الشخصية الكونية للرب يسوع التاريخي هي الحلقة
المفقودة في المسار التاريخي للفكر الخريستولوجي ، وإنني أعتقد بأن فقدان هذه الحلقة
، كان سببا رئيسيا ، خفيا وراء صناعة الهرطقات الكبرى ، التي تحدت الفكر الخريستولوجي
في كل تاريخه . وليس لدينا مثل ، أكثر وضوحا ، من ذلك الجدل اللاهوتي - الذى اتخذ مسارا
من الصراع المرير ، والعنيف ، أحيانا - بين المونوفيزيتيزم ( monophysitism = القول بطبيعة واحدة ، في
المسيح ) والديوفيزيتيزم ( diophysitism
=
القول بطبيعتين ، في المسيح ) ، الذي هو في حقيقته صراع بين فريقين من الخائفين : الفريق
الأول هو فريق المرعوبين من النسطورية والفريق الثاني هو فريق المرعوبين من الأوطيخية
. وكل من الفريقين قد تشبث بالمصطلحات والتعبيرات ، حتى حروف الجر . وضاع المضمون وانقسمت
الكنيسة الأرثوذكسية قرونا وقرونا وما زالت تعاني من هذه الشروخ حتى الآن . ولدينا
، تاريخيا ثلاثة من الهرطقات الكبرى ، التي أتعبت الكنيسة وقدمت أطروحات منحرفة خريستولوجيا
( إذا جاز التعبير)، هذه الهرطقات هى : الأبولينارية
، النسطورية والأوطيخية . وما أعتقده - شخصيا - هو أن العامل المشترك ، الذي كان وراء
بناء أي من هذه الهرطقات ، هو تلك الحلقة الخريستولوجية المفقودة ، أى غياب الاعتقاد
بوجود الشخصية الكونية للرب يسوع ، التاريخي ؛ فقد اعتقد ثلاثتهم أن أنسانية يسوع هي
فقط ذلك الكيان العتيق الذي يشبهنا نحن ، تماما ، كيان اللحم والدم . وقد اختزلت إنسانية
يسوع في كيانه العتيق الظاهر ، المرصود تاريخيا ، والذي تقبل الألم والموت . هذا الاعتقاد
، لا شعوريا، قد رسخ نظرة دونية من نحو إنسانية يسوع ، مقارنة بلاهوته ، وهكذا قد كان
واردا ، من أحدهم ( أبوليناريوس ) أن يربأ بشخص الكلمة المتجسد ، من أن يكون له عقل
إنساني ( نفس إنسانية ). وقد كان حريا بآخر، وهو نسطور أن يربأ بالكلمة المتجسد ، من
أن يكون قد ولد من العذراء ، ويربأ بالله من أن يقال ، أن العذراء هي ثيؤتوكوس . وقد
كان حريا بالأخير أن ينزلق فى اتجاه ، أن كيانا قوامه ، اللحم والدم ( حسب معتقده
) ، غير جدير بأن يثبت في الكلمة الى الأبد . هكذا ، قد غاب عن جميعهم ، أن الرب يسوع
التاريخي ، ليس هو فقط ذلك العتيق الظاهر المرصود تاريخيا . غاب عنهم ، جميعا أن ذلك
الظاهر، هو فقط مجرد قمة جبل الجليد بالنسبة لإنسانية يسوع . إن الكلمة ، حقا قد صار لحما ودما ( sarx) ، ولكن هذه مجرد رؤية من زاوية واحدة ، فهناك زاوية
أخرى وهي ، أنه فيما صار الكلمة لحما ودما ، فقد صار باكورتنا ، فيه ، روحا محييا
. وفيما لبس ذاك صورة الترابي ، آدم الأول ، لبس باكورتنا ، فيه ، صورة آدم الثاني
، الجديد الرب الذي من السماء .والنقطة المحورية ، وحجر الزاوية ، هنا ، هي التزامن
والتلازم المطلقان ، بين الصيغتين الإنسانيتين . آدم الثاني ، الكيان الروحاني ، هو إنسانية يسوع
الجديدة ، التي صارت حقيقة كونية منذ أول لحظة للحبل الإلهي . هذا هو نموذج الإنسان
الكامل ، الذي نقصده ، ولابد أن نقصده ، حينما نقول بأن المسيح هو إنسان كامل وإله
كامل . هذا الكيان هو الكيان الوحيد ، المنوط بالشركة في الاتحاد الأقنومي ، المفهوم
الذي كرسه اللاهوت السكندري ، لدحض بدعة نسطور.لم يتحد الكلمة أقنوميا بلحم ودم ، لأن
لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله. هذا اللحم والدم هو نحن . هذا اللحم والدم
، هو الذي صرخ على الخشبة : " إلهي، إلهي، لماذا تركتني " ، فهو متروك بالطبيعة
. هو عارنا الذي التحف به ، حتى إذا ما شقه وخلعه وهبنا مجده الذي كان مستورا خلف هذا
الثوب العتيق . والثوب يظل ثوبا ولا يصير من طبيعة لابسه ، وإن بدا المشهد غير ذلك
.وحينما ظهر الكلمة المتجسد في العالم العتيق فقد ظهر مرتديا ذات العالم العتيق .ولكن
ما يجب أن نؤكده هو أن ذلك العتيق لم يكن آخرا بالنسبة للشخص ككل، فقمة جبل الجليد
ليست جبلا آخرا غير ذلك الكيان العظيم المستتر في جوف المياه .لذلك فنحن نقول بأن الألم
والموت الذين جازا في العتيق ، قد حسب أن الشخص كاملا ، قد اجتازهما فالكلمة المتجسد
قد قبل الألم والموت . في شخصه الكامل بالرغم من أن الذي يتألم ويموت هو ظاهره العتيق
وليس باطنه الجديد ، الذي هو حر من الألم والموت والزمان والمكان ، وهو كائن منذ أول
لحظة للتجسد فى الكون كله لأنه قد أصبح كائنا في اتحاد أقنومي مع الكلمة الحاضر في
الكون . حتى مفهوم " الإرادتين والفعلين " قد كان نبتا شرعيا لغياب مفهوم
الشخصية الإنسانية الكونية ، التي هي الكيان الجديد ليسوع ونتيجة منطقية لاختزال إنسانيته
في عتيقه الظاهر ، وبالتالى فمن المنطقي الاعتقاد بعدم أهلية الإرادة الإنسانية والفعل
الإنساني ، ليسوع - للاتحاد الأقنومي مع الإرادة والفعل الخاصين بالكلمة . وهنا يجب
أن ندرك أنه حتى الإرادة العتيقة الخاصة بحجاب الرب يسوع ، التاريخى ، كانت خاضعة لإرادة
شخص الكلمة المتجسد فى كيانه الكامل والواحد ، فنرى يسوع في معاناته الأخيرة ، فى عشية
قتله ، يقول : لتكن لا إرادتي بل إرادتك ، بالرغم أنه كان يريد أن ترفع عنه الكأس بحكم
الطبيعة العتيقة ، التى هي طبيعتنا . إذن حتى الإرادة العتيقة - وإن كانت مخالفة لإرادة
الجديد ، فقد تم تخطيها وتجاوزها ، لحساب الجديد ، لتكون الثمرة النهائية ، إرادة واحدة
وفعل واحد لشخص مركزي واحد هو الكلمة المتجسد . إذن : مفهوم التغير والتجديد ، الحادث للطبيعة البشرية
في الرب يسوع التاريخي ، هو في حقيقته ، ما يمكن أن نطلق عليه " استحقاق الاتحاد
الأقنومي، في شخص الرب يسوع ، التاريخي ". بمعنى أن الأمر الوحيد الكاشف ، لكون
أن إنسانية يسوع كائنة في اتحاد أقنومي ، مع الكلمة - هو ظهور هذه الطبيعة البشرية
، متحررة من الألم والموت والزمان والمكان . هذا هو مجد الشركة في الكلمة ، هذا هو
مجد الاتحاد الأقنومي . ما ينبغى أن نواجه به أنفسنا هو : إما أن نعتقد بأن الرب يسوع
، التاريخي ، هو شخص واحد ، يثمره اتحاد أقنومي بين الكلمة والانسان - وفي هذه الحالة
لابد أن نعتقد بأن مجد الطبيعة الجديدة ، قائم كحقيقة واقعية ، منذ أول لحظة للتجسد
، في رحم العذراء - أو ننزلق إلى الهرطقة فنعتقد بأن الاتحاد الأقنومي ، قد تم بعد
موت الرب ، وذلك حتى ما نستطيع تبرير نشأة القيامة وظهور الكيان الجديد ، بعد الصليب
، زمنيا . القضية ، ببساطة هي أن الرب يسوع ، التاريخي هو شخص الكلمة المتحد أقنوميا
بالإنسان الكامل وهو باجتيازه الصليب والموت فقد اجتاز ما يمكن أن نطلق عليه :
" اختبار التحدي "، الذي رسب فيه إنساننا الطبيعي - وباجتيازه هذا الاختبار
لم يستطع الموت أن يأخذ منه غير حجابه الظاهر ، الذي - هو أيضا - طبيعتنا العتيقة
- وهكذا خرج السيد من الاختبار منتصرا ومظهرا جديده ، في كل مجده ومعلنا إياه بالقيامة
، بعد أن تم خلع الحجاب . في اعتقادي أن علاقة اللاهوت بالناسوت ، في شخص المسيح ،
لم تكن هي المعضلة الرئيسية، في الجدل الخريستولوجي المرير ، الذي اجتازته الكنيسة
- وإن بدا ظاهر الأمر غير ذلك - ولكن المسألة الخفية هي علاقة مانظنه الناسوت بالناسوت
الكامل!. هذه هي الحقيقة العجيبة ، التي هي السر الخفى وراء الحلقة المفقودة ، التي
نتحدث عنها . إن طبيعتنا حينما صارت في الكلمة ، بالتجسد ، فقد حدث أمر جلل منذ أول
لحظة للتجسد ، وهو أنه قد زرع فيها كيان إنسانيتنا الجديد وباكورته ، الرب يسوع التاريخي
. وهنا لابد أن نفرق بين صيغتي وجدودنا في الرب يسوع التاريخي . الصيغة الأولى هي طبيعتنا
نحن ، اللحم والدم ، الإنسان النفساني ، القابل للألم والموت . هذه هي صيغة المزرعة
، أو البيئة ( إذا جاز التعبير ) .أما الصيغة الثانية فهي الإنسانية الجديدة ، التي
هي التعبير الوحيد ، العملي ، عن الاتحاد الأقنومي بين الناسوت واللاهوت ، هذه هي الصيغة
الإنسانية ، الثمرة التي نبتت ، حينما زرع الكلمة ذاته في طبيعتنا . إذن ، في الرب
يسوع ، التاريخي ، لابد أن نميز الفرق بين باكورة انسانيتنا الجديدة ، ورأسها - غير
القابل للألم والموت ، لأنه شخص الكلمة المتحد أقنوميا بالانسان- وطبيعتنا العتيقة
التي ظل ملتحفا بها كرداء ، وكمنبت لكيانه الجديد ، وفيها ، قد قبل كل استحقاقاتها
، من ألم وموت ، وحينما أسلمها لمصيرها الطبيعي ، كان له أن يعلن نصرة الجديد ، بإعلانه
القيامة ، كحقيقة لإنسانيته الجديدة ، التي كانت مخفية خلف الحجاب العتيق ، والتي هي
حقيقة ، وأمر واقع منذ أول لحظة للتجسد ، وكاستحقاق للاتحاد الأقنومي الحادث ، أيضا
، منذ أول لحظة للتجسد . المسلمة الأولى في الخريستولوجيا هي أن الرب يسوع ، التاريخي
، هو إنسان كامل ، وإله كامل بآن واحد . انسانية الرب يسوع هي فى حالة احتواء ( تواجد)
متبادل مع لاهوته ، حتى أنه ينظر إليه فيرى الإنسان الكامل ، وأيضا ينظر إليه ثانية
، فيرى الإله الكامل . ولكن السؤال الجوهري هو : ما معنى تعبير" الإنسان الكامل
" ؟ . هل الإنسان الكامل هو طبيعتنا البشرية العتيقة ، أي الإنسان النفساني ،
اللحم والد م ؟ إذا كان تعبير الإنسان الكامل ، في
سياقه الخريستولوجي يعني الكيان البيولوجي ، الحيواني ، النفساني ، الذي نحن إياه ،
والذي تم تجديده في المسيح ، بالقيامة - فتكون النتيحة المنطقية ، لهذه الفرضية ، هي
أن الكلمة بتجسده ، قد لبس إنسانية ناقصة ، مكملا إياها بالقيامة . ويكون الاتحاد الأقنومي
كائنا بين عنصرين ، هما الكلمة والطبيعة الإنسانية الحيوانية ، العتيقة ، من لحم ودم
. وتكون النتيجة الأكثر كارثية ، هي أن شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، قد ظل ناقصا،
إلى أن اكتمل ، وتجدد ، ونال عدم الفساد ، بالقيامة . وبمعنى أكثر فجاجة ، يكون شخص
الكلمة المتجسد ، قد تغير بالقيامة عن ما كان عليه قبل القيامة .وعليه فيكون حدث التجسد هو غير كامل
منذ أول لحظة للحبل ، ويكون أيضا أن الاتحاد الأقنومي هو غير كامل منذ أول لحظة للتجسد
؛ لأن ما كان الكلمة قد اتحد به أقنوميا منذ بداية الحبل ، قد تبدل وتغير بالقيامة
. أي كفر ، وأى هرطقة ، من الممكن أن تكون أعظم من هذا ؟!، وأي مفهوم للاتحاد الأقنومي
يكون هذا ؟!. هناك ، إذن فرق جوهري ودقيق ،
بين أن يقال أن الكلمة قد اتحد اقنوميا بالطبيعة البشرية ، الخاضعة للألم والموت ،
مجددا إياها بالقيامة - وأن يقال أن الكلمة قد زرع ذاته فى الطبيعة البشرية الخاضعة
للألم والموت ، فنبت فيها باكورة الطبيعة الجديدة ، غير القابلة للألم والموت ، هذا
الذى أعلن لنا ، بإظهار القيامة في اليوم الثالث لموت الرب ، بعد أن خلع طبيعتنا العتيقة
على الصليب . فالقيامة هي حقيقة واستحقاق الاتحاد
الأقنومي لشخص الرب يسوع ، منذ أن صار هناك اتحاد أقنومي ، مع أول لحظة للحبل فى رحم
العذراء . وأما الألم والموت فهما حقيقيان ، وبكل تأكيد ، ينسبان إلى الشخص كاملا ،
وسيظل الخروف المذبوح ، هو الخبرة الأبدية المنقوشة في وعي شخص الرب يسوع المسيح . واقع الحال هو أن إنساننا العتيق ليس
بأي حال من الأحوال ، إنسانا كاملا . فالإنسان الكامل هو ذلك النموذج الذي جبل الإنسان
عليه ، وقد صار هذا النموذج واقعا كونيا ، جديدا مع أول لحظة للتجسد .وبالرغم من ظهور
ذلك الإنسان الكامل، فقد ظل لابسا نقصنا ، إلى أن اجتاز فيه موتنا ، فتمت إبادة النقص
، وتم موت الموت ، ووهب لنا الكامل ذاته ، كرأس لكمالنا وكمصدر لحياتنا وكبداية للكون
الجديد . الإنسان الكامل ، كائن خلف الذبيح المعلق على الخشبة ، بل هو كائن في أعماق
الكون كله منذ أول لحظة لحدث التجسد . الإنسان الكامل هو جسد الكلمة الخاص الذي اجتاز
الموت في رداء ، هو طبيعتنا ، نحن . وحينما خلع هذا الرداء ، كان قد خلع الموت عنا
، معلنا عن جديده الكامل ، المستتر خلف طبيعتنا البيولوجية ، بل خلف الكون الطبيعي
، كله.
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق