، هي كل النعمة، وما تعدد الأيقونات إلاَّ استعلان لكمال النعمة باستيفاء إشباع جميع الاحتياجات والاحتمالات التي يتحقق، بإشباع أي منها، وجودنا.
فوجودنا الجديد في المسيح تكشفه بالكامل (وعلى حدة) كل من:
1- أيقونة: صبغة "البدء الأبدي"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتمال وجودنا بالولادة"، فيتكرس لنا في المسيح بدء أبدي وولادة أبدية ونتقبل إلى الأبد وجودناً نابعاً من شخص الآب، شخص البدء المطلق، صائرين أبناء له باشتراكنا في الابن المتجسد وهكذا يصطبغ وجودنا بصبغة الولادة اللانهائية. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر الصبغة، هذا هو سر المعمودية.
في المسيح يصير للبشر الحياة الأبدية وعدم الفساد. فالمسيح هو سر صبغة الجميع بالحياة، سر ولادتهم ثانية كأبناء للآب.
2- أيقونة: "مسحة التثبيت"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتياج وجودنا إلى الثبات والبقاء"، فيتكرس لنا في المسيح وجود ثابت غير منحل، وذلك بفضل قوة الروح القدس الذي يمسحنا مسحة أبدية جاعلاً منا كنيسة أي هيكلاً أبدياً له. هذا هو سر المسيح الذي فيه يمسح الجميع، هذا هو سر الميرون. في المسيح يُمسح البشر صائرين هيكلاً أبدياً للروح القدس، فالمسيح هو سر مسحة الجميع.
3- أيقونة: "العودة"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتياجنا أن نعود إلى النموذج الأصلي"، فيتكرس لنا في المسيح وجودنا الحقيقي الذي أراد الله لنا أن نكونه، وهنا وفي المسيح فقط تتوفر لنا الرؤية والفهم لندرك كم كنا بؤساء فاسدين فنعترف بتلك الحقيقة المتكشفة في ضوء النموذج. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر العودة، هذا هو سر التوبة والاعتراف.
في المسيح يعود البشر إلى نموذجهم الذي جبلوا عليه، فالمسيح هو سر عودة وتوبة الجميع.
4- أيقونة "الشركة"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتياجنا للشركة في الطعام"، فيتكرس لنا في المسيح الشركة الحقيقية في حياة الكلمة المتجسد، صائرين أعضاءاً فيه وفيما تتحقق شركتنا معه، فإنه تتحقق أيضا شركتنا في ما بيننا. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر الشبع الأبدي، وبالتالي فهو سر الشكر على الشبع الأبدي، هذا هو سر الإفخارستيا.
في المسيح يشبع البشر بالحياة الأبدية وعدم الموت، فالمسيح هو سر شركة وشكر الجميع.
5- أيقونة "الحب الزيجي"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية شبقنا المعرفي في تجاوز ذواتنا واتحادنا بالآخر"، فيتكرس لنا في المسيح كيان يتبنانا فيه الآب فتتحقق فينا إلى الأبد "أنثوية" الخليقة التي يفيض عليها وجودها الجديد النابع من رجلها ورأسها الرب يسوع. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر الزيجة. في المسيح يعرف البشر الآب معرفة أبدية باشتراكهم في ابنه الذي صار لهم رجلاً وصاروا له عروسا، فالمسيح هو سر الزيجة الأبدية بين الإنسان والله.
6- أيقونة "التقدمة"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتياجنا إلى الوفرة والأخذ اللانهائي"، فيتكرس لنا في المسيح وجود الغنى الكامل الذي به نتحول إلى العطاء لدرجة أننا نقدم ذواتنا العتيقة قربانا وذبيحة إلى الآب مشتركين في موت الرب، فنستحق أن ننضم إلى باكورتنا الصاعد إلى السماء، الرب يسوع. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر تقدمة الذات، هذا هو سر الكهنوت. في المسيح، رئيس الكهنة يصير البشر كهنة، فيقدمون ذواتهم ذبائحً مقبولة لدى الآب، فالمسيح هو سر كهنوت الجميع وتقدمتهم المقبولة.
7- أيقونة "مسحة الشفاء"، وذلك حينما تمتلئ "رمزية احتياجنا إلى دفع الموت والخلاص منه"، فيتكرس لنا في المسيح الوجود عديم الموت بفضل العضوية في جسد الحياة ذاته؛ أي "جسد الكلمة" وبذلك تتحقق الوسيلة الوحيدة للخلاص من الموت والشفاء منه، بل والوقاية الأبدية منه وذلك من خلال التدبير الإيجابي الذي للنعمة، وهكذا تمسح طبيعتنا بمسحة عدم الموت. هذا هو سر المسيح، هذا هو سر الشفاء من داء الموت.
في المسيح يتم شفاء الجميع من داء الموت الذي يدفع عنهم بفضل اشتراكهم في حياة الكلمة، فالمسيح هو سر شفاء الجميع.
         السر الكنسي وجدلية "الفرد والجماعة"
   سر المسيح هو سر الجماعة، سر الكنيسة المستوعبة في شخص الكلمة المتجسد. لذلك فإن السر الكنسي ليس مجرد أداة للتقوى الفردية ولكنه حدث التكريس المتزامن والمتلازم لكل من وجود الفرد ووجود الجماعة وذلك بفضل الطبيعة الخاصة للعلاقة بين الفرد والجماعة المقصودين. ومفهوم الخصوصية هنا هو علاقة الانتماء العضوي بين الطرفين؛ فتحقيق وجود العضو هو تحقيق لوجود الجماعة بنفس القدر ؛لأن وجود الجماعة ليس مجرد اجتماع لمجموعة من الأفراد المنعزلة عن بعضها ولكنه وجود لجسد واحد يضم في كيانه الكثرة الكثيرة من الأعضاء.الكنيسة شخص، رأسه المسيح وفيما يتحقق وجود عضو من أعضاء جسد المسيح، فإن الشخص الكامل يصبح أقرب للتحقق بقدر الإضافة التي أضافها وجود ذلك العضو.
النقطة الجوهرية في فهم العلاقة بين الفرد والجماعة في السر الكنسي هي تحرير مفهوم الكنيسة ذاته من "المأسسة" (أي تحريرها من مجرد كونها مؤسسة إنسانية متمايزة ومعزولة)، فالكنيسة ليست هكذا لأنها بكل بساطة هي الوجود الإنساني الجديد في المسيح، هي الخليقة الجديدة؛ هي الكون الجديد، هي ملكوت السماوات.
1- في سر المعمودية، وفيما يصطبغ وجود الفرد الإنساني بصبغة الولادة الأبدية - أي صبغة القبول اللانهائي لوجوده كشريك بالنعمة في الابن الذي يقبل سرمديا وجوده الذاتي من أبيه - فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح (الكنيسة)، إنما قد أصبح ابنا للآب، فقد تم تبنيه من لدن الآب (شخص البدء المطلق). في "المعمودية" تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي كحالة من البدء اللانهائي، كحالة من الولادة الأبدية.
2- في سر المسحة (التثبيت) وفيما يتحقق للفرد الإنساني وجود ثابت وباق بمسحة الروح القدس - أي وجود روحاني عوضاً عن الوجود النفساني الفاسد والمنحل - فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح ( الكنيسة)، إنما قد أصبح هيكلا أبديا للروح القدس. في "المسحة" تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي كوجود روحاني أي كشريك في الطبيعة الإلهية.
3- في سر التوبة، وفيما يتحقق للفرد الإنساني العودة إلى الوجود الذي قد سبق أن خلق من أجله - فيترك واقعه البائس معترفاً ومقراً ببؤسه- فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح (الكنيسة)، إنما قد أصبح ذات النموذج الأصلي الذي خلق من أجله. في "التوبة" تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي العائد إلى النموذج الذي أراده الله أولاً.
4- في سر الإفخارستيا، سر الشركة، وفيما تتحقق "شخصنة" الفرد الإنساني أي صيرورته شخصاً حراً - بعد أن كان مجرد رقم ينتمي للطبيعة العتيقة- بصيرورته عضواً في جسد المسيح، فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح (الكنيسة)، إنما قد أصبح شخصاً جامعاً لكل الشخوص، وكل شخص يساهم في تلك الشركة بهوية خاصة متمايزة غير متكررة وغير قابلة للتبديل أو الإلغاء. في الإفخارستيا تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي كوجود شخصي  وليس مجرد طبيعة حية.
5- في سر الحب الزيجي، وفيما يتحقق للفرد الإنساني التخلي عن أنانيته وعن تمركزه حول وجوده العتيق - فيتجاوز ذاته إلى معرفة الآب فيتحقق وجوده الأبدي - فإن ذلك يعني أن الجنس البشرى الجديد في المسيح (الكنيسة)، إنما قد أصبح وجودا يحققه جميع أفراده بالتخلي عن كياناتهم العتيقة، فيتم - في شبق معرفي أبدي - التحقيق المتبادل لوجود الذات، في الآخر(بين المسيح والكنيسة). في سر الزيجة تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي كوجود معرفي.
6- في سر الكهنوت، وفيما يتحقق للفرد الإنساني تقدمة عتيقه كمحرقة يشترك بها في موت الرب - فيتحقق له عوضا عنه وجوده الجديد - فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح (الكنيسة)، قد أصبح صعيدة مقبولة لدى الآب، وفي المسيح يصبح كل عضو كاهنا يرفع تقدمة ذاته مستمداً كهنوته من رأس الكيان الذي هو رئيس الكهنة، الرب يسوع المسيح. في سر الكهنوت تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي، كقربان وكصعيدة (أنافورا) مقبولة.
7- في سر مسحة الشفاء، وفيما يتحقق للفرد الإنساني الخلاص من الموت والشفاء من دائه، بل والوقاية الأبدية من شوكته - بالشركة في حياة الكلمة المتجسد - فإن ذلك يعني أن الجنس البشري الجديد في المسيح (الكنيسة) قد أصبح حراً من عبودية الخوف التي من الموت.
في سر الشفاء تتكشف حقيقة الوجود الإنساني الكنسي، كوجود غير قابل للموت.
الاحتواء المتبادل بين الأسرار السبعة
  إذا كان شخص المسيح هو الجوهر الذي يكشفه كل سر من الأسرار السبعة،  فإن ذلك يعني أن هناك نوعا من الاستيعاب المتبادل (co-inherence) بين الأسرار السبعة، فشخص المسيح هو منطقة تقاطع جميع الأسرار. وحديث اللاهوت يبدو أكثر بساطة من هذا الطرح الفلسفي؛ فمن غير المتخيل ومن غير المقبول لاهوتياً أن نقول بأنه – على سبيل المثال – في سر المعمودية تتكشف ولادة الإنسان، ولادة جديدة - صائراً ابناً للآب باشتراكه في بنوية الابن المتجسد، بالنعمة - دون أن يكون مضمون هذا الأمر هو صيرورته "إفخارستياً"، أي عضواً في جسد الابن، تلك العضوية التي يرى فيها الآب كل من حصل عليها، ابناً له. ودون أن يكون مضمون هذا الأمر، أيضا، هو صيرورة الإنسان "ممسوحاً" وشريكا في الروح القدس الذي يسكن إلى الأبد في"أولاد الله"، الصائرين هيكلا للروح القدس. إذن استعلان كمال ولادة الإنسان من فوق وخلقته خلقة جديدة، الذي يكشفه سر المعمودية يستوعب ضمنياً مسحته هيكلاً أبدياً للروح القدس، ويستوعب ضمنياً أيضاً، عضويته في جسد الكلمة.
ونستطيع أيضا أن نطبق نفس المفهوم على باقي الأسرار؛ فولادة الإنسان للحياة الأبدية كابن للآب السماوي تعني "شفاء" الإنسان أبدياً من داء الموت الطبيعي. وتعني أيضا تقدمة الذات الإنسانية كصعيدة "كهنوتية"مقبولة لدى الآب. وتعني أيضا عرساً و"زيجة " أبدية بين الإنسان والله. وتعني أيضا "عودة وتوبة" إلى النموذج الذي جبل الله الإنسان عليه منذ البدء.
ولنا في هذا السياق سؤالان أساسيان وجوهريان:
1- هل نتحدث عن "اختزال" الأسرار السبعة في سر واحد؟
الإجابة هي بالتاكيد "لا"، فالأسرار السبعة هي سبعة استعلانات لسبعة امتلاءات لاحتياجات أركان الوجود الإنساني العتيق حتى ما يصير وجوداً جديداً مؤلَّهاً بالشركة في الطبيعة الإلهية (شركة الروح القدس، سباعي الاستعلان)، منعتقاً من فساده الطبيعي. والقوال بالاختزال يفترض أيضا اختزالاً موازياً لأركان وجودنا العتيق. فهل من الممكن أن نقول مثلا إن وجودنا العتيق هو وجود ينشأ من العدم بإرادة خارجة عنه، فقط؟ هل تصلح هذه العبارة تعريفاً للوجود الإنساني؟ بالتأكيد لا، فتعريف الوجود الإنساني الطبيعي - لكي يكون تعريفاً صحيحاً - لابد أن يكون ذلك التعريف السباعي الذي رصدناه سابقاً. فالتعريف الأحادي ينطبق على أنواع أخرى من الوجود، فمثلا، الملائكة أيضا تنشأ من العدم بإرادة خارجة عنها، ولكن الملائكة لا تنمو ولا تتطور ولا تموت وليس عندها دوافع وجودية مختلفة. إذن، حديث "الاختزال" هو حديث غير ذي مضمون وغير ذي معنى. ولأنه لا وجود إنساني طبيعي إلاَّ من خلال ذلك التعريف السباعي لأركان الوجود، فأيضاً لا مضمون للسر الكنسي إلاَّ في هذه المنظومة الأسرارية (إذا جاز التعبير) التي فيها يستعلن ملء الكل، فيما يستعلن ملء الواحد، في الروح القدس الواحد، ذي الاستعلان السباعي.
 2- هل نتحدث عن نظرية هائمة، لا صلة لها بالواقع؟
الإجابة أيضا لا، فالمنظومة الأسرارية تنطلق من الواقع بتلامسها مع الوجود الإنساني البائس. والدليل على ذلك هو وجود ثلاثة أسرار أساسية، وبدونها لا يعتبر المرء أنه قد دخل إلى المنظومة الأسراية الكنسية، وهي "المعمودية والميرون (المسحة) والإفخارستيا. ونستطيع أن ندرك أن هذه الثلاثية إنما تستعلن الوجود الجديد، صورة الثالوث القدوس، عوضا عن العتيق الفاسد. فالمعمودية شركة في الآب بالتبني. والميرون شركة في الروح القدس بالمسحة. والإفخارستيا شركة في الابن بالعضوية في جسده. والشركة - بالطبع - في أي أقنوم هي شركة في الأقنومين الآخرين، وبالتالي هي دخول إلى مظلة شركة الثالوث. إذن، المنظومة الأسرارية تتعاطى مع الواقع الإنساني لتنقله إلى نعمة الشركة في الواقع الإلهي. هذا من حيث المضمون، أمَّا من حيث الشكل والآلية، فهذا أيضا يحترمه منطق السر الكنسي، فليس الأمر مجرد احترام واقعية وجودنا من خلال الأسرار الأساسية، بل أيضا في احترام التراتبية، إذ تأتي المعمودية كفاتحة للمنظومة الأسرارية، لتتعاطى مع البداية الطبيعية للوجود، أي الولادة، فتقدم- في المقابل - البديل الصحيح، وهو استعلان الولادة الأبدية. ثم تأتي المسحة لتتعاطى مع هشاشة الوجود، فتقدم - في المقابل- البديل الصحيح، وهو استعلان الثبات الأبدي. ثم تأتي الإفخارستيا لتتعاطى مع الهوية الضائعة للإنسان، فتقدم – في المقابل- البديل الصحيح، وهو استعلان الوجود الشخصي الأبدي للإنسان، في المسيح، كعضو (كشخص). إذن تتجذر الأسرار في تربة طبيعتنا العتيقة لتتعالى سيقانها فتصل إلى السماء حيث يتكشف ويتجلى ثمرها، في المسيح.
ينطلق السر الكنسي من صورة واقعنا البائس، محمولا نحو امتلاء كل رمزية هذه الصورة، في الروح القدس. وحينئذ يتجلى ملء السر، فإذ هو، شخص المسيح.
                                خلاصة عامة
1- المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى أن يبدأ بمبادرة خارجة عنه، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس، "روح المشورة"، فيولد من فوق، صائرا ابنا للآب. هذا هو ما يتم كشفه في سر"المعمودية ".
2– المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى الثبات والديمومة، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس، "روح القوة"، فيصير هيكلا أبديا للروح الساكن فيه. هذا  هو ما يتم كشفه في سر"المسحة".
3- المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى العودة إلى النموذج الأصلي الذي جبل من أجله، وترك الحاضر الفاسد بالطبيعة، وذلك حينما يقبل الإنسان شركة الروح القدس "روح الفهم"، فيدرك بؤس واقعه ويقر به عائدا إلى ما كان يجب أن يكون إياه. هذا هو ما يتم كشفه في سر"التوبة".
4– المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى الشركة مع الآخر، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس، "روح الله"، فتتألَّه طبيعته، أي تشترك في حياة الله (الذي له وحده عدم الموت)، بالعضوية في جسد ابنه، الذي هو شركة الكنيسة كلها. هذا هو ما يتم كشفه في الإفخارستيا .
5- المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى تجاوز الذات إلى معرفة الآخر، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس "روح المعرفة"، فيصير له وجود معرفي أبدي، للآب السماوي، في زيجة أبدية بين الله والبشر هذا هو ما يتم كشفه في سر "الحب الزيجي".
 6- المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى التحلي بحكمة مفادها "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس "روح الحكمة"، فتتغير طبيعته من سعي الأخذ اللانهائي، إلى عطاء الذات الأبدي، إذ يرفع الإنسان ذاته تقدمة وصعيدة مقبولة إلى الآب. هذا هو ما يتم كشفه في سر"الكهنوت".
7- المسيح هو سر إشباع احتياج الوجود الإنساني إلى دفع الموت والوقاية منه والبرء من لدغته، وذلك حينما يقبل الإنسان الشركة في الروح القدس "روح التقوى"، فلا يعود يخاف الموت إذ قد حيل بينه وبين موته الطبيعي. هذا هو ما يتم كشفه في سر "مسحة الشفاء".
 مجدي داود

ليست هناك تعليقات: