نظرة إلى داخل العمق الأرثوذكسي
1- أيقونية
الوعي البشري
قبل الغوص في الأعماق اللاهوتية ، فانني أدعي بأن للأيقونة مفهوم ضالع وغائر
جدا في الوعي البشري . فكل إدراكنا للأشياء التي هي خارجنا هو إدراك ورصد للصورة ،
فنحن لانلتهم الأشياء بأذهاننا حتى نستطيع إدراك وجودها . نحن فقط ندرك صورة الأشياء
. وحتى عندما تتحول الأشياء إلى معان وملابسات ، داخل عقولنا ، فهي تختزن ، ليتم استعادتها
والتعاطي معها كصور ، كأيقونات . ولعلنا نستطيع أن نقول ، بكل تجريد وبصفة عامة ، بأن
الوعي البشري هو وعي أيقوني . وحتى القيم والمفاهيم المجردة ، إنما يتم حفظها والتعاطي
معها كصور ذهنية ، وكتخيلات تتكون بطريقة نسبية لكل شخص حسب مخزونه الثقافي وحسب قدرة
آلته العقلية .وحتى في إدراكنا لوجود الله ، فلكل شخص تخيل وصورة ذهنية ، قد كونها
وفقا لقدرات ذهنه وطريقة تعاطيه مع ما قد أتيح له ، ثقافيا ، من معطيات حول طبيعة الله
. ولكن نعمة العقل ، التي توج بها الإنسان وتميز بها عن سائر الكائنات البيولوجية الأخرى
- إذ هي نعمة الخلقة على صورة الله ومثاله ، وهي ظل الكلمة ( بحسب أثناسيوس ) - قد
جعلت الإنسان ، دائما في حالة من التخطي والتجاوز لنفسه . وقد جعلته في حالة من محاولة
الخروج من أيقونة ذاته ، وهاجسه الدائم هو أن الشبع وتحقيق الوجود ، لايمكن أن يتأتى
إلا خارجا عن تلك الصورة ، حيث الأصل ، أي الله . ولأجل ذلك فلم تكن الأيقونة ، كرصد
للواقع - كما هو- هي أفق الوعي البشري ، بل أن العقل البشرى ، بقدرته الهائلة ، ونزوعه
نحو المطلق ، لم يستسلم لأن يختزل في الأيقونة ، بل ظهرت قدرته على " ترميز الأيقونة
" ( أي جعلها رمزا ) . وهكذا استطاع العقل البشري أن يجعل من الأيقونة منطلقا
لحركته . وبدا الإنسان في مركز الكائن البيولوجي الوحيد الذي يستطيع ترميز الصورة ،
أي تخطيها وتجاوزها نحو آفاق مجردة بعيدة . وفي الواقع ، إننا لانستطيع أن ندرك
مفهوم سعي الإنسان الروحي نحو الله ، إلا إذا أدركنا الأهمية القصوى لمفهوم الرمز وضلوعه
في الوعي البشري ، كحركة تنطلق من صورة وعيه الواقعي لتتجاوزه نحو تحقيق وجود ذاته
، خارجا عن صورة ( أيقونة ) ذاته .
2- أيقونية الوحي الالهي
الوحي الإلهي ، المكتوب في الكتاب
المقدس هو ملحمة هائلة من التلاحق المتواتر لصور مختلفة من خبرة البشر للعلاقة مع الله
، عبر تاريخ يضم عدة آلاف من السنين . والشيء المذهل ، حقا ، هو أن الكتاب بجملته إنما
يعد بمثابة لوحة فسيفسائية عملاقة تتألف من ربوات القطع من الموزاييك ، ولكننا سواء
نظرنا إلى اللوحة الكاملة ، أو إلى الأجزاء الدقيقة فإننا لن نجد غير أيقونة المسيح
، الكلمة المتجسد . فالتاريخ - المرصود كتابيا - بكل أحداثه ، وبكل شخوصه ، وبكل الأدبيات
المسجلة فيه ، إنما لايشير إلا إلى المسيح . الأيقونة هي لغة الوحي الإلهي . فبينما
نعتقد بأن الكتاب المقدس يعتبر بحق أعظم وأدق كتاب تاريخي ، عرفه الإنسان ، إلا أننا
نعتقد بأن التاريخ ، بأحداثه وشخوصه ، لم يكن مستهدفا لذاته ، فالوحي الإلهي قد أظهر
الحدث التاريخي في صيغة الأيقونة ، المتسربلة بالرمز . الحدث التاريخي أصبح أيقونة
للخلاص المزمع أن يتم في المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر . وأيضا أصبحت جميع شخوص
الكتاب ، بطريقة أو بأخرى ، من قريب أوبعيد ، ذات دلالات رمزية متجاوزة للواقع الشخصي
التاريخي - لتلك الشخوص - نحو شخص واحد هو المسيح . هكذا بدا كل من الحدث التاريخي
والشخص التاريخي ، في لغة الوحي ، أيقونة يفوح منها الرمز إلى شخص المسيح . ألم يكن
- على سبيل المثال - اسحق ، ابن الموعد ، أيقونة ، يجب على وعي الذين يخاطبهم الوحي
الإلهي ، أن يتجاوزها ، رمزيا ، نحو شخص المسيح ، الابن الوحيد الذي قدم للذبح ولكنه
انتصر على الموت صائرا أمة عظيمة ، وارثة للمجد السماوي ؟ ألم يكن - على سبيل المثال ، أيضا - الحدث التاريخي
لعبور بني اسرائيل ، للبحر الأحمر - بعد شقه ، وغرق أجناد الشر - أيقونة ، يجب على
وعي الذين يخاطبهم الوحي الإلهي ، أن يتجاوزها ، رمزيا ، نحو شخص المسيح ، الذي فيه
تم عبور الكنيسة للموت الطبيعي - الذي لهذا العالم - نحو الحياة الأبدية والمجد السماوي
؟ ويبلغ الاستعلان الالهي قمته ، في لغة وحي
العهد الجديد ، في حدث التجسد ؛ إذ صار الكلمة أيقونة . أي أيقونة وجودنا ، تلك التي
ظهر فيها ، مقدسا إياها ، مختطفا إيانا من طبيعة الموت والفساد إلى الحياة في الكلمة
المتجسد ، بالشركة في جسده الخاص الذي صار رأسا لخلقتنا الجديدة ، وفيه قد صار الجميع
كائنين إلى الأبد في الكلمة أيقونة الآب وشعاع مجده ورسم جوهره. 3- أيقونية الليتورجيا الأرثوذكسية
تتجذر الأيقونة في الوعي والفكر الأرثوذكسي
. والأيقونة ليست مجرد تلك المرسومة المعلقة على جدار الكنيسة ، والتي يقدم أمامها
الإجلال والاحترام ، باستدعاء الشركة مع القديس الذي تستعلنه هذه المرسومة - وبصرف
النظر عن المقارنة بين الأيقونة والتمثال ، من الناحية الشرعية - فإن الأيقونة ، في
الوعي الأرثوذكسي تتخطى ذلك بكثير جدا ، فهي بنية ثقافية ، تنصهر وتتشكل فيها النظرة
اللاهوتية الأرثوذكسية . وأول ما يلفت النظر هو أن الأرثوذكسية هي العبادة الأيقونية
. فالليتورجيا الأرثوذكسية هي أيقونة لحدث إنجيلي ، يتم استعادته وولوجه في أيقونة
الطقس ، المتعاطي بطبيعته مع طبيعتنا البيولوجية ، بل مع صور مختلفة للمادة المحيطة
بنا ، بصفة عامة .
4- أيقونية السر الكنسي
تنطلق ليتورجيا السر الكنسي الأرثوذكسي
من أيقونة أو صورة معينة ، تسمى علامة السر ، المنظورة . وسواء كانت هذه العلامة مياها
أو زيتا أوخبزا أو خمرا ، فإن كمال السر الكنسي وتجليه للكنيسة ، إنما يتخطى مجرد الاختزالية
في جسم أسراري ، هو علامة السر . فلاهوت الأسرار الأورثوذكسي لايعرف التحول الجوهري
( transubstantiation
) ، وفي اللاهوت الأرثوذكسي لاتتماهى الأيقونة مع كمال السر وامتلائه .
الأيقونة ( علامة السر ) هي منطلق حركة السر ، والمدلول
الرمزي للأيقونة هو الحركة النعموية المحمولة بالروح القدس والتي تكشف وتظهر عمق الأيقونة
- الذي هو يتخطى ويتجاوز الأيقونة ، نحو المسيح - للمؤمنين المشتركين في الليتورجيا
. في الافخارستيا تتجلى الأيقونة كمنطلق لحركة الكنيسة نحو تحقيق ذاتها . فأيقونة الخبز
المكسور ، المهترئ - التي هي أيقونة واقعنا المأساوي - تتجلى في الروح القدس ، للمشتركين
في الليتورجيا ، خبزة واحدة ، مصنوعة من طحين حنطة الرب ، المجتمعة من أربعة رياح الأرض
، والمختمرة بالنعمة . تتجلى الكنيسة جسدا واحدا ، وشركة واحدة ، في المسيح . وتتجلى
أيقونة كأس الخمر المسكوب كأس شركة للجميع ، الصائرين في وحدة كرمة الرب ، التي عصرت
جميع حبات عنبها ، واختمر عصيرها بالروح القدس .
خلاصة
الأيقونة ، من منظور العمق الأرثوذكسي ، ليست هي
الصورة التي ترصدها عيوننا البيولوجية ، بل إن لها مفهوما أعمق من ذلك ، ينسحب على
وعينا وإدراكنا للحقيقة . وهو مفهوم ديناميكي ، متنام ، تحملنا فيه النعمة ، من خلال
الرمز إلى شركة الطبيعة الإلهية ، حيث ندرك ونرى مالم تره عين ، أي نرى ماهو ليس صورة
( أيقونة ) .
مجدي داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق