الأحد، 22 أبريل 2012

لاهوت الأيقونة

 نظرة إلى داخل العمق الأرثوذكسي
    
  

                            1- أيقونية الوعي البشري
  قبل الغوص في الأعماق اللاهوتية ، فانني أدعي بأن للأيقونة مفهوم ضالع وغائر جدا في الوعي البشري . فكل إدراكنا للأشياء التي هي خارجنا هو إدراك ورصد للصورة ، فنحن لانلتهم الأشياء بأذهاننا حتى نستطيع إدراك وجودها . نحن فقط ندرك صورة الأشياء . وحتى عندما تتحول الأشياء إلى معان وملابسات ، داخل عقولنا ، فهي تختزن ، ليتم استعادتها والتعاطي معها كصور ، كأيقونات . ولعلنا نستطيع أن نقول ، بكل تجريد وبصفة عامة ، بأن الوعي البشري هو وعي أيقوني . وحتى القيم والمفاهيم المجردة ، إنما يتم حفظها والتعاطي معها كصور ذهنية ، وكتخيلات تتكون بطريقة نسبية لكل شخص حسب مخزونه الثقافي وحسب قدرة آلته العقلية .وحتى في إدراكنا لوجود الله ، فلكل شخص تخيل وصورة ذهنية ، قد كونها وفقا لقدرات ذهنه وطريقة تعاطيه مع ما قد أتيح له ، ثقافيا ، من معطيات حول طبيعة الله . ولكن نعمة العقل ، التي توج بها الإنسان وتميز بها عن سائر الكائنات البيولوجية الأخرى - إذ هي نعمة الخلقة على صورة الله ومثاله ، وهي ظل الكلمة ( بحسب أثناسيوس ) - قد جعلت الإنسان ، دائما في حالة من التخطي والتجاوز لنفسه . وقد جعلته في حالة من محاولة الخروج من أيقونة ذاته ، وهاجسه الدائم هو أن الشبع وتحقيق الوجود ، لايمكن أن يتأتى إلا خارجا عن تلك الصورة ، حيث الأصل ، أي الله . ولأجل ذلك فلم تكن الأيقونة ، كرصد للواقع - كما هو- هي أفق الوعي البشري ، بل أن العقل البشرى ، بقدرته الهائلة ، ونزوعه نحو المطلق ، لم يستسلم لأن يختزل في الأيقونة ، بل ظهرت قدرته على " ترميز الأيقونة " ( أي جعلها رمزا ) . وهكذا استطاع العقل البشري أن يجعل من الأيقونة منطلقا لحركته . وبدا الإنسان في مركز الكائن البيولوجي الوحيد الذي يستطيع ترميز الصورة ، أي تخطيها وتجاوزها نحو آفاق مجردة بعيدة . وفي الواقع ، إننا لانستطيع أن ندرك مفهوم سعي الإنسان الروحي نحو الله ، إلا إذا أدركنا الأهمية القصوى لمفهوم الرمز وضلوعه في الوعي البشري ، كحركة تنطلق من صورة وعيه الواقعي لتتجاوزه نحو تحقيق وجود ذاته ، خارجا عن صورة ( أيقونة ) ذاته .
                           2- أيقونية الوحي الالهي
الوحي الإلهي ، المكتوب في الكتاب المقدس هو ملحمة هائلة من التلاحق المتواتر لصور مختلفة من خبرة البشر للعلاقة مع الله ، عبر تاريخ يضم عدة آلاف من السنين . والشيء المذهل ، حقا ، هو أن الكتاب بجملته إنما يعد بمثابة لوحة فسيفسائية عملاقة تتألف من ربوات القطع من الموزاييك ، ولكننا سواء نظرنا إلى اللوحة الكاملة ، أو إلى الأجزاء الدقيقة فإننا لن نجد غير أيقونة المسيح ، الكلمة المتجسد . فالتاريخ - المرصود كتابيا - بكل أحداثه ، وبكل شخوصه ، وبكل الأدبيات المسجلة فيه ، إنما لايشير إلا إلى المسيح . الأيقونة هي لغة الوحي الإلهي . فبينما نعتقد بأن الكتاب المقدس يعتبر بحق أعظم وأدق كتاب تاريخي ، عرفه الإنسان ، إلا أننا نعتقد بأن التاريخ ، بأحداثه وشخوصه ، لم يكن مستهدفا لذاته ، فالوحي الإلهي قد أظهر الحدث التاريخي في صيغة الأيقونة ، المتسربلة بالرمز . الحدث التاريخي أصبح أيقونة للخلاص المزمع أن يتم في المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر . وأيضا أصبحت جميع شخوص الكتاب ، بطريقة أو بأخرى ، من قريب أوبعيد ، ذات دلالات رمزية متجاوزة للواقع الشخصي التاريخي - لتلك الشخوص - نحو شخص واحد هو المسيح . هكذا بدا كل من الحدث التاريخي والشخص التاريخي ، في لغة الوحي ، أيقونة يفوح منها الرمز إلى شخص المسيح . ألم يكن - على سبيل المثال - اسحق ، ابن الموعد ، أيقونة ، يجب على وعي الذين يخاطبهم الوحي الإلهي ، أن يتجاوزها ، رمزيا ، نحو شخص المسيح ، الابن الوحيد الذي قدم للذبح ولكنه انتصر على الموت صائرا أمة عظيمة ، وارثة للمجد السماوي ؟ ألم يكن - على سبيل المثال ، أيضا - الحدث التاريخي لعبور بني اسرائيل ، للبحر الأحمر - بعد شقه ، وغرق أجناد الشر - أيقونة ، يجب على وعي الذين يخاطبهم الوحي الإلهي ، أن يتجاوزها ، رمزيا ، نحو شخص المسيح ، الذي فيه تم عبور الكنيسة للموت الطبيعي - الذي لهذا العالم - نحو الحياة الأبدية والمجد السماوي ؟  ويبلغ الاستعلان الالهي قمته ، في لغة وحي العهد الجديد ، في حدث التجسد ؛ إذ صار الكلمة أيقونة . أي أيقونة وجودنا ، تلك التي ظهر فيها ، مقدسا إياها ، مختطفا إيانا من طبيعة الموت والفساد إلى الحياة في الكلمة المتجسد ، بالشركة في جسده الخاص الذي صار رأسا لخلقتنا الجديدة ، وفيه قد صار الجميع كائنين إلى الأبد في الكلمة أيقونة الآب وشعاع مجده ورسم جوهره.                                   3- أيقونية الليتورجيا الأرثوذكسية
تتجذر الأيقونة في الوعي والفكر الأرثوذكسي . والأيقونة ليست مجرد تلك المرسومة المعلقة على جدار الكنيسة ، والتي يقدم أمامها الإجلال والاحترام ، باستدعاء الشركة مع القديس الذي تستعلنه هذه المرسومة - وبصرف النظر عن المقارنة بين الأيقونة والتمثال ، من الناحية الشرعية - فإن الأيقونة ، في الوعي الأرثوذكسي تتخطى ذلك بكثير جدا ، فهي بنية ثقافية ، تنصهر وتتشكل فيها النظرة اللاهوتية الأرثوذكسية . وأول ما يلفت النظر هو أن الأرثوذكسية هي العبادة الأيقونية . فالليتورجيا الأرثوذكسية هي أيقونة لحدث إنجيلي ، يتم استعادته وولوجه في أيقونة الطقس ، المتعاطي بطبيعته مع طبيعتنا البيولوجية ، بل مع صور مختلفة للمادة المحيطة بنا ، بصفة عامة .
                      4- أيقونية السر الكنسي
تنطلق ليتورجيا السر الكنسي الأرثوذكسي من أيقونة أو صورة معينة ، تسمى علامة السر ، المنظورة . وسواء كانت هذه العلامة مياها أو زيتا أوخبزا أو خمرا ، فإن كمال السر الكنسي وتجليه للكنيسة ، إنما يتخطى مجرد الاختزالية في جسم أسراري ، هو علامة السر . فلاهوت الأسرار الأورثوذكسي لايعرف التحول الجوهري ( transubstantiation ) ، وفي اللاهوت الأرثوذكسي لاتتماهى الأيقونة مع كمال السر وامتلائه .
 الأيقونة ( علامة السر ) هي منطلق حركة السر ، والمدلول الرمزي للأيقونة هو الحركة النعموية المحمولة بالروح القدس والتي تكشف وتظهر عمق الأيقونة - الذي هو يتخطى ويتجاوز الأيقونة ، نحو المسيح - للمؤمنين المشتركين في الليتورجيا . في الافخارستيا تتجلى الأيقونة كمنطلق لحركة الكنيسة نحو تحقيق ذاتها . فأيقونة الخبز المكسور ، المهترئ - التي هي أيقونة واقعنا المأساوي - تتجلى في الروح القدس ، للمشتركين في الليتورجيا ، خبزة واحدة ، مصنوعة من طحين حنطة الرب ، المجتمعة من أربعة رياح الأرض ، والمختمرة بالنعمة . تتجلى الكنيسة جسدا واحدا ، وشركة واحدة ، في المسيح . وتتجلى أيقونة كأس الخمر المسكوب كأس شركة للجميع ، الصائرين في وحدة كرمة الرب ، التي عصرت جميع حبات عنبها ، واختمر عصيرها بالروح القدس .
                                  خلاصة
   الأيقونة ، من منظور العمق الأرثوذكسي ، ليست هي الصورة التي ترصدها عيوننا البيولوجية ، بل إن لها مفهوما أعمق من ذلك ، ينسحب على وعينا وإدراكنا للحقيقة . وهو مفهوم ديناميكي ، متنام ، تحملنا فيه النعمة ، من خلال الرمز إلى شركة الطبيعة الإلهية ، حيث ندرك ونرى مالم تره عين ، أي نرى ماهو ليس صورة ( أيقونة ) .
   مجدي داود

ليست هناك تعليقات: